وقعة الطف

وقعة الطف0%

وقعة الطف مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 290

وقعة الطف

مؤلف: لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن مسلم الازدى الغامدى
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف:

الصفحات: 290
المشاهدات: 158727
تحميل: 6247

توضيحات:

وقعة الطف
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 290 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158727 / تحميل: 6247
الحجم الحجم الحجم
وقعة الطف

وقعة الطف

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

وعرفت ما يقدم عليه من عدوّه وحزبكم فرأيت أنْ انصره وأنْ أكون في حزبه، وأنْ أجعل نفسي دون نفسه حفظاً لما ضيّعتم من حقّ الله وحقّ رسولهعليه‌السلام .

وحين أتى العبّاس بن علي حسيناً (عليهما‌السلام ) بما عرض عليه عمر بن سعد، قال [ له الحسينعليه‌السلام ]:« ارجع إليهم، فإنْ استطعت أنْ تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشّية، لعلّنا نصلّي لربّنا اللّيلة وندعوه نستغفره، فهو يعلم أنّي كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار ». وإنّما أراد بذلك أنْ يردّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويُوصي أهله.

وأقبل العبّاس بن عليعليه‌السلام يركض [ فرسه ] حتّى انتهى إليهم، فقال:

يا هؤلاء، إنّ أبا عبد الله يسألكم أنْ تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ينظر في هذا الأمر، فإنّ هذا أمر لمْ يجرِ بينكم وبينه فيه منطق، فإذا أصبحنا التقينا إنْ شاء الله؛ فإمّا رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه، أو كرهنا فرددناه. وإنّما أراد بذلك أنْ يرّدّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويُوصي أهله.

[ فـ ] قال عمر بن سعد: يا شمر ما ترى؟

قال: ما ترى أنت، أنت الأمير والرأي رأيك.

قال: أردت أنْ لا أكون. ثمّ أقبل على النّاس، فقال: ماذا تَرون؟

فقال عمرو بن الحجّاج بن سلمة الزبيدي: سبحان الله! والله، لو كانوا من الدّيلم ثمّ سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أنْ تجيبهم إليها.

وقال قيس بن الأشعث(١) : أجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبحنّك.

____________________

(١) كان يوم عاشوراء على ربع ربيعة وكندة ٥ / ٤٢٢، وهو الذي أخذ قطيفة الإمام الحسينعليه‌السلام وكانت من خزّ، فكان يُلقّب بعد ذلك: قيس قطيفة ٥ / ٤٥٣.

وكان مع شمر بن ذي الجوشن وعمرو بن الحجّاج، وعزرة بن قيس على حمل رؤوس الإمامعليه‌السلام إلى الكوفة إلى ابن زياد ٥ / ٤٥٦، وهو على كندة يحملون ثلاثة عشر رأساً ٥ / ٤٦٨. وهو أخو محمّد بن الأشعث قاتل مسلم، وأخو جعدة قاتلة الإمام الحسنعليه‌السلام .

٢٠١

بالقتال غدوة.

فقال: والله، لو أعلم أنْ يفعلوا ما أخرتهم العشيّة(١) .

قال علي بن الحسينعليه‌السلام :« [ فـ ] -أتانا رسول من قبل عمر بن سعد، فقام حيث يسمع الصوت، فقال: إنّا قد أجّلناكم إلى غد، فإنْ استسلمتم سرّحنا بكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد، وإنْ أبيتم فلسنا بتاركيكم » (٢) .

____________________

(١) عن الحرّث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، قال ٥ / ٤١٥. والإرشاد / ٢٣٠.

(٢) حدّثني الحرّث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري عن علي بن الحسينعليه‌السلام ٥ / ٤١٧.

٢٠٢

[ حوادث ليلة عاشوراء ]

[ خطبة الإمامعليه‌السلام ليلة عاشوراء:]

عن علي بن الحسينعليه‌السلام ، قال:« جمع الحسين عليه‌السلام أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد، وذلك عنه قرب المساء، فدنوت منه لأسمع وأنا مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه:

أثني على الله - تبارك وتعالى - أحسن الثناء وأحمده على السّرّاء والضرّاء، اللهمّ، إنّي أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنّبوّة وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة لمْ تجعلنا من المشركين.

أمّا بعد:

فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحأبي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً خيراً.

ألاَ وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألاَ وإنّي قد رأيت لكم فانطلقوا جميعاً في حِل، ليس عليكم منّي ذمام، هذا ليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً (١) .

ثمّ ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، [ و ] تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله، فإنْ القوم إنّما يطلبوني، ولو قد أصأبوني لهوا عن طلب غيري ».

____________________

(١) حدّثني الحرّث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، عن علي بن الحسينعليه‌السلام ٥ / ٤١٨، وأبو الفرج / ٧٤ والإرشاد / ٢٣١: عن الامام السّجادعليه‌السلام .

٢٠٣

[ موقف الهاشميّين ]

[ فـ ] -بدأ القول العبّاس بن عليعليه‌السلام ، فقال له:

لمْ نفعل [ ذلك ]؟ ألنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً.

ثمّ إنّ أخوته وأبناء [ الحسينعليه‌السلام ] وبنى أخيه [ الحسنعليه‌السلام ] وابنى عبد الله بن جعفر [ محمّد وعبد الله ] تكلّموا بهذا ونحوه.

فقال الحسينعليه‌السلام :« يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم ».

قالوا: فما يقول النّاس؟ يقولون: إنّا تركنّا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير العمّام، ولمْ نرمِ معهم بسهم، ولمْ نطعن معهم برمح، ولمْ نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله، لا نفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا، ونُقاتل معك حتّى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك!(١) .

[ و ] قام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي(٢) ، فقال:

أنحن نخلّي عنك ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقّك؟ أمَا والله، حتّى أكسّر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولا أفارقك، ولو لمْ يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك.

____________________

(١) وأبو الفرج في مقاتل الطالبيّين / ٧٤، والإرشاد / ٢٣١ /، والخواص / ٢٤٩.

(٢) مضت ترجمته في أشراف الشيعة من أهل الكوفة مع مسلم بن عقيل. وهذا أوّل مرّة يرد ذكره في أحاديث كربلاء من دون أنْ يذكر التاريخ شيئاً عن كيفيّة وصوله إليها.

٢٠٤

وقال سعيد بن عبد الله الحنفي: والله، لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا حفظنا غيبة رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ]) فيك، والله، لو علمت أنّي أُقتل ثمّ أحيا، ثمّ أُحرق حيّاً ثمّ أُذّرى، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً.

وقال زهير بن القين: والله، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ثمّ قُتلت، حتّى أُقتل كذا ألف قتلةً، وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.

وتكلّم جماعة أصحابه، فقالوا: والله، لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قُتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا.

وتكلّم جماعة أصحابه في وجه واحد بكلام يُشبه بعضه بعضاً(١) .

____________________

(١) حدّثني: عبد الله بن عاصم الفائشي، عن الضحّاك بن عبد الله المشرقي الهمداني، قال ٥ / ٤١٨. وأبو الفرج / ٧٤، ط النّجف، واليعقوبي ٢ / ٢٣١، والإرشاد / ٢٣١.

٢٠٥

[ الإمام عليه‌السلام ليلة عاشوراء ]

عن علي بن الحسين بن عليعليه‌السلام ، قال:« إنّي جالسّ في تلك العشيّة التي قُتل أبي صبيحتها، وعمّتي زينب عندي تمرّضني، إذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له، وعنده حُوَيّ (١) مولى أبي ذرّ الغفاريّ، وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول عليه‌السلام :

يا دهر أفٍّ لك من خليل

كم لك بالإشراق والاصيل

من صاحب أو طالب قتيل

والدّهر لا يقنع بالبديل

وإنّما الأمر إلى الجليل

وكل حيّ سالك سبيلي

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتّى فهمتها فعرفت ما أراد، فخنقتني عبرتي، فرددت دمعي ولزمت السّكون، فعلمت أنّ البلاء قد نزل.

فأمّا عمتّي، فإنّها سمعتْ ما سمعتُ - وهي امرأة، وفي النّساء الرقّة والجزع - فلمْ تملك نفسها أنْ وثبت تجرّ ثوبها - وأنّها لحاسرة - حتّى انتهت إليه، فقالت: واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت فاطمة أمّي، وعليّ أبي، وحسن أخي، يا خليفة الماضي وثمال الباقي (٢) .

فنظر إليها الحسين عليه‌السلام ، فقال: يا أُخيّة، لا يُذهبن بحلمك الشيطان.

قالت: بأبي أنت وأميّ يا أبا عبد الله، أستقتلت؟ نفسي فداك

____________________

(١) في الإرشاد / ٢٣٢: جوين، وفي مقاتل الطالبيّين / ٧٥: جون، وكذلك في مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢١٨، وفي تذكرة الخواص ١٩ / ٢، والخوارزمي ١ / ٢٣٧. ولا ذكر له في الطبري قبل هذا ولا بعده، لا كيفيّة مقتله مع الإمامعليه‌السلام .

(٢) وفي الإرشاد / ٢٣٢: يا خليفة الماضين وثمال الباقين، وكذلك التذكرة بزيادة: ثمّ لطمت وجهها / ٢٥٠، ط النّجف.

٢٠٦

فردّ غصّته وترقرقت عيناه، وقال:

لو ترك القطا ليلاً لنام

قالت: يا ويلتى! أفتغصب نفسك اغتصاباً؟ فذلك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي. ولطمت وجهها، وأهوت إلى جيبها وشقّته وخرّت مغشيّاً عليها.

فقام إليها الحسين عليه‌السلام فصبّ على وجهها الماء، وقال لها:

يا أُخيّة اتّقي الله وتعزّي بعزاء الله، واعلمي: أنّ أهل الأرض يموتون، وأنّ أهل السّماء لا يبقون، وأنّ كلّ شيء هالك إلاّ وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون، وهو فرد وحده، أبي خير منّي وأمّي خير منّي، وأخي خير منّي، ولي ولهم ولكلّ مسلم برسول الله أسوة.

فعزّاها بهذا ونحوه، وقال لها:

يا أُخيّة، إنّي أقسم عليك - فأبرّي قسمي - لا تشقّي عليّ جيباً ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت.

ثمّ جاء بها حتّى اجلسها عندي.

وخرج إلى أصحابه فأمرهم أنْ يقرّبوا بعض بيوتهم من بعض، وأنْ يدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأنْ يكونوا هم بين البيوت، إلاّ الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم (١) .

وأتي [ الحسين عليه‌السلام ] بقَصب وحطب إلى مكان - من ورائهم - منخفض كأنّه ساقية، فحفروه في ساعة من اللّيل فجعلوه كالخندق، ثمّ ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب، وقالوا: إذا عدوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النّار، كي لا نؤتى من ورائنا، وقاتلنا القوم من وجه واحد » (٢) .

____________________

(١) حدّثني الحرّث بن كعب وأبو الضحّاك، عن علي بن الحسينعليه‌السلام ، قال ٥ / ٤٢٠. وأبو الفرج / ٧٥ - ط النّجف - واليعقوبي ٢ / ٢٣٠، والمفيد في الإرشاد / ٢٣٢ - ط النّجف - كلّهم: عن الإمام السّجادعليه‌السلام .

(٢) عن عبد الله بن عاصم، عن الضحّاك بن عبد الله المشرقي قال ٥ / ٤٢١، والمفيد في الإرشاد / ٢٣٣ عن الضحاك بن عبد الله.

٢٠٧

[ الحسين وأصحابه ليلة عاشوراء ]

[ و ] لمّا أمسى الحسينعليه‌السلام وأصحابه قاموا اللّيل كلّه يصلّون ويستغفرون، ويدعون ويتضرّعون.

[ قال الضحّاك بن عبد الله المشرقي الهمداني، وهو الذي نجا من أصحاب الحسينعليه‌السلام ]:

[ فمرّت ] بنا خيل لهم تحرسنا وإنّ حسيناًعليه‌السلام يقرأ:( وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُوا إنّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إنّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا ثماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ المؤمنين عَلَى‏ مَا أنتم عَلَيْهِ حَتّى‏ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ ) (١) فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا، فقال: نحن وربّ الكعبة الطيّبون مُيّزنا منكم. فعرفته، فقلت لبُرير بن حُضير [ الهمداني ](٢) : أتدري مَن هذا؟ قال: لا. قلت: هذا أبو حرب السّبيعي

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٧٨ - ١٧٩.

(٢) والمشهور المذكور في الإرشاد / ٢٣٣، وسائر الكتب: خضير. وكان سيّد القرّاء بالكوفة ٥ / ٤٣١، عابداً ناسكاً. وهذا أوّل ذكره في أخبار كربلاء ولمْ يُذكر كيف التحق بالإمامعليه‌السلام . وهو أوّل مَن قام للمبارزة في أوّل القتال فاجلسه الإمامعليه‌السلام ٥ / ٤٢٩. وهو القائل لعبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاري: والله، لقد علم قومي إنّى ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً، ولكن والله، إنّى لمستبشر بما نحن لاقون، والله، إنّ بيننا وبين الحور العين إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، ولوددت أنّهم قد مالوا علينا ٥ / ٤٢٣.

وكان يقول: إنّ عثمان بن عفّان كان على نفسه مسرفاً، وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضال مضلّ، وإنّ إمام الهدى والحقّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام . وباهل رجلاً من عسكر عمر بن سعد يُدعى: يزيد بن معقل على حقانيّة هذه المعنى، ودعا أنْ يُقتل المحقّ منهما المبطل، ثمّ بارزه فقتله ٥ / ٤٣١.

٢٠٨

[ الهمداني ] عبد الله بن شهر، وكان مضحاكاً بطّالاً. وكان شريفاً شجاعاً فاتكاً. وكان سعيد بن قيس(١) ربّما حبسه في جناية.

فقال له بُرير بن حُضير: يا فاسق، أنت يجعلك الله في الطيّبين!

فقال له [ أبو حرب ]: مَن أنت؟

قال: أنا بُرير بن حُضير.

قال [ أبو حرب ]: إنّا لله، عزّ عليّ، هلكت والله هلكت والله، يا بُرير.

قال [ بُرير ]: يا أبا حرب، هل لك أنْ تتوب إلى الله من ذنوبك العظام؟ فوالله، إنّا لنحن الطيّبون، ولكنّكم لأنتم الخبيثون.

قال [ أبو حرب مستهزء اً ]: وأنا على ذلك من الشاهدين.

قلت [ له ]: ويحك! أفلا ينفعك معرفتك؟

قال [ أبو حرب ]: جُعلت فداك، فمَن يُنادم يزيد بن عذرة العنزيّ [ و ] ها هو ذا معي؟

قال [ بُرير ]: قبّح الله رأيك، على كلّ حال أنت سفيه.

[ فـ ] -انصرف عنّا(٢) .

____________________

(١) كان سعيد بن قيس الهمداني على همذان، فعزله سعيد بن العاص الأشرق و إلى الكوفة وجعله على الرّي سنة (٣٣ هـ) ٥ / ٣٣٠. وبعثه أمير المؤمنينعليه‌السلام مع شبث بن ربعي وبشير بن عمرو إلى معاوية - قبل القتال - يدعونه إلى الطاعة والجماعة ٤ / ٥٧٣. وكان يُقاتل مع علي بصفّين ٤ / ٥٧٤. وكان من أوّل النّاس في إجابة أمير المؤمنين إلى ما يُريد ٥ / ٧٩، وسرّحه أمير المؤمنينعليه‌السلام في إثر غارة سفيان بن عوف على الأنبار والهيت، فخرج في طلبهم حتّى جاز هيت فلمْ يلحقهم ٥ / ١٣٤، ثمّ لا نعثر له على ذكر ولا أثر في التاريخ، فلعلّ حبسه لأبي حرب السّبيعي كان يوم عمله على همدان، أو الرّي على عهد عثمان.

(٢) ٥ / ٤٢١. قال أبو مِخْنف: عن عبد الله بن عاصم، عن الضحاك بن، عبد الله المشرقي.

٢٠٩

[ صبيحة يوم عاشوراء ]

فلمّا كان يوم عاشوراء - يوم السّبت - صلّى عمر بن سعد [ صلاة ] الغداة [ و ] خرج فيمَن معه من النّاس(١) .

[ و ] كان على ربع أهل المدينة يومئذ: عبد الله بن زهير الأزدي(٢) ، وعلى ربع مذحج وأسد: عبد الرحمن بن أبي سبرة الجُعفي(٣) ، وعلى ربع ربيعة وكندة: قيس بن الأشعث بن قيس [ الكندي ]، وعلى ربع تميم وهمدان: الحرّ بن يزيد الرياحي [ التميمي اليربوعي ].

وجعل عمر على ميمنته: عمرو بن الحجّاج الزبيديّ، وعلى ميسرته: شمر بن ذي الجوشن الضبّاب [ -ي ] الكلاب[ -ي ]، وعلى الخيل: عزرة بن قيس الأحمسيّ، وعلى الرّجال: شبث بن ربعيّ الرياحي [ التميمي ]، وأعطى الراية: ذويداً، مولاه(٤) .

____________________

(١) ٥ / ٤٢١ - ٤٢٢. قال أبو مِخْنف: عن عبد الله بن عاصم، عن الضحاك بن عبد الله المشرقي والإرشاد / ٢٣٣: عن الضحاك بن عبد الله.

(٢) كان على ميمنة عدي بن وتاد، أمير الرّي - للحجاج - في حربه مع مطرّف بن المغيرة بن شعبة بأصبهان ٦ / ٢٩٦. وآخر عهدنا به في الطبري: أنّه كان في حرس السّغد سنة (١٠٢ هـ)، فأصابته جراحة كثيرة حتّى أصبح كأنّه قنفذ من النّشاب ٦ / ٦١٣، ولا ذكر له قبل كربلاء.

(٣) كان ممّن كُتبت شهادته على حجر بن عدي الكندي سنة (٥١ هـ) ٥ / ٢٧٠. وكان على الرجّالة من مذحج وأسد، وحرّضه شمر على ذبح الحسينعليه‌السلام فأبى وسبّه ٥ / ٤٥٠.

(٤) حدّثني فضيل بن فديج الكنديّ، عن محمّد بن بشر، عن عمرو الحضرمي، قال ٥ / ٤٢٢.

٢١٠

[ و ] لمّا صبّحت الخيل الحسينعليه‌السلام رفع الحسين يديه، فقال:« اللهمّ، أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من همّ يضعّف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة! ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدوّ! أنزلته بك وشكوته إليك رغبة منّي عمّن سواك، ففرّجته وكشفته، فأنت وليّ كلّ نعمة وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة » (١) .

[ وقال الضحّاك بن عبد الله المشرقي الهمداني، وهو الذي نجا من أصحاب الحسينعليه‌السلام ]:

لمّا أقبلوا نحونا، فنظروا إلى النّار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنّا ألهبنا فيه النّار من ورائنا، لئلا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل إلينا منهم رجل يركب [ فرسه وهو ] كامل الأداة، فلمْ يكلّمنا حتّى مرّ على أبياتنا، فنظر إلى أبياتنا فإذا هو لا يرى إلاّ حطباً تلتهب النّار فيه، فرجع [ و ] نادى بأعلى صوته: يا حسين، استعجلت النّار في الدنيا قبل يوم القيامة!

فقال الحسينعليه‌السلام :« مَن هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن؟ ».

فقالوا: نعم، أصلحك الله! هو هو.

فقالعليه‌السلام :« يابن راعية المعزى، أنت أولى بها صليّاً » .

فقال له مسلم بن عوسجة: يابن رسول الله، جُعلت فداك ألاَ أرميه بسهم؟ فإنّه قد أمكنني، وليس يسقط سهم [ منّي ]، فالفاسق من أعظم الجبّارين.

فقال له الحسينعليه‌السلام :« لا ترمه، فإنّي أكره أنْ أبدأهم » (٢) .

* * *

____________________

(١) عن بعض أصحابه عن أبي خالد الكأهلي، قال ٥ / ٤٢٣، والمفيد في الإرشاد / ٢٣٣، قال: فروى عن علي بن الحسينعليه‌السلام ، وأبو خالد الكأهلي من أصحابه، فهو يروي الخبر عنهعليه‌السلام وإنْ لمْ ينصّ عليه في الطبري.

(٢) فحدّثني عبد الله بن عاصم، قال حدّثني الضحّاك المشرقي ٥ ٤٢٣ والإرشاد ٢٣٤.

٢١١

[ خطبة الإمامعليه‌السلام - الأولى ]

[ و ] لمّا دنا منه القوم [ دع ] براحلته فركبها، ثمّ نادى بأعلى صوته يسمع جلّ النّاس:

« أيّها النّاس، اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتّى أعظكم بما [ يـ ] -حقّ لكم عليّ، وحتّى اعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإنْ قبلتم عذري وصدّقتم قولي وأعطيتموني النّصف، كنتم بذلك أسعد ولمْ يكن لكم عليّ سبيل، وإنْ لمْ تقبلوا منّي العذر، ولمْ تعطوا النّصف من أنفسكم: ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثمّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةً ثمّ اقْضُوا إليّ وَلاَ تُنظِرُونِ ( ١ ) ، إِنّ وَلِيّيَ اللّهُ الّذِي نَزّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ ) » (٢) .

فلمّا سمع أخواته كلامه هذا صحن وبكين، وبكى بناته [ و ] ارتفعت أصواتهنّ، فأرسل إليهنّ أخاه العبّاس بن علي وعليّاً ابنه، وقالعليه‌السلام لهما: « سكّتاهنّ، فلعمري ليكثرنّ بكاؤهنّ ».

فلمّا سكتن، حمد الله وأثنى عليه وذكر الله بما هو أهله، وصلّى على محمّد (صلّى الله عليه [ وآله ]) وعلى ملائكته وأنبيائه.

[ قال الرأوي ]: فوالله، ما سمعت متكلماً قط قبله، ولا بعده أبلغ في منطق منه. ثمّ قالعليه‌السلام :«

أمّا بعد:

فانسبوني فانظروا مَن أنا؟ ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألسّت ابن بنت نبيّكم (صلّى الله عليه [ وآله ])، وابن وصيّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟ أوليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أوليس جعفر، الشهيد الطيّار ذو الجناحين عمّي؟

____________________

(١) سورة يونس / ٧١.

(٢) سورة الأعراف / ١٩٦.

٢١٢

أولمْ يبلغكم قول مستفيض فيكم، أنّ رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ]) قال لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة.

فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، فوالله، ما تعمّدت كذباً مذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه وإنْ كذّبتموني، فإنّ فيكم مَن إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم.

سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري (١) ،أو أبا سعيد الخدري (٢) ،أو سهل بن سعد السّعدي (٣) ،أو زيد بن أرقم (٤) ،أو أنس بن مالك (٥) .

____________________

(١) امتنع عن البيعة لمعاوية على يد بسر بن أرطاة سنة أربعين قبل مقتل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقال: هذه بيعة ضلالة، حتّى اضطره إليها بسر فبايعه خوف نفسه ٥ / ١٣٩. وفي سنة خمسين حين حجّ معاوية وأراد نقل منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعصاه من المدينة إلى الشام، منعه جابر فامتنع ٥ / ٢٣٩. وفي سنة أربع وسبعين إذ دخل الحجّاج المدينة من قبل عبد الملك، استخفّ فيها بأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فختم في أعناقهم، منهم: جابر بن عبد الله الأنصاري ٦ / ١٩٥.

(٢) ردّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين استعرض أصحابه لأُحد، لصغره ٢ / ٥٠٥.

وكان يروي الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل عليعليه‌السلام ٣ / ١٤٩، ولكنّه كان من الممتنعين عن بيعة عليعليه‌السلام بعد مقتل عثمان، وكان عثمانيّاً ٤ / ٤٣٠.

(٣) كان يروي الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل عليعليه‌السلام ٣ / ٤٠٩. وروى: أنّ عائشة أمرت بقتل عثمان بن حنيف، ثمّ بحبسه ٤ / ٤٦٨. ويروي أخبار عليعليه‌السلام ٤ / ٥٤٧. وفي سنة أربع وسبعين حين دخل الحجّاج المدينة من قبل عبد الملك استخفّ بأصحاب رسول الله فختم أعناقهم، منهم: سهل بن سعد، واتّهمهم بخذلان عثمان ٦ / ١٩٥.

(٤) كان يروي فضل عليعليه‌السلام ٢ / ٣١٠، وهو الذي أخبر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بمقالة عبد الله بن أبي بن سلول المنافق ٢ / ٦٠٥، وهو الذي اعترض على ابن زياد ونهاه عن ضرب شفتي أبي عبد اللهعليه‌السلام ٥ / ٤٥٦ توفي سنة (٦٨ هـ)، كما في الأعلامَ ٤ / ١٨٨.

(٥) لمّا ولّى عمر أبا موسى الأشعري البصرة سنة (١٧ هـ) استعان بأنس بن مالك ٤ / ٧١، واشترك في فتح تُستر ٤ / ٨٦.

وكان ممّن حرّض النّاس بالبصرة سنة (٣٥ هـ) لنصرة عثمان ٤ / ٣٥٢. وكان ممّن استعان بهم زياد بن أبيه بالبصرة سنة (٤٥ هـ) ٥/ ٢٢٤. وكان يوم عاشوراء بالبصرة، وفي سنة (٦٤ هـ) بعد مقتل ابن زياد أمّره ابن الزبير على البصرة، فصلّى بالنّاس أربعين يوماً ٥ / ٥٢٨. فلمّا وُلّي الحجّاج المدينة سنة (٦٤ هـ) لعبد الملك واستخفّ أصحاب رسول الله، فختم في أعناقهم؛ ختم في عنق: أنس، يُريد أنْ يُذلّه بذلك انتقاماً لتولّيه لابن الزبير ٦ / ١٩٥.

٢١٣

يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ]) لي ولأخي، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟ ».

فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف، إنْ كان يدري ما يقول(١) .

فقال حبيب بن مظاهر: والله، إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد، أنّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك.

ثمّ قال لهم الحسينعليه‌السلام :« فإنْ كنتم في شكّ من هذا القول، أفتشكون أثراً بعد؟ أمَا إنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوالله، ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري منكم ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيّكم خاصّة.

أخبروني، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟ أو مال استهلكته؟ أو بقصاص من جراحة؟ - فأخذوا لا يكلّمونه -فنادى: يا شبث بن ربعي ويا حجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث ويا يزيد بن الحرّث، ألمْ تكتبوا إليّ أنْ قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وطمّت الجمام (٢) وإنّما تقدم على جند لك مجنّد، فأقبل؟ »

قالوا له: لمْ نفعل(٣) .

____________________

(١) ورواه السّبط ٢٥٢/، ط النّجف. وعلى حرف، أي: على طرف من الإيمان، لا صلبه.

(٢) الجمام: جمع جمّة، وهو: المكان الذي يجتمع فيه الماء. وطمّ، أي: امتلأ. وقد مضت ترجمة هؤلاء فيمَن كتب إلى الإمامعليه‌السلام من أهل الكوفة من المنافقين.

(٣) وقال سبط ابن الجوزي، أنّهم قالوا: ما ندري ما تقول. وكان الحرّ بن يزيد اليربوعي من ساداتهم، فقال: بلى، والله، لقد كاتبناك ونحن الذين أقدمناك، فأبعد الله الباطل وأهله، والله، لا أختار الدنيا على الآخرة / ٢٥١.

٢١٤

فقالعليه‌السلام :« سبحان الله! بلى والله، لقد فعلتم » . ثمّ قالعليه‌السلام :« أيّها النّاس، إذا كرهتموني فدعوني انصرف عنكم إلى مأمني من الأرض ».

فقال له قيس بين الأشعث: أوَلا تنزل على حكم بني عمّك؟ فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ، ولن يصل إليك منهم مكروه.

فقال الحسينعليه‌السلام :« أنت أخو أخيك [ محمّد بن الأشعث ]أتريد أنْ يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد (١) .

عباد الله: ( وَإِنّي عُذْتُ بِرَبّي وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ ( ٢ ) * أعُوذُ بِرَبّي وَرَبّكُم مِن كلّ مُتَكَبّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ) » (٣) .

ثمّ [ رجع فـ ] -أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها(٤) .

[ خطبة زهير بن القين ]

[ ثمّ ] خرج زهير بن القين على فرس ذنوب(٥) شاك في السّلاح، فقال:

____________________

(١) ورواه المفيد في الإرشاد / ٢٣٥، وبعده ابن نما في مثير الأحزان / ٢٦: ولا أفرّ فرار العبيد. ورحّجه المقرّم: ٢٨٠. والنّسب بجواب ابن الأشعث، هو: الإقرار لا الفرار؛ فإنّ ابن الأشعث لمْ يعرض عليه الفرار، بل الإقرار.

واستشهد له المقرّم بكلام الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في مصقلة بن هبيرة: وفرّ فرار العبد، ولكن فعل مصقلة لا يناسب حال الإمام الحسينعليه‌السلام هنا كما هو واضح، فراجع.

(٢) سورة الدخان / ٢٠.

(٣) سورة المؤمن / ٢٧.

(٤) ٥ / ٤٢٣ - ٤٢٦. قال أبو مِخْنف: فحدثنى عبد الله بن عاصم، قال حدثنى الضحاك المشرقى.

(٥) الذنوب: الفرس الذي شعر ذنبه وافر كثير.

٢١٥

يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إنّ حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن أخوة وعلى دين واحد وملّة واحدة، ما لمْ يقع بيننا وبيكم السّيف، وأنتم للنصحية منّا أهل، فإذا وقع السّيف انقطعت العصمة وكنّا اُمّة وأنتم اُمّة.

إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذرّيّة نبيّه محمّد (صلّى الله عليه [ وآله ]) لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد؛ فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ بسوء عمر سلطانهما كلّه ليسملان أعينكم، ويقطّعان أيديكم وأرجلكم، ويمثّلان بكم ويرفعانكم على جذوع النّخل، ويقتّلان أماثلكم وقرّاءكم، أمثال: حجر بن عديّ(١) وأصحابه، وهانئ بن عروة(٢) وأشباهه.

فسبوّه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له، وقالوا: والله، لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلماً.

فقال لهم: عباد الله، إنّ ولد فاطمة (رضوان الله عليها) أحقّ بالودّ والنّصر

____________________

(١) كان من إمداد حرب القادسيّة من أهل اليمن سنة (١٦ هـ) ٤ / ٢٧. وكان من أوّل مَن أجاب عليّاًعليه‌السلام لنصرته في حرب البصرة من الكوفة ٤ / ٤٨٥. وكان هو من قبلُ من الثائرين على عثمان ٤ / ٤٨٨. وكان على سبع مذحج والأشعريّين من أهل اليمن بالكوفة ٤ / ٥٠٠. وكان مع عليعليه‌السلام بصفّين يخرج للقتال ٤ / ٥٧٤.

وكان ممّن شهد على صحيفة الموادعة لتحكيم الحكمين في صفّين ٥ / ٥٤. وكان على ميمنة عليعليه‌السلام في وقعة النّهروان مع الخوارج ٥ / ٨٥، وأخرجه عليعليه‌السلام سنة (٣٩ هـ) على أربعة الآف رجل من الكوفة لمقابلة غارة الضحّاك بن قيس في ثلاثة الآف، فلحقه بـ: (تدمر) في حدود الشام فقتل منهم عشرين رجلاً، وحال اللّيل فهرب الضحّاك ورجع حجر ٥ / ١٣٥. ولمّا دخل معاوية الكوفة عام الجماعة وولّى عليهما المغيرة بن شعبة، وكان المغيرة يسبّ عليّاًعليه‌السلام كان حجر يردّ عليه ردّاً شديداً حتّى مات المغيرة، فولّى عليها معاوية زياد بن أبيه، فعاد حجر إلى ما كان عليه، فأخذه زياد وبعث به إلى معاوية فقتله ٥ / ٢٧٠.

(٢) مضت ترجمته في أوّل أمر مسلم بن عقيلعليه‌السلام .

٢١٦

من ابن سميّة(١) ، فانْ لمْ تنصروهم فأعيذكم بالله أنْ تقتلوهم، فخلّوا بين الرجل

____________________

(١) سميّة: هي اُمه الزانية. كانت من ذوات الأعلامَ بالجأهلية، فزنى بها ستّة من قريش فولدت زياداً فتنازعوا عليه، فلمْ يُعرف أبوه، فكان يُدعى بزياد بن أبيه أو زياد بن عبيد، أو زياد بن سميّة حتّى استلحقه معاوية بأبيه أبي سفيان، فقِيل: زياد بن أبي سفيان.

فلما ولاّه معاوية الكوفة وأخذ حجراً واستشهد عليه الشهود ورأى فيهم اسم شدّاد بن بزيعة، فقال: ما لهذا أب يُنسب إليه؟ ألقوا هذا من الشهود. فقِيل له: أنّه أخو الحصين وهو ابن المنذر. قال: فانسبوه إلى أبيه. فكُتب ونُسب إلى أبيه. فبلغت هذه الكلمة شدّاداً، فقال: ويلي على ابن الزانية! أو ليست اُمّه أعرف من أبيه؟ والله، ما كان يُنسب إلاّ إلى اُمّه سميّة ٥ / ٢٧٠.

وكان يزيد بن مفرّغ الحميري مع عبّاد بن زياد، أخي عبيد الله في حروب سجستان فأصابهم ضيق، فهجا ابن المفرّغ عبّاداً، فقال:

إذا أودى معاوية بن حرب

فبشر سعب قعبك بانصداع

فاشهد ان اُمّك لم تباشر

أبا سفيان واضعة القناع

ولكن كان أمراً فيه لبس

على وجل شديد وارتياع

وقال:

إلاّ أبلغ معاوية بن حرب

مغلغلة من الرجل اليمنّي

أتغضب أن يُقال أبوك عفّ

وترضى ان يُقال أبوك زانى

فاشهد أن رحمك من زياد

كرحم الفيل من ولد الأتان

وقدم رجل من آل زياد - يُقال له: الصغدي بن سلم بن حرب - على المهدي العبّاسي وهو ينظر المظالم، فقال له: مَن أنت؟ قال: ابن عمّك. قال: أيّ ابن عميّ أنت؟ فانتسب إلى زياد. فقال له المهديّ: يابن سميّة الزانية، متى كنت ابن عميّ؟ وأمر به فوجئ عنقه وأُخرج.

ثمّ التفت المهدي إلى مَن حضر، فقال: مَن عنده علم من آل زياد؟ فلمْ يكن عند أحد منهم شيء، فلحق منهم رجل يُدعى: عيسى بن موسى أو موسى بن عيسى بأبي علي سليمان، فسأله أنْ يكتب له كلّ ما يُحدّث به في زياد وآل زياد حتّى يذهب به إلى المهدي، فكتبه وبعث به إليه.

وكان هارون الرشيد إذ ذاك والي البصرة من قبل المهدي، فأمر المهدي بالكتاب إلى هارون الرشيد يأمره أنْ يُخرج آل زياد من ديوان قريش والعرب. فكان فيما كتب أنّه قال:

وقد كان من رأي معاوية بن أبي سفيان في استلحاقه زياد بن عبيد - عبد آل علاج من ثقيف - وادّعائه ما أباه - بعد معاوية - عامّة المسلمين وكثير منهم في زمانه، لعلمهم بزياد وأبي زياد واُمّه من أهل الرضا والفضل والورع والعلم.

٢١٧

وبين ابن عمّه يزيد بن معاوية، فلعمري، إنّ يزيد لا يرضى من طاعتكم بدون قتل الحسينعليه‌السلام .

فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم، وقال: اسكت، أسكت الله نأمتك(١) أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال له زهير: يابن البوّال على عقبيه، ما إيّاك أخاطب، إنّما أنت بهيمة، والله، ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

____________________

ولمْ يدع معاوية - إلى ذلك - ورع ولا هدى، ولا اتّباع سنّة هادية ولا قدرة من أئمة الحقّ ماضية، إلاّ الرغبة في هلاك دينه وآخرته، والتصميم على مخالفة الكتاب والسّنة، والعجب بزياد في جََلده ونفاذه، وما رجا من معونته وموازرته إيّاه على الباطل ما كان يركن إليه في سيرته وآثاره وعمّاله الخبيثة.

وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ]):« الولد للفراش وللعاهر الحجّر » وقال:« مَن ادّعي إلى غير أبيه أو أنتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس الجمعين! لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً » . [ الصرف: التوبة. والعدل: الفدية ].

ولعمري، ما وُلد زياد في حجر أبي سفيان ولا على فراشه، ولا كان عُبيد عبداً لأبي سفيان ولا سميّة أمَة له، ولا كانا في ملكه ولا صارا إليه لسبب من الأسباب. فخالف معاوية بقضائه في زياد واستلحاقه إيّاه وما صنع فيه وأقدم عليه أمر الله جلّ وعزّ، وقضاء رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ]) واتّبع في ذلك هواه، رغبة عن الحقّ ومجانبة له، وقد قال الله عزّ وجل:( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [ القصص / ٥٠ ].

وقال لداودعليه‌السلام وقد آتاه الحكم والنّبوة، والمال والخلافة:( يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحقّ ) [ ص / ٢٦ ].

وعند ما كلّم معاوية - فيما يعلم أهل الحفظ للأحاديث - موالي بني المغيرة المخزومين، وأرادوا استلحاق نصر بن الحجّاج السّلمي وأنْ يدّعوه، وكان أعدّ لهم معاوية حجراً تحت فراشه فألقاه إليهم - على قول رسول الله:« للعاهر الحجّر » - فقالوا له: نسوّغ لك ما فعلت في زياد، ولا تسوغ لنا ما فعلنا في صاحبنا. قال: قضاء رسول الله (صلّى الله عليه [ وآله ]) خير لكم من قضاء معاوية ٨ / ١٣١.

ومن هنا يُعلم: أنّ زهير بن القين قبل هدايته وإجابته دعوة الإمامعليه‌السلام وإنْ كان عثمانياً، لكنّه كان ناقماً على معاوية استلحاقه زياداً وقتله حجر بن عدي، فكانت نفسه مستعدة للخروج عن عهدة عثمان ولإظهار النّقمة على معاوية ويزيد ابنه وعمّالهم , ولإجابة دعوة الإمام إيّاه للخروج عليهم.

(١) النّأمة: الصوت، ولعلّها لغة في: النّغمة.

٢١٨

فقال له شمر: إنّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.

قال: أفبالموت تخوّفني؟ فوالله، للموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم.

ثمّ أقبل على النّاس رافعا صوته فقال:

عباد الله، لا يغرنّكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله، لا تنال شفاعة محمّد (صلّى الله عليه [ وآله ]) قوماً هرقوا دماء ذرّيّته وأهل بيته، وقتلوا مَن نصرهم وذبّ عن حريمهم.

فناداه رجل، فقال له: إنّ أبا عبد الله يقول لك أقبل، فلعمري، لئن كان مؤمن آل فرعون(١) نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت، لو نفع النّصح والإبلاغ(٢) .

[ توبة الحرّ الرياحي ]

[ و ] لمّا زحف عمر بن سعد، قال له الحرّ بن يزيد: أصلحك الله! مقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله، قتالاً أيسره أنْ تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.

قال: أفما لكم في واحدة من الخصال التي عُرضت عليكم رضاً؟

قال عمر بن سعد: أمَا والله، لو كان الأمر إليّ لفعلت، ولكن أميرك قد أبى ذلك.

فأقبل [ الحرّ ] حتّى وقف من النّاس موقفاً، ومعه رجل من قومه، يُقال له: قرّة بن قيس(٣) . فقال: يا قرة، هل سَقيت فرسك اليوم؟ قال لا. قال إنّما

____________________

(١) شبّهه الإمامعليه‌السلام بمؤمن آل فرعون؛ لأنّه كان عثمانياً قبلُ، فكأنّه من قوم بني اُميّة.

(٢) فحدّثني علي بن حنظلة بن أسعد الشبامي، عن رجل من قومه شهد مقتل الحسين حين قُتل، يُقال له: كثير بن عبد الله الشعبي. قال: لمّا زحفنا قبل الحسينعليه‌السلام خرج إلينا زهير بن القين ٥ / ٤٢٦. وروى الخطبة اليعقوبي ٢ / ٢٣٠، ط النّجف.

(٣) مضت ترجمته في أوّل نزول الإمامعليه‌السلام بكربلاء، وقد دعاه حبيب إلى نصرة الإمامعليه‌السلام ، فوعده النّظر في ذلك، ولكنّه لمْ يرجع. والظاهر: أنّه هو ناقل الخبر ومدّعيه.

٢١٩

تريد أنْ تسقيه؟

قال قرّة: فظننت، والله، أنّه يُريد أنْ يتنحّى فلا يشهد القتال، وكره أنْ أراه حين يصنع ذلك فيخاف أنْ أرفعه عليه، فقلت له: لمْ أقسه وأنا منطلق فساقيه. فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه، فوالله، لو أنّه أطلعني على الذي يُريد، لخرجت معه إلى الحسينعليه‌السلام .

[ وأمّا الحرّ، فإنّه ] أخذ يدنو من حسينعليه‌السلام قليلاً قليلاً، فقال له رجل من قومه - يُقال له المهاجر بن أوس(١) -: ما تُريد يابن يزيد؟ أتُريد أنْ تحمل؟ فسكت وأخذه مثل العُرواء(٢) . فقال له: يابن يزيد والله، إنّ أمرك لمريب، والله، ما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن، ولو قِيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة رجلاً، ما عدوتك فما هذا الذي أرى منك؟

قال: إنّي والله، أُخيّر نفسي بين الجنّة والنّار، ووالله، لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعت وحُرّقت. ثمّ ضرب فرسه فلحق بحسينعليه‌السلام ، فقال له:

جعلني الله فداك يابن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، والله، الذي لا إله إلاّ هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، فقلت في نفسي لا أبالي أنْ أُطيع القوم في بعض أمرهم، ولا يَرون أنّي خرجت من طاعتهم، وأمّا هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم، ووالله، لو ظننت أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي ومواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك، أفترى

____________________

(١) هو: قاتل زهير بن القين، مع الشعبي ٥ / ٤٤١.

(٢) العُرواء: رعدة الحمّى.

٢٢٠