الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 80649
تحميل: 6068


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80649 / تحميل: 6068
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخلقة أو لم يجهّز بما يسلك به إليها فإنّما الدين عندالله الإسلام و هو الخضوع لله بحسب ما يهدي إليه و يدلّ عليه صنعه و إيجاده.

قوله تعالى: ( وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ ) . قسّم تعالى حججهعليه‌السلام إلى قسمين: أحدهما ما بدأ به هو فحاجّ الناس، و ثانيهما ما بدأ به الناس فكلّموه به بعد ما تبرّأ من آلهتهم، و هذا الّذي تعرّض له في الآية و ما بعده هو القسم الثّاني.

لم يذكر تعالى ما أوردوه عليه من الحجّة لكنّه لوّح إليه بقوله حكاية عن إبراهيمعليه‌السلام :( وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ) فهو الاحتجاج لوجوب عبادة آلهتهم من جهة الخوف و قد تقدّم و سيجي‏ء أنّ الّذي بعثهم إلى اتّخاذ الآلهة و عبادتها أحد أمرين: الخوف من سخطها و قهرها بما لها من السلطة على حوادث العالم الأرضيّ، أو رجاء البركة و السعادة منها، و أشدّ الأمرين تأثيراً في نفوسهم هو الأمر الأوّل أعني الخوف و ذلك أنّ الناس بحسب الطباع يرون ما بأيديهم من النعمة و السعادة المادّيّة ملك أنفسهم إمّا مرهون جهدهم في سلوك سبيل المعاش في اقتناء الأموال و اكتساب المقام و الجاه أو ممّا ملّكهم إيّاه الجدّ الرفيع أو البخت السعيد كمن ورث مالاً من مورثه أو صادف كنزاً فتملّكه أو ساد قومه برئاسة أبيه.

فطريق الرجاء قليل التأثير في وجوب العبوديّة حتّى أنّ المسلمين مع ما بأيديهم من التعليم الكامل الإلهيّ يتأثّرون من الوعد و البشارة أقلّ ممّا يتأثّرون من الوعيد و الإنذار، و لذلك بعينه نرى أنّ القرآن يذكر الإنذار من وظائف الأنبياء أكثر من ذكر التبشير، و كلا الأمرين من وظائفهم و الطرق الّتي يستعملونها في الدعوة الدينيّة.

و بالجملة اختار قوم إبراهيمعليه‌السلام في محاجّتهم إيّاه عند ما كلّموه في أمر الآلهة سبيل الخوف فأرهبوه من قهر الآلهة و سخطها و وعظوه بسلوك سبيلهم و لزوم طريقهم في التقرّب بالآلهة و رفض القول بربوبيّة الله سبحانه، و إثباته في المقام الّذي أثبتوه فيه و هو أنّه الّذي ينتهي إليه الكلّ فحسب.

و لمّا وجدعليه‌السلام كلامهم ينحلّ إلى جزأين: الردع عن القول بربوبيّة الله سبحانه

٢٠١

و التحريض على القول بربوبيّة آلهتهم احتجّ عليهم من الجهتين جميعاً لكن لا غنى للجهة الاُولى عن الثانية كما سيجي‏ء.

و ما أورده في الاحتجاج على حجاجهم في الله سبحانه هو قوله:( أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ ) أي إنّي واقع في أمر مفروغ عنه و مهتد بهداية ربّي حيث آتاني العلم بما أراني من ملكوت السماوات و الأرض و ألهمني بذلك حجّة أنفي بها ربوبيّة غيره من الأصنام و الكواكب، و أنّي لا أستغني عن ربّ يدبّر أمري فأنتج لي أنّه هو الربّ وحده لا شريك له، و إذ هداني إليه فأنا في غنى عن الإصغاء إلى حجّتكم و البحث عن الربوبيّة ثانياً فإنّ البحث إنّما ينفع الطالب و لا طلب بعد الوصول إلى الغاية.

هذا ما يعطيه ظاهر الآية بالتبادر إلى الذهن لكنّ هناك معنى أدقّ من ذلك يظهر بالتدبّر و هو أنّ قوله:( وَ قَدْ هَدانِ ) استدلال بنفس الهداية لا استغناء بالهداية عن الاستدلال و تقريره أنّ الله هداني بما علّمني من الحجّة على نفي ربوبيّة، غيره و إثبات ربوبيّته و نفس هدايته دليل على أنّه ربّ و لا ربّ غيره فإنّ الهداية إلى الربّ من جملة التدبير فهي شأن من هو ربّ، و لو لم يكن الله سبحانه هو ربّي لم يكن ليهديني و لأقام بها إلى الّذي هو الربّ لكنّ الله هو هداني فهو ربّي.

و لم يكن لهم أن يقولوا: إنّ الّذي علّمك ما علمت و ألهمك الحجّة هو بعض آلهتنا لأنّ الشي‏ء لا يهدي إلى ما يضرّه و يميت ذكره و يفسد أمره فاهتداؤهعليه‌السلام إلى نفي ربوبيّتها لا يصحّ أن ينسب إليها، هذا.

و لكن كان لهم أن يقولوا أو أنّهم قالوا: إنّ ذلك من فعل بعض آلهتنا فعل بك ذلك قهراً و سخطاً أبعدك عن القول بربوبيّتها و لقّنك هذه الحجج لما وجد من فساد رأيك و علّة نفسك نظير ما شافهت به عاد هوداًعليه‌السلام لمّا دعاهم إلى توحيد الله سبحانه و احتجّ عليهم بأنّ الله هو الّذي يجب أن يرجى و يخاف، و أنّ آلهتهم لا تنفع و لا تضرّ فردّوا عليه بأنّ بعض آلهتنا اعتراك بسوء قال تعالى في قصّتهم حكاية عن هودعليه‌السلام :( وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى‏ قُوَّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ، قالُوا يا هُودُ - إلى أن قال -إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ

٢٠٢

إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ) (هود: ٥٥).

فقولهعليه‌السلام :( وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ) إلخ، ينفي هذه الشبهة و كما أنّه ينفي هذه الشبهة فإنّه حجّة تامّة تنفي ربوبيّة شركائهم.

و محصّله: أنّكم تدعونني إلى القول بربوبيّة شركائكم و رفض القول بربوبيّة ربّي بما تخوّفونني من أن تمسّني شركاؤكم بسوء، و ترهبونني بإلقاء الشبهة فيما اهتديت به، و إنّي لا أخاف ما تشركون به لأنّها جميعاً مخلوقات مدبّرة لا تملك نفعاً و لا ضرّاً و إذ لم أخفها سقطت حجّتكم و ارتفعت شبهتكم.

و لو كنت خفتها لم يكن الخوف الحاصل في نفسي من صنع شركائكم لأنّها لا تقدر على شي‏ء بل كان من صنع ربّي و كان هو الّذي شاء أن أخاف شركاءكم فخفتها فكان هذا الخوف دليلاً آخر على ربوبيّته و آية اُخرى من آيات توحيده يوجب إخلاص العبادة له لا دليلاً على ربوبيّة شركائكم و حجّة توجب عبادتها.

و الدليل على أنّ ذلك من ربّي أنّه وسع كلّ شي‏ء علماً فهو يعلم كلّ ما يحدث و يجري من خير و شرّ في مملكته الّتي أوجدها لغايات صحيحة متقنة، و كيف يمكن أن يعلم في ملكه بشي‏ء ينفع أو يضرّ فيسكت و لا يستقبله بأحد أمرين: إمّا المنع أو الإذن.؟

فلو حصل في نفسي شي‏ء من الخوف لكان بمشيّة من الله و إذن على ما يليق بساحة قدسه، و كان ذلك من التدبير الدالّ على ربوبيّته و نفي ربوبيّة غيره أ فلا تتذكّرون و ترجعون إلى ما تدركونه بعقولكم و تهدي إليه فطرتكم.

فهذا وجه في تقرير الحجّة المودعة في قوله:( وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ ) و على ذلك فقوله:( وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ) كالمتمّم للحجّة في قوله:( أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ ) و هو مع ذلك حجّة تامّة في نفسه لإبطال ربوبيّة شركائهم بعدم الخوف منها، و قوله:( إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً ) كالكلام في الحجّة على تقدير التسليم أي تحتجّون على وجوب عبادتها بالخوف و لا خوف في نفسي، و لو فرض خوف لكان دليلاً على ربوبيّة ربّي لا على ربوبيّة شركائكم فإنّه عن مشيّة من

٢٠٣

ربّي، و قوله:( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً ) بيان و تعليل لكون الخوف المفروض مستنداً إلى مشيّة ربّه فإنّ فاطر السماوات و الأرض لا يجهل ما يقع في ملكه فلا يقع إلّا بإذن منه فهو الذي يدبّر أمره و يقوم بربوبيّته، و قوله:( أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ ) استفهام توبيخيّ و إشارة إلى أنّ الحجّة فطريّة، هذا.

و للمفسّرين في الآية أقوال:

أمّا قوله تعالى:( قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ ) فقد أورد أكثرهم فيه الوجه الأوّل من الوجهين اللّذين قدّمناهما، و محصّله أنّه يردّ اعتراضهم على توحيده بأنّه غنيّ عن المحاجّة في ذلك فإنّ الله هداه و لا حاجة معها إلى المحاجّة لكن ظاهر السياق أنّه في مقام المحاجّة و لازمه أنّ كلامه احتجاج للتوحيد الاستغناء عن الاحتجاج.

و أمّا قوله تعالى:( لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً ) فقد ذكروا في الصدر قريباً ممّا قدّمناه، و أمّا الاستثناء فقيل: معناه إلّا أن يغلب ربّي هذه الأصنام الّتي تخوّفونني بها فيحييها و يُقدرها فتضرّ و تنفع فيكون ضررها و نفعها إذ ذاك دليلاً على حدوثها و على توحيد الله سبحانه، و بعبارة اُخرى: المعنى أنّي لا أخافها في حال من الحالات إلّا أن يشاء ربّي أن تحيا هؤلاء الشركاء فتضرّ و تنفع فأخافها و إذ ذاك كانت الربوبيّة لله و تبيّن حدوث شركائكم.

و هذا الوجه و إن كان قريباً ممّا قدّمناه بوجه لكن نسبة النفع و الضرّ إلى الشركاء لو كانت أحياء - مع أنّ بعضها أحياء عندهم كالملائكة و أرباب الأنواع و بعضها يضرّ و ينفع بحسب ظاهر النسبة كالشمس - تخالف التعليم الإلهيّ في كتابه فإنّ القرآن يصرّح أن لا يملك نفعاً و لا ضرراً إلّا الله سبحانه.

و كذلك ما ذكر من دلالة ذلك على حدوث شركائهم أمر لا يضرّ أهل الأوثان فإنّهم كما عرفت لا ينكرون كون الأصنام و لا أربابها معلولة لله مخلوقة له، و القول بالقدم الزمانيّ في بعضها لا ينافي إمكانها و لا معلوليّتها عندهم.

و قيل: إنّ معنى الاستثناء أنّي لا اُخاف شركاءكم و أستثني من عموم الخوف في الأوقات أن يشاء ربّي أن يعذّبني ببعض ذنوبي أو يصيبني بمكروه ابتداءً، و بعبارة

٢٠٤

اُخرى الجملة استثناء من معنى أعمّ ممّا يدلّ عليه الجملة السابقة فقد دلّ قوله:( وَ لا أَخافُ ) إلخ، على نفي الخوف من شركائهم، و قوله:( إِلَّا أَنْ يَشاءَ ) إلخ، استثناء من كلّ خوف فالتقدير: لا أخاف ما تشركون به و لا شيئاً آخر إلّا من أن يشاء ربّي شيئاً أكرهه ابتداءً أو جزاءً فإنّي أخافه، و وجه التعسّف في هذا المعنى لا يحتاج إلى بيان.

و أمّا قوله:( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً ) فقد قيل. إنّه ثناء منهعليه‌السلام لربّه بعد إتمام الحجّة.

و قيل: إنّه تعريض بأصنامهم حيث إنّها لا تعلم شيئاً و لا تشعر، و يرد عليه أنّ التعريض بمثل القدرة أقرب إلى اقتضاء المقام من التعريض بالعلم فما وجه العدول عن القدرة إلى العلم؟ و الإشكال جار في الوجه السابق.

و قيل: إنّه لمّا استثنى ما يشاؤه ربّه ممّا يقع عليه من المكاره بيّن بقوله:( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً ) أنّه تعالى علّام الغيوب فلا يفعل إلّا الصلاح و الخير و الحكمة. و فيه أنّ الأنسب حينئذ أن يذكر الحكمة مكان العلم و لا أقلّ من أن يذكر الحكمة مع العلم كما في أغلب الموارد.

و قيل: إنّه كالتعليل للاستثناء بجواز أن يكون قد سبق في علمه تعالى أصابته بسوء تكون سببه الأصنام كأن يشاء أن يسقط صنم عليه فيشجّه أو تؤثّر فيه حرارة الشمس فتمرضه أو تقتله، و فيه أنّ التمسّك بالقدرة أو الحكمة أنسب للتعليل من العلم.

و قيل: معناه أنّ علم ربّي وسع كلّ شي‏ء و أحاط به و مشيئته مرتبطة بعلمه المحيط القديم و قدرته منفذة لمشيئته فلا يمكن أن يكون لشي‏ء من المخلوقات الّتي تعبدونها و لا لغيرها تأثير مّا في صفاته، و لا في أفعاله الصادرة عنها لا بشفاعة و لا غيرها و إنّما يكون ذلك لو كان علم الله تعالى غير محيط بكلّ شي‏ء فيعلّمه الشفعاء و الوسطاء من وجوه مرجّحات الفعل أو الترك بالشفاعة أو غيرها ما لم يكن يعلم فيكون ذلك هو الحامل له على الضرّ أو النفع أو العطاء أو المنع.

قال هذا القائل: أخذنا هذا المعنى لهذه الجملة من حجج الله تعالى على نفي الشفاعة الشركيّة بمثل قوله:( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما

٢٠٥

خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ ) . قال: و هذا أرجح الوجوه، و هو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، انتهى ملخّصاً.

و محصله أنّ قوله:( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً ) بيان و تعليل لعموم نفي الخوف من الآلهة و غيرها كأنّه قال: لا أخاف ضرّ شي‏ء من آلهتكم و غيرها من المخلوقات فإنّ ربّي يعلم كلّ شي‏ء فيتمّه بمشيئته و ينفذه بقدرته فلا يحتاج إلى شفيع يعلّمه ما جهل حتّى يكون لها تأثير في أفعاله تعالى و شفاعة.

و أنت تعلم أنّ نفي هذا التأثير كما يحتاج إلى سعة علمه تعالى كذلك يحتاج إلى إطلاق القدرة و المشيئة - و المشيئة مع ذلك صفة فعل لا ذات كما يفرضه القائل - فما ذا تنفع سعة العلم لو لم يكن لقدرته و مشيئته إطلاق، و الشاهد عليه نفس كلامه الّذي قرّر فيه الوجه بالعلم و المشيئة و القدرة جميعاً.

و بالجملة هذا الوجه لا يتمّ بسعة العلم وحدها و إنّما يتمّ بها و بإطلاق القدرة و المشيئة، و قد ذكرت في الآية سعة العلم وحدها.

و أمّا ما ذكره من دلالة آيات الشفاعة على ذلك فالآيات المذكورة مسوقة لإثبات الشفاعة بمعنى التوسّط في السببيّة بإذن من الله سبحانه لا أنّها تنفيها كما خيّل إليه فزعم أنّه يفسّر القرآن، بالقرآن و كيف لا؟ و الطمع في ارتفاع الأسباب عن العالم المشهود طمع فيما لا مطمع فيه، و القرآن الكريم من أوّله إلى آخره يتكلّم عن السببيّة و يبني على أصل العلّيّة و المعلوليّة العامّ، و قد تقدّم الكلام في هذه المعاني كراراً في الأجزاء السابقة من الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ) إلخ، ثمّ كرّعليه‌السلام عليهم بحجّة اُخرى تثبت المناقضة بين قولهم و فعلهم و بعبارة اُخرى: حالهم يكذّب مقالهم و محصّله أنّكم تأمرونني أن أخاف ما لا يجب أن يخاف منه، و أنتم أنفسكم لا تخافون من يجب أن يخاف منه فأنا أولى بالأمن منكم إن عصيتكم و لم آتمر بأمركم.

أمّا كون ما تأمرونني بخوفه لا يجب أن يخاف منه فلأنّ الأصنام و أربابها لا دليل

٢٠٦

على كونها مستقلّة بالضرّ و النفع حتّى توجب الخوف منها، و أمّا كونكم لا تخافون من يجب أن يخاف منه فإنّكم أنفسكم أثبتّم لله سبحانه شركاء في الربوبيّة و لم ينزّل الله في ذلك عليكم برهاناً يمكن أن يعتمد عليه فإنّ الصنع و الإيجاد لله سبحانه فله الملك و له الحكم فلو كان اتّخذ بعض مخلوقاته شريكاً لنفسه يوجب لنا بذلك عبادة شريكه كان إليه لا إلى غيره أن يبيّن لنا ذلك و يكشف عن وجه الحقيقة فيه، و الطريق فيه أن يقارنه بعلائم و آيات تدلّ على أنّ له شركة في كذا و كذا، و ذلك إمّا وحي أو برهان يتّكئ على آثار خارجيّة، و شي‏ء من ذلك غير موجود.

و على هذا التقرير فقوله تعالى:( ما أَشْرَكْتُمْ ) مقيّد بحسب ما يستفاد من المقام بما قيّد به قوله:( أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ) و إنّما ذكر هذا القيد عند ذكر عدم خوفهم من شركهم لأنّ الحجّة إلى ذكره هناك أحوج و هو ظاهر. و قوله:( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) من تتمّة الحجّة، و المجموع برهان على مناقضتهم أنفسهم في دعوتهعليه‌السلام إلى أن يخاف آلهتهم فإنّهم يأمرونه بالخوف فيما لا يجب و هم أنفسهم لا يخافون فيما يجب.

و بالبيان السابق يظهر أنّ وصف شركائهم بأنّ الله لم ينزّل بها عليهم سلطاناً افتراض استدعاه نوع الحجّة الّتي وضعت في الكلام لا مفهوم له يثبت إمكان أن يأمر الله باتّخاذ الشركاء آلهة يعبدون فهو بمنزلة قولنا: لا دليل لكم على ما ادّعيتم، في جواب من يخوفنا من موضوع خرافيّ يدّعي أنّه ربّما ينفع و يضرّ، و لنا أن نبدّل قولنا ذلك لو أردنا التكلّم بلسان التوحيد بقولنا: ما أنزل الله على ذلك دليلاً، و الكلام بحسب التحليل المنطقيّ يؤول إلى قياس استثنائيّ استثني فيها نقيض المقدّم في الشرطيّة لإنتاج نقيض التالي نحواً من قولنا: لو كان الله نزّل بها عليكم سلطاناً يدلّ على قدرتهم على الضرّ لكان اتّخاذكم الشركاء خوفاً منها في محلّه لكنّه لم ينزّل سلطاناً فليس اتّخاذكم الشركاء في محلّه، و من المعلوم أن لا مفهوم في هذا القياس فلا حاجة إلى القول بأنّ التقييد بقوله:( لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ) للتهكّم، أو للإشارة إلى أنّ هذا وصف لازم لشركائهم على حدّ قوله تعالى:( وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ) (المؤمنون: ١١٧) إلى غير

٢٠٧

ذلك من التحمّلات.

و الباء في قوله:( لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ ) للمعيّة أو السببيّة و قد كنّىعليه‌السلام عنهم و عن نفسه بالفريقين و لم يقل: أنا و أنتم أو ما يشابه ذلك ليكون أبعد من تحريك الحميّة و تهييج العصبيّة كما قيل، و ليدلّ على تفرّقهما و شقاق بينهما من جهة الاختلاف في أصل الاُصول و اُمّ المعارف الحقيقيّة بحيث لا يأتلفان بعد ذلك في شي‏ء.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) سألهم في الآية السابقة في ضمن ما أقامه من الحجّة عمّن هو أحقّ بالأمن حيث قال:( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ثمّ أجابهم عمّا سألهم لكون الجواب واضحاً لا يختلف فيه الفريقان المتخاصمان و الجواب الّذي هذا شأنه لا بأس بأن يبادر السائل إلى إيراده من غير أن ينتظر المسؤل فإنّ المسؤل لا يخالف السائل في ذلك حتّى يخاف منه الردّ، و قد حكى الله تعالى اعترافهم بذلك في قصّة كسر الأصنام:( قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ، فَرَجَعُوا إِلى‏ أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلى‏ رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ) (الأنبياء: ٦٥).

هذا ما يقتضيه سياق الكلام أن تكون الآية من كلام إبراهيمعليه‌السلام و مقولة لقوله، و أمّا كونها من كلام قومه و جواباً محكيّاً عنهم، و كذا كونها من الله سبحانه من باب القضاء بين الطرفين المتخاصمين فممّا لا يساعد عليه السياق البتّة.

و كيف كان فالكلام متضمّن تأكيداً قويّاً من جهة إسنادات متعدّدة في جمل اسميّة و هي ما في قوله:( لَهُمُ الْأَمْنُ ) جملة اسميّة هي خبر لقوله:( أُولئِكَ ) و المجموع جملة اسميّة هي خبر لقوله:( الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ، و المجموع جملة اسميّة، و كذلك ما عطف على قوله:( لَهُمُ الْأَمْنُ ) من قوله:( وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) فينتج أنّه لا شكّ في اختصاص الّذين آمنوا و لم يستروا إيمانهم بظلم بالأمن و الاهتداء و لا ريب.

و لا ريب أنّ الآية تدلّ على أنّ خاصّة الأمن و الاهتداء من آثار الإيمان مشروطاً بأن لا يلبس بظلم، و اللّبس الستر كما ذكر الراغب في المفردات: و أصل اللبس - بفتح اللّام - الستر، فهو استعارة قصد فيها الإشارة إلى أنّ هذا الظلم لا يبطل أصل الإيمان

٢٠٨

فإنّه فطريّ لا يقبل البطلان من رأس، و إنّما يغطّي عليه و يفسد أثره و لا يدعه يؤثّر أثره الصحيح.

و الظلم و هو الخروج عن وسط العدل و إن كان في الآية نكرة واقعة في سياق النفي و لازمه العموم و عدم اقتران الإيمان بشي‏ء ممّا يصدق عليه الظلم على الإطلاق لكنّ السياق حيث دلّ على كون الظلم مانعاً من ظهور الإيمان و بروزه بآثاره الحسنة المطلوبة كان ذلك قرينة على أنّ المراد بالظلم هو نوع الظلم الّذي يؤثّر أثراً سيّئاً في الإيمان دون الظلم الّذي لا أثر له فيه.

و ذلك أنّ الظلم و إن كان المظنون أنّ أوّل ما انتقل إليه الناس من معناه هو الظلم الاجتماعيّ و هو التعدّي إلى حقّ اجتماعيّ بسلب الأمن من نفس أحد من أفراد المجتمع أو عرضه أو ماله من غير حقّ مسوّغ لكنّ الناس توسّعوا بعد ذلك فسمّوا كلّ مخالفة لقانون أو سنّة جارية ظلماً بل كلّ ذنب و معصية لخطاب مولويّ ظلماً من المذنب بالنسبة إلى نفسه بل المعصية لله سبحانه لما له من حقّ الطاعة المشروع بل مخالفة التكليف ظلماً و إن كان عن سهو أو نسيان أو جهل و إن لم يبنوا على مؤاخذة هذا المخالف و عقابه على ما أتى به بل يعدّون من خالف النصيحة و الأمر الإرشاديّ و لو اشتبه عليه الأمر و أخطأ في مخالفته من غير تعمّد ظالماً لنفسه حتّى أنّ من سامح في مراعاة الدساتير الصحّيّة الطبّيّة أو خالف شيئاً من العوامل المؤثّرة في صحّة مزاجه و لو من غير عمد عدّ ظالماً لنفسه و إن كان ظلماً من غير شعور، و الملاك في جميع ذلك التوسّع في معنى الظلم من جهة تحليله.

و بالجملة للظلم عرض عريض - كما عرفت - لكن ما كلّ فرد من أفراده بمؤثّر أثراً سيّئاً في الإيمان فإنّ أصنافه الّتي لا تتضمّن ذنباً و معصية و لا مخالفة مولويّة كما إذا كان صدوره عن سهو أو نسيان أو جهل أو لم يشعر بوقوعه مثلاً فتلك كلّها ممّا لا يؤثّر في الإيمان الّذي شأنه التقريب من السعادة و الفلاح الحقيقيّ و الفوز برضى الربّ سبحانه و هو ظاهر فتأثير الإيمان أثره لا يشترط بعدم شي‏ء من ذلك.

فقوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ) معناه اشتراط الإيمان في إعطائه الأمن من كلّ ذنب و معصية يفسد أثره بعدم الظلم غير أنّ ههنا دقيقة

٢٠٩

و هي أنّ الذنب الاختياريّ - كما استوفينا البحث عنه في آخر الجزء السادس من الكتاب - أمر ذو مراتب مختلفة باختلاف الأفهام فمن الظلم ما هو معصية اختياريّة بالنسبة إلى قوم و ليس بها عند آخرين. فالواقف في منشعب طريقي الشرك و التوحيد مثلاً و هو الّذي يرى أنّ للعالم صانعاً هو الّذي فطر أجزاءها و شقّ أرجاءها و أمسك أرضها و سماءها، و يرى أنّه نفسه و غيره مخلوقون مربوبون مدبّرون، و أنّ الحياة الإنسانيّة الحقيقيّة إنّما تسعد بالإيمان به و الخضوع له فالظلم اللّائح لهذا الإنسان هو الشرك بالله و الإيمان بغيره بالربوبيّة كالأصنام و الكواكب و غيرها على ما يثبته إبراهيمعليه‌السلام بقوله:( وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ) فالإيمان الّذي يؤثّر أثره بالنسبة إلى هذا الإنسان إنّما يشترط في إعطائه الأمن من الشقاء بأن لا يلبسه ظلم الشرك و معصيته.

و من طوى هذه المرحلة فآمن بالله وحده فإنّه يواجه من الظلم الكبائر من المعاصي كعقوق الوالدين و أكل مال اليتيم و قتل النفس المحترمة و الزنا و شرب الخمر فإيمانه في تأثيره آثاره الحسنة يشترط باجتناب هذا النوع من الظلم، و قد وعده الله أن يكفّر عنه السيّئات و المعاصي الصغيرة إن اجتنب كبائر ما ينهى عنه، قال تعالى:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً ) (النساء: ٣١) و فساد أثر هذا الإيمان هو الشقاء بعذاب هذه المعاصي و إن لم يكن عذاباً خالداً غير منقطع الآخر كعذاب الشرك بل منقطعاً إمّا بحلول أجله و إمّا بشفاعة و نحوها.

و من تزوّد هذا الزاد من التقوى و حصّل شيئاً من المعرفة بمقام ربّه كان مسئولاً بأصناف من الظلم تبدو له بحسب درجة معرفته بربّه كإتيان المكروهات و ترك المستحبّات و التوغّل في المباحات، و فوق ذلك المعاصي في مستوى الأخلاق الكريمة و الملكات الربّانيّة و وراء ذلك الذنوب الّتي تعترض سبيل الحبّ، و تحفّ بساط القرب، فالإيمان في كلّ من هذه المراتب إنّما يؤمن المتلبّس به و يدفع عنه الشقاء إذا عري عن ملابسة الظلم المناسب لتلك المرتبة.

٢١٠

فلقوله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) إطلاق من حيث الظلم لكنّه إطلاق يختلف باختلاف مراتب الإيمان و إذ كان المقام مقام محاجّة المشركين انطبق الظلم المنفيّ على ظلم الشرك فحسب و الأمن الّذي يعطيه هذا الإيمان هو الأمن ممّا يخاف منه من الشقاء المؤبّد و العذاب المخلّد، و الآية مع ذلك آية مستقلّة من حيث البيان مع قطع النظر عن خصوصيّة المورد تفيد أنّ الأمن و الاهتداء إنّما يترتّب على الإيمان بشرط انتفاء جميع أنحاء الظلم الّذي يلبسه و يستر أثره بالمعنى الّذي تقدّم بيانه.

و أمّا الإيمان المذكور في الآية ففيه إطلاق و المراد به الإيمان بالربوبيّة الصالح للتقيّد بما يصلحه أو يفسده ثمّ إذا قيّد بقوله:( وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) أفاد الإيمان بربوبيّة الله سبحانه و رفض غيره من شركائهم فإنّ إبراهيمعليه‌السلام ذكر فيما تحكي عنه الآية السابقة أنّ قولهم بربوبيّة شركائهم و إيمانهم بها مع كونها من خلق الله قول بما لا دليل لهم عليه من جانب الله و لا سلطان و أنّهم بإيمانهم بشركائهم يتوقّون شرّاً و يستأمنون شقاءً ليس لها أن تدفعها لأنّها لا تضرّ و لا تنفع، و أمّا هوعليه‌السلام فقد خاف و آمن بمن هو فاطره و هو المتصرّف بالهداية و المدبّر الّذي له في كلّ أمر إرادة و مشيّة لسعة علمه، ثمّ سألهم: أيّ الفريقين أحقّ بالأمن و الناجح بالإيمان بالربّ، و لكلّ من الفريقين إيمان بالربّ، و إن اختلفا من جهة الربّ، و الّذي آمنوا به بين مؤمن بربّ على ربوبيّته دليل، و مؤمن بربّ لا دليل على ربوبيّته بل الدليل على خلافه.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالإيمان في قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا ) مطلق الإيمان بالربوبيّة ثمّ بتقيّده بقوله:( وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) يتعيّن في الإيمان بالله سبحانه الّذي هو حقّ الإيمان فافهم.

فقد اتّضح بما تقدّم أوّلاً: أنّ المراد بالإيمان هو الإيمان بالربوبيّة دون الإيمان بوجود صانع العالم خلافاً لمنكري وجوده.

و ثانياً: أنّ الظلم في الآية مطلق ما يضرّ الإيمان و يفسده من المعاصي، و كذا المراد بالأمن مطلق الأمن من شقاء المعاصي و الذنوب، و بالاهتداء مطلق التخلّص من ضلالها

٢١١

و إن انطبق بحسب المورد على معصية الشرك خاصّة.

و ثالثاً: أنّ إطلاق الظلم يختلف بحسب اختلاف مراتب الإيمان.

قال بعض المفسّرين في معنى عموم الظلم في الآية: إنّ الأمن في الآية مقصور على الّذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه و عدم مراعاة موضوع الإيمان يكون المعنى: الّذين آمنوا و لم يخلطوا إيمانهم بظلم مّا لأنفسهم لا في إيمانهم و لا في أعمالهم البدنيّة و النفسيّة من دينيّة أو دنيويّة و لا لغيرهم من المخلوقات من العقلاء و العجماوات اُولئك لهم الأمن من عقاب الله تعالى الدينيّ على ارتكاب المعاصي و المنكرات، و عقابه الدنيويّ على عدم مراعاة سببه في ربط الأسباب بالمسبّبات كالفقر و الأسقام و الأمراض دون غيرهم ممّن ظلموا أنفسهم أو غيرهم فإنّ الظالمين لا أمان لهم بل كلّ ظالم عرضة للعقاب و إن كان الله تعالى لسعة رحمته لا يعاقب كلّ ظالم على كلّ ظلم بل يعفو عن كثير من ذنوب الدنيا، و يعذّب من يشاء و يغفر لمن يشاء في الآخرة ما دون الشرك به.

قال: و هذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه، و يترتّب عليه أنّ الأمن المطلق من الخوف من عقاب الله الدينيّ و الدنيويّ أو الشرعيّ و القدريّ جميعاً لا يصحّ لأحد من المكلّفين دع خوف الهيبة و الإجلال الّذي يمتاز به أهل الكمال.

قال: و أمّا معنى الآية على فرض عدم الإطلاق فهو أنّ الّذين آمنوا و لم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم و هو الشرك بالله اُولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الدينيّ المتعلّق بأصل الدين و هو الخلود في دار العذاب و هم فيما دون ذلك بين الخوف و الرجاء.

قال: و ظاهر الآية هو العموم و استدلّ عليه بفهم الصحابة على‏ ما روي: أنّ الآية لمّا نزلت شقّ ذلك على الناس و قالوا: يا رسول الله أيّنا لم يظلم نفسه؟ فأخبرهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ المراد به الشرك، و ربّما أشعر بذلك السياق و كون الموضوع هو الإيمان، انتهى ملخّصاً.

و فيه مواقع للإشكال فأوّلاً: أنّ ما استدلّ عليه من العموم بفهم الصحابة هو

٢١٢

غير ما قرّره من معنى العموم فإنّ الّذي فهموه من الظلم هو ما يساوي المعصية، و الّذي قرّره هو أعمّ من ذلك.

و ثانياً: أنّ ما قرّره من عموم الظلم حتّى بالنسبة إلى أفراد من الظلم ليست من المعصية في شي‏ء ثمّ حكم بصحّة تفسير الآية به أجنبيّ عن مدلول الآية فإنّ الآية في مقام بيان أنّ الأمن و الاهتداء من آثار الإيمان و لكن بشرط أن لا يقارن ظلماً يستره و يفسد أثره، و هذا الظلم إنّما هو المعصية بوجه، و أمّا ما لا يعدّ معصية كأكل الغذاء المضرّ بصحّة البدن خطاءً فمن المعلوم أنّه لا يفسد أثر الإيمان من الأمن و الاهتداء، و ليس المراد بالآية بيان آثار الظلم أيّاً مّا كانت و لو مع قطع النظر عن الإيمان فإنّه تعالى قال:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) فجعل الإيمان هو الموضوع و قيّده بعدم الظلم و جعل أثره الأمن و الاهتداء، و لم يجعل الظلم هو الموضوع حتّى تكون الآية مسرودة لبيان آثاره.

فالآية سيقت لبيان الآثار الّتي تترتّب على الإيمان الصحيح، و أمّا الظلم بما له من العرض العريض و ما له من الأثر المترتّب عليه فالآية غير متعرّضة لذلك البتّة، فقوله:( و هذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه) فاسد البتّة.

و ثالثاً: أنّ قوله:( و يترتّب عليه أنّ الأمن المطلق لا يصحّ لأحد من المكلّفين) صريح في أنّ الآية لا مصداق لها بالنظر إلى الإطلاق الّذي قرّره، و لازمه سقوط الكلام عن الفائدة، و أيّ فائدة في أن يوضع في الحجّة قول لا مصداق له أصلاً؟.

و رابعاً: أنّ الّذي اختاره في معنى الآية أنّ المراد به هو الظلم الخاصّ و هو الشرك ليس بمستقيم فإنّ الآية من جهة عموم لفظها و إن دلّت على وجوب كون الإيمان غير مقارن للشرك حتّى يؤثّر أثره لكنّ ذلك من باب انطباق اللفظ العامّ على مورده الخاصّ، و أمّا إرادة المعنى الخاصّ من اللفظ العامّ من غير قرينة حاليّة أو مقاليّة متّصلة أو منفصلة فممّا لا ترتضيه صناعة البلاغة و هو ظاهر.

و أمّا ما أشار إليه من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّما هو الشرك) فليس بصريح في أنّ الشرك مراد لفظيّ من الآية و إنّما هو الانطباق، و سيجي‏ء البحث عن الحديث في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

٢١٣

قوله تعالى: ( وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى‏ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ) إلخ، في الإشارة بلفظ البعيد إلى الحجّة تفخيم و تعظيم لأمرها لكونها حجّة قاطعة جارية على صراط الفطرة مأخوذة بمقدّماتها منها.

و أمّا قوله:( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ) فالدرجات - كما قيل - هي مراقي السلّم ثمّ توسّع فيها فاُطلق على مراتب الكمال من المعنويّات كالعلم و الإيمان و الكرامة و الجاه و غير ذلك فرفعه تعالى من يشاء من عباده درجات من الرفع هو تخصيصه بكمالات معنويّة و فضائل حقيقيّة في الخيرات الكسبيّة كالعلم و التقوى و غير الكسبيّة كالنبوّة و الرسالة و الرزق و غيرها.

و الدرجات لكونها نكرة في سياق الإيجاب مهملة غير مطلقة غير أنّ المتيقّن من معناها بالنظر إلى خصوص المورد هو درجات العلم و الهداية فقد رفع الله إبراهيمعليه‌السلام بهدايته و إراءته ملكوت السماوات و الأرض و إيتائه اليقين و الحجّة القاطعة، و الجميع من العلم، و قد قال تعالى في درجات العلم:( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (المجادلة: ١١).

ثمّ ختم الآية بقوله:( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) لتثبيت أنّ ذلك كلّه كان بحكمة منه تعالى و علم كما أنّ الحجج الّتي آتاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المذكورة في السورة قبل هذه الحجّة من حكمته و علمه تعالى، و في الكلام التفات من التكلّم إلى الغيبة لتطييب قلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تثبيت المعارف المذكورة فيه.

( بحث روائي)

في العيون: حدّثنا نعيم بن عبدالله بن تميم القرشيّ رضي الله عنه قال: حدّثنا أبي عن حمدان بن سليمان النيشابوريّ عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضاعليه‌السلام فقال له المأمون: يا بن رسول الله أ ليس من قولك أنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، قال: فسأله عن آيات من القرآن فيه فكان فيما سأله أن قال له:

٢١٤

فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ في إبراهيم:( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى‏ كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ) .

فقال الرضاعليه‌السلام : إنّ إبراهيم وقع إلى ثلاثة أصناف: صنف يعبد الزهرة، و صنف يعبد القمر، و صنف يعبد الشمس و ذلك حين خرج من السرب الّذي اُخفي فيه فلمّا جنّ عليه الليل رأى الزهرة قال: هذا رَبِّي على الإنكار و الاستخبار فلمّا أفل الكوكب قال:( لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ) لأنّ الاُفول من صفات المحدث لا من صفات القديم فلمّا رأى القمر بازغاً قال: هذا رَبِّي على الإنكار و الاستخبار فلمّا أفل قال:( لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ‏ ) ، فلمّا أصبح رأى الشمس بازغة قال:( هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ) من الزهرة و القمر على الإنكار و الاستخبار لا على الإخبار و الإقرار فلمّا أفلت قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة و القمر و الشمس:( يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

و إنّما أراد إبراهيم بما قال أن يبيّن لهم بطلان دينهم، و يثبت عندهم أنّ العبادة لا يحقّ لما كان بصفة الزهرة و القمر و الشمس، و إنّما يحقّ العبادة لخالقها و خالق السماوات و الأرض، و كان ما احتجّ به على قومه ممّا ألهمه الله عزّوجلّ و آتاه كما قال عزّوجلّ:( وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى‏ قَوْمِهِ ) . فقال المأمون: لله درّك يا بن رسول الله.

أقول: و تأييد الرواية بمضمونها عدّة من الاُمور الّتي استفدناها من سياق الآيات الكريمة ظاهر، و سيأتي أيضاً بعض ما يؤيّدها من الروايات، و أمّا ما في الرواية من كون قول إبراهيمعليه‌السلام :( هذا رَبِّي ) واقعاً على سبيل الإنكار و الاستخبار دون الإخبار و الإقرار فوجه من الوجوه الّتي تقدّمت في تفسير الآيات أوردهعليه‌السلام في قطع حجّة المأمون، و لا ينافي صحّة غيره من الوجوه لو كان هناك وجه كما سيأتي.

و كذا قوله:( لأنّ الاُفول من صفات المحدث) إلخ، ليس بظاهر في أنّ الحجّة مأخوذة من الاُفول الحادث كما ذكره بعضهم لجواز أن يكون الحجّة مأخوذة من عدم الحبّ و ملاكه كون الاُفول من صفات المحدث الّتي لا ينبغي أن يتعلّق بها حبّ فافهم.

٢١٥

و في كمال الدين: أبي و ابن الوليد معاً عن سعد عن ابن بريد عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان أبو إبراهيم منجّماً لنمرود بن كنعان، و كان نمرود لا يصدر إلّا عن رأيه فنظر في النجوم ليلة من اللّيالي فأصبح فقال: لقد رأيت في ليلتي هذه عجباً فقال له نمرود: ما هو؟ فقال: رأيت مولوداً يولد في أرضنا هذه يكون هلاكنا على يديه، و لا يلبث إلّا قليلاً حتّى يحمل به فعجب من ذلك نمرود و قال: هل حمل به النساء؟ فقال: لا، و كان فيما اُوتي من العلم أنّه سيحرق بالنار، و لم يكن اُوتي أنّ الله سينجّيه.

قال: فحجب النساء عن الرجال فلم يترك امرأة إلّا جعلت بالمدينة حتّى لا يخلص إليهنّ الرجال، قال: و باشر أبو إبراهيم امرأته فحملت به فظنّ أنّه صاحبه فأرسل إلى نساء من القوابل لا يكون في البطن شي‏ء إلّا علمنا به فنظرنا إلى اُمّ إبراهيم فألزم الله تبارك و تعالى ذكره ما في الرحم الظهر فقلن: ما نرى شيئاً في بطنها.

فلمّا وضعت اُمّ إبراهيم أراد أبوه أن يذهب به إلى نمرود فقالت له امرأته: لا تذهب بابنك إلى نمرود فيقتله دعني أذهب به إلى بعض الغيران أجعله فيه حتّى يأتي عليه أجله و لا تكون أنت تقتل ابنك فقال لها: فاذهبي فذهبت به إلى غار ثمّ أرضعته ثمّ جعلت على باب الغار صخرة ثمّ انصرفت عنه فجعل الله رزقه في إبهامه فجعل يمصّها فيشرب لبناً، و جعل يشبّ في اليوم كما يشبّ غيره في الجمعة، و يشبّ في الجمعة كما يشبّ غيره في الشهر، و يشبّ في الشهر كما يشبّ غيره في السنة فمكث ما شاء الله أن يمكث.

ثمّ إنّ اُمّه قالت لأبيه: لو أذنت لي أن أذهب إلى ذلك الصبيّ فأراه فعلت قال: ففعل(١) فأتت الغار فإذا هي بإبراهيم و إذا عيناه تزهران كأنّهما سراجان فأخذته و ضمّته إلى صدرها و أرضعته ثمّ انصرفت عنه فسألها أبوه عن الصبيّ فقالت: قد واريته في التراب.

فمكثت تعتلّ فتخرج في الحاجة، و تذهب إلى إبراهيم فتضمّه إليها و ترضعه

____________________

(١) أي فعل الإذن أي أذن لها.

٢١٦

ثمّ تنصرف فلمّا تحرّك أتته اُمّه كما كانت تأتيه، و صنعت كما كانت تصنع فلمّا أرادت الانصراف أخذ ثوبها فقالت له: ما لك؟ فقال: اذهبي بي معك فقالت له: حتّى استأمر أباك فلم يزل إبراهيم في الغيبة مخفيّاً بشخصه كاتماً لأمره حتّى ظهر فصدع بأمر الله تعالى ذكره، و أظهر الله قدرته فيه.

أقول: و روي في قصص الأنبياء، عن الصدوق عن أبيه و ابن الوليد ثمّ ساق السند إلى أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان آزر عمّ إبراهيم منجّماً لنمرود و كان لا يصدر إلّا عن رأيه قال: لقد رأيت في ليلتي عجباً قال: ما هو؟ قال: إنّ مولوداً يولد في أرضنا هذه يكون هلاكنا على يديه فحجب الرجال عن النساء، و كان تارخ وقع على اُمّ إبراهيم فحملت ثمّ ساق الحديث إلى آخره.

و قد حمل وحدة السند في الحديثين، و وحدة المضمون إلّا في أبي إبراهيم صاحب‏ البحار أن قال: الظاهر أنّ ما رواه الراونديّ هو هذا الخبر بعينه، و إنّما غيّره ليستقيم على اُصول الإماميّة، انتهى. ثمّ حمل الرواية و ما في مضمونها من الروايات الدالّة على أنّ آزر الوثنيّ كان والداً لإبراهيم صلبيّاً على التقيّة.

و قد روى مثل المضمون السابق القميّ في تفسيره، و العيّاشيّ في تفسيره، و روي من طرق أهل السنّة عن مجاهد، و رواه الطبريّ في تاريخه و الثعلبيّ في قصص الأنبياء، عن عامّة السلف و أهل العلم.

و كيف كان فالّذي ينبغي أن يقال: أنّ علماء الحديث و الآثار كأنّهم مجمعون على أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان في بادي عمره قد اُخفي في سرب خوفاً من أن يقتله الملك نمرود، ثمّ خرج عنه بعد حين فحاجّ أباه و قومه في أمر الأصنام و الكوكب و القمر و الشمس و حاجّ الملك في دعواه الربوبيّة، و قد تقدّم أنّ سياق آيات القصّة يؤيّد هذا المعنى.

و أمّا أبو إبراهيم فقد ذكر أهل التاريخ أنّ اسمه تارخ - بالحاء المهملة أو المعجمة - و آزر إمّا لقبه أو اسم صنم أو وصف ذمّ أو مدح بحسب لغتهم بمعنى المعتضد أو الأعرج وصفه به إبراهيم.

٢١٧

و ذكروا أنّ هذا المشرك الّذي سمّاه القرآن أبا إبراهيم و ذكر محاجّته إيّاه كان هو تارخ أباه الصلبيّ و والده الحقيقيّ و وافقهم على ذلك عدّة من علماء الحديث و الكلام من أهل السنّة، و خالفهم جمع منهم، و الشيعة كالمجمع على ذلك أو هم مجمعون إلّا ما يتراءى من بعض المحدّثين حيث أودعوا تلك الأخبار كتبهم، و عمدة ما احتجّ به القائلون بأنّ آزر المشرك لم يكن والد إبراهيم، و إنّما كان عمّه أو جدّه لاُمّه الأخبار الواردة من طرق الفريقين في أنّ آباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا موحّدين جميعاً لم يكن فيهم مشرك، و قد طالت المشاجرة بين الفريقين.

أقول: من البحث على هذا النمط كيفما تمّ خارج عن البحث التفسيريّ و إن كان الباحثون من الفريقين في حاجة إلى إيراده و استنتاج حقّ ما ينتجه لكنّا في غنى عن ذلك فقد تقدّم أنّ الآيات دالّة على أنّ آزر المشرك الّذي يذكره الله تعالى في هذه الآيات من سورة الأنعام لم يكن والداً حقيقيّاً لإبراهيمعليه‌السلام .

فالروايات الدالّة على كون آزر أباه الحقيقيّ على ما فيها من الاختلاف في سرد القصّة روايات مخالفة للكتاب لا يعبأ بها، و لا حاجة مع ذلك إلى حملها على التقيّة إن صحّ الحمل مع هذا الاختلاف بين القوم.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ ) الآية قال: حدّثني أبي عن إسماعيل بن مرار عن يونس بن عبدالرحمن عن هشام عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كشط له عن الأرض و من عليها، و عن السماء و من عليها، و الملك الّذي يحملها، و العرش و من عليه، و فعل ذلك برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

أقول: و روى مثله في بصائر الدرجات بطريقين عن عبدالله بن مسكان و أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام و بطريق عن عبدالرحيم عن الباقرعليه‌السلام و رواه العيّاشيّ عن زرارة و أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام و عن زرارة و عبدالرحيم القصير عن الباقرعليه‌السلام و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن عبّاس و مجاهد و السدّيّ من مفسّري السلف‏، و سيأتي في الكلام على العرش‏ حديث عليّعليه‌السلام المرويّ في الكافي في معنى العرش و فيه قال: و الّذين يحملون العرش و من حوله هم العلماء الّذين حمّلهم الله علمه قال: و هو الملكوت الّذي أراه الله أصفياءه، و

٢١٨

أراه خليلهعليه‌السلام فقال:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الحديث.

و في الحديث تفسير سائر الأخبار الواردة في تفسير إراءة الملكوت و تأييد لما قدّمناه في البيان السابق، و سيوافيك الشرح المستوفى لهذا الحديث في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: لمّا رأى ملكوت السماوات و الأرض التفت فرأى رجلاً يزني فدعا عليه فمات ثمّ رأى آخر فدعا عليه فمات حتّى رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا فأوحى الله إليه أن يا إبراهيم: إنّ دعوتك مجابة فلا تدع على عبادي فإنّي لو شئت لم أخلقهم إنّي خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: عبد يعبدني و لا يشرك بي شيئاً، و عبد يعبد غيري فلن يفوتني، و عبد يعبد غيري فاُخرج من صلبه من يعبدني.

أقول: و الرواية مستفيضة و رواه في الكافي مسنداً عن أبي بصير عنهعليه‌السلام و رواه الصدوق في العلل عنهعليه‌السلام و الطبرسيّ في الاحتجاج عن العسكريّعليه‌السلام و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن عليّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و عن أبي الشيخ و ابن مردويه و البيهقيّ في الشعب من طريق شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن عدّة من المفسّرين موقوفاً.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم عن أحدهماعليهما‌السلام قال: في إبراهيم إذ رأى كوكباً قال: إنّما كان طالباً لربّه و لم يبلغ كفراً، و أنّه من فكّر من الناس في مثل ذلك فإنّه بمنزلته.

و في تفسير القمّيّ، قال: و سئل أبوعبداللهعليه‌السلام عن قول إبراهيم:( هذا رَبِّي ) هل أشرك في قوله: هذا رَبِّي؟ فقال: من قال هذا اليوم فهو مشرك، و لم يكن من إبراهيم شرك، و إنّما كان في طلب ربّه و هو من غيره شرك.

أقول: و يقابل الّذي هو طالب من تمّ له البيان و قامت له الحجّة الواضحة فهو غير طالب، و ليس لغير الطالب أن يفترض ما فيه شرك.

٢١٩

و في تفسير العيّاشيّ، عن حجر قال: أرسل العلاء بن سيّابة يسأل أباعبداللهعليه‌السلام عن قول إبراهيم:( هذا رَبِّي ) و أنّه من قال هذا اليوم فهو عندنا مشرك، قال: لم يكن من إبراهيم شرك إنّما كان في طلب ربّه، و هو من غيره شرك.

و فيه، عن محمّد بن حمران قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله فيما أخبر عن إبراهيم:( هذا رَبِّي ) قال: لم يبلغ به شيئاً، أراد غير الّذي قال.

أقول: المراد به ظاهراً أنّه أراد به أنّ قوله:( هذا رَبِّي ) لا يتعدّى مفهوم نفسه و ليس له وراء ذلك معنى يحكي عنه أي إنّه قاله على سبيل الافتراض أو تسليم المدّعى لبيان فساده بفساد لوازمه كما تقدّمت الإشارة إليه.

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) الآية، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الدارقطنيّ في الأفراد و أبوالشيخ و ابن مردويه عن عبدالله بن مسعود قال: لمّا نزلت هذه الآية:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) شقّ ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله و أيّنا لا يظلم نفسه؟ قال: إنّه ليس الّذي تعنون أ لم تسمعوا ما قال العبد الصالح:( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ؟ إنّما هو الشرك.

أقول: المراد بالعبد الصالح لقمان على ما حكاه الله تعالى من قوله في سورة لقمان. و في الحديث دلالة على أنّ سورة الأنعام نزلت بعد سورة لقمان، و قد تقدّم أنّ كون المراد هو الشرك إنّما هو الانطباق بحسب المورد و الشرك ذنب لا تتعلّق به مغفرة أصلاً بخلاف غيره كائناً ما كان، و الدليل على ما ذكرنا ما يأتي من الروايات.

و فيه، أخرج أحمد و الطبرانيّ و أبوالشيخ و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن جرير بن عبدالله قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا فانتهى إلينا فسلّم فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أين أقبلت؟ فقال: من أهلي و ولدي و عشيرتي اُريد رسول الله. قال: قد أصبته قال: علّمني ما الإيمان؟ قال: تشهد أن لا إله إلّا الله و أنّ محمّداً رسول الله، و تقيم الصلاة و تؤتي الزكاة و تصوم رمضان و تحجّ البيت قال: قد أقررت.

٢٢٠