الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 80658
تحميل: 6068


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80658 / تحميل: 6068
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة الأنعام الآيات ٩١ - ١٠٥)

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ  قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ  تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا  وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ  قُلِ اللَّهُ  ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ( ٩١) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا  وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ  وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ( ٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ  وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ  الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ( ٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ  وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ  لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ( ٩٤) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ  يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ  ذَٰلِكُمُ اللَّهُ  فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ( ٩٥) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا  ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ( ٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ  قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( ٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم

٢٨١

مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ  قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ( ٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ  انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( ٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ  وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ( ١٠٠) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ  وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ  وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( ١٠١) ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ  لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ  خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ  وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ( ١٠٢) لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ  وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( ١٠٣) قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ  فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ  وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا  وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ( ١٠٤) وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( ١٠٥)

( بيان)

الآيات لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنّها تفتتح بالمحاجّة في خصوص إنزال الكتاب على أهل الكتاب إذ ردّوا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهم:( ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، و الآيات السابقة تعدّ إيتاء الكتاب من لوازم الهداية الإلهيّة الّتي أكرم بها أنبياءه.

فقد بدأت الكلام بمحاجّة أهل الكتاب ثمّ تذكر أنّ أظلم الظلم أن يشرك بالله

٢٨٢

افتراءً عليه أو يظلم في باب النبوّة بإنكار ما هو حقّ منها أو دعوى ما ليس بحقّ منها كالّذي قال:( سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ) .

ثمّ تذكر الآيات ما يؤل إليه أمر هؤلاء الظالمين عند مساءلة الموت إذا غشيتهم غمراته و الملائكة باسطوا أيديهم، ثمّ تتخلّص إلى ذكر آيات توحيده تعالى و ذكر أشياء من أسمائه الحسنى و صفاته العليا.

قوله تعالى: ( وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) قدر الشي‏ء و قدره بالتحريك كمّيّته من عظم أو صغر و نحوهما يقال: قدرت الشي‏ء قدراً و قدّرته بالتشديد تقديراً إذا بيّنت كمّيّة الشي‏ء و هندسته المحسوسة ثمّ توسّع فيه فاستعمل في المعاني غير المحسوسة فقيل: قدر فلان عند الناس و في المجتمع أي عظمته في أعين الناس و وزنه في مجتمعهم و قيمته الاجتماعيّة.

و إذ كان تقدير الشي‏ء و تحديده بحدود لا ينفكّ غالباً عن وصفه بأوصافه المبيّنة لحاله المستتبعة لعرفانه اُطلق القدر و التقدير على الوصف و على المعرفة بحال الشي‏ء - على نحو الاستعارة - فيقال قدر الشي‏ء و قدّره أي وصفه، و يقال: قدر الشي‏ء و قدّره أي عرفه، فاللغة تبيح هذه الاستعمالات جميعاً.

و لمّا كان الله سبحانه لا يحيط بذاته المتعالية حسّ و لا وهم و لا عقل و إنّما يعرف معرفة مّا بما يليق بساحة قدسه من الأوصاف و ينال من عظمته ما دلّت عليه آياته و أفعاله صحّ استعمال القدر فيه تعالى بكلّ من المعاني السابقة فيقال:( ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) أي ما عظّموه بما يليق بساحته من العظمة أو ما وصفوه حقّ وصفه أو ما عرفوه حقّ معرفته.

فالآية بحسب نفسها تحتمل كلّاً من المعاني الثلاثة أو جميعها بطريق الالتزام لكن الأنسب بالنظر إلى الآيات السابقة الواصفة لهدايته تعالى أنبياءه المستعقبة لإيتائهم الكتاب و الحكم و النبوّة، و عنايته الكاملة بحفظ كلمة الحقّ و نعمة الهداية بين الناس زماناً بعد زمان و جيلاً بعد جيل أن تحمل على المعنى الأوّل فإنّ في إنكار إنزال الوحي حطّاً لقدره تعالى و إخراجاً له من منزلة الربوبيّة المعتنية بشؤن عباده و هدايتهم إلى

٢٨٣

هدفهم من السعادة و الفلاح.

و يؤيّد ذلك ما ورد من نظير اللفظ في قوله تعالى:( وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (الزمر: ٦٧).

و قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ، ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (الحجّ: ٧٤) أي و قوّته و عزّته و ضعف غيره و ذلّته تقتضيان أن لا يحطّ قدره و لا يسوّى هو و ما يدعون من دونه بتسمية الجميع آلهة و أرباباً فالأنسب بالآية هو المعنى الأوّل و إن لم يمتنع المعنيان الآخران، و أمّا تفسير( ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) بأنّ المراد: ما أعطوه من القدرة ما هو حقّها كما فسّره بعضهم فأبعد المعاني المحتملة من مساق الآية.

و لمّا قيّد قوله تعالى:( وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) بالظرف الّذي في قوله:( إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) أفاد ذلك أنّ اجتراءهم على الله سبحانه و عدم تقديرهم حقّ قدره إنّما هو من حيث إنّهم نفوا إنزال الوحي و الكتاب منه تعالى على بشر فدلّ ذلك على أنّ من لوازم الاُلوهيّة و خصائص الربوبيّة أن ينزل الوحي و الكتاب لغرض هداية الناس إلى مستقيم الصراط و الفوز بسعادة الدنيا و الآخرة فهي الدعوى.

و قد أشار تعالى إلى إثبات هذه الدعوى و الحجاج له بقوله:( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى‏ ) إلخ، و بقوله:( وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ ) و الأوّل من القولين احتجاج بكتاب من الكتب السماويّة المنزلة على الأنبياءعليهم‌السلام الثابتة نبوّتهم بالمعجزات الباهرة الّتي أتوا بها ففيه تمسّك بوجود الهداية الإلهيّة المتّصلة المحفوظة بين الناس بالأنبياءعليهم‌السلام نوح و من بعده، و هي الّتي وصفها الله تعالى في الآيات السابقة من قوله:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ - إلى قوله -إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى‏ لِلْعالَمِينَ ) .

و الثاني من القولين احتجاج بوجود معارف و أحكام إلهيّة بين الناس ليس من شأنها أن تترشّح من الإنسان الاجتماعيّ من حيث مجتمعة بما له من العواطف و الأفكار

٢٨٤

الّتي تهديه إلى ما يصلح حياته من الغذاء و المسكن و اللباس و النكاح و جلب المنافع و دفع المضارّ و المكاره فهذه الاُمور الّتي في مجرى التمتّع بالمادّيّات هي الّتي يتوخّاها الإنسان بحسب طبعه الحيوانيّ، و أمّا المعارف الإلهيّة و الأخلاق الفاضلة الطيّبة و الشرائع الحافظة بالعمل بها لهما فليست من الاُمور الّتي ينالها الإنسان الاجتماعيّ بشعوره الاجتماعيّ و أنّى للشعور الاجتماعيّ ذلك؟ و هو إنّما يبعث الإنسان إلى استخدام جميع الوسائل الّتي يمكنه أن يتوسّل بها إلى مآربه في الحياة الأرضيّة، و مقاصده في المأكل و المشرب و المنكح و الملبس و المسكن و ما يتعلّق بها ثمّ يدعوه إلى أن يكسر مقاومة كلّ ما يقاومه في طريق تمتّعه إن قدر على ذلك أو يصطلحه على التعاضد و الاشتراك في المنافع و رعاية العدل في توزيعها إن لم يقدر عليه، و هو سرّ كون الإنسان اجتماعيّاً مدنيّاً كما تبيّن في أبحاث النبوّة في البحث عن قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ) الآية: (البقرة: ٢١٣) في الجزء الثاني من الكتاب، و سنزيده وضوحاً إن شاء الله.

و بالجملة فالآية أعني قوله تعالى:( وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) تدلّ بما لها من الضمائم على أنّ من لوازم الاُلوهيّة أن تهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط و منزل السعادة بإنزال الكتاب و الوحي على بعض أفراده، و تستدلّ على ذلك بوجود بعض الكتب المنزلة من الله في طريق الهداية أوّلاً، و بوجود ما يدلّ على تعاليم إلهيّة بينهم لا ينالها الإنسان بما عنده من العقل الاجتماعيّ ثانياً.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى‏ نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً ) القراءة الدائرة تجعلونه بصيغة الخطاب و المخاطبون به اليهود لا محالة، و قرئ( يجعلونه) بصيغة الغيبة، و المخاطب المسؤل عنه بقوله:( مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ ) إلخ، حينئذ اليهود أو مشركو العرب على ما قيل، و المراد يجعل الكتاب قراطيس و هي جمع قرطاس إمّا جعله في قراطيس بالكتابة فيها، و إمّا جعله نفس القراطيس بما فيها من الكتابة فالصحائف و القراطيس تسمّى كتاباً كما تسمّى الألفاظ المدلول عليها بالكتابة كتاباً.

٢٨٥

و قوله:( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى‏ ) إلخ. جواب عن قولهم المحكيّ بقوله تعالى:( إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) و الآية و إن لم تعيّن القائلين بهذا القول من هم؟ إلّا أنّ الجواب بما فيه من الخصوصيّة لا يدع ريباً في أنّ المخاطبين بهذا الجواب هم اليهود فالقائلون:( ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) هم اليهود أيضاً، و ذلك أنّ الآية تحتجّ على هؤلاء القائلين بكتاب موسىعليه‌السلام و المشركون لا يعترفون به و لا يقولون بنزوله من عندالله، و إنّما القائلون به أهل الكتاب، و أيضاً الآية تذمّهم بأنّهم يجعلونه قراطيس يبدونها و يخفون كثيراً، و هذا أيضاً من خصائص اليهود على ما نسبه القرآن إليهم دون المشركين.

على أنّ قوله بعد ذلك:( وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ ) على ظاهر معناه الساذج لا يصلح أن يخاطب به غير اليهود من المشركين أو المسلمين كما تقدّم و سيجي‏ء إن شاء الله تعالى.

و أمّا أنّ اليهود كانوا مؤمنين بنبوّة الأنبياء موسى و من قبلهعليهم‌السلام و بنزول كتب سماويّة كالتوراة و غيرها فلم يك يتأتّى لهم أن يقولوا: ما أنزل الله على بشر من شي‏ء لمخالفته اُصول معتقداتهم فيدفعه: أنّ كون ذلك مخالفاً للأصل الّذي عندهم لا يمنع أن يتفوّه به بعضهم تعصّباً على الإسلام أو تهييجاً للمشركين على المسلمين أو يقول ذلك عن مسألة سألها المشركون عن حال كتاب كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدّعي نزوله عليه من جانب الله سبحانه، و قد قالوا في تأييد وثنيّة مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين:( هؤُلاءِ أَهْدى‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ) ، فرجّحوا قذارة الشرك على طهارة التوحيد و أساس دينهم التوحيد حتّى أنزل الله:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ) (النساء: ٥١).

و قولهم - و هو أبين سفهاً من سابقه - اغتياظاً على النصارى: إنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يهوديّاً حتّى نزل فيهم قوله تعالى:( يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ - إلى أن قال -ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا

٢٨٦

وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (آل عمران: ٦٧) إلى غير ذلك من أقوالهم المناقضة لاُصولهم الثابتة المحكيّة في القرآن الكريم.

و من كان هذا شأنه لم يبعد أن ينفي نزول كتاب سماويّ على بشر لداع من الدواعي الفاسدة الباعثة له على إنكار ما يستضرّ بثبوته أو تلقين الغير باطلاً يعلم ببطلانه لينتفع به في بعض مقاصده الباطلة.

و أمّا قول من قال: إنّ القرآن لم يعتن بأمر أهل الكتاب في آياته النازلة بمكّة و إنّما كانت الدعوة بمكّة قبل الهجرة متوجّهة إلى المشركين للابتلاء بجماعتهم و الدار دارهم، ففيه أنّ ذلك لا يوجب السكوت عنهم من رأس و الدين عامّ و دعوته شاملة لجميع الناس و القرآن ذكر للعالمين و هم و المشركون جيران يمسّ بعضهم بعضاً دائماً و قد جاء ذكر أهل الكتاب في بعض السور المكّيّة من غير دليل ظاهر على كون الآية مدنيّة كقوله تعالى:( وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) (العنكبوت: ٤٦) و قوله:( وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (النحل: ١١٨) و قد ذكر في سورة الأعراف كثير من مظالم بني إسرائيل مع كون السورة مكّيّة.

و من المستبعد أن تدوم الدعوة الإسلاميّة سنين قبل الهجرة و في داخل الجزيرة طوائف من اليهود و النصارى فلا يصل خبرها إليهم أو يصل إليهم فيسكتوا عنها و لا يقولوا شيئاً لها أو عليها و قد هاجر جماعة من المسلمين إلى الحبشة و قرأوا سورة مريم المكّيّة عليهم و فيها قصّة عيسى و نبوّته.

و أمّا قول من قال: إنّ السورة - يعني سورة الأنعام - إنّما نزلت في الاحتجاج على المشركين في توحيد الله سبحانه و عامّة الخطابات الواردة فيها متوجّهة إليهم فلا مسوّغ لإرجاع الضمير في قوله:( إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلى اليهود بل المتعيّن إرجاعه إلى مشركي العرب لأنّ الكلام في سياق الخبر عنهم، و لم يجر لليهود ذكر في هذه السورة فلا يجوز أن تصرف الآية عمّا يقتضيه سياقها من أوّلها إلى هذا الموضع بل إلى آخرها بغير حجّة من خبر صحيح أو عقل فالأرجح قراءة( يجعلونه) إلخ،

٢٨٧

بياء الغيبة على معنى أنّ اليهود يجعلونه فهو حكاية عنهم ذكرت في خطاب مشركي العرب.

و أمّا مشكلة أنّ المشركين ما كانوا يذعنون بكون التوراة كتاباً سماويّاً فكيف يحاجّون بها فقد أجاب عنه بعضهم: أنّ المشركين كانوا يعلمون أنّ اليهود أصحاب التوراة المنزلة على موسىعليه‌السلام فمن الممكن أن يحاجّوا من هذه الجهة.

ففيه: أنّ سياق السورة فيما تقدّم من الآيات و إن كان لمحاجّة المشركين لكن لا لأنّهم هم بأعيانهم فالبيان القرآنيّ لا يعتني بشخص أو أشخاص لأنفسهم بل لأنّهم يستكبرون عن الخضوع للحقّ و ينكرون اُصول الدعوة الّتي هي التوحيد و النبوّة و المعاد فالمنكرون لهذه الحقائق أو لبعضها هم المعنيّون بالاحتجاجات الموردة فيها فما المانع من أن يذكر فيها بعض هفوات اليهود لو استلزم إنكار النبوّة و نزول الكتاب لدخوله في غرض السورة، و وقوعه في صفّ هفوات المشركين في إنكار اُصول الدين الإلهيّ و إن كان القائل به من غير المشركين و عبدة الأصنام، و لعلّه ممّا لقّنوه بعض المشركين ابتغاءً للفتنة فقد ورد في بعض الآثار أنّ المشركين ربّما سألوهم عن حال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ربّما بعثوا إليهم الوفود لذلك.

على أنّ قوله:( وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ ) كما سيأتي لا يصحّ أن يخاطب به غير اليهود كما لا يصحّ أن يخاطب غير اليهود بقوله تعالى:( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى‏ نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ ) و القول بأنّ مشركي العرب كانوا يعلمون أنّ اليهود هم أصحاب توراة موسى غير مقنع قطعاً فإنّ العلم بأنّ اليهود أصحاب التوراة لا يصحّح الاحتجاج بنزول التوراة من عندالله سبحانه و خاصّة مع وصفها بأنّها نور و هدى للناس فالاعتقاد بالنزول من عندالله غير العلم بأنّ اليهود تدّعي ذلك و المصحّح للخطاب هو الأوّل دون الثاني.

و أمّا قراءة( يجعلونه) إلخ، فالوجه أن تحمل على الالتفات مع إبقاء الخطاب في قوله( مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى‏ ) ، و قوله:( وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ ) لليهود.

و قد حاول بعضهم دفع الإشكالات الواردة على جعل الخطاب في الآية للمشركين مع

٢٨٨

تصحيح القراءتين جميعاً فقال ما ملخّصه: إنّ الآية نزلت في ضمن السورة بمكّة كما قرأها ابن كثير و أبو عمرو - يجعلونه قراطيس بصيغة الغيبة - محتجّة على مشركي مكّة الّذين أنكروا الوحي استبعاداً لأن يخاطب الله البشر بشي‏ء، و قد اعترفوا بكتاب موسى و أرسلوا الوفد إلى أحبار اليهود مذعنين بأنّهم أهل الكتاب الأوّل العالمون بأخبار الأنبياء.

فهو تعالى يقول لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل لهؤلاء الّذين ما قدروا الله حقّ قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شي‏ء كقولهم: أ بعث الله بشراً رسولاً:( مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى‏ نُوراً ) انقشعت به ظلمات الكفر و الشرك الّذي ورثته بنو إسرائيل عن المصريّين( وَ هُدىً لِلنَّاسِ ) أي الّذين أنزل عليهم بما علّمهم من الأحكام و الشرائع الإلهيّة فكانوا على النور و الهدى إلى أن اختلفوا فيه و نسوا حظّاً ممّا ذكّروا به فصاروا باتّباع الأهواء( يجعلونه قراطيس يبدونها) فيما وافق( و يخفون كثيراً) ممّا لا يوافق أهواءهم.

قال: و الظاهر أنّ الآية كانت تقرأ هكذا بمكّة و كذا بالمدينة إلى أن أخفى أحبار اليهود حكم الرجم و كتموا بشارة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إلى أن قال بعضهم: ما أنزل الله على بشر من شي‏ء كما قال المشركون من قبلهم - إن صحّت الروايات بذلك - فعند ذلك كان غير مستبعد و لا مخلّ بالسياق أن يلقّن الله تعالى رسوله أن يقرأ هذه الجمل بالمدينة على مسمع اليهود و غيرهم بالخطاب لليهود فيقول:( تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً ) مع عدم نسخ القراءة الاُولى.

قال: و بهذا الاحتمال المؤيّد بما ذكر من الوقائع يتّجه تفسير القراءتين بغير تكلّف ما، و يزول كلّ إشكال عرض للمفسّرين في تفسيرهما، انتهى كلامه ملخّصاً.

و أنت خبير بأنّ إشكال خطاب المشركين بما لا يعترفون به باق على حاله و كذا إشكال خطاب غير اليهود بقوله:( وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ ) على ما أشرنا إليه، و كذا تخصيصه قوله تعالى:( نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ ) باليهود فقط و كذا قوله إنّ اليهود قالوا في المدينة:( ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) كرّ على ما فرّ منه.

على أنّ قوله: إنّ الله لقّن رسوله أن يقرأ الآية عليهم و يخاطبهم بقوله:( تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً ) ممّا لا دليل عليه فإن أراد بهذا التلقين وحياً جديداً

٢٨٩

بالخطاب كالوحي الأوّل بالغيبة كانت الآية نازلة مرّتين مرّة في ضمن السورة و هي إحدى آياته و مرّة في المدينة غير داخلة في آيات السورة و لا جزءً منها، و إن أراد بالتلقين غير الوحي بنزول جبرئيل بها لم تكن الآية آية و لا القراءة قراءة، و إن اُريد به أنّ الله فهّم رسوله نوعاً من التفهيم أنّ لفظ( تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ ) إلخ، النازل عليه في ضمن سورة الأنعام بمكّة يسع الخطاب و الغيبة جميعاً و أنّ القراءتين جميعاً صحيحتان مقصودتان كما ربّما يقوله من ينهي القراءات المختلفة إلى قراءة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو القراءة عليه و نحوهما ففيه الالتزام بورود جميع الإشكال السابقة كما هو ظاهر.

و اعلم أنّ هذه الأبحاث إنّما تتأتّى على تقدير كون الآية نازلة بمكّة، و أمّا على ما وقع في بعض الروايات من أنّ الآية نزلت بالمدينة فلا محلّ لأكثرها.

قوله تعالى: ( وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ ) المراد بهذا العلم الّذي علّموه و لم يكونوا يعلمونه هم و لا آباؤهم ليس هو العلم العاديّ بالنافع و الضارّ في الحياة ممّا جهّز الإنسان بالوسائل المؤدّية إليه من حسّ و خيال و عقل فإنّ الكلام واقع في سياق الاحتجاج مربوط به و لا رابطة بين حصول العلوم العاديّة للإنسان من الطرق المودعة فيه و بين المدّعى و هو أنّ من لوازم الاُلوهيّة أن تهدي الإنسان إلى سعادته و تنزل على بعض أفراده الوحي و الكتاب.

و ليس المراد بها أنّ الله أفاض عليكم العلم بأشياء ما كان لكم من أنفسكم أن تعلموا كما يفيده قوله تعالى:( وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ ) (النحل: ٧٨) و قوله:( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (العلق: ٥)، فإنّ السياق كما عرفت ينافي ذلك.

فالمراد بالآية تعليم ما ليس في وسع الإنسان بحسب الطرق المألوفة عنده الّتي جهّز بها أن ينال علمه، و ليس إلّا ما أوحاه الله سبحانه إلى أنبيائه و حملة وحيه بكتاب أو بغير كتاب من المعارف الإلهيّة و الأحكام و الشرائع فإنّها هي الّتي لا تسع الوسائل العاديّة الّتي عند عامّة الإنسان أن تنالها.

و من هنا يظهر أنّ المخاطبين بهذا الكلام أعني قوله:( وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا ) إلخ، ليسوا هم المشركين إذا لم يكن عندهم من معارف النبوّة و الشرائع الإلهيّة شي‏ء بيّن يعرفونه

٢٩٠

و يعترفون به و الّذي كانوا ورثوه من بقايا آثار النبوّة من أسلاف أجيالهم ما كانوا ليعترفوا به حتّى يصحّ الاحتجاج به عليهم من غير بيان كاف، و قد وصفهم الله بالجهل في أمثال قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ) (البقرة: ١١٨).

فالخطاب متوجّه إلى غير المشركين، و ليس بموجّه إلى المسلمين أمّا أوّلاً: فلأنّ السياق سياق الاحتجاج، و لو كان الخطاب متوجّهاً إليهم لكان اعتراضاً في سياق الاحتجاج من غير نكتة ظاهرة.

و أمّاً ثانياً: فلمّا فيه من تغيير مورد الخطاب، و العدول من خطاب المخاطبين بقوله:( مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) إلخ، إلى خطاب غيرهم بقوله:( وَ عُلِّمْتُمْ ) إلخ، من غير قرينة ظاهرة مع وقوع اللبس فالخطاب لغير المشركين و المسلمين و هم اليهود المخاطبون بصدر الآية.

فقد احتجّ الله سبحانه على اليهود القائلين:( ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) عناداً و ابتغاءً للفتنة من طريقين:

أحدهما: طريق المناقضة و هو أنّهم مؤمنون بالتوراة و أنّها كتاب جاء به موسىعليه‌السلام نوراً و هدى للناس و يناقضه قولهم:( ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ثمّ ذمّهم على تقطيعها بقطعات يظهرون بعضها و يخفون كثيراً.

و ثانيهما: أنّكم علّمتم ما لم يكن في وسعكم أن تعلموه أنتم من عند أنفسكم بالاكتساب و لا في وسع آبائكم أن يعلموه فيورّثوكم علمه و ذلك كالمعارف الإلهيّة و الأخلاق الفاضلة و الشرائع و القوانين الناظمة للاجتماع و المعدّلة له أحسن نظم و تعديل الحاسمة لأعراق الاختلافات البشريّة الاجتماعيّة فإنّها و خاصّة الموادّ التشريعيّة من بينها ليست ممّا ينال بالاكتساب، و الّتي تنال منها من طريق الاكتساب العقليّ كالمعارف الكلّيّة الإلهيّة من التوحيد و النبوّة و المعاد و الأخلاق الفاضلة في الجملة لا يكفي مجرّد ذلك في استقرارها في المجتمع الإنسانيّ، فمجرّد العلم بشي‏ء غير دخوله في مرحلة العمل و استقراره في المستوى العامّ الاجتماعيّ، فحبّ التمتّع من لذائذ المادّة و غريزة استخدام كلّ شي‏ء في طريق التوصّل إلى الاستعلاء على مشتهيات النفس و التسلّط التامّ على ما

٢٩١

تدعو إليه أهواؤها لا يدع مجالاً للإنسان يبحث فيه عن كنوز المعارف و الحقائق المدفونة في فطرته ثمّ يبني و يدوم عليها و في مسير حياته و خاصّة إذا استولت هذه المادّيّة على المجتمع و استقرّت في المستوى فإنّها تكون لهم ظرفاً يحصرهم في التمتّعات المادّيّة لا ينفذ في شي‏ء من أقطاره شي‏ء من الفضائل الإنسانيّة، و لا يزال ينسى فيه ما بقي من إثارة الفضائل المعنويّة الموروثة واحداً بعد واحد حتّى يعود مجتمعهم مجتمعاً حيوانيّاً ساذجاً كما نشاهده في الظروف الراقية اليوم أنّهم توغّلوا في المادّيّة و استسلموا للتمتّعات الحسّيّة فشغلهم ذلك في أوقاتهم بثوانيها و صرفهم عن الآخرة إلى الدنيا صرفاً سلبهم الاشتغال بالمعنويّات و منعهم أيّ تفكير في ما يسعدهم في حياتهم الحقيقيّة الخالدة.

و لم يضبط التاريخ فيما ضبطه من أخبار الاُمم و الملل رجلاً من رجال السياسة و الحكومة كان يدعو إلى فضائل الأخلاق الإنسانيّة و المعارف الطاهرة الإلهيّة، و طريق التقوى و العبوديّة بل أقصى ما كانت تدعو إليه الحكومات الفرديّة - الاستبداديّة - هو أن يتمهّد الأمر لبقاء سلطتها و استقامة الأمر لها، و غاية ما كانت تدعو إليه الحكومات الاجتماعيّة - الديمقراطيّة و ما يشابهها - أن ينظم أمر المجتمع على حسب ما يقترحه هوى أكثريّة الأفراد أيّاً مّا اقترحه فضيلة أو رذيلة وافق السعادة الحقيقيّة العقليّة أو خالفها غير أنّهم إذا خالفوا شيئاً من الفضائل المعنويّة و الكمالات و المقاصد العالية الإنسانيّة الّتي بقيت أسماؤها عندهم و ألجأتهم الفطرة إلى إعظامها و الاحترام لها كالعدل و العفّة و الصدق و حبّ الخير و نصح النوع الإنسانيّ و الرأفة بالضعيف و غير ذلك فسّروها بما يوافق جاري عملهم و الدائر من سنّتهم كما هو نصب أعيننا اليوم.

و بالجملة فالعقل الاجتماعيّ و الشعور المادّيّ الحاكم في المجتمعات ليس ممّا يوصل الإنسان إلى هذه المعارف الإلهيّة و الفضائل المعنويّة الّتي لا تزال المجتمعات الإنسانيّة على تنوّعها و تطوّرها تتضمّن أسماء كثيرة منها و احترام معانيها و أين الإخلاد إلى الأرض من الترفّع عن المادّة و المادّيّات؟.

فليست إلّا آثاراً و بقايا من الدعوة الدينيّة المنتهية إلى نهضات الأنبياء و مجاهداتهم في نشر كلمة الحقّ و بثّ دين التوحيد و هداية النوع الإنسانيّ إلى سعادته الحقيقيّة

٢٩٢

في حياته الدنيويّة و الاُخرويّة جميعاً فهي منتهية إلى تعليم إلهيّ من طريق الوحي و إنزال الكتب السماويّة.

فقوله تعالى:( وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ ) احتجاج على اليهود في ردّ قول القائل منهم:( ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) بأنّ عندكم من العلم النافع ما لم تنالوه من أنفسكم و لا ناله و لا ورّثه آباؤكم بل إنّما علمتم به من غير هذا الطريق و هو طريق إنزال الكتاب و الوحي من قبل الله على بعض البشر فقد أنزل الله على بعض البشر ما علّمه و هو المعارف الحقّة و شرائع الدين، و قد كان عند اليهود من هذا القبيل شي‏ء كثير ورثوه من أنبيائهم و بثّه فيهم كتاب موسى.

و قد ظهر ممّا تقدّم أنّ المراد بقوله:( وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا ) مطلق ما ينتهي من المعارف و الشرائع إلى الوحي و الكتاب لا خصوص ما جاء منه في كتاب موسىعليه‌السلام و إن كان الّذي منه عند اليهود هو معارف التوراة و شرائعه خلافاً لبعض المفسّرين. و ذلك أنّ لفظ الآية لا يلائم التخصيص فقد قيل:( وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا إلخ، و لم يقل و علمتم به أو و علّمكم الله به.

و قد قيل:( وَ عُلِّمْتُمْ ) إلخ، من غير فاعل التعليم لأنّ ذلك هو الأنسب بسياق الاستدلال لأنّ ذكر الفاعل في هذا السياق أشبه بالمصادرة بالمطلوب فكأنّه قيل: إنّ فيما عندكم علوماً لا ينتهي إلى اكتسابكم أو اكتساب آبائكم فمن الّذي علّمكم ذلك؟ ثمّ اُجيب عن مجموع السؤالين بقوله: الله عزّ اسمه.

قوله تعالى: ( قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) لمّا كان الجواب واضحاً بيّناً لا يداخله ريب، و الجواب الّذي هذا شأنه يسوغ للمستدلّ السائل أن يتكفّله و لا ينتظر المسؤل المحتجّ عليه، أمر تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتصدّى هو للجواب فقال:( قُلِ اللَّهُ ) أي الّذي أنزل الكتاب الّذي جاء به موسى و الّذي علّمكم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم هو الله.

و لمّا كان القول بأنّ الله لم ينزل على بشر شيئاً من لغو القول و هزله الّذي لا يتفوّه به إلّا خائض لاعب بالحقائق و خاصّة إذا كان القائل به من اليهود المعترفين بتوراة

٢٩٣

موسى و المباهين بالعلم و الكتاب أمره بأن يدعهم و شأنهم فقال:( ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَ مَنْ حَوْلَها ) لمّا نبّه على أنّ من لوازم الاُلوهيّة أن ينزل الوحي على جماعة من البشر هم الأنبياءعليهم‌السلام ، و أنّ هناك كتاباً حقّاً كالتوراة الّتي جاء بها موسى، و اُموراً اُخرى علّمها البشر لا تنتهي إلّا إلى وحي إلهيّ و تعليم غيبيّ، ذكر أنّ هذا القرآن أيضاً كتاب إلهيّ منزل من عنده على حدّ ما نزل سائر الكتب السماويّة، و من الدليل على ذلك اشتماله على ما هو شأن كتاب سماويّ نازل من عندالله سبحانه.

و من هنا يظهر أوّلاً: أنّ الغرض في المقام متعلّق بكون القرآن كتاباً نازلاً من عندالله تعالى دون من نزل عليه، و لذا قال: كتاب أنزلناه و لم يقل: أنزلناه إليك على خلاف موارد اُخر كقوله تعالى:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) (ص: ٢٩) و غيره.

و ثانياً: أنّ الأوصاف المذكورة للكتاب بقوله:( مُبارَكٌ مُصَدِّقُ ) إلخ، بمنزلة الأدلّة على كونه نازلاً من الله و ليست بأدلّة فمن أمارات أنّه منزل من عندالله أنّه مبارك أودع الله فيه البركة و الخير الكثير يهدي الناس للّتي هي أقوم، يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام، ينتفع به الناس في دنياهم باجتماع شملهم، و قوّة جمعهم، و وحدة كلمتهم، و زوال الشحّ من نفوسهم، و الضغائن من قلوبهم، و فشوّا الأمن و السلام، و رغد عيشهم، و طيب حياتهم و انجلاء الجهل و كلّ رذيلة عن ساحتهم، و استظلالهم بمظلّة سعادتهم، و ينتفعون به في اُخراهم بالأجر العظيم و النعيم المقيم.

و لو لم يكن من عندالله سواء كان مختلفاً من عند بشر كشبكة يغرّ بها الناس فيصطادون أو كان تزويقاً نفسانيّاً أو إلقاءً شيطانيّاً يخيّل إلى الّذي جاء به أنّه وحي سماويّ من عندالله و ليس من عنده لم تستقرّ فيه و لا ترتّب عليه هذه البركات الإلهيّة و الخير الكثير فإنّ سبيل الشرّ لا يهدي سالكه إلّا إلى الشرّ و لن ينتج فساد صلاحاً، و قد قال تعالى:( فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ) (النحل: ٣٧) و قال:( وَ اللَّهُ لا يَهْدِي

٢٩٤

الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) (الصف: ٥) و قال:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً ) (الأعراف: ٥٨).

و من أمارات أنّه حقّ أنّه مصدّق لما بين يديه من الكتب السماويّة الحقّة النازلة من عندالله.

و من أمارات ذلك أنّه يفي بالغرض الإلهيّ من خلقه و هو أن يهديهم إلى سعادة حياتهم في الدنيا و الآخرة بالإنذار بوسيلة الوحي المنزل من عنده، و هذا هو الّذي يدلّ عليه قوله:( وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَ مَنْ حَوْلَها ) فاُمّ القرى هي مكّة المشرّفة، و المراد أهلها بدليل قوله:( وَ مَنْ حَوْلَها ) و المراد بما حولها سائر بلاد الأرض الّتي يحيط بها أو الّتي تجاورها كما قيل، و الكلام يدلّ على عناية إلهيّة باُمّ القرى و هي الحرم الإلهيّ منه بدئ بالدعوة و انتشرت الكلمة.

و من هذا البيان يظهر: أنّ الأنسب بالسياق أن يكون قوله:( وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) و خاصّة على قراءة( لينذر) بصيغة الغيبة معطوفاً على قوله:( مُصَدِّقُ ) بما يشتمل عليه من معنى الغاية، و التقدير: ليصدّق ما بين يديه و لتنذر اُمّ القرى على ما ذكره الزمخشريّ، و قيل: إنّه معطوف على قوله:( مُبارَكٌ ) و التقدير: أنزلناه لتنذر اُمّ القرى و من حولها.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ ) إلخ، كأنّه تفريع لما عدّه الله سبحانه من أوصاف هذا الكتاب الّذي أنزله أي لمّا كان هذا الكتاب الّذي أنزلناه مباركاً و مصدّقاً لما بين يديه نازلاً لغاية إنذار أهل الأرض فالمؤمنون بالآخرة يؤمنون به لأنّه يدعو إلى أمن اُخرويّ دائم و يحذّرهم من عذاب خالد.

ثمّ عرّف تعالى هؤلاء المؤمنين بالآخرة بما هو من أخصّ صفات المؤمنين و هو أنّهم على صلاتهم و هي عبادتهم الّتي يذكرون فيها ربّهم يحافظون، و هذه هي الصفة الّتي ختم الله به صفات المؤمنين الّتي وصفهم بها في أوّل سورة المؤمنين إذ قال:( الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ ) (المؤمنون: ٩) كما بدأ بمعناها في أوّلها فقال:( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (المؤمنون: ٢).

٢٩٥

و هذا هو الّذي يؤيّد أنّ المراد بالمحافظة في هذه الآية هو الخشوع في الصلاة و هو نحو تذلّل و تأثّر باطنيّ عن العظمة الإلهيّة عند الانتصاب في مقام العبوديّة لكنّ المعروف من تفسيره أنّ المراد بالمحافظة على الصلاة المحافظة على وقتها.

( كلام في معنى البركة في القرآن)

ذكر الراغب في المفردات: أنّ أصل البرك - بفتح الباء - صدر البعير و إن استعمل في غيره و يقال له بركة - بكسر الباء - و برك البعير ألقى ركبه، و اعتبر منه معنى الملزوم فقيل: ابتركوا في الحرب أي ثبتوا و لازموا موضع الحرب، و براكاء الحرب و بروكاؤها للمكان الّذي يلزمه الأبطال، و ابتركت الدابّة وقفت وقوفاً كالبروك، و سمّي محبس الماء بركة، و البركة ثبوت الخير الإلهيّ في الشي‏ء، قال تعالى:( لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) ، و سمّي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، و المبارك ما فيه ذلك الخير، على ذلك:( هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ ) .

قال: و لمّا كان الخير الإلهيّ يصدر من حيث لا يحسّ و على وجه لا يحصى و لا يحصر قيل لكلّ ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك و فيه بركة، و إلى هذه الزيادة اُشير بما روي: أنّه لا ينقص مال من صدقة، لا إلى النقصان المحسوس حسب ما قال بعض الخاسرين حيث قيل له ذلك فقال: بيني و بينك الميزان. ثمّ ذكر: أنّ المراد بتباركه تعالى اختصاصه بالخيرات، انتهى.

فالبركة بالحقيقة هي الخير المستقرّ في الشي‏ء اللّازم له كالبركة في النسل و هي كثرة الأعقاب أو بقاء الذكر بهم خالداً، و البركة في الطعام أن يشبع به خلق كثير مثلاً، و البركة في الوقت أن يسع من العمل ما ليس في سعة مثله أن يسعه.

غير أنّ المقاصد و المآرب الدينيّة لمّا كانت مقصورة في السعادات المعنويّة أو الحسّيّة الّتي تنتهي إليها بالأخرة كان المراد بالبركة الواقعة في الظواهر الّتي فيها هو الخير المعنويّ أو ينتهي إليه كما أنّ مباركته تعالى الواقعة في قول الملائكة النازلين على

٢٩٦

إبراهيمعليه‌السلام :( رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (هود: ٧٣) خيرات متنوّعة معنويّة كالدين و القرب و غيرهما و حسّيّة كالمال و كثرة النسل و بقاء الذكر و غيرها و جميعها مربوطة بخيرات معنويّة.

و على هذا فالبركة أعني كون الشي‏ء مشتملاً على الخير المطلوب كالأمر النسبيّ يختلف باختلاف الأغراض لأنّ خيريّة الشي‏ء إنّما هي بحسب الغرض المتعلّق به فالغرض من الطعام ربّما كان إشباعه الجائع أو أن لا يضرّ آكله أو أن يؤدّي إلى شفاء و استقامة مزاج أو يكون نوراً في الباطن يتقوّى به الإنسان على عبادة الله و نحو ذلك كانت البركة فيه استقرار شي‏ء من هذه الخيرات فيه بتوفيق الله تعالى بين الأسباب و العوامل المتعلّقة به و رفعه الموانع.

و من هنا يظهر أنّ نزول البركة الإلهيّة على شي‏ء و استقرار الخير فيه لا ينافي عمل سائر العوامل فيه و اجتماع الأسباب عليه فليس معنى إرادة الله صفة أو حالة في شي‏ء أن يبطل سائر الأسباب و العلل المقتضية له - و قد مرّ كراراً في أبحاثنا السابقة - فإنّما الإرادة الإلهيّة سبب في طول الأسباب الاُخر لا في عرضها. فإنزاله تعالى بركته على طعام مثلاً هو أن يوفّق بين الأسباب المختلفة الموجودة في أن لا تقتضي في الإنسان كيفيّة مزاجيّة يضرّه معها هذا الطعام، و أن لا تقتضي فساده أو ضيعته أو سرقته أو نهبه أو نحو ذلك، و ليس معناه أن يبطل الله سائر الأسباب و يتكفّل هو تعالى إيجاد الخير فيها من غير توسيطها فافهم ذلك.

و البركة كثيرة الدور في لسان الدين فقد ورد في الكتاب العزيز ذكرها في آيات كثيرة بألفاظ مختلفة و كذا ورودها في السنّة، و قد تكرّر ذكر البركة أيضاً في العهدين في موارد كثيرة يذكر فيها إعطاء الله سبحانه البركة للنبيّ الفلانيّ أو إعطاء الكهنة البركة لغيرهم و قد كان أخذ البركة في العهد القديم كالسنّة الجارية.

و قد ظهر ممّا تقدّم بطلان زعم المنكرين لوجود البركة كما نقلناه عن الراغب فيما تقدّم من عبارته فقد زعموا أنّ عمل الأسباب الطبيعيّة في الأشياء لا يدع مجالاً لسبب آخر يعمل فيه أو يبطل أثرها و قد ذهب عنهم أنّ تأثيره تعالى في الأشياء في طول سائر

٢٩٧

الأسباب لا في عرضها حتّى يؤل الأمر إلى تزاحم أو إبطال و نحوهما.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً - إلى قوله -ما أَنْزَلَ اللَّهُ ) عدّ الله سبحانه موارد ثلاثة من الظلم هي من أشدّ مراتبه الّتي لا يرتاب العقل العاديّ في شناعتها و فظاعتها، و لذا أوردها في سياق السؤال.

و الغرض من ذلك الدعوة إلى النزول على حكم العقل السليم و الأخذ بالنصفة و خفض الجناح لصريح الحقّ فكأنّه يقول: قل لهم: يجب عليّ و عليكم أن لا نستكبر عن الحقّ و لا نستعلي على الله تعالى بارتكاب ما هو من أشدّ الظلم و أشنعه و هو الظلم في جنب الله فكيف يصحّ لكم أن تفتروا على الله كذباً و تدعوا له شركاء تتّخذونها شفعاء؟ و كيف يسوغ لي أن أدّعي النبوّة و أقول: اُوحي إليّ إن كنت لست بنبيّ يوحى إليه؟ و كيف يجوز لقائل أن يقول: ساُنزل مثل ما أنزل الله، فيسخر بحكم الله و يستهزأ بآياته؟.

و نتيجة هذه الدعوة أن ينقادوا لحكم النبوّة فإنّهم إذا اجتنبوا الافتراء على الله بالشرك، و كفّ القائل( سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ) عن مقاله و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصرّ على الوحي بقيت نبوّته بلا معارض.

و افتراء الكذب على الله سبحانه و هو أوّل المظالم المعدودة و إن كان أعمّ بالنسبة إلى دعوى الوحي إذا لم يوح إليه و هو ثاني المظالم المعدودة، و لذا قيل: إنّ ذكر الثاني بعد الأوّل من باب ذكر الخاصّ بعد العامّ اعتناءً بشأن الوحي و إعظاماً لأمره، لكنّ التأمّل في سياق الكلام و وجهه إلى المشركين يعطي أنّ المراد بالافتراء المذكور هو اتّخاذ الشريك لله سبحانه، و إنّما لم يصرّح بذلك ليرتفع به غائلة ذكر الخاصّ بعد العامّ لأنّ الغرض في المقام - كما تقدّم - هو الدعوة إلى الأخذ بالنصفة و التجافي عن عصبيّة الجاهليّة فلم يصرّح بالمقصود و إنّما أبهم إبهاماً لئلّا يتحرّك بذلك عرق العصبيّة و لا يتنبّه داعي النخوة.

فقوله:( مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً ) و قوله:( أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ ) متبائنان من حيث المراد و إن كانا بحسب ظاهر ما يتراءى منهما أعمّ و أخصّ.

و يدلّ على ما ذكرنا ما في ذيل الآية من حديث التهديد بالعذاب و السؤال عن

٢٩٨

الشركاء و الشفعاء.

و أمّا ما قيل: إنّ قوله:( أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‏ءٌ ) نزل في مسيلمة حيث ادّعى النبوّة فسياق الآيات كما عرفت لا يلائمه بل ظاهره أنّ المراد به نفسه و إن كان الكلام مع الغضّ عن ذلك أعمّ.

على أنّ سورة الأنعام مكّيّة و دعواه النبوّة من الحوادث الّتي وقعت بعد الهجرة إلّا أنّ هؤلاء يرون أنّ الآية مدنيّة غير مكّيّة و سيأتي الكلام في ذلك في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله.

و أمّا قوله:( وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ) فظاهره أنّه حكاية قول واقع، و أنّ هناك من قال: ساُنزل مثل ما أنزل الله، و أنّه إنّما قاله استهزاءً بالقرآن الكريم حيث نسبه إلى الله سبحانه بالنزول ثمّ وعد الناس مثله بالإنزال، و لم يقل: سأقول مثل ما قاله محمّد أو سآتيكم بمثل ما أتاكم به.

و لذا ذكر بعض المفسّرين أنّه إشارة إلى قول من قال من المشركين:( لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

و قال آخرون: إنّ الآية إشارة إلى قول عبدالله بن سعد بن أبي سرح: إنّي اُنزل مثل ما أنزل الله و الآية مدنيّة، و منهم من قال غير ذلك كما سيجي‏ء إن شاء الله في البحث الروائيّ، و الآية ليست ظاهرة الانطباق على شي‏ء من ذلك فإنّها تتضمّن الوعد بأمر مستقبل، و قولهم: لو نشاء لقلنا إلخ كلام مشروط و كذا قول عبدالله - إن صحّت الرواية - إخبار عن أمر حاليّ جار واقع.

و كيف كان فقوله:( وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ) يحكي قولاً قاله بعض المشركين من العرب استكباراً على آيات الله، و إنّما كرّر فيه الموصول أعني قوله:( مَنْ ) و لم يتكرّر في قوله:( أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ ) إلخ لأنّ المظالم المعدودة و إن كانت ثلاثة لكنّها من نظرة اُخرى قسمان فالأوّل و الثاني من الظلم في جنب الله في صورة الخضوع لجانبه و الانقياد لأمره، و الثالث من الظلم في صورة الاستعلاء عليه و الاستكبار عن آياته.

٢٩٩

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ ) إلى آخر الآية، الغمر أصله ستر الشي‏ء و إزالة أثره و لذا يطلق الغمرة على الماء الكثير الساتر لما تحته، و على الجهل المطبق، و على الشدّة الّتي تحيط بصاحبها و الغمرات الشدائد، و منه قوله تعالى:( فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ ) ، و الهون و الهوان الذلّة.

و بسط اليد معناه واضح غير أنّ المراد به معنى كنائيّ، و يختلف باختلاف الموارد فبسط الغنيّ يده جوده بماله و إحسانه لمن يستحقّه، و بسط الملك يده إدارته اُمور مملكته من غير أن يزاحمه مزاحم و بسط المأمور الغليظ الشديد يده على المجرم المأخوذ به هو نكاله و إيذاؤه بضرب و زجر و نحوه.

فبسط الملائكة أيديهم هو شروعهم بتعذيب الظالمين، و ظاهر السياق أنّ الّذي تفعله الملائكة بهؤلاء الظالمين هو الّذي يترجم عنه قوله:( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ) إلخ، فهذه الجمل محكيّة عن الملائكة لا من قول الله سبحانه، و التقدير: يقول الملائكة لهم أخرجوا أنفسكم إلخ فهم يعذّبونهم بقبض أرواحهم قبضاً يذوقون به أليم العذاب و هذا عذابهم حين الموت و لمّا ينتقلوا من الدنيا إلى ما وراءها و لهم عذاب بعد ذلك و لمّا تقم عليهم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (المؤمنون: ١٠٠).

و بذلك يظهر أنّ المراد باليوم في قوله:( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ) هو يوم الموت الّذي يجزون فيه العذاب و هو البرزخ كما ظهر أنّ المراد بالظالمين هم المرتكبون لبعض المظالم الثلاثة الّتي عدّها الله سبحانه من أشدّ الظلم أعني افتراء الكذب على الله، و دعوى النبوّة كذباً و الاستهزاء بآيات الله.

و يؤيّد ذلك ما ذكره الله من أسباب عذابهم من الذنوب و هو قولهم على الله غير الحقّ كما هو شأن المفتري الكذب على الله بنسبة الشريك إليه أو بنسبة حكم تشريعيّ أو وحي كاذب إليه، و استكبارهم عن آيات الله كما هو شأن من كان يقول:( سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ) .

و كذلك قوله:( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ) أمر تكوينيّ لأنّ الموت و الوفاة ليس في

٣٠٠