الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 80652
تحميل: 6068


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80652 / تحميل: 6068
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إليه من الاتّفاق على كلمة الحقّ، و أنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه و لا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم.

قوله تعالى: ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) ظاهره أنّه اُريد به التحزّبات الّتي نشأت بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأدّى ذلك إلى حدوث مذاهب متنوّعة اُلبست لباس العصبيّة و الحميّة الجاهليّة و استتبعت حروباً و مقاتل يستبيح كلّ فريق من غيره كلّ حرمة و يطرده بمزعمته من حرمة الدين و بيضة الإسلام.

و على هذا فقوله:( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ ) إلخ، عذاب واحد لا عذابان و إن أمكن بوجه عدّ كلّ من إلقاء التفرّق في الكلمة و إذاقة البعض بأس بعض عذاباً مستقلّاً برأسه فللتفرقة بين الاُمّة أثر سوء آخر و هو طروّ الضعف و نفاد القوّة و تبعض القدرة لكنّ المأخوذ في الآية المعدود عذاباً أعني قوله:( وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ ) إلخ، حينئذ بالنسبة إلى مجرّد إلقاء الاختلاف بمنزلة المقيّد بالنسبة إلى المطلق، و لا يحسن مقابلة المطلق بالمقيّد إلّا بعناية زائدة في الكلام، على أنّ العطف بواو الجمع يؤيّد ما ذكرناه.

فبالجملة معنى الآية: قل يا رسول الله مخاطباً لهم منذراً لهم عاقبة استنكافهم عن الاجتماع تحت لواء التوحيد و استماع دعوة الحقّ إنّ لشأنكم هذا عاقبة سيّئة في قدرة الله سبحانه أن يأخذكم بها و هو أن يبعث عليكم عذاباً لا مفرّ لكم منه و لا ملاذ تلوذون به و هو العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم، أو أن يضرب بعضكم ببعض فتكونوا شيعاً و فرقاً مختلفين متنازعين و متحاربين فيذيق بعضكم بأس بعض، ثمّ تمّم البيان بقوله خطاباً لنبيّه:( انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) ، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم قريش أو مضر أو عامّة العرب و المستفاد من فحوى بعض كلامه تعالى في موارد اُخر أنّ المراد بقومهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم العرب كقوله:( وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ، فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (الشعراء: ٢٠٢) و قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (إبراهيم: ٤).

١٤١

و كيف كان فقوله:( وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ ) بمنزلة التمهيد لتحقيق النباء الّذي يتضمّنه الإنذار السابق كأنّه قيل: يا أيّتها الاُمّة اجتمعوا في توحيد ربّكم و اتّفقوا في اتّباع كلمة الحقّ و إلّا فلا مؤمن يؤمّنكم عذاباً يأتيكم من فوق أو من تحت أو من اختلاف و تحزّب يستتبع سيفاً و سوطاً من بعضكم على بعض، ثمّ خوطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل: إنّ قومك كذّبوا بذلك فليستعدّوا لعذاب بئيس أو بأس شديد يذوقونه.

و من هنا يظهر أوّلاً: أنّ الضمير في قوله:( وَ كَذَّبَ بِهِ ) راجع إلى العذاب كما نسبه الآلوسيّ إلى غالب المفسّرين، و ربّما قيل: إنّه عائد إلى تصريف الآيات أو إلى القرآن و هو بعيد، و ليس من البعيد أن يرجع إلى النبأ باعتبار ما تشتمل عليه الآية السابقة.

و ثانياً: أنّ هذا الخبر أعني قوله:( وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ ) بحسب ما يعطيه المقام في معنى ذكر أوّل خبر يمهّد الطريق لنباء موعود كأنّه قيل: يجب على اُمّتك أن يجتمعوا على الإيمان بالله و آياته و يكونوا على تحرّز و تحذّر من أن يتسرّب إليهم الكفر بالله و آياته و يدبّ فيهم اختلاف حتّى لا ينزل عليهم عذاب الله سبحانه ثمّ قيل: إنّ قومك من بين جميع اُمّتك و من عاصرك أو جاء من بعدك من أهل الدنيا بادروا إلى نقض ما كان يجب عليهم أن يبرموه و كذّبوا النبأ فانثلم بذلك الأمر فسوف يعلمون ذلك أنّ المكذّبين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو للقرآن أو لهذا العذاب ليسوا هم الأعراب خاصّة و هم قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل كذّبته اليهود و اُمم من غيرهم في زمانه و بعده و كان تكذيبهم و اختلافهم جميعاً ذا أثر مثبت في ما هدّدوا به من العذاب فتخصيص تكذيب قومه بالذكر و الحال هذه يفيد ما ذكرناه.

و البحث التحليليّ عن نفسيّة المجتمع الإسلاميّ يؤيّد هذا الّذي استفدناه من الآية فإنّ ما ابتليت به الاُمّة الإسلاميّة اليوم من الانحطاط في نفسيّتهم و الوهن في قوّتهم و التشتّت في كلمتهم ينتهي بحسب التحليل إلى ما نشأت من الاختلافات و المشاجرات في الصدر الأوّل بعد رحلة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ يصعد ذلك إلى حوادث أوّل الهجرة و قبل الهجرة ممّا لقيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قومه، و ما جبّهوه به من التكذيب و تسفيه الرأي.

١٤٢

و هؤلاء و إن تجمّعوا حول راية الدعوة الإسلاميّة و استظلّوا بظلّها بعد ما ظهرت كلمة الحقّ و أنارت مشعلته لكنّ المجتمع الطيّب الدينيّ لم يصف من خبث النفاق، و قد نطقت آيات جمّة من القرآن الكريم بذلك، و كان أهل النفاق لا يستهان بعددهم و من المحال أن يسلم بنية المجتمع من سيّئ أثرهم في نفسيّة أجزائه و لم يقدّر على هضمهم هضماً تامّاً يحيلهم إلى أعضاء صالحة في المجتمع مدى حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لم يمكث وقودهم دون أن اشتعل ثمّ زاد اشتعالاً و لم يزل، و الجميع يرجع إلى ما بدأ منه، و كلّ الصيد في جوف الفراء.

و ثالثاً: أنّ قوله تعالى:( قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) مسوق سوق الكناية أي أعرض عنهم و قل: إنّ أمركم غير مفوّض إليّ و لا محمول عليّ حتّى أمنعكم من هذا التكذيب نصيحة لكم، و إنّما الّذي إلي بحسب مقامي أن اُنذركم عذاباً شديداً هو كمين لكم.

و من هنا يظهر أيضاً: أنّ قوله:( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) من مقول القول و تتمّة قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقومه كما يؤيّده الخطاب في قوله:( وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) فإنّ القوم إنّما هم في موقف الخطاب بالنسبة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بالنسبة إليه تعالى.

و قوله:( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) تصريح بالتهديد و إنباء عن الوقوع الحتميّ و قد ظهر ممّا تقدّم وجه صحّة خطاب المشركين بما سيبتلى به الاُمّة الإسلاميّة من تفرّق الكلمة و نزول الشدّة فإنّ الأعراق تنتهي إليهم و ليس الناس إلّا اُمّة واحدة يؤخذ آخرهم بما اكتسبه أوّلهم و يعود إلى أوّلهم ما يظهر في آخرهم علموا ذلك أو جهلوا، أبصروا من أنفسهم ذلك أو عموا قال تعالى:( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ، فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى‏ وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ ) (الدخان: ١٥).

تدبّر في الآيات كيف أخذ آخرهم بما أجرمه أوّلهم أو هي في عداد ما تقدّم

١٤٣

نقله من آيات سورة يونس و الأنبياء و الروم، و في القرآن الشريف شي‏ء كثير من الآيات المنبئة عمّا سيوافي الاُمّة من وخيم العاقبة و وبال السيّئة ثمّ إدراك العناية الإلهيّة و من أسوء التقصير إهمال الباحثين منّا أمر البحث في هذه الآيات الكريمة على كثرتها و أهمّيّتها و شدّة مساسها بحال الاُمّة و سعادة جدّها في دنياها و آخرتها.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) ذكر الراغب في المفردات، أنّ الخوض هو الشروع في الماء و المرور فيه، و يستعار في الاُمور، و أكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذمّ الشروع فيه، انتهى. و هو الدخول في باطل الحديث و التوغّل فيه كذكر الآيات الحقّة و الاستهزاء بها و الإطالة في ذلك.

و المراد بالإعراض عدم مشاركتهم فيما يخوضون فيه كالقيام عنهم و الخروج من بينهم أو ما يشابه ذلك ممّا يتحقّق به عدم المشاركة، و تقييد النهي بقوله:( حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏ ) للدلالة على أنّ المنهيّ عنه ليس مطلق مجالستهم و القعود معهم، و لو كان لغرض حقّ، و إنّما المنهيّ عنه مجالستهم ما داموا مشتغلين بالخوض في آيات الله سبحانه.

و من هنا يظهر أنّ في الكلام نوعاً من إيجاز الحذف فإنّ تقدير الكلام: و إذا رأيت الّذين يخوضون في آياتنا يخوضون فيها فأعرض عنهم إلخ، فحذفت الجملة المماثلة للصلة استغناءً بها عنها، و المعنى - و الله أعلم - و إذا رأيت أهل الخوض و الاستهزاء بآيات الله يجرون على خوضهم و استهزائهم بالآيات الإلهيّة فأعرض عنهم و لا تدخل في حلقهم حتّى يخوضوا في حديث غيره فإذا دخلوا في حديث غيره فلا مانع يمنعك من مجالستهم، و الكلام و إن وقع في سياق الاحتجاج على المشركين لكنّ ما اُشير إليه من الملاك يعمّمه فيشمل غيرهم كما يشملهم، و قد وقع في آخر الآية قوله:( فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فالخوض في آيات الله ظلم و الآية إنّما نهت عن مشاركة الظالمين في ظلمهم، و قد ورد في مورد آخر من كلامه تعالى:( إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) (النساء: ١٤٠).

فقد تبيّن: أنّ الآية لا تأمر بالإعراض عن الخائضين في آيات الله تعالى بل

١٤٤

إنّما تأمر بالإعراض عنهم إذا كانوا يخوضون في آيات الله ما داموا مشتغلين به.

و الضمير في قوله:( غَيْرِهِ ) راجع إلى الحديث الّذي يخاض فيه في آيات الله باعتبار أنّه خوض و قد نهي عن الخوض في الآية.

قوله تعالى: ( وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) و( إِمَّا ) في قوله:( إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ ) زائد يفيد نوعاً من التأكيد أو التقليل و النون للتأكيد، و الأصل و إن ينسك، و الكلام في مقام التأكيد و التشديد للنهي أي حتّى لو غفلت عن نهينا بما أنساكه الشيطان ثمّ ذكرت فلا تهاون في القيام عنهم و لا تلبث دون أن تقوم عنهم فإنّ الّذين يتّقون ليس لهم أيّ مشاركة للخائضين اللاعبين بآيات الله المستهزئين بها.

و الخطاب في الآية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المقصود غيره من الاُمّة فقد تقدّم في البحث عن عصمة الأنبياءعليهم‌السلام ما ينفي وقوع هذا النوع من النسيان - و هو نسيان حكم إلهيّ و مخالفته عملاً بحيث يمكن الاحتجاج بفعله على غيره و التمسّك به نفسه - عنهمعليهم‌السلام .

و يؤيّد ذلك عطف الكلام في الآية التالية إلى المتّقين من الاُمّة حيث يقول:( وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلى آخر الآية.

و أوضح منها دلالة قوله تعالى في سورة النساء:( وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) (النساء: ١٤٠) فإنّ المراد في الآية و هي مدنيّة بالحكم الّذي نزّل في الكتاب هو ما في هذه الآية من سورة الأنعام و هي مكّيّة و لا آية غيرها، و هي تذكر أنّ الحكم النازل سابقاً وجّه به إلى المؤمنين، و لازمه أن يكون الخطاب الّذي في قوله:( وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا ) إلخ موجّهاً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المقصود به غيره على حدّ قولهم: إيّاك أعني و اسمعي يا جارة.

قوله تعالى: ( وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلى آخر الآية.

١٤٥

يريد أنّ الّذي يكتسبه هؤلاء الخائضون من الإثم لا يحمل إلّا على أنفسهم و لا يتعدّاهم إلى غيرهم إلّا أن يماثلوهم و يشاركوهم في العمل أو يرضوا بعملهم فلا يحاسب بعمل إلّا عامله و لكن نذكّرهم ذكرى لعلّهم يتّقون فإنّ الإنسان إذا حضر مجلسهم و إن أمكنه أن لا يجاريهم فيما يخوضون و لا يرضى بقلبه بعملهم و أمكن أن لا يعدّ حضوره عندهم إعانة لهم على ظلمهم تأييداً لهم في قولهم لكن مشاهدة الخلاف و معاينة المعصية تهوّن أمر المعصية عند النفس و تصغّر الخطيئة في عين المشاهد المعاين، و إذا هان أمرها أوشك أن يقع الإنسان فيها فإنّ للنفس في كلّ معصية هوى و من الواجب على المتّقي بما عنده من التقوى و الورع عن محارم الله أن يجتنب مخالطة أهل الهتك و الاجتراء على الله كما يجب على المبتلين بذلك الخائضين في آيات الله لئلّا تهون عليه الجرأة على الله و آياته فتقرّبه ذلك من المعصية فيشرف على الهلكة، و من يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

و من هذا البيان يظهر أوّلاً: أنّ نفي الاشتراك في الحساب مع الخائضين عن الّذين يتّقون فحسب مع أنّ غير العامل لا يشارك العامل في جزاء عمله إنّما هو للإيماء إلى أنّ من شاركهم في مجلسهم و قعد إليهم لا يؤمن من مشاركتهم في جزاء عملهم و المؤاخذة بما يؤاخذون به، فالكلام في تقدير قولنا: و ما على غير الخائضين من حسابهم من شي‏ء إذا كانوا يتّقون الخوض معهم و لكن إنّما ننهاهم عن القعود معهم ليستمرّوا على تقواهم من الخوض أو ليتمّ لهم التقوى و الورع عن محارم الله سبحانه.

و ثانياً: أنّ المراد بالتقوى في قوله:( وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ ) التقوى العامّ و هو الاجتناب و التوقّي عن مطلق ما لا يرتضيه الله تعالى، و في قوله:( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) التقوى من خصوص معصية الخوض في آيات الله، أو المراد بالتقوى الأوّل أصل التقوى و بالثاني تمامه، أو الأوّل إجمال التقوى و الثاني تفصيله بفعليّة الانطباق على كلّ مورد و منها مورد الخوض في آيات الله، و ههنا معنى آخر و هو أن يكون المراد بالأوّل تقوى المؤمنين و بالتقوى الثاني تقوى الخائضين و تقدير الكلام و لكن ذكّروا الخائضين ذكرى لعلّهم يتّقون الخوض.

و ثالثاً: أنّ قوله: ذكرى مفعول مطلق لفعل مقدّر و التقدير و لكن نذكّرهم

١٤٦

بذلك ذكرى أو ذكّروهم ذكرى أو خبر لمبتدء محذوف و التقدير: و لكن هذا الأمر ذكرى أو مبتدء لخبر محذوف و التقدير: و لكن عليك ذكراهم و أوسط الوجوه أسبقها إلى الذهن.

قوله تعالى: ( وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً ) إلى آخر الآية، قال الراغب: البسل ضمّ الشي‏ء و منعه و لتضمّنه لمعنى الضمّ أستعير لتقطيب الوجه فقيل: هو باسل و مبتسل الوجه، و لتضمّنه لمعنى المنع قيل للمحرّم و المرتهن بسل، و قوله تعالى:( وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ ) ، أي تحرّم الثواب، و الفرق بين الحرام و البسل أنّ الحرام عامّ فيما كان ممنوعاً منه بالحكم و القهر، و البسل هو المنوع منه بالقهر قال عزّوجلّ:( أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا ) أي حرّموا الثواب، انتهى.

و قال في المجمع، يقال: أبسلته بجريرته أي أسلمته، و المستبسل المستسلم الّذي يعلم أنّه لا يقدر على التخلّص - إلى أن قال - قال الأخفش: تبسل أي تجازى، و قيل: تبسل أي ترهن و المعاني متقاربة، انتهى.

و المعنى:( و اترك الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا) عدّ تديّنهم بما يدعوهم إليه هوى أنفسهم لعباً و تلهّياً بدينهم، و فيه فرض دين حقّ لهم و هو الّذي دعتهم إليه فطرتهم فكان يجب عليهم أن يأخذوا به أخذ جدّ و يتحرّزوا به عن الخلط و التحريف و لكنّهم اتّخذوه لعباً و لهواً يقلّبونه كيف شاءوا من حال إلى حال و يحوّلونه حسب ما يأمرهم به هوى أنفسهم من صورة إلى صورة.

ثمّ عطف على اتّخاذهم الدين لعباً و لهواً قوله:( وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) لما بينهما من الملازمة لأنّ الاسترسال في التمتّع من لذائذ الحياة المادّيّة و الجدّ في اقتنائها يوجب الإعراض عن الجدّ في الدين الحقّ و الهزل و اللّعب به.

ثمّ قال:( وَ ذَكِّرْ بِهِ ) أي بالقرآن حذراً من أن تبسل أي تمنع نفس بسبب ما كسبت من السيّئات أو تسلم نفس مع ما كسبت للمؤاخذة و العقاب، و تلك نفس ليس لها من دون الله وليّ و لا شفيع و إن تعدل كلّ عدل و تفد كلّ فدية لا يؤخذ منها لأنّ اليوم يوم الجزاء بالأعمال لا يوم البيع و الشري اُولئك الّذين اُبسلوا و منعوا من ثواب الله أو أسلموا

١٤٧

لعقابه لهم شراب من حميم و عذاب أليم بما كانوا يكفرون.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا ) احتجاج على المشركين بنحو الاستفهام الإنكاريّ، و إنّما ذكر من أوصاف شركائهم كونها لا تنفع و لا تضرّ لأنّ اتّخاذ الآلهة - كما تقدّم - كان مبنيّاً على أحد الأساسين: الرجاء و الخوف و إذ كانت الشركاء لا تنفع و لا تضرّ فلا موجب لدعائها و عبادتها و التقرّب منها.

قوله تعالى: ( وَ نُرَدُّ عَلى‏ أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ - إلى قوله -ائْتِنا ) الاستهواء طلب الهوىّ و السقوط، و الردّ على الأعقاب كناية عن الضلال و ترك الهدى فإنّ لازم الهداية الحقّة الوقوع في مستقيم الصراط و الشروع في السير فيه فالارتداد على الأعقاب ترك السير في الصراط و العود إلى ما خلّف من المسير و هو الضلال، و لذا قال: و نردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله فقيّد الردّ بكونه بعد الهداية الإلهيّة.

و من عجيب الاستدلال احتجاج بعض بهذه الآية أعني قوله:( وَ نُرَدُّ عَلى‏ أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ ) الآية و ما يجري مجراها من الآيات كقول شعيبعليه‌السلام على ما حكاه الله تعالى في قصّته بقوله:( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ، قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا ) (الأعراف: ٨٩).

فقد احتجّوا بها على أنّ الأنبياءعليهم‌السلام كانوا قبل البعثة و التلبّس بلباس النبوّة على الكفر لما في لفظ الردّ على الأعقاب بعد إذ هدى الله، و العودة في ملّة الشرك بعد إذ نجّاهم الله منها من الدلالة على كونهم منتحلين بها واقعين فيها قبل النجاة و هو احتجاج فاسد فإنّ ذلك تكلّم منهم بلسان المجتمع الدينيّ الّذي كانت أفراده على الشرك حتّى هداهم الله بواسطة أنبيائه و لسنا نعني أنّ غلبة الأفراد الّذين كانوا على الشرك في أوّل عهدهم سوّغ أن ينسب كفرهم السابق إلى الجميع حتّى يكون تغليباً لشركهم على إيمان نبيّهم فإنّ كلامه الحقّ لا يحتمل ذلك بل نعني أنّ مجتمع الدين الشامل للنبيّ و اُمّته صدق عليه أنّ أفراده إنّما نجوا من الشرك بعد هداية الله سبحانه إيّاهم و ليس لهم من

١٤٨

دونه إلّا الضلال أمّا الاُمّة فإنّهم كانوا على الشرك في زمان قبل زمان اهتدائهم بالدين، و أمّا أنبياؤهم فإنّما اهتداؤهم بالله سبحانه، و ليس لهم من أنفسهم لو لا الهداية الإلهيّة إلّا الضلال فإنّ غيره تعالى لا يملك لنفسه ضرّاً و لا نفعاً فمن الصادق في حقّهم أن ليس لهم أن يرتدّوا على أعقابهم بعد إذ هداهم الله أو يعودوا إلى الشرك بعد إذ نجّاهم الله منه.

و بالجملة الكلمة صادقة عليهم بنحو الحقيقة و إن لم يكن بعض مجتمعهم و هو النبيّ الّذي فيهم كافراً قبل نبوّته فإنّ الإيمان و الاهتداء على أيّ حال لهم من الله سبحانه بعد الحال الّذي لهم من أنفسهم و حالهم من أنفسهم هو الضلال كما عرفت.

على أنّك قد عرفت فيما تقدّم من البحث المتنوّع في عصمة الأنبياء أنّ القرآن الشريف ناصّ على طهارة ساحتهم عن أصغر المعاصي الصغيرة فكيف بالكبيرة و بأكبر الكبائر الّذي هو الشرك بالله العظيم.

و قوله:( كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ ) إلخ تمثيل مثّل به حال الإنسان المتحيّر الّذي لم يؤت بصيرة في أمره و عزيمة راسخة على سعادته فترك أحسن طريق و أقومه إلى مقصده، و قد ركبه قبله أصحاب له مهتدون به و بقي متحيّراً بين شياطين يدعونه إلى الردى و الهلاك، و أصحاب له مهتدين قد نزلوا في منازلهم أو أشرفوا على الوصول يدعونه إلى الهدى أن ائتنا فلا يدري ما يفعل و هو بين مهبط و مستوى؟.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى‏ ) إلى آخر الآية. أي إن كان الأمر دائراً بين دعوة الله سبحانه و هي الّتي توافق الفطرة و تسمّيه الفطرة هدى الله، و بين دعوة الشياطين و هي الّتي فيها الهوى و اتّخاذ الدين لعباً و لهواً فهدى الله هو الهدى الحقيقيّ دون غيره.

أمّا أنّ ما يوافق دعوة الفطرة هو هدى الله فلا شكّ يعتريه لأنّ حق الهداية هو الّذي ينطق به الصنع و الإيجاد الّذي ليس إلّا لله و لا نروم شيئاً من دين أو اعتقاد إلّا لابتغاء مطابقة الواقع و الواقع لله فلا يعدوه هداه، و أمّا أنّ هدى الله هو الهدى الحقيقيّ الّذي يجب أن يؤخذ به دون الدعوة الشيطانيّة فظاهر أيضاً لأنّ الله سبحانه هو الّذي إليه

١٤٩

أمرنا كلّه من جهة مبدئنا و منتهانا و ما نحتاج إليه في دنيا أو آخرة.

و قوله:( وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) قال في المجمع: تقول العرب: أمرتك لتفعل و أمرتك أن تفعل و أمرتك بأن تفعل فمن قال: أمرتك بأن تفعل فالباء للإلصاق و المعنى وقع الأمر بهذا الفعل، و من قال: أمرتك أن تفعل حذف الجارّ، و من قال: أمرتك لتفعل فالمعنى أمرتك للفعل، و قال الزجّاج: التقدير اُمرنا كي نسلم.

و الجملة أعني قوله:( وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ ) إلخ، عطف تفسير لقوله:( إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى‏ ) فالأمر بالإسلام هو مصداق لهدى الله، و المعنى: أمرنا الله لنسلم له و إنّما أبهم فاعل الفعل ليكون تمهيداً لوضع قوله:( لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) موضع الضمير فيدلّ به على علّة الأمر فالمعنى اُمرنا من ناحية الغيب أن نسلم لله لأنّه ربّ العالمين جميعاً ليس لها جميعاً أو لكلّ بعض منها - كما تزعمه الوثنيّة - ربّ آخر و لا أرباب اُخر.

و ظاهر الآية أنّ المراد بالإسلام هو تسليم عامّة الاُمور إليه تعالى لا مجرّد التشهّد بالشهادتين، و هو ظاهر قوله:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ) (آل عمران: ١٩) كما مرّ في تفسير الآية.

قوله تعالى: ( وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ ) تفنّن في سرد الكلام بأخذ الأمر بمعنى القول و الجري في مجرى هذه العناية كأنّه قيل: و قيل لنا: أن أسلموا لربّ العالمين و أن أقيموا الصلاة و اتّقوه.

و قد أجمل تفاصيل الأعمال الدينيّة ثانياً في قوله:( وَ اتَّقُوهُ ) غير أنّه صرّح من بينها باسم الصلاة تعظيماً لأمرها و اعتناءً بشأنها و اهتمام القرآن الشريف بأمر الصلاة ظاهر لا شكّ فيه.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) فمن الواجب أن يسلم له و يتّقى لأنّ الرجوع إليه، و الحساب و الجزاء بيده.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) إلى آخر الآية. بضعة أسماء و أوصاف له سبحانه مذكورة اُريد بذكرها بيان ما تقدّم من القول و تعليله فإنّه تعالى ذكر أنّ الهدى هداه ثمّ فسرّه نوع تفسير بالإسلام له و الصلاة و التقوى و هو

١٥٠

تمام الدين ثمّ بيّن السبب في كون هداه هو الهدى الّذي لا يجوز التجافي عنه و هو أنّ حشر الجميع إليه ثمّ بيّنه أتمّ بيان بقوله:( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) إلخ، فهذه أسماء و نعوت له تعالى لو انتفى واحد منها لم يتمّ البيان.

فقوله:( هُوَ الَّذِي خَلَقَ ) إلخ، يريد به أنّ الخلقة جميعاً فعله و إنّما أتى به بالحقّ لا بالباطل، و الفعل إذا لم يكن باطلاً لم يكن مندوحة من ثبوت الغاية له فللخلقة غاية و هو الرجوع إليه تعالى و هذا هو إحدى الحجّتين اللّتين ذكرهما في قوله عزّ من قائل( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلى آخر الآيتين: ( ص: ٢٧) فخلقة السماوات و الأرض بخلقة حقّة تؤدّي إلى أنّ الخلق يحشرون إليه.

و قوله:( يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ) السياق يدلّ على أنّ المراد بالمقول له هو يوم الحشر و إن كان كلّ موجود مخلوق على هذه الصفة كما قال تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (يس: ٨٢) و يوم ظرف متعلّق بالقول و المعنى: يوم يقول ليوم القيامة: كن فيكون، و ربّما قيل: إنّ المقول له هو الشي‏ء و التقدير: يوم يقول لشي‏ء كن فيكون، و ما ذكرناه أوفق للسياق.

و قوله:( قَوْلُهُ الْحَقُّ ) تعليل علّلت به الجملة الّتي قبله، و الدليل عليه فصل الجملة، و الحقّ هو الثابت بحقيقة معنى الثبوت و هو الوجود الخارجيّ و الكون العينيّ و إذ كان قوله هو فعله و إيجاده كما يدلّ عليه قوله:( وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ) فقوله تعالى هو نفس الحقّ فلا مردّ له و لا مبدّل لكلماته قال تعالى:( وَ الْحَقَّ أَقُولُ ) (ص: ٨٤).

قوله تعالى: ( وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) يريد به يوم القيامة قال تعالى:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) (المؤمن: ١٦) و المراد بثبوت الملك له تعالى يوم النفخ مع أنّ له الملك دائماً إنّما هو ظهور ذلك بتقطّع الأسباب و انبتات الروابط و الأنساب و قد تقدّم شذور من البحث في ذلك فيما تقدّم و سيجي‏ء استيفاء البحث عنه و عن معنى الصور في الموضع المناسب لذلك إن شاء الله تعالى.

و قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) قد تقدّم معناه، و هو اسم يتقوّم بمعناه الحساب و

١٥١

الجزاء، و كذلك الاسمان: الحكيم و الخبير فهو تعالى بعلمه بالغيب و الشهادة يعلم ظاهر الأشياء و باطنها فلا يخفى عليه ظاهر لظهوره و لا باطن لبطونه، و بحكمته يتقن تدبير الخليقة و يميّز الواجب من الجزاء كما ينبغي فلا يظلم و لا يجازف، و بخبرته لا يفوت عنه دقيق لدقّته و لا جليل لجلالته.

فهذه الأسماء و النعوت تبيّن بأتمّ البيان أنّ الجميع محشورون إليه و أنّ هداه هو الهدى و دين الفطرة الّذي أمر به هو الدين الحقّ فإنّه تعالى خلق العالم لغاية مطلوبة أرادها منه و هو الرجوع إليه، و إذ كان يريدها فسيقول لها كن فيكون لأنّ قوله حقّ لا مردّ له، و يظهر اليوم أنّ الملك له لا سلطنة لشي‏ء غيره على شي‏ء، و عند ذلك يتميّز بتمييزه من أطاعه ممّن عصاه لأنّه يعلم كلّ غيب و شهادة عن حكمة و خبرة.

و قد بان ممّا تقدّم أوّلاً: أنّ قوله:( بِالْحَقِّ ) اُريد به أنّ خلق السماوات و الأرض خلق حقّ أي إنّ الحقّ وصفه، و قد تقدّم قريباً معنى كون فعله و قوله تعالى حقّاً، و أمّا ما قيل: إنّ المعنى خلق السماوات و الأرض بالقول الحقّ فبعيد.

و ثانياً: أنّ ظاهر قوله:( وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ) بدلالة السياق بيان لأمر يوم القيامة و إن كان الأمر في خلق جميع الأشياء على هذه الطريقة.

و ثالثاً: أنّ اختصاص نفخ الصور من بين أوصاف القيامة بالذكر في قوله:( وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) للإشارة إلى معنى الإحضار العامّ الّذي هو المناسب لبيان قوله في ذيل الآية السابقة:( وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) فإنّ الحشر هو إخراج الناس و تسييرهم مجتمعين بنوع من الإزعاج، و الصور إنّما ينفخ فيه لاجتماع أفراد العسكر لأمر يهمّهم، و لذلك ينفخ الصور أعني النفخة الثانية يوم القيامة ليحضروا عرصة المحشر لفصل القضاء قال تعالى:( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى‏ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ - إلى أن قال -إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (يس: ٥٤).

و ليس اليوم في الموضعين بمعنى واحد فاليوم الأوّل اُريد به مطلق الظرف كالظرف ليوم القيامة بنوع من العناية الكلاميّة كقولنا: يوم خلق الله الحركة و حين خلق الله

١٥٢

الأيّام و الليالي و إنّما اليوم من فروع الحركة متفرّع عليه، و الحين هو اليوم و الليل، و المراد باليوم الثاني نفس يوم القيامة.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( يَقُصُّ الْحَقَّ ) الآية أخرج الدارقطنيّ في الإفراد و ابن مردويه عن اُبيّ بن كعب قال: أقرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلاً:( يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ ) .

و فيه، في قوله تعالى:( وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ) الآية، أخرج أحمد و البخاريّ و حشيش بن أصرم في الاستقامة و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه عن ابن عمر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلّا الله: لا يعلم ما في غد إلّا الله، و لا يعلم متى تغيض الأرحام إلّا الله، و لا يعلم متى يأتي المطر أحد إلّا الله، و لا تدري نفس بأيّ أرض تموت إلّا الله و، لا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلّا الله تبارك و تعالى.

أقول: و لا ينبغي أن تعدّ الرواية على تقدير صحّتها منافية لما تقدّم من عموم الآية لأنّ العدد لا مفهوم له، و ما في الرواية من المفاتيح يجمعها العلم بالحوادث قبل حدوثها، و للغيب مصاديق اُخر غير الخمس بدلالة من نفس الآية.

و فيه، أخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف عن ابن عمر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ما من زرع على وجه الأرض و لا ثمار على أشجار إلّا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم هذا رزق فلان ابن فلان، و ذلك قوله تعالى:( وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) .

أقول: و الرواية على ضعف سندها لا ينطبق مضمونها على الآية ذاك الانطباق.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي الربيع الشاميّ قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها - إلى قوله -إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) ، قال: الورقة السقط، و

١٥٣

الحبّة الولد، و ظلمات الأرض الأرحام و الرطب ما يحيى، و اليابس ما يغيض، و كلّ ذلك في كتاب مبين.

أقول: و رواه أيضاً الكلينيّ و الصدوق عن أبي الربيع عنه، و القمّيّ مرسلاً و الرواية لا تنطبق على ظاهر الآية، و نظيرتها رواية اُخرى رواها العيّاشيّ عن الحسين بن سعيد عن أبي الحسنعليه‌السلام .

و في المجمع في قوله تعالى:( قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى‏ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ) قال: السلاطين الظلمة( أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) العبيد السوء و من لا خير فيه قال: و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و قال في قوله تعالى:( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ) قيل: عنى به يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة و العصبيّة و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، و قال في قوله:( وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) قيل: هو سوء الجوار و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ: و قوله:( يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ) قال: السلطان الجائر( أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) قال: السفلة و من لا خير فيه( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ) قال: العصبية( وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) قال سوء الجوار.

قال القمّيّ: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( هُوَ الْقادِرُ عَلى‏ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ) قال: هو الدخان و الصيحة( أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) قال: قال: و هو الخسف( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ) و هو اختلاف في الدين و طعن بعضكم على بعض( وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) و هو أن يقتل بعضكم بعضاً فكلّ هذا في أهل القبلة يقول الله:( انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و عبد بن حميد و البخاريّ و الترمذيّ و النسائيّ و نعيم بن حمّاد في الفتن و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبّان و أبوالشيخ و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن جابر بن عبدالله قال: لمّا نزلت هذه الآية( قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى‏ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعوذ بوجهك( أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) قال: أعوذ بوجهك( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )

١٥٤

قال: هذا أهون أو أيسر.

أقول: و روي أيضاً ما يقرب منه عن ابن مردويه عن جابر.

و فيه: أخرج أحمد و الترمذيّ و حسّنه و نعيم بن حمّاد في الفتن و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سعد بن أبي وقّاص عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في هذه الآية:( قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى‏ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا إنّها كائنة و لم يأت تأويلها بعد.

أقول: و هناك روايات كثيرة مرويّة من طرق أهل السنّة و روايات اُخرى من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ ما أوعده الله في الآية من العذاب النازل من فوقهم و من تحت أرجلهم أعني الصيحة و الخسف سيقع على هذه الاُمّة، و أمّا لبسهم شيعاً و إذاقة بعضهم بأس بعض فوقوعه مفروغ عنه.

و قد روى السيوطيّ في الدرّ المنثور، و ابن كثير في تفسيره أخباراً كثيرة دالّة على أنّه لمّا نزلت الآية:( قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى‏ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ ) إلى آخرها استعاذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ربّه و دعاه أن لا يعذّب اُمّته بما أوعدهم من أنواع العذاب فأجابه ربّه إلى بعضها و لم يجبه إلى بعض آخر و هو أن لا يلبسهم شيعاً و لا يذيق بعضهم بأس بعض.

و هذه الروايات - على كثرتها - و إن اشتملت على القويّة و الضعيفة من حيث أسنادها موهونة جميعاً بمخالفتها لظاهر الآية فإنّ قوله تعالى في الآيتين التاليتين:( وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) تهديد صريح بالوقوع و قد نزلت الآيات - و هي من سورة الأنعام - دفعة و قد أمر الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلّغ ذلك اُمّته و لو كان هناك بداء برفع البلاء لكان من الواجب أن نجده في كلامه الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و ليس من ذلك أثر بل الأمر على خلافه كما تقدّم في البيان السابق أنّ عدّة من آيات القرآن الكريم تؤيّد هذه الآيات في مضمونها كالّتي في سورة يونس و الروم و غيرهما.

على أنّها تعارض روايات اُخر كثيرة من طرق الفريقين دالّة على وقوع ذلك و نزوله على الاُمّة في مستقبل الزمان.

١٥٥

على أنّ هذه الروايات - على كثرتها و اتّفاق كثير منها في أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما دعا بهذه المسائل عقيب نزول هذه الآية:( قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى‏ أَنْ يَبْعَثَ ) الآية - لا تتّفق لا في عدد المسائل ففي بعضها أنّها كانت ثلاثاً و في بعضها أنّها كانت أربعاً، و لا في عدد ما اُجيب إليه ففي بعضها أنّه كان واحداً و في بعضها أنّه كان اثنين، و لا في نفس المسائل ففي بعضها أنّها كانت هي الرجم من السماء و الغرق من الأرض و أن لا يلبسهم شيعاً و أن لا يذيق بعضهم بأس بعض، و في بعضها أنّها الغرق و السنة و جعل بأسهم بينهم، و في بعضها أنّها السنة العامّة و أن يسلّط عليهم عدوّا من غيرهم و أن يذيق بعضهم بأس بعض، و في بعضها أنّ المسائل هي أن لا يجمع اُمّته على ضلالة و أن لا يظهر عليهم عدوّاً من غيرهم و أن لا يهلكهم بالسنين و أن لا يلبسهم شيعاً و يذيق بعضهم بأس بعض، و في بعضها أنّها أن لا يظهر عليهم عدوّاً من غيرهم و أن لا يهلكهم بغرق و أن لا يجعل بأسهم بينهم، و في بعضها أنّها أن لا يهلكهم بما أهلك به من قبلهم و أن لا يظهر عليهم عدوّاً من غيرهم و أن لا يلبسهم شيعاً و يذيق بعضهم بأس بعض، و في بعضها أنّها العذاب من فوقهم و من تحت أرجلهم و أن يلبسهم شيعاً و أن يذيق بعضهم بأس بعض.

على أنّ في كثير منها أنّ دعاءهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في حرّة بني معاوية قرية من قرى الأنصار بالعالية و لازمه كونه بعد الهجرة و سورة الأنعام من السور النازلة بمكّة قبل الهجرة دفعة، و في الروايات اختلافات اُخرى تظهر لمن راجعها.

و إن كان و لا بدّ من أخذ شي‏ء من الروايات فالوجه هو اختيار ما رواه عن عبدالرزّاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن شدّاد بن أوس يرفعه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الله زوي لي الأرض حتّى رأيت مشارقها و مغاربها، و إنّ ملك اُمّتي سيبلغ ما زوي لي منها، و إنّي اُعطيت الكنزين: الأحمر و الأبيض، و إنّي سألت ربّي أن لا يهلك قومي بسنة عامّة و أن لا يلبسهم شيعاً و لا يذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمّد إنّي إذا قضيت قضاءً فإنّه لا يردّ، و إنّي أعطيتك لاُمّتك أن لا اُهلكهم بسنة عامّة و لا اُسلّط عليهم عدوّاً من سواهم فيهلكوهم حتّى يكون بعضهم يهلك بعضاً و بعضهم يقتل بعضاً، و بعضهم يسبي بعضاً.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي أخاف على اُمّتي الأئمّة المضلّين فإذا وضع السيف في

١٥٦

اُمّتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة.

فهذه الرواية و ما في مضمونها خالية عن غالب الإشكالات السابقة، و ليس فيها أنّ الدعاء كان إثر نزول الآية، و ينبغي مع ذلك أن يحمل على أنّ المراد رفع الهلاك العامّ و السنة العامّة الّتي تبيد الاُمّة، و إلّا فالسنين و المثلات و المقاتل الذريعة الّتي لقيتها الاُمّة في حروب المغول و الصليب و باُندلس و غيرها ممّا لا سبيل إلى إنكارها، و ينبغي أيضاً أن تحمل على أنّ الدعاء و المسألة كان في أوائل البعثة قبل نزول السورة و إلّا فالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلم بمقام ربّه و أجلّ قدراً من أن يتلقّى هذه الآيات بالوحي ثمّ يراجع ربّه في تغيير ما قضى به و أمره بتبليغه و إنذار اُمّته به.

و بعد اللّتيّا و الّتي فالقرآن الشريف يدلّ بآياته على حاقّ الأمر و هو أنّ هذا الدين قائم إلى يوم القيامة، و أنّ الاُمّة لا تبيد عامّة، و أنّ أمثال ما ابتلى الله به الاُمم السالفة تبتلي بها هذه الاُمّة حذو النعل بالنعل من غير أيّ اختلاف و تخلّف.

و الروايات المستفيضة المرويّة عن النبيّ و الأئمّة من أهل بيته (صلّي الله عليه وعليهم) القطعيّة في صدورها و دلالتها ناطقة بذلك.

و في الدرّ المنثور، أخرج النحّاس في ناسخه عن ابن عبّاس: في قوله:( قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) قال: نسخ هذه الآية آية السيف:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) .

أقول: قد عرفت ممّا تقدّم من البيان أنّ قوله:( قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) مسوق تمهيداً للتهديد الّذي يتضمّنه قوله:( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) و هذا المعنى لا يقبل نسخاً.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا ) الآية بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسبّ فيه إمام أو يغتاب فيه مسلم فإنّ الله يقول في كتابه:( إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و أبو نعيم في الحلية، عن أبي جعفر

١٥٧

قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنّهم الّذين يخوضون في آيات الله.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن محمّد بن عليّ قال: إنّ أصحاب الأهواء من الّذين يخوضون في آيات الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن ربعيّ بن عبدالله عمّن ذكره عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قول الله:( وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا ) قال: الكلام في الله و الجدال في القرآن( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) قال: منه القصّاص.

أقول: و الروايات - كما ترى - تعمّم الآية و هو أخذ بالملاك.

و في المجمع، قال أبوجعفرعليه‌السلام : لمّا اُنزل( فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏ ) قال المسلمون: كيف نصنع؟ إن كان كلّما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا و تركناهم فلا ندخل إذاً المسجد الحرام و لا نطوف بالبيت الحرام فأنزل الله تعالى:( وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) أمرهم بتذكيرهم ما استطاعوا.

أقول: و الرواية - كما ترى - مبنيّة على أخذ قوله:( ذِكْرى) مفعولاً مطلقاً و إرجاع الضميرين في قوله:( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) إلى المشركين و التقدير: و لكن ذكّروهم ذكرى لعلّهم يتّقون، و يبقى على الرواية كون السورة نازلة دفعة واحدة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و أبوالشيخ عن ابن جريح قال: كان المشركون يجلسون إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّون أن يسمعوا منه فإذا سمعوا استهزءوا فنزلت( وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) الآية قال: فجعلوا إذا استهزءوا قام فحذروا و قالوا: لا تستهزءوا فيقوم فذلك قوله:( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) أن يخوضوا فتقوم و نزل:( وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) أن تقعد معهم و لكن لا تقعد ثمّ نسخ ذلك قوله بالمدينة:( وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ - إلى قوله -إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) نسخ قوله:( وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الآية.

أقول: لو كانت آية النساء:( وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ ) الآية و هي عين قوله:( وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ) الآية معنى ناسخة لقوله:( وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ ) الآية فهو أعني قوله:( وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ ) الآية ناسخ لقوله:( وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ )

١٥٨

الآية و هو ظاهر، و يأباه نزول السورة دفعة.

على أنّ الّذي ذكره من المعنى لا يوجب تنافياً بين الآيات الثلاث يؤدّي إلى النسخ حتّى تكون الثانية ناسخة للاُولى و منسوخة بالثالثة و هو ظاهر.

و نظير الرواية ما رواه أيضاً في الدرّ المنثور، عن النحّاس في ناسخه عن ابن عبّاس: في قوله تعالى:( وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، قال: هذه مكّيّة نسخت بالمدينة بقوله:( وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها ) الآية.

و في تفسير البرهان، في قوله تعالى:( قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ ) الآية عن ابن بابويه بإسناده عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) فقال:( عالِمُ الْغَيْبِ ) ما لم يكن( وَ الشَّهادَةِ ) ما قد كان.

أقول: فيه ذكر أعرف مصاديق الغيب و الشهادة عندنا، و قد تقدّم في البيان المتقدّم آنفاً و غيره أنّ للغيب مصاديق اُخر.

١٥٩

( سورة الأنعام الآيات ٧٤ - ٨٣)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً  إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا  قَالَ هَذَا رَبِّي  فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي  فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ  فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا  وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ  قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ  وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا  وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا  أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا  فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ  إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ  نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ  إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ )

( بيان)

عشر آيات ذكر الله سبحانه فيها ما آتاه النبيّ العظيم إبراهيمعليه‌السلام من الحجّة على المشركين بما هداه إلى توحيده و تنزيهه ثمّ ذكر هدايته أنبياءه بتطهير سرّهم من

١٦٠