اعلام الهداية الإمام الحسن العسكري (ع)

اعلام الهداية  الإمام الحسن العسكري (ع)27%

اعلام الهداية  الإمام الحسن العسكري (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام بن الحسن بن علي العسكري عليه السلام
الصفحات: 220

اعلام الهداية الإمام الحسن العسكري (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 220 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 121187 / تحميل: 7892
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية  الإمام الحسن العسكري (ع)

اعلام الهداية الإمام الحسن العسكري (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الفصل الثالث: مظاهر من شخصية الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام

لقد كان الإمام أبو محمد الحسن العسكريعليه‌السلام في معالي أخلاقه نفحة من نفحات الرسالة الإسلامية فقد كان على جانب عظيم من سموّ الأخلاق، يقابل الصديق والعدو بمكارم أخلاقه ومعالي صفاته، وكانت هذه الظاهرة من أبرز مكوناته النفسية، ورثها عن آبائه وجده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي وسع الناس جميعاً بمكارم أخلاقه، وقد أثّرت مكارم أخلاقه على أعدائه والحاقدين عليه، فانقلبوا من بغضه إلى حبه والإخلاص له.(١)

ونقل المؤرخون أنّ المتوكل الذي عرف بشدّة عدائه لأهل البيتعليهم‌السلام ، وحقده على الإمام عليعليه‌السلام ، أمر بسجن الإمام العسكريعليه‌السلام والتشديد عليه إلاّ أنّه لمّا حلّ في الحبس ورأى صاحب الحبس سمو أخلاق الإمامعليه‌السلام وعظيم هديه وصلاحه انقلب رأساً على عقب، فكان لا يرفع بصره إلى الإمامعليه‌السلام إجلالاً وتعظيماً له، ولمّا خرج الإمام من عنده كان أحسن الناس بصيرة، وأحسنهم قولاً فيه.(٢)

ــــــــــــ

(١) حياة الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام : ٤٢.

(٢) أصول الكافي: ١/٥٠٨ ح ٨ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٢٩، ٣٣٠ وفي أعلام الورى: ٢/١٥٠ وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/٢٠٢.

٢١

سماحته وكرمه

نقل المؤرخون نماذج من السيرة الكريمة للإمام العسكري عليه‌السلام نذكر بعضاً منها:

١ ـ روى الشيخ المفيد عن محمد بن علي بن إبراهيم بن موسى بن جعفر عليه‌السلام : قال: ضاق بنا الأمر فقال لي أبي: امض بنا حتى نصير إلى هذا الرجل ـ يعني أبا محمد ـ فإنه قد وصف عنه سماحة.

فقلت: تعرفه ؟

قال: ما أعرفه، ولا رأيته قط.

قال: فقصدناه.

فقال لي أبي وهو في طريقه: ما أحوجنا إلى أن يأمر لنا بخمس مئة درهم مئتا درهم للكسوة ومئتا درهم للدقيق، ومئة درهم للنفقة.

وقلت في نفسي ليته أمر لي بثلاث مائة درهم، مائة اشتري بها حماراً ومائة للنفقة ومائة للكسوة، فأخرج إلى الجبل.

قال ـ أي محمد بن علي ـ فلما وافينا الباب خرج غلامه، فقال:يدخل علي بن إبراهيم ومحمد ابنه ، فلما دخلنا عليه وسلمنا، قال لأبي: ياعلي ما أخلفك عنا إلى هذا الوقت ، فقال: ياسيدي: استحييت أن ألقاك على هذا الحال، فلما خرجنا من عنده جاءنا غلامه فناول أبي صرة، وقال: هذه خمسمئة درهم، مئتان لِلكسوة، ومئتان للدقيق، ومئة للنفقة . وأعطاني صرة وقال: هذه ثلاثمئة درهم اجعل مئة في ثمن حمار، ومئة للكسوة، ومئة للنفقة، ولا تخرج إلى الجبل، وصر إلى

٢٢

قال: فصار إلى سوار وتزوج بامرأة منها فدخله اليوم ألف دينار ومع هذا يقول بالوقف.(١)

٢ ـ وروى إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثني أبو هاشم الجعفري قال: شكوت إلى أبي محمدعليه‌السلام ضيق الحبس وكلب القيد(٢) ، فكتب إلي:(أنت تصلي اليوم الظهر في منزلك) ، فأخرجت وقت الظهر فصليت في منزلي كما قال، وكنت مضيقاً فأردت أن أطلب منه معونة في الكتاب الذي كتبته إليه فاستحييت، فلما صرت إلى منزلي وجّه إليّ بمئة دينار، وكتب إليّ:إذا كانت لك حاجة، فلا تستحِ ولا تحتشم واطلبها فإنك على ما تحب إن شاء الله .(٣)

٣ ـ وعن إسماعيل بن محمد بن علي بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس قال: قعدت لأبي محمدعليه‌السلام على ظهر الطريق، فلما مرَّ بي شكوت إليه الحاجة وحلفت له أن ليس عندي درهم واحد، فما فوقه، ولا غذاء ولا عشاء قال: فقالعليه‌السلام :تحلف بالله كاذباً وقد دفنت مئتي دينار ؟! وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطية، أعطه ياغلام ما معك ، فأعطاني غلامه مئة دينار ثم أقبل عليّ فقال:إنك تحرم الدنانير التي دفنتها أحوج ما تكون إليها ، وصدقعليه‌السلام ، وذلك أني أنفقت ما وصلني به، واضطررت ضرورة شديدة إلى شيء أنفقه، وانغلقت عليّ أبواب الرزق، فنبشت الدنانير التي كنت دفنتها فلم أجدها فإذا ابن لي قد عرف موضعها فأخذها وهرب، فما قدرت منها على شيء.(٤)

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٥٠٦ ح ٣ ب ١٢٤ وعنه في الإرشاد: ٢ / ٣٢٦، ٣٢٧ وعنه في كشف الغمة: ٣ / ٢٠٠.

(٢) كلب القيد: شدته وضيقه.

(٣) أصول الكافي: ١/٥٠٨ ح ١٠ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٣٠ وفي إعلام الورى: ٢/١٤٠ وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/٢٠٢.

(٤) أصول الكافي: ١/٥٠٩ ح ١٤ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٢٢ وإعلام الورى: ٢/١٣٧ وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/٢٠٣، ولعلّه كان من المغضوب عليهم لدى بني العباس ولذلك لم يكفوه.

٢٣

زهده وعبادته

عُرف الإمام العسكريعليه‌السلام في عصره بكثرة عبادته وتبتّله وانقطاعه إلى الله سبحانه واشتهر ذلك بين الخاصة والعامة، حتى أنّه حينما حبس الإمامعليه‌السلام في سجن علي بن نارمش ـ وهو من أشد الناس نصباً لآل أبي طالب ـ ما كان من علي هذا إلاّ أن وضع خديه له وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً فخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسن الناس قولاً فيه.(١)

ولما حبسه المعتمد كان يسأل السجّان ـ علي بن جرين ـ عن أحوال الإمامعليه‌السلام وأخباره في كل وقت فيخبره علي بن جرين أنّ الإمامعليه‌السلام يصوم النهار ويصلي الليل.(٢)

عن علي بن محمّد، عن محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمّد عن عليّ بن عبدالغفّار قال: دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف ودخل صالح بن عليّ وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية على صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمّدعليهما‌السلام .

فقال لهم صالح: وما أصنع قد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم، فقلت لهما: ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم اللّيل كلّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلمّا سمعوا ذلك

ــــــــــــ

(١) الكافي: ١ / ٥٠٨ ح ٨.

(٢) مهج الدعوات: ٢٧٥.

٢٤

انصرفوا خائبين(١) .

عن محمّد بن إسماعيل العلوي قال: دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف عندما حُبس أبو محمّد فقالوا له: ضيّق عليه، قال: وكّلت به رجلين من شرّ من قدرت عليه عليّ بن بارمش واقتامش، فقد صارا من العبادة والصّلاح إلى أمر عظيم يضعان خدّيهما له، ثم أمر بإحضارهما فقال: ويحكما ما شأنكما في شأن هذا الرجل؟ فقالا: ما تقول في رجل يقوم اللّيل كلّه ويصوم النّهار ولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا(٢) .

وكان يتسوّر عليه الدار جلاوزة السلطان في جوف الليل فيجدونه في وسط بيته يناجي ربّه سبحانه.

إنّ سلامة الصلة بالله سبحانه وما ظهر على يدي الإمام من معاجز وكرامات تشير إلى المنزلة العالية والشأن العظيم للإمامعليه‌السلام عند الله الذي اصطفاه لعهده والذي تجلّى في إمامته عليه‌السلام . (٣)

علمه ودلائل إمامته

وإليك شذرات من علوم الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ودلائل إمامته:

١ ـ عن أبي حمزة نصر الخادم قال: سمعت أبا محمدعليه‌السلام غير مرة يكلّم غلمانه بلغاتهم، وفيهم ترك، وروم وصقالبة، فتعجّبت من ذلك وقلت: هذا ولد بالمدينة ولم يظهر لأحد حتى مضى أبو الحسن ـ أي الإمام

ــــــــــــ

(١) الكافي: ١/٥١٣.

(٢) المناقب: ٢/٤٦٢.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) . البقرة(٢): ١٢٤.

٢٥

الهاديعليه‌السلام ـ ولا رآه أحد فكيف هذا ؟! أُحدّث نفسي بذلك فأقبل عليَّ وقال:إنّ الله جلّ اسمه بيّنَ حجته من ساير خلقه وأعطاه معرفة بكل شيء ويعطيه اللغات ومعرفة الأسباب والآجال والحوادث: ولولا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق (١) .

٢ ـ وقال الحسن بن ظريف: اختلج في صدري مسألتان أردت الكتاب بهما إلى أبي محمدعليه‌السلام ، فكتبت إليه أسأله عن القائم إذا قام بم يقضي ؟ وأين مجلسه الذي يقضي فيه بين الناس ؟ وأردت أن أسأله عن شيء لحُمّى الربع، فأغفلت ذكر الحُمّى، فجاء بالجواب:

سألتَ عن القائم إذا قام قضى بين الناس بعلمه كقضاء داود عليه‌السلام ولا يسأل البينة، وكنت أردت أن تسأل عن حمّى الرُّبع، فأنسيت فاكتب ورقة وعلّقها على المحموم فإنّه يبرأ بإذن الله إن شاء الله: ( يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) . فكتبت ذلك وعلّقته على المحموم فبرئ وأفاق.(٢)

٣ ـ وروى الشيخ المفيد عن أبي القاسم جعفر بن محمد عن محمد بن يعقوب عن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر، قال: كتب أبو محمدعليه‌السلام إلى أبي القاسم إسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت المعتز بنحو عشرين يوماً:إلزم بيتك حتى يحدث الحادث ، فلما قُتل بريحة كتب إليه قد حدث الحادث، فما تأمرني ؟ فكتب إليه:ليس هذا الحادث، الحادث الآخر . فكان من المعتز ما كان.(٣)

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٥٠٩ ح ١١ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٣٠ وإعلام الورى: ٢/١٤٥ وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/٢٠٢.

(٢) أصول الكافي: ١/٥٠٩ ح ١٣ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٣١ وإعلام الورى: ٢/١٤٥ وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/٢٠٣ وحُمّى الرّبع: هو أن يأخذ يوماً ويترك يومين ويعود في اليوم الرابع، والآية من سورة الأنبياء: ٦٩.

(٣) أصول الكافي: ١/٥٠٦ ح ٢ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٢٥ وعنه في كشف الغمة: ٣/٢٠٠ وابن «تريخة».كذا في النسخ وفي المصدر «بريحة» وقال الطريحي في المجمع «بريمة» هو: عبدالله بن محمد بن داود الهاشمي العباسي الناصبي من ندماء المتوكل وقتله اثنان من الحسنيين بالكوفة قبل المعتز بأيام كما في الطبري: ٩/٣٨٨ وعنه في الكامل: ٧/٥٦، وجاء في هامش الإرشاد: ٢/٣٢٥ بهامش بريحة وابن اُترجة

٢٦

أي أن الإمامعليه‌السلام ، أشار إلى موت المعتز، فطلب من مواليه أن يلتزموا بالبقاء في بيوتهم حتى ذلك الوقت لظروف خاصة كانت تحيط بالإمامعليه‌السلام وبهم من الشدة وطلب السلطان وجلاوزته لهم.

ومن الطبيعي أن موت الخليفة يعقبه غالباً اضطراب في الوضع يمكّن معارضيه من التحرك والتنقل بسهولة.

٤ ـ وروى الشيخ الكلينيرضي‌الله‌عنه عن علي بن محمد عن الحسن بن الحسين قال: حدثني محمد بن الحسن المكفوف قال: حدثني بعض أصحابنا عن بعض فصّادي العسكر ـ أي سامراء ـ من النصارى: أن أبا محمدعليه‌السلام بعث إلي يوماً في وقت صلاة الظهر فقال لي:

إفصد (١) هذا العرق ، قال: وناولني عرقاً لم أفهمه من العروق التي تفصد فقلت في نفسي، ما رأيت أمراً أعجب من هذا يأمرني أن أفصد في وقت وليس بوقت فصد، والثانية عرق لا أفهمه، ثم قال لي:انتظر وكن في الدار ، فلما أمسى دعاني فقال لي:سرّح الدم فسرّحت، ثم قال لي:أمسك فأمسكت، ثم قال لي:كن في الدار ، فلما كان نصف الليل أرسل إلي وقال لي:سرّح الدم ، قال: فتعجبت أكثر من عجبي الأول وكرهت أن أسأله: قال: فسرحت فخرج دم أبيض كأنه الملح: قال: ثم قال لي:احبس ، فحبست. ثم قال:كن في الدار (٢) ، فلما أصبحت قدم إلي تخت ثياب وخمسين ديناراً وقال:خذها واعذر وانصرف فصرت إلى بختيشوع وقلت له القصة ففكر ساعة ثم مكثنا ثلاثة أيام بلياليها

ــــــــــــ

(١) الفصد: شق العرق، يستخرج دمه ; لسان العرب، ابن منظور: ١٠ / ٢٧٠، طبع بيروت، إحياء التراث.

(٢) الكافي: ١ / ٥١٢.

٢٧

نقرأ الكتب على أن نجد لهذه القصة ذكراً في العالم فلم نجد.

ثم قال بختيشوع: لم يبق اليوم في النصرانية أعلم بالطب من راهب بدير العاقول، فكتب إليه كتاباً يذكر فيه ما جرى، فخرجت وناديته فأشرف عليّ فقال من أنت ؟ قلت صاحب بختيشوع. قال: أمعك كتابه ؟ قلت: نعم فأرخى لي زنبيلاً، فجعلت الكتاب فيه فرفعه فقرأ الكتاب ونزل من ساعته وقال: أنت الذي فصدت الرجل ؟ قلت: نعم، قال: طوبى لأمك، وركب بغلاً، وسرنا، فوافينا(سرّ من رأى) وقد بقي من الليل ثلثه، قلت: أين تحب ؟ دار أستاذنا أم دار الرجل ـ أي دار الإمام الحسن العسكري ـ ؟ قال: دار الرجل، فصرنا إلى بابه قبل الأذان الأول ففتح الباب وخرج إلينا خادم أسود وقال: أيكما راهب دير العاقول ؟ فقال: أنا جعلت فداك، فقال انزل، وقال لي الخادم: احتفظ بالبغلين، وأخذ بيده ودخلا فأقمت إلى أن أصبحنا وارتفع النهار ثم خرج الراهب، وقد رمى بثياب الرهبانية ولبس ثياباً بيضاً وأسلم فقال: خذني الآن إلى دار أستاذك، فصرنا إلى باب بختيشوع، فلما رآه بادر يعدو إليه ثم قال، ما الذي أزالك عن دينك ؟

قال: وجدت المسيح وأسلمت على يده، قال: وجدت المسيح ؟! قال: أو نظيره، فإن هذه الفصدة لم يفعلها في العالم إلاّ المسيح وهذا نظيره في آياته وبراهينه، ثم انصرف إليه ولزم خدمته إلى أن مات.(١)

٥ ـ وعن أبي علي المطهري أنه كتب إليه من القادسية يعلمه بانصراف الناس عن المضي إلى الحج وأنه يخاف العطش إن مضى، فكتبعليه‌السلام :امضوا فلا خوف عليكم إن شاء الله ، فمضوا سالمين(ولم يجدوا عطشاً)(٢) والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــ

(١) الخرائج والجرايح: ١ / ٤٢٢. وبحار الأنوار: ٥ / ٢٦٢.

(٢) الكافي: ١/٥٠٧، والمناقب: ٢/٤٦٤.

٢٨

الباب الثاني

فيه فصول:

الفصل الأول: نشأة الإمام الحسن بن علي العسكريعليه‌السلام .

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام .

الفصل الثالث: الإمام الحسن العسكري في ظلّ أبيهعليهما‌السلام .

الفصل الأول: نشأة الإمام الحسن بن علي العسكريعليه‌السلام

نسبه الشريف

هو الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

وهو الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام (١) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

وأمه أم ولد يقال لها: حديث. أو سليل، وكانت من العارفات الصالحات.(٢) وذكر سبط بن الجوزي: أن اسمها سوسن. (٣)

محل الولادة وتأريخها

ولد الإمام أبو محمد الحسن العسكريعليه‌السلام ـ كما عليه أكثر المؤرخين ـ في شهر ربيع الآخر سنة(٢٣٢هـ) من الهجرة النبوية المشرفة في المدينة المنورة.

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٥٠٣.

(٢) الإرشاد: ١ / ٣١٣.

(٣) تذكرة الخواص: ٣٢٤.

٢٩

ويلاحظ هنا اختلاف المؤرخين والرواة في تاريخ ميلاده الشريف من حيث اليوم والشهر والسنة التي ولد فيها.

فمنهم من قال أنّ ولادته كانت سنة(٢٣٠هـ)(١) وقال آخرون إنها كانت سنة(٢٣١ هـ )(٢) أو سنة(٢٣٢هـ)(٣) أو سنة(٢٣٣هـ)(٤) .

وروي أنها كانت في السادس من ربيع الأوّل أو السادس أو الثامن أو العاشر من ربيع الآخر أو في رمضان(٥) .

ولا نرى غرابة في هذا الاختلاف، فربما يعزى إلى إجراءات كان الإمام الهاديعليه‌السلام يقوم بها من أجل المحافظة على حياة الإمام العسكري عليه‌السلام أو يكون لغير هذا من أسباب تعزى إلى ملابسات تأريخية خاصة.

ألقابهعليه‌السلام وكناه

أطلق على الإمامين علي بن محمد والحسن بن عليعليهما‌السلام (العسكريّان) لأنّ المحلة التي كان يسكنها هذان الإمامان ـ في سامراء ـ كانت تسمى عسكر(٦) .

و(العسكري) هو اللقب الذي اشتهر به الإمام الحسن بن عليعليه‌السلام . وله ألقاب أخرى، نقلها لنا المحدّثون، والرواة، وأهل السير وهي: الرفيق، الزكي، الفاضل، الخالص، الأمين، والأمين على سرّ الله، النقي، المرشد إلى

ــــــــــــ

(١) المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: ٧ / ١٢٦.

(٢) تذكرة الخواص: ٣٢٤، وكشف الغمة: ٣/ ١٩٢ عن ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول.

(٣) وفيات الأعيان: ٢ / ٩٤.

(٤) دلائل الإمامة: ٢٢٣.

(٥) راجع حياة الإمام العسكري(دراسة تحليلية تاريخية علمية): ٥٨ ـ ٥٩.

(٦) بحار الأنوار: ٥٠ / ٢٣٥.

٣٠

الله، الناطق عن الله، الصادق، الصامت، الميمون، الطاهر، المؤمن بالله، وليّ الله، خزانة الوصيين، الفقيه، الرجل، العالم(١) .

وكل منها له دلالته الخاصّة على مظهر من مظاهر شخصيته وكمال من كمالاته.

وكان يكنّى بابن الرضا. كأبيه وجدّه، وكنيته التي اختص بها هي:(أبو محمد).

ملامحه

وصف أحمد بن عبيد الله بن خاقان ملامح الإمام الحسن العسكري بقوله: إنه أسمر، أعين(٢) ، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، له جلالة وهيبة(٣) . وقيل: إنّه كان بين السمرة والبياض(٤) .

النشأة وظروفها

نشأ الإمام أبو محمدعليه‌السلام في بيت الهداية ومركز الإمامة الكُبرى، ذلك البيت الرفيع الذي أذهب الله عن أهله الرجس وطهّرهم تطهيراً. وقد وصف الشبراوي هذا البيت الذي ترعرع فيه هذا الإمام العظيم قائلاً:

ــــــــــــ

(١) كمال الدين: ١ / ٣٠٧، إثبات الهداة: ١ / ٦٥١، ٥٤٤، ٤٦٩، الشيعة والرجعة: ١ / ٨٨.

وحياة الإمام العسكري: ٢٣ ـ ٢٨(للشيخ محمد جواد الطبسي. والألقاب الثلاثة الأخيرة هي الألقاب التي وردت في الكتب الرجالية باعتبار ورودها في أسانيد الروايات والتي كانت تلاحظ فيها ظروف النقل والرواية.

(٢) الأعين: الواسع العين.

(٣) أصول الكافي: ١/٥٠٣ ح ١ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٢١، وفي كمال الدين: ١/٤٠ بطريق آخر، وعن الكليني أو المفيد في إعلام الورى: ٢/١٤٧، وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/١٩٧، وعن كمال الدين والإرشاد والإعلام في بحار الأنوار: ٣٢٦ ـ ٣٣٠.

(٤) بحار الأنوار: ٥٠ / ٣٢٨ وأخبار الدول: ١١٧.

٣١

فللّه درّ هذا البيت الشريف، والنسب الخضم المنيف، وناهيك به من فخار، وحسبُك فيه من علوّ مقدار، فهم جميعاً في كرم الأرومة وطِيب الجرثومة كأسنان المشط; متعادلون، ولسهام المجد مقتسمون، فياله من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماء عُلاً ونُبلاً، وسما على الفرقدين منزلةً ومحلاًّ، واستغرق صفات الكمال فلا يستثنى فيه بـ «غير» ولا بـ «إلاّ»، انتظم في المجد هؤلاء الأئمة انتظام اللآلي، وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم، والله يرفعه، وركبوا الصعب والذلول في تشتيت شملهم والله يجمعه، وكم ضيّعوا من حقوقهم ما لا يهمله الله ولا يضيّعه»(١) .

لقد ظفر الإمام أبو محمد بأسمى صور التربية الرفيعة وهو يترعرع في بيت زكّاه الله وأعلى ذكره ورفع شأنه حيث ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ... ) (٢) ، ذلك البيت الذي رفع كلمة الله لتكون هي العليا في الأرض وقدّم القرابين الغالية في سبيل رسالة الله.

وقطع الإمام الزكي شوطاً من حياته مع أبيه الإمام الهاديعليه‌السلام لم يفارقه في حلّه وترحاله، وكان يرى فيه صورة صادقة لمُثل جدّه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما كان يرى فيه أبوه أنّه امتداد الرسالة والإمامة فكان يوليه أكبر اهتمامه، ولقد أشاد الإمام الهاديعليه‌السلام بفضل ابنه الحسن العسكري قائلاً:«أبو محمد ابني أصحّ آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غريزةً وأوثقهم حجة. وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها» (٣) ، والإمام الهادي بعيد عن

ــــــــــــ

(١) حياة الإمام الحسن العسكري(دراسة وتحليل): ١٠٣ عن الإتحاف بحبّ الأشراف: ٦٨.

(٢) النور(٢٤): ٣٧.

(٣) أصول الكافي: ١/٣٢٧ ح ١١ وعنه في الإرشاد: ٢/٣١٩ وإعلام الورى: ٢/١٣٥ وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/١٩٦، وعن بعضها في أعيان الشيعة ٤ ق ٣: ٢٩٥ وعنه في حياة الإمام الحسن العسكري: ٢٣.

٣٢

المحاباة والاندفاع العاطفي مثله في ذلك آبائه المعصومين.

وقد لازم الإمام أبو محمدعليه‌السلام أباه طيلة عقدين من الزمن وهو يشاهد كل ما يجري عليه وعلى شيعته من صنوف الظلم والاعتداء. وانتقل الإمام العسكريعليه‌السلام مع والده إلى سرَّ من رأى(سامراء) حينما وُشي بالإمام الهاديعليه‌السلام عند المتوكل حيث كتب إليه عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي: «يذكر أن قوماً يقولون إنه الإمام ـ أي علي الهاديعليه‌السلام ـ فأشخصه عن المدينة مع يحيى بن هرثمة حتى صار إلى بغداد، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقّيه، فرأى تشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سرَّ من رأى»(١) .

ولقد أسرف المتوكّل العباسي في الجور والاعتداء على الإمام علي بن محمد الهاديعليه‌السلام ففرض عليه الإقامة الجبرية في سامرّاء وأحاط داره بالشرطة تحصي عليه أنفاسه وتمنع العلماء والفقهاء وشيعته من الاتصال به، وقد ضيّق المتوكّل على الإمام في شؤونه الاقتصادية أيضاً، وكان يأمر بتفتيش داره بين حين وآخر، وحمله إليه بالكيفية التي هو فيها.

وكان من شدّة عداء المتوكّل لأهل البيتعليهم‌السلام أن منع رسميًّا من زيارة قبر الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام بكربلاء، وأمر بهدم القبر الشريف الذي كان مركزاً من مراكز الإشعاع الثوري في أرض الإسلام.

وكانت كل هذه الظروف المريرة هي الظروف التي عاشها الإمام الزكي أبو محمد العسكريعليه‌السلام وهو في نضارة العمر وغضارة الشباب فكَوَتْ

ــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٤٨٤.

٣٣

نفسه آلاماً وأحزاناً وقد عاش تلك الفترة في ظل أبيه وهو مروّع فذابت نفسه أسىً وتقطّعت ألماً وحسرة(١) .

وكان استشهاد والده(سنة ٢٥٤هـ) وتقلّد الإمامة بعده وكانت فترة إمامته أقصر فترة قضاها إمام من أئمة أهل البيت الأطهار وهم أصح الناس أبداناً وسلامة نفسيّة وجسديّة. قد استشهد وهو بعد لمّا يكمل العقد الثالث من عمره الشريف، إذ كان استشهاده في سنة(٢٦٠هـ)(٢) فتكون مدة إمامتهعليه‌السلام ست سنين. وهذه المدة القصيرة تعكس لنا مدى رعب حكّام الدولة العباسية منه ومن دوره الفاعل في الأمة لذا عاجلوه بعد السجن والتضييق بدس السم له وهو لم يزل شاباً في الثامنة أو التاسعة والعشرين من عمره الميمون.(٣)

ولا بد من الإشارة إلى أنّ المنقول التاريخي عن الإمام العسكريعليه‌السلام في ظل حياة والده الإمام علي الهاديعليه‌السلام ومواقفهما لا يتعدى الولادة والوفاة والنسب الشريف وحوادث ومواقف يسيرة لا تتناسب ودور الإمامعليه‌السلام الذي كان يتمثل في حفظ الشريعة والعمل على إبعاد الأمة عن الانحراف ومواجهة التحديات التي كانت تواجهها من قبل أعداء الإسلام.

غير أن مجموعة من الروايات التي نقلها لنا بعض المحدثين تشير إلى أمور مهمّة من حياة الإمام العسكريعليه‌السلام ، وقد أشار الإمام العسكري نفسه إلى صعوبة ظرفه بقولهعليه‌السلام :«ما مُنيَ أحد من آبائي بمثل ما مُنيتُ به من شك هذه العصابة فيّ» .(٤)

ــــــــــــ

(١) حياة الإمام الحسن العسكري: ٢٤.

(٢) الإرشاد: ٢ / ٣١٥، وعنه في بحار الأنوار: ٥٠ / ٢٣٦.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ٤ / ٤٢٢.

(٤) تحف العقول: ٥١٧.

٣٤

وهذا شاهد آخر على حراجة الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تحيط بالإمامين العسكريين علي بن محمد والحسن بن عليعليهما‌السلام والتي كانت تحتم إبعاد الإمام العسكري من الأضواء والاتصال بالعامة إلاّ في حدود يسمح الظرف بها أو تفرضها ضرورة بيان منزلته وإمامته وعلو مكانته وإتمام الحجة به على الخواص والثقاة من أصحابه، كل ذلك من أجل الحفاظ على حياته من طواغيت بني العباس.

وإن ما ورد منه في وفاة أخيه محمد يعدّ مؤشراً آخر يضاف إلى قول الإمامعليه‌السلام ويدل على صعوبة الظرف الذي كان يعيشه الإمامان وحالة الاستعداء التي كانت تفرضها السلطة عليهما، فعند وفاة محمد بن علي الهاديعليه‌السلام ـ كما يروي الكليني عن سعد بن عبد الله عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الأفطس ـ حيث قال: «إنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد دار أبي الحسنعليه‌السلام وقد بسط في صحن داره والناس جلوس حوله فقالوا: قدّرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب ومن بني العباس وقريش مئة وخمسون رجلاً سوى مواليه وسائر الناس إذ نظرنا إلى الحسن بن عليعليه‌السلام قد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه ونحن لا نعرفه فنظر إليه أبو الحسنعليه‌السلام بعد ساعة من قيامه ثم قال له:«يابني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً» .

فبكى الحسنعليه‌السلام واسترجع وقال:«الحمد لله رب العالمين، وإيّاه أسأل تمام نعمه لنا فيك وإنا لله وإنا إليه راجعون» .

فسألنا عنه فقيل لنا: هذا الحسن إبنه وقدّرنا له في ذلك الوقت عشرين

٣٥

سنة أو أرجح فيومئذ عرفناه وعلمنا أنه قد أشار إليه بالإمامة وأقامه مقامه»(١) .

ونلاحظ أن سؤال جماعة عن الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام وفي هذه المناسبة الأليمة التي حضرها أعيان الناس دليل قوي على مدى تكتّم الإمام الهادي على ولده العسكريعليهما‌السلام ، خصوصاً وهو قد بلغ العشرين من مراحل حياة الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام عمره الشريف.

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام

تنقسم حياة الإمام العسكريعليه‌السلام إلى مرحلتين متميزتين:

المرحلة الأولى: هي الأيام التي قضاها الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام في ظلال إمامة أبيه الإمام الهاديعليه‌السلام والتي تقرب من(٢٢ سنة) حيث تنتهي باستشهاد أبيه سنة(٢٥٤هـ ).

ولا نملك صورة تفصيلية عن هذين العقدين من الزمن فيما يخص حياة الإمام الحسن العسكري سوى بضعة حوادث تتلخص في صور من خشيته لله منذ صباه وعلاقته الحميمة بأخويه محمد والحسين ثم رزؤه بأخيه محمد، ثم زواجه ونصّ الإمام الهادي على إمامته، ثم تجهيزه لأبيه حين وفاته صلوات الله عليه.

ولا بد لنا أن نلمّ بأحداث عصر الإمام الهاديعليه‌السلام ومواقفه منها كي نستطيع أن نخرج بصورة واضحة عن الظروف التي أحاطت بالإمام العسكريعليه‌السلام في المرحلة الثانية من حياته كي يتسنى لنا تقويمها ودراسة نشاطاتهعليه‌السلام في عصر إمامته الذي لا نجد عصراً أقصر منه ولا أشد حراجة بالنسبة للإمام نفسه ولشيعته ولأهدافه.

ــــــــــــ

(١) الكافي: كتاب الحجة، باب الإشارة والنص على أبي محمد عليه‌السلام ، الحديث رقم ٨.

٣٦

المرحلة الثانية: هي أيام إمامته حتى استشهاده والتي تبدأ من سنة(٢٥٤هـ) وحتى سنة استشهاده(٢٦٠هـ) وهي مرحلة حافلة بأحداث مهمة على الرغم من قصرها.

وقد عاصر فيها كُلاًّ من المعتزّ(٢٥٥ هـ ) والمهتدي(٢٥٦ هـ ) والمعتمد(٢٧٩ هـ )

وتبرز مدى أهميتها حينما نتصوّر أهمية مرحلة الغيبة التي كان لا بد للإمام الحسن العسكريعليه‌السلام أن يقوم بالتمهيدات اللازمة فيها لنقل شيعة أهل البيتعليهم‌السلام من مرحلة الحضور إلى مرحلة الغيبة التي يُراد من خلالها حفظ الإمام المعصوم وحفظ شيعته وحفظ خطّهم الرسالي من الضياع والانهيار والاضمحلال، حتّى تتهيّأ الظروف الملائمة لثورة أهل البيت الربّانية على كل صروح الظلم والطغيان وتحقيق جميع أغراض الرسالة الإلهية الخالدة على وجه الأرض من خلال دولة العدالة العالمية لأهل البيتعليهم‌السلام .

الفصل الثالث: الإمام الحسن العسكري في ظلّ أبيهعليهما‌السلام

كان شخوص الإمام الهادي مع ابنه الحسن العسكريعليه‌السلام من المدينة سنة(٢٣٤هـ)(١) ، ورافقه خلال مدة تواجده في سامرّاء البالغة عشرين سنة فيكون قد عاش الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام في ظل أبيه اثنين وعشرين سنة حيث استشهد أبوه الإمام الهاديعليه‌السلام سنة(٢٥٤هـ).

وقد عاش الظروف المأساوية القاسية التي كان يعيشها الإمام الهاديعليه‌السلام وشيعته والتي كانت تفرضها السلطة الغاشمة على الإمامعليه‌السلام وأتباعه من أجل إيقاف نشاط الإمام ونشاط أتباعه أو تحديده وتطويقه لئلاّ يتسع نشاط مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام وتنتشر آثارهم بين جميع أبناء الأمة الإسلامية ذلك النشاط الذي قد يؤدي إلى المواجهة معها ; لذا فهي كانت تعمد إلى الاضطهاد والسجن والنفي والمتابعة وهي وسائل السلطات الجائرة على امتداد تاريخ الإنسان.

١ ـ طفولة متميّزة

روي أن شخصاً مرّ بالحسن بن علي العسكريعليهما‌السلام وهو واقف مع

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري: ٧ / ٥١٩.

٣٧

أترابه من الصبيان، يبكي، فظنّ ذلك الشخص أن هذا الصبيّ يبكي متحسّراً على ما في أيدي أترابه، ولذا فهو لا يشاركهم في لعبهم، فقال له: أشتري لك ما تلعب به ؟، فردّ عليه الحسنعليه‌السلام :«لا، ما للّعب خُلِقنا» .

وبهر الرجل فقال له: لماذا خلقنا ؟ فأجابهعليه‌السلام :«للعلم والعبادة» .

فسأله الرجل: من أين لك هذا ؟، فأجابهعليه‌السلام : من قوله تعالى( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ) .

وبهت الرجل ووقف حائراً، وانطلق يقول له: ما نزل بك، وأنت صغير لا ذنب لك ؟!!

فأجابهعليه‌السلام :«إليك عنّي، إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار، فلا تتقد إلاّ بالصغار، وإني أخشى أن أكون من صغار حطب جهنّم» (١) .

وروي عن محمّد بن عبد الله أنه قال: وقع أبو محمدعليه‌السلام وهو صغير في بئر الماء وأبو الحسنعليه‌السلام في الصلاة، والنسوان يصرخن، فلمّا سلّم قال:لا بأس . فرأوه وقد ارتفع الماء إلى رأس البئر وأبو محمد على رأس الماء يلعب بالماء (٢) .

٢ ـ عصر الإمام الهاديعليه‌السلام

عاصر الإمام الهاديعليه‌السلام مدة إمامته ستّة من خلفاء بني العباس، المعتصم منذ سنة(٢٢٠ ـ ٢٣٢ هـ ) والمتوكل(٢٣٢ ـ ٢٤٧ هـ) حيث قتل على يد الأتراك، ثم جاءت أيام المنتصر ـ وكانت مدّة خلافته ستة أشهر ويومين، ثم المستعين(٢٤٨ ـ ٢٥٢هـ) كما عاصر الشطر الأكبر من خلافة

ــــــــــــ

(١) حياة الإمام الحسن العسكري: ٢٢ ـ ٢٣ عن جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام: ١٥٥.

(٢) الخرائج والجرائح: ١/٤٥١ ح ٣٦ وعنه في بحار الأنوار: ٥٠ / ٢٧٤.

٣٨

المعتز(٢٥٢ ـ ٢٥٥هـ) حيث كان استشهاد الإمام الهاديعليه‌السلام سنة(٢٥٤هـ)(١) ، وفي هذا العام تولى مهام الإمامة ابنه الحسن بن علي العسكريعليهما‌السلام .

وكانت الظروف التي تمر بها الدولة العباسية بعد تولي المتوكل ظروفاً صعبة جداً، إذ إنها كانت تعد مؤشراً على ضعفها، وتشكل بدايةً لانحلالها، فالحروب الداخلية والخارجية من جهة، والقتال بين أبناء الخلفاء على كرسي الحكم من جهة أخرى كالذي حصل بين المستعين والمعتز والذي أدّى إلى تولي المعتز وخلع الأول عام(٢٥٢هـ)(٢) . كل واحد من هذه الصراعات كان له تأثيره المباشر في إيجاد الضعف والانحلال.

وتمثّلت الأحداث الداخلية أيضاً بنشاط الخوارج والذي كان نشاطاً قوياً فعالاً مدعماً بالمال والسلاح بقيادة مادر الشاري، وهناك أيضاً الثورات والانتفاضات العلوية إلى جانب نزاعات الطامعين في السلطة.

كما ان الدولة كانت تعاني من سوء الحالة الاقتصادية نتيجة للبذخ والإسراف الذي كانت تعيشه رجالات البلاط والوزراء وحاشيتهم، وفي أيام المتوكل قام المتوكّل بهدم قبر الإمام الحسينعليه‌السلام (٣) ، ومَنَعَ القاصدين لزيارته عن زيارته; لأن المتوكل كان يتجاهر بعدائه لآل أبي طالب ومطاردتهم، ولم يرد تجاه تلك الأحداث أي تعليق من قبل الإمام الهاديعليه‌السلام ، ويمكن أن يقال: «إنه لم يرد إلينا عن موقف الإمامعليه‌السلام مع الخلفاء شيء سوى ما جاء عن موقفه من المتوكل وهو أقل القليل».(٤)

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري: ٧ أحداث سنة ٢٣٤ وسنة ٢٥٤ هـ.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٤٧٦.

(٣) تاريخ ابن الوردي: ١ / ٢١٦.

(٤) تاريخ الغيبة الصغرى: ١١٧.

٣٩

وكانت للإمام الهاديعليه‌السلام منزلة سامية ومكانة رفيعة القدر لدى أهل المدينة لإحسانه إليهم وعلاقته القوية معهم، فلمّا أشخصه المتوكل وأرسل يحيى ابن هرثمة لجلب الإمام من المدينة إلى سامراء عام(٢٣٤هـ) اضطرب الناس وضجّوا كما يروي يحيى بن هرثمة نفسه حيث قال: «فذهبت إلى المدينة فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ أي الإمام الهاديعليه‌السلام ـ وقامت الدنيا على ساق، لأنه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا، فجعلت أسكّنهم، وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنه لا بأس عليه، ثم فتّشتُ منزله فلم أجد إلاّ مصاحف وأدعية، وكتب علم، فعظم في عيني»(١) .

وتعكس هذه الرواية لنا حجم ما كان يؤديه الإمام الهاديعليه‌السلام من دور في المدينة والذي نتج عنه حصول روابط ووشائج قوية تصل الأمة به كما كانت توصله بالأمة، وربما كان المتوكل قد وقف على هذا التأثير البالغ للإمامعليه‌السلام فكان سبباً لإبعاده عن المدينة المنوّرة إلى سامراء التي أسسها العباسيون أنفسهم والتي عُرفت بميول أهلها والذين كان أغلبهم من الأتراك إلى العباسيين أوّلاً، بالإضافة إلى ما عرفوا به من تطرّف في التوجه إلى السيطرة والسلطة ثانياً.

٣ ـ مواقف الإمام الهاديعليه‌السلام تجاه الأحداث

يتضح لنا من خلال الإجراءات التي قام بها المتوكل العباسي تجاه الإمام الهاديعليه‌السلام أنّ حركة الإمام وقيامه بمهامّه إزاء الأمة وخاصّته ـ وهي القواعد

ــــــــــــ

(١) تذكرة الخواص: ٣٦٠ عن علماء السير.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وانتهت الوفود إلى دمشق لعرض آرائها على عاهل الشام ، وقد قام معاوية بضيافتهم والإحسان إليهم.

مؤتمرُ الوفود الإسلاميّة :

وعقدت وفود الأقطار الإسلاميّة مؤتمراً في البلاط الاُموي في دمشق لعرض آرائها في البيعة ليزيد ، وقد افتتح المؤتمر معاوية بالثناء على الإسلام ، ولزوم طاعة ولاة الاُمور ، ثمّ ذكر يزيد وفضله وعمله بالسّياسة ، ودعاهم لبيعته.

المؤيّدون للبيعة :

وانبرت كوكبة مِنْ أقطاب الحزب الاُموي فأيّدوا معاوية ، وحثّوه على الإسراع للبيعة ، وهم :

1 ـ الضحّاك بن قيس

2 ـ عبد الرحمن بن عثمان

3 ـ ثور بن معن السلمي

4 ـ عبد الله بن عصام

5 ـ عبد الله بن مسعدة

وكان معاوية قد عهد إليهم بالقيام بتأييده ، والردّ على المعارضين له.

٢٠١

خطابُ الأحنف بن قيس :

وانبرى إلى الخطابة زعيم العراق وسيّد تميم الأحنف بن قيس ، الذي تقول فيه ميسون اُمّ يزيد : لو لمْ يكن في العراق إلاّ هذا لكفاهم(1) . وتقدّم فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ التفت إلى معاوية قائلاً :

أصلح الله أمير المؤمنين ، إنّ الناس في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف ، وقد حلبت الدهر أشطره.

يا أمير المؤمنين ، فاعرف مَنْ تسند إليه الأمر مِنْ بعدك ثمّ اعصِ أمر مَنْ يأمرك ، ولا يغررك مَنْ يُشير عليك ولا ينظر لك ، وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّاً.

وأثار خطاب الأحنف موجةً مِن الغضب والاستياء عند الحزب الاُموي ، فاندفع الضحّاك بن قيس مندِّداً به ، وشتم أهلَ العراق ، وقدح بالإمام الحسن (عليه السّلام) ، ودعا الوفد العراقي إلى الإخلاص لمعاوية والامتثال لما دعا إليه. ولمْ يعن به الأحنف ، فقام ثانياً فنصح معاوية ودعاه إلى الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه مِنْ تسليم الأمر إلى الحسن (عليه السّلام) مِنْ بعده ؛ حسب اتفاقية الصلح التي كان من أبرز بنودها إرجاع الخلافة مِنْ بعده إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) ، كما أنّه هدّد معاوية بإعلان الحرب إذا لمْ يفِ بذلك.

__________________

(1) تذكرة ابن حمدون / 81.

٢٠٢

فشلُ المؤتمر :

وفشلَ المؤتمر فشلاً ذريعاً بعد خطاب الزعيم الكبير الأحنف بن قيس ، ووقع نزاع حاد بين أعضاء الوفود وأعضاء الحزب الاُموي ، وانبرى يزيد بن المقفّع فهدّد المعارضين باستعمال القوّة قائلاً : أمير المؤمنين هذا ـ وأشار إلى معاوية ـ ، فإنْ هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ، ومَنْ أبى فهذا ـ وأشار إلى السيف ـ.

فاستحسن معاوية قوله ، وراح يقول له : اجلس فأنت سيّد الخطباء وأكرمهم.

ولمْ يعن به الأحنف بن قيس ، فانبرى إلى معاوية فدعاه إلى الإمساك عن بيعة يزيد ، وأنْ لا يُقدّمَ أحداً على الحسن والحسين (عليهما السّلام). وأعرض عنه معاوية ، وبقي مصرّاً على فكرته التي هي أبعد ما تكون عن الإسلام.

وعلى أي حالٍ ، فإنّ المؤتمر لمْ يصل إلى النتيجة التي أرادها معاوية ؛ فقد استبان له أنّ بعض الوفود الإسلاميّة لا تُقِرّه على هذه البيعة ولا ترضى به.

سفرُ معاوية ليثرب :

وقرّر معاوية السفر إلى يثرب التي هي محطّ أنظار المسلمين ، وفيها أبناء الصحابة الذين يُمثّلون الجبهة المعارضة للبيعة ؛ فقد كانوا لا يرون يزيداً نِدّاً لهم ، وإنّ أخذ البيعة له خروجٌ على إرادة الأُمّة ، وانحراف عن الشريعة الإسلاميّة التي لا تُبيح ليزيد أنْ يتولّى شؤون المسلمين ؛ لما عُرِفَ به مِن الاستهتار وتفسّخ الأخلاق.

٢٠٣

وسافر معاوية إلى يثرب في زيارة رسمية ، وتحمّل أعباء السفر لتحويل الخلافة الإسلاميّة إلى مُلْكٍ عضوض ، لا ظل فيه للحقّ والعدل.

اجتماعٌ مغلق :

وفور وصول معاوية إلى يثرب أمر بإحضار عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، وعقد معهم اجتماعاً مغلقاً ، ولمْ يُحضر معهم الحسن والحسين (عليهما السّلام) ؛ لأنّه قد عاهد الحسن (عليه السّلام) أنْ تكون الخلافة له مِنْ بعده ، فكيف يجتمع به؟ وماذا يقول له؟ وقد أمر حاجبه أنْ لا يسمح لأي أحدٍ بالدخول عليه حتّى ينتهي حديثه معهم.

كلمةُ معاوية :

وابتدأ معاوية الحديث بحمد الله والثناء عليه ، وصلّى على نبيّه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فقد كبر سنّي ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أنْ اُدعى فأُجيب ، وقد رأيت أنْ استخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا. وأنتم عبادلة قريش وخيارهم وأبناء خيارهم ، ولمْ يمنعني أنْ أُحضِرَ حسناً وحُسيناً إلاّ أنّهما أولاد أبيهما علي ، على حُسنِ رأي فيهما ، وشدّة محبّتي لهما ، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً رحمكم الله.

ولم يستعمل معهم الشدّة والإرهاب ؛ استجلاباً لعواطفهم ، ولمْ يخفَ عليهم ذلك ، فانبروا جميعاً إلى الإنكار عليه.

٢٠٤

كلمةُ عبد الله بن عباس :

وأوّل مَنْ كلّمه عبد الله بن عباس ، فقال بعد حمد الله ، والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس مَنْ تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأُمّة التسليم لنبيّها إذا اختاره الله له ؛ فإنّه إنّما اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم.

وكانت دعوة ابن عباس صريحةً في إرجاع الخلافة لأهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم ألصق الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأمسّهم به رحماً ؛ فإنّ الخلافة إنّما هي امتداد لمركز رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فأهل بيته أحقّ بمقامه وأولى بمكانته.

كلمةُ عبد الله بن جعفر :

وانبرى عبد الله بن جعفر ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة إنْ أُخذ فيها بالقرآن فاُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاُولوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر مِنْ آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟ وأيمُ الله ، لو ولّوها بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه ؛ لحقّه وصدقه ، ولأُطيع الرحمن وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان ، فاتقِ الله يا معاوية ، فإنّك قد صرت راعياً ونحن رعيّة ، فانظر لرعيتك فإنّك مسؤول عنها غداً ،

٢٠٥

وأمّا ما ذكرت مِن ابنَي عمّي وتركك أنْ تحضرهم ، فوالله ما أصبت الحقّ ، ولا يجوز ذلك إلاّ بهما ، وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، واستغفر الله لي ولكم.

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى الحقّ ، والإخلاص للأُمّة ، فقد رشّح أهل البيت (عليهم السّلام) للخلافة وقيادة الأُمّة ، وحذّره مِنْ صرفها عنهم كما فعل غيره مِن الخلفاء ، فكان مِنْ جرّاء ذلك أنْ مُنِيَتِ الأُمّة بالأزمات والنّكسات ، وعانت أعنف المشاكل وأقسى الحوادث.

كلمةُ عبد الله بن الزبير :

وانطلق عبد الله بن الزبير للخطابة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصة ، نتناولها بمآثرها السنيّة وأفعالها المرضيّة ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتّقِ الله يا معاوية وأنصف نفسك ؛ فإنّ هذا عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وعلي خلّف حسناً وحُسيناً ، وأنت تعلم مَنْ هما وما هما؟ فاتّقِ الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وقد حفّزهم بذلك لمعارضة معاوية وإفساد مهمّته.

٢٠٦

كلمةُ عبد الله بن عمر :

واندفع عبد الله بن عمر ، فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيّه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ، ولا قيصريّة ، ولا كسرويّة يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فوالله ما أدخلني مع الستّة مِنْ أصحاب الشورى إلاّ على أنّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنّما هي في قريش خاصة لمَنْ كان لها أهلاً ؛ ممّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، ممّن كان أتقى وأرضى ، فإنْ كنت تريد الفتيان مِنْ قريش فلعمري أنّ يزيد مِنْ فتيانها ، واعلم أنّه لا يُغني عنك مِن الله شيئاً.

ولمْ تعبّر كلمات العبادلة عن شعورهم الفردي ، وإنّما عبّرت تعبيراً صادقاً عن رأي الأغلبية السّاحقة مِن المسلمين الذين كرهوا خلافة يزيد ، ولمْ يرضوا به.

كلمةُ معاوية :

وثقلَ على معاوية كلامهم ، ولمْ يجد ثغرة ينفذ منها للحصول على رضاهم ، فراح يشيد بابنه فقال : قد قلت وقلتم ، وإنّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ مِن أبنائهم ، مع أنّ ابني إنْ قاولتموه وجد مقالاً ، وإنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ؛ لأنّهم أهل رسول الله ، فلمّا مضى رسول الله ولّى الناس أبا بكر وعمر مِنْ غير معدن المُلْك والخلافة ، غير أنّهما سارا بسيرةٍ جميلةٍ ، ثمّ رجع المُلْك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد

٢٠٧

أخرجك الله يابن الزبير ، وأنت يابن عمر منه ، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين مِن الرأي إنْ شاء الله(1) .

وانتهى اجتماع معاوية بالعبادلة ، وقد أخفق فيه إخفاقاً ذريعاً ؛ فقد استبان له أنّ القوم مصمّمون على رفض بيعة يزيد. وعلى إثر ذلك غادر يثرب ، ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا اجتماعه بسبطي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقد أهملت ذلك ، وأكبر الظن أنّه لمْ يجتمع بهما.

فزعُ المسلمين :

وذُعِرَ المسلمون حينما وافتهم الأنباء بتصميم معاوية على فرض ابنه خليفة عليهم ، وكان مِنْ أشدّ المسلمين خوفاً المدنيون والكوفيون ، فقد عرفوا واقع يزيد ، ووقفوا على اتجاهاته المعادية للإسلام.

يقول توماس آرنولد : كان تقرير معاوية للمبدأ الوراثي نقلة خطيرة في حياة المسلمين الذين ألِفوا البيعة والشورى ، والنُّظم الاُولى في الإسلام ، وهم بعدُ قريبون منها ؛ ولهذا أحسّوا ـ وخاصة في مكّة والمدينة ، حيث كانوا يتمسّكون بالأحاديث والسّنن النّبوية الاُولى ـ أنّ الاُمويِّين نقلوا الخلافة إلى حكم زمني متأثر بأسباب دنيوية ، مطبوع بالعظمة وحبّ الذات بدلاً مِنْ أنْ يحتفظوا بتقوى النّبي وبساطته(2) .

لقد كان إقدام معاوية على فرض ابنه يزيد حاكماً على المسلمين تحوّلاً خطيراً في حياة المسلمين الذين لمْ يألفوا مثل هذا النظام الثقيل الذي فُرِضَ عليهم بقوّة السّلاح.

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

(2) الخلافة ـ لتوماس / 10.

٢٠٨

الجبهةُ المعارضة :

وأعلن الأحرار والمصلحون في العالم الإسلامي رفضهم القاطع لبيعة يزيد ، ولمْ يرضوا به حاكماً على المسلمين ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) :

وفي طليعة المعارضين لبيعة يزيد الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، فقد كان يحتقر يزيد ويكره طباعه الذميمة ، ووصفه بأنّه صاحب شراب وقنص ، وأنّه قد لزم طاعة الشيطان وترك طاعة الرحمن ، وأظهر الفساد ، وعطّل الحدود ، واستأثر بالفيء ، وأحلّ حرام الله وحرّم حلاله(1) . وإذا كان بهذه الضِعة ، فكيف يبايعه ويقرّه حاكماً على المسلمين؟!

ولمّا دعاه الوليد إلى بيعة يزيد قال له الإمام (عليه السّلام) : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النّفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله».

ورفض بيعة يزيد جميع أفراد الأُسرة النّبوية تبعاً لزعيمهم العظيم ، ولمْ يشذّوا عنه.

الحرمان الاقتصادي :

وقابل معاوية الأسرة النّبوية بحرمان اقتصادي ؛ عقوبةً لهم لامتناعهم عن بيعة يزيد ، فقد حبس عنهم العطاء سنةً كاملة(2) ، ولكنّ ذلك لمْ يثنهم عن عزمهم في شجب البيعة ورفضها.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 252 ، الإمامة والسياسة 1 / 200.

٢٠٩

2 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

ومِن الذين نقموا على بيعة يزيد عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقد وسمها بأنّها هرقلية ، كلّما مات هرقل قام مكانه هرقل آخر(1) . وأرسل إليه معاوية مئة ألف درهم ليشتري بها ضميره فأبى ، وقال : لا أبيع ديني(2) .

3 ـ عبد الله بن الزبير :

ورفض عبد الله بن الزبير بيعة يزيد ، ووصفه بقوله : يزيد الفجور ، ويزيد القرود ، ويزيد الكلاب ، ويزيد النشوات ، ويزيد الفلوات(3) . ولمّا أجبرته السّلطة المحلّية في يثرب على البيعة فرّ منها إلى مكّة.

4 ـ المنذر بن الزبير :

وكره المنذر بن الزبير بيعة يزيد وشجبها ، وأدلى بحديث له عن فجور يزيد أمام أهل المدينة ، فقال : إنّه قد أجازني بمئة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أنْ أخبركم خبره. والله ، إنّه ليشرب الخمر. والله ، إنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة(4) .

5 ـ عبد الرحمن بن سعيد :

وامتنع عبد الرحمن بن سعيد مِن البيعة ليزيد ، وقال في هجائه :

__________________

(1) الاستيعاب.

(2) الاستيعاب ، البداية والنهاية 8 / 89.

(3) أنساب الأشراف 4 / 30.

(4) الطبري 4 / 368.

٢١٠

لستَ منّا وليس خالُك منّا

يا مضيعَ الصلاةِ للشهواتِ(1)

6 ـ عابس بن سعيد :

ورفض عابس بن سعيد بيعة يزيد حينما دعاه إليها عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال له : أنا أعرَفُ به منك ، وقد بعتَ دينك بدنياك(2) .

7 ـ عبد الله بن حنظلة :

وكان عبد الله بن حنظلة مِن أشدّ الناقمين على البيعة ليزيد ، وكان مِن الخارجين عليه في وقعة الحرّة ، وقد خاطب أهل المدينة ، فقال لهم : فو الله ، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أنْ نُرمى بالحِجارة مِن السّماء.

حياة الإمام الحُسين

إنّ رجلاً ينكح الأُمّهات والبنات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لمْ يكن معي أحدٌ مِن الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً(3) .

وكان يرتجز في تلك الواقعة :

بعداً لمَنْ رام الفساد وطغى

وجانب الحقّ وآيات الهدى

لا يبعد الرحمنُ إلاّ مَنْ عصى(4)

__________________

(1) الحُسين بن علي (عليه السّلام) 2 / 6.

(2) القضاة ـ للكندي / 310.

(3) طبقات ابن سعد.

(4) تاريخ الطبري 7 / 12.

٢١١

موقفُ الأُسرة الاُمويّة :

ونقمت الأُسرة الاُمويّة على معاوية في عقده البيعة ليزيد ، ولكن لمْ تكن نقمتهم عليه مشفوعة بدافع ديني أو اجتماعي ، وإنّما كانت مِنْ أجل مصالحهم الشخصية الخاصة ؛ لأنّ معاوية قلّد ابنه الخلافة وحرمهم منها ، وفيما يلي بعض الناقمين :

1 ـ سعيد بن عثمان :

وحينما عقد معاوية البيعة ليزيد أقبل سعيد بن عثمان إلى معاوية ، وقد رفع عقيرته قائلاً : علامَ جعلت ولدك يزيد وليّ عهدك؟! فوالله لأبي خير مِنْ أبيه ، وأُمّي خير مِنْ أُمّه ، وأنا خيرٌ مِنه ، وقد ولّيناك فما عزلناك ، وبنا نلت ما نلت!

فراوغ معاوية وقال له : أمّا قولك إنّ أباك خير مِنْ أبيه فقد صدقت ، لعمر الله إنّ عثمان لخير مِنّي ؛ وأمّا قولك إنّ أُمّك خير مِنْ أُمّه فحسب المرأة أنْ تكون في بيت قومِها ، وأنْ يرضاها بعلها ، ويُنجب ولدها ؛ وأمّا قولك إنّك خير مِنْ يزيد ، فوالله ما يسرّني أنّ لي بيزيد ملء الغوطة ذهباً مثلك ؛ وأمّا قولك إنّكم ولّيتموني فما عزلتموني ، فما ولّيتموني إنّما ولاّني مَنْ هو خير مِنكم عمر بن الخطاب فأقررتموني.

وما كنت بئس الوالي لكم ؛ لقد قمت بثأركم ، وقتلتُ قتلة أبيكم ، وجعلت الأمر فيكم ، وأغنيت فقيركم ، ورفعت الوضيع منكم ...

٢١٢

وكلّمه يزيد فأرضاه ، وجعله والياً على خراسان(1) .

2 ـ مروان بن الحكم :

وشجب مروان بن الحكم البيعة ليزيد وتقديمه عليه ، فقد كان شيخ الاُمويِّين وزعيمهم ، فقال له : أقم يابن أبي سفيان ، واهدأ مِنْ تأميرك الصبيان ، واعلم أنّ لك في قومك نُظراء ، وأنّ لهم على مناوئتك وزراً.

فخادعه معاوية ، وقال له : أنت نظير أمير المؤمنين بعده ، وفي كلّ شدّة عضده ، فقد ولّيتك قومك ، وأعظمنا في الخراج سهمك ، وإنّا مجيرو وفدك ، ومحسنو وفدك(2) .

وقال مروان لمعاوية : جئتم بها هرقلية ، تُبايعون لأبنائكم!(3) .

3 ـ زياد بن أبيه :

وكره زياد بن أبيه بيعة معاوية لولده ؛ وذلك لما عرف به مِن الاستهتار والخلاعة والمجون.

ويقول المؤرّخون : إنّ معاوية كتب إليه يدعوه إلى أخذ البيعة بولايته العهد ليزيد ، وإنّه ليس أولى مِن المغيرة بن شعبة. فلمّا قرأ كتابه دعا برجل مِنْ أصحابه كان يأتمنه حيث لا يأتمن أحداً غيره ، فقال له : إنّي اُريد أنْ ائتمنك على ما لم ائتمن على بطون الصحائف ؛ ائت معاوية وقل له : يا أمير المؤمنين ، إنّ كتابك ورد عليّ بكذا ، فماذا يقول

__________________

(1) وفيات الأعيان 5 / 389 ـ 390.

(2) الإمامة والسّياسة 1 / 128.

(3) الإسلام والحضارة العربية 2 / 395.

٢١٣

الناس إنْ دعوناهم إلى بيعة يزيد ، وهو يلعب بالكلاب والقرود ، ويلبس المصبغ ، ويدمن الشراب ، ويمسي على الدفوف ، ويحضرهم ـ أي الناس ـ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر؟! ولكن تأمره أنْ يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين ، فعسانا أنْ نموه على الناس. وسار الرسول إلى معاوية فأدّى إليه رسالة زياد ، فاستشاط غضباً ، وراح يتهدّده ويقول :

ويلي على ابن عُبيد! لقد بلغني أنّ الحادي حدا له أنّ الأمير بعدي زياد. والله ، لأردّنه إلى أُمّه سُميّة وإلى أبيه عُبيد(1) .

هؤلاء بعض الناقدين لمعاوية مِن الأُسرة الاُمويّة وغيرهم في توليته لخليعه يزيد خليفة على المسلمين.

إيقاعُ الخلاف بين الاُمويِّين :

واتّبع معاوية سياسة التفريق بين الاُمويِّين حتّى يصفو الأمر لولده يزيد ؛ فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مكانه مروان بن الحكم ، ثمّ عزل مروان واستعمل سعيداً مكانه ، وأمره بهدم داره ومصادرة أمواله ، فأبى سعيد مِنْ تنفيذ ما أمره به معاوية فعزله وولّى مكانه مروان ، وأمره بمصادرة أموال سعيد وهدم داره ، فلمّا همّ مروان بتنفيذ ما عهد إليه أقبل إليه سعيد وأطلعه على كتاب معاوية في شأنه ، فامتنع مروان مِن القيام بما أمره معاوية.

وكتب سعيد إلى معاوية رسالة يندّد فيها بعمله ، وقد جاء فيها : العجب ممّا صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا له ، أنْ يضغن بعضنا

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 196.

٢١٤

على بعض! فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره مِن الأخبثين ، وعفوه وإدخاله القطيعة بنا والشحناء ، وتوارث الأولاد ذلك!(1) .

وعلّق عمر أبو النّصر على سياسة التفريق التي تبعها معاوية مع أُسرته بقوله : إنّ سبب هذه السّياسة هو رغبة معاوية في إيقاع الخلاف بين أقاربه الذين يخشى نفوذهم على يزيد مِنْ بعده ، فكان يضرب بعضهم ببعضٍ حتّى يظلّوا بحاجة إلى عطفه وعنايته(2) .

تجميدُ البيعة :

وجمّد معاوية رسمياً البيعة ليزيد إلى أجل آخر حتّى يتمّ له إزالة الحواجز والسدود التي تعترض طريقه. ويقول المؤرّخون : إنّه بعد ما التقى بعبادلة قريش في يثرب ، واطّلع على آرائهم المعادية لما ذهب إليه ، أوقف كلّ نشاط سياسي في ذلك ، وأرجأ العمل إلى وقت آخر(3) .

اغتيالُ الشخصيات الإسلاميّة :

ورأى معاوية أنّه لا يمكن بأي حالٍ تحقيق ما يصبوا إليه مِنْ تقليد ولده الخلافة مع وجود الشخصيات الرفيعة التي تتمتّع باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، فعزم على القيام باغتيالهم ؛ ليصفو له الجو ، فلا يبقى أمامه أي مزاحم ،

__________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 18.

(2) السياسة عند العرب ـ عمر أبو النّصر / 98.

(3) الإمامة والسياسة 1 / 182.

٢١٥

وقد قام باغتيال الذوات التالية :

1 ـ سعد بن أبي وقاص :

ولسعد المكانة العليا في نفوس الكثيرين مِن المسلمين ، فهو أحد أعضاء الشورى ، وفاتح العراق ، وقد ثقل مركزه على معاوية فدسّ إليه سُمّاً فمات منه(1) .

2 ـ عبد الرحمن بن خالد :

وأخلص أهل الشام لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأحبّوه كثيراً ، وقد شاورهم معاوية فيمَنْ يعقد له البيعة بعد وفاته ، فقالوا له : رضينا بعبد الرحمن بن خالد ، فشقّ ذلك عليه ، وأسرّها في نفسه.

ومرض عبد الرحمن ، فأمر معاوية طبيباً يهودياً كان مكيناً عنده أنْ يأتيه للعلاج فيسقيه سقية تقتله ، فسقاه الطبيب فمات على أثر ذلك(2) .

3 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

وكان عبد الرحمن بن أبي بكر مِنْ أقوى العناصر المعادية لبيعة معاوية لولده ، وقد أنكر عليه ذلك ، وبعث إليه معاوية بمئة ألف درهم فردّها عليه ، وقال : لا أبيع ديني بدنياي. ولمْ يلبث أنْ مات فجأة بمكة(3) .

وتعزو المصادر سبب وفاته إلى أنّ معاوية دسّ إليه سُمّاً فقتله.

__________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 29.

(2) الاستيعاب.

(3) المصدر نفسه.

٢١٦

4 ـ الإمام الحسن (عليه السّلام) :

وقام معاوية باقتراف أعظم جريمة وإثم في الإسلام ، فقد عمد إلى اغتيال سبط النّبي (صلّى الله عليه وآله) وريحانته الإمام الحسن (عليه السّلام) ، الذي عاهده بأنْ يكون الخليفة مِنْ بعده.

ولم يتحرّج الطاغية مِنْ هذه الجريمة في سبيل إنشاء دولة اُمويّة تنتقل بالوارثة إلى أبنائه وأعقابه ، وقد وصفه (الميجر اُوزبورن) بأنّه مخادع ، وذو قلب خال مِنْ كلّ شفقة ، وأنّه كان لا يتهيّب مِنْ الإقدام على أيّة جريمة مِنْ أجل أنْ يضمن مركزه ؛ فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه ، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، كما تخلّص مِنْ مالك الأشتر قائد علي بنفس الطريقة(1) .

وقد استعرض الطاغية السفّاكين ليعهد إليهم القيام باغتيال ريحانة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فلمْ يرَ أحداً خليقاً بارتكاب الجريمة سوى جُعيدة بنت الأشعث ؛ فإنّها مِنْ بيت قد جُبِلَ على المكر ، وطُبِعَ على الغدر والخيانة ، فأرسل إلى مروان بن الحكم سُمّاً فاتكاً كان قد جلبه مِنْ مَلكِ الروم ، وأمره بأنْ يُغري جُعيدة بالأموال وزواج ولده يزيد إذا استجابت له ، وفاوضها مروان سرّاً ففرحت ، فأخذت مِنه السُّمّ ودسّته للإمام (عليه السّلام) ، وكان صائماً في وقت ملتهب مِن شدّة الحرّ ، ولمّا وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، والتفت إلى الخبيثة فقال لها : «قتلتيني قتلك الله. والله لا تصيبنَّ مِنّي خَلفاً ، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر مِنك ، يخزيك الله ويخزيه».

وأخذ حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) يعاني الآلام الموجعة مِنْ شدّة السُّمّ ،

__________________

(1) روح الإسلام / 295.

٢١٧

وقد ذبلت نضارته ، واصفرّ لونه حتّى وافاه الأجل المحتوم. وقد ذكرنا تفصيل وفاته مع ما رافقها مِن الأحداث في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

إعلانُ البيعة رسميّاً :

وصفا الجو لمعاوية بعد اغتياله لسبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) وريحانته ، فقد قضى على مَنْ كان يحذر منه ، وقد استتبت له الاُمور ، وخلت السّاحة مِنْ أقوى المعارضين له ، وكتب إلى جميع عمّاله أنْ يبادروا دونما أي تأخير إلى أخذ البيعة ليزيد ، ويُرغموا المسلمين على قبولها. وأسرع الولاة في أخذ البيعة مِن الناس ، ومَنْ تخلّف عنها نال أقصى العقوبات الصارمة.

مع المعارضين في يثرب :

وامتنعت يثرب مِنْ البيعة ليزيد ، وأعلن زعماؤهم وعلى رأسهم الإمام الحُسين (عليه السّلام) رفضهم القاطع للبيعة ، ورفعت السّلطة المحلّية ذلك إلى معاوية ، فرأى أنْ يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين ، فإنْ أبوا أجبرهم على ذلك. واتّجه معاوية إلى يثرب في موكب رسميّ تحوطه قوّة هائلة مِن الجيش ، ولمّا انتهى إليها استقبله أعضاء المعارضة فجفاهم وهدّدهم.

وفي اليوم الثاني أرسل إلى الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وإلى عبد الله بن عباس ، فلمّا مَثُلا عنده قابلهما بالتكريم والحفاوة ، وأخذ يسأل الحُسين (عليه السّلام) عن أبناء أخيه والإمامُ (عليه السّلام) يُجيبه ، ثمّ خطب معاوية فأشاد بالنّبي (صلّى الله عليه وآله) وأثنى عليه ، وعرض إلى بيعة يزيد ، ومنح ابنه الألقاب الفخمة ، والنعوت الكريمة ، ودعاهما إلى بيعته.

٢١٨

خطابُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

وانبرى أبيّ الضيم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد يا معاوية ، فلن يؤدّي المادح وإنْ أطنب في صفة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مِنْ جميع جزءاً ، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مِنْ إيجاز الصفة ، والتنكّب عن استبلاغ النّعت ، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السُّرج ، ولقد فضلّتَ حتّى أفرطت ، واستأثرتَ حتّى أجحفت ، ومنعتَ حتّى بخلت ، وجُرْتَ حتّى جاوزت ، ما بذلت لذي حقٍّ مِنْ اسمٍ حقّه مِنْ نصيب حتّى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد مِن اكتماله ، وسياسته لأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ؛ تريد أنْ توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تُخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد مِنْ نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به مِن استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحَمام السبق لأترابهنَّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصراً ، ودع عنك ما تحاول ؛ فما أغناك أنْ تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه ، فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتُقدم على عمل محفوظ ، في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تُراثاً ، ولعمر الله أورثنا الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائمَ عند موت الرسول ، فأذعن للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النّصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم : كان

٢١٩

ويكون ، حتّى أتاك الأمر يا معاوية مِنْ طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا اُولي الأبصار.

وذكرتَ قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وتأميره له ، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار ـ لعمر الله ـ يومئذ مبعثهم حتّى أنِفَ القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : لا جرم يا معشر المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري. فكيف تحتجّ بالمنسوخ مِنْ فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه مِن الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً وحولك مَنْ لا يُؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أنْ تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين! واستغفر الله لي ولكم».

وفنّد الإمام (عليه السّلام) في خطابه جميع شبهات معاوية ، وسدّ عليه جميع الطرق والنوافذ ، وحمّله المسؤولية الكبرى فيما أقدم عليه مِنْ إرغام المسلمين على البيعة لولده. كما عرض للخلافة وما منيت به مِن الانحراف عمّا أرادها الله مِنْ أنْ تكون في العترة الطاهرة (عليهم السّلام) ، إلاّ أنّ القوم زووها عنهم ، وحرفوها عن معدنها الأصيل.

وذُهل معاوية مِنْ خطاب الإمام (عليه السّلام) ، وضاقت عليه جميع السّبل ، فقال لابن عباس : ما هذا يابن عباس؟!

ـ لعمر الله إنّها لذرّيّة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وأحد أصحاب الكساء ، ومِن البيت المطهّر ، فاله عمّا تريد ؛ فإنّ لك في الناس مقنعاً حتّى يحكم الله

٢٢٠