الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 80685
تحميل: 6069


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80685 / تحميل: 6069
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قدرة الإنسان كالحياة حتّى يؤمر بذلك قال تعالى:( وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا ) (النجم: ٤٤) فالأمر تكوينيّ و الملائكة من أسبابه، و الكلمة مصوغة صوغ الاستعارة بالكناية و الاستعارة التخييليّة كأنّ النفس الإنسانيّة أمر داخل في البدن و به حياته و بخروجه عن البدن طروّ الموت و ذلك أنّ كلامه تعالى ظاهر في أنّ النفس ليست من جنس البدن و لا من سنخ الاُمور المادّيّة الجسمانيّة و إنّما لها سنخ آخر من الوجود يتّحد مع البدن و يتعلّق به نوعاً من الاتّحاد و التعلّق غير مادّيّ كما تقدّم بيانه في بحث علميّ في الجزء الأوّل من الكتاب و سيأتي في مواضع تناسبه إن شاء الله. فالمراد بقوله:( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ) قطع علقة أنفسهم من أبدانهم و هو الموت، و القول قول الملائكة على ما يعطيه السياق.

و المعنى: و ليتك ترى حين يقع هؤلاء الظالمون المذكورون في شدائد الموت و سكراته و الملائكة آخذون في تعذيبهم بالقبض الشديد العنيف لأرواحهم و إنبائهم بأنّهم واقعون في عالم الموت معذّبون فيه بعذاب الهون و الذلّة جزاء لقولهم على الله غير الحقّ و لاستكبارهم عن آياته.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى‏ كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) إلى آخر الآية الفرادى جمع فرد و هو الّذي انفصل عن اختلاط غيره نوعاً من الاختلاط و يقابله الزوج و هو الّذي يختلط بغيره بنحو و يقرب منهما بحسب المعنى الوتر و الشفع فالوتر ما لم ينضمّ إلى غيره و الشفع ما انضمّ إلى غيره، و التخويل إعطاء الخول أي المال و نحوه الّذي يقوم الإنسان به بالتدبير و التصرّف.

و المراد بالشفعاء الأرباب المعبودون من دون الله ليكونوا شفعاء عندالله فعادوا بذلك شركاء لله سبحانه في خلقه، و الآية تنبئ عن حقيقة الحياة الإنسانيّة الّتي ستظهر له حينما يقدم على ربّه بالتوفّي فيشاهد حقيقة أمر نفسه و أنّه مدبّر بالتدبير الإلهيّ لا غير كما كان كذلك في أوّل مرّة كوّنته الخلقة، و أنّ المزاعم الّتي انضمّت إلى حياته من التكثّر بالأسباب و الاعتضاد و الانتصار بالأموال و الأولاد و الأزواج و العشائر و الجموع، و كذا الاستشفاع بالأرباب من دون الله المؤدّي إلى الإشراك كلّ ذلك مزاعم و أفكار

٣٠١

باطلة لا أثر لها في ساحة التكوين أصلاً.

فالإنسان جزء من أجزاء الكون واقع تحت التدبير الإلهيّ متوجّه إلى الغاية الّتي غيّاها الله سبحانه له كسائر أجزاء الكون، و لا حكومة لشي‏ء من الأشياء في التدبير و التسيير الإلهيّ إلّا أنّها أسباب و علل ينتهي تأثيرها إليه تعالى من غير أن تستقلّ بشي‏ء من التأثير.

غير أنّ الإنسان إذا ركّبته يد الخلقة و أوجدته فوقع نظره إلى زينة الحياة و الأسباب و الشفعاء الظاهرة و جذبته لذائذ الحياة تعلّقت نفسه بها و دعته ذلك إلى التمسّك بذيل الأسباب و الخضوع لها، و ألهاه ذلك عن توجيه وجهه إلى مسبّب الأسباب و فاطرها و الّذي إليه الأمر كلّه فأعطاها الاستقلال في السببيّة لا هم له إلّا أن ينال لذائذ هذه الحياة المادّيّة بالخضوع للأسباب فصار يلعب طول الحياة الدنيا بهذه المزاعم و الأوهام الّتي أوقعته فيها نفسه المتلهيّة بلذائذ الحياة المادّيّة، و استوعب حياته اللعب بالباطل و التلهّي به عن الحقّ كما قال تعالى:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ ) (العنكبوت: ٦٤).

فهذا هو الّذي يسوق إليه تعليم القرآن حيث يذكر أنّ الإنسان إذا خرج عن زيّ العبوديّة نسي ربّه فأدّاه ذلك إلى نسيان نفسه قال تعالى:( نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (الحشر: ١٩).

لكن الإنسان إذا فارقت نفسه البدن بحلول الموت بطل ارتباطه بجميع الأسباب و العلل و المعدّات المادّيّة الّتي كانت ترتبط بها من جهة البدن و تتّصل بها في هذه النشأة الدنيويّة و شاهد عند ذلك بطلان استقلالها و اندكاك عظمتها و تأثيرها فوقعت عين بصيرته على أنّ أمره أوّلاً و آخراً إلى ربّه لا غير و أن لا ربّ له سواه و لا مؤثّر في شأنه دونه.

فقوله تعالى:( وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى‏ كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) إشارة إلى حقيقة الأمر، و قوله:( وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ ) إلخ، بيان لبطلان الأسباب الملهية له عن ربّه المتخلّلة بين أوّل خلقه و بين يوم يقبض فيه إلى ربّه، و قوله:( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) بيان لسبب انقطاعه من الأسباب و سقوطها عن

٣٠٢

الاستقلال و التأثير، و أنّ السبب في ذلك انكشاف بطلان المزاعم الّتي كان الإنسان يلعب بها طول حياته الدنيا.

فيتبيّن بذلك أن ليس لهذه الأسباب و الضمائم في الإنسان من النصيب إلّا أوهام و مزاعم يتلهّى و يلعب بها الإنسان.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى) إلى آخر الآية. الفلق هو الشقّ. لمّا انتهى الكلام في الآية السابقة إلى نفي استقلال الأسباب في تأثيرها، و بطلان كون أربابهم شفعاء من دون الله المؤدّي إلى كونهم شركاء لله صرف الكلام إلى بيان أنّ هذه الّتي يشتغل بها الإنسان عن ربّه ليست إلّا مخلوقات لله مدبّرة بتدبيره، و لا تؤثّر أثراً و لا تعمل عملاً في إصلاح حياة الإنسان و سوقه إلى غايات خلقته إلّا بتقدير من الله و تدبير يدبّره هو لا غير فهو تعالى الربّ دون غيره.

فالله سبحانه هو يشقّ الحبّ و النوى فينبت منهما النبات و الشجر اللّذين يرتزق الناس من حبّه و ثمره، و هو يخرج الحيّ من الميّت و الميّت من الحيّ - و قد مرّ تفسير ذلك في الكلام على الآية ٢٧ من سورة آل عمران - ذلكم الله لا غير فأنّى تؤفكون و إلى متى تصرفون من الحقّ إلى الباطل.

قوله تعالى: ( فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً ) إلى آخر الآية. الإصباح بكسر الهمزة هو الصبح و هو في الأصل مصدر، و السكن ما يسكن إليه، و الحسبان جمع حساب، و قيل: هو مصدر حسب حساباً و حسباناً. و قوله:( وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً ) عطف على قوله:( فالِقُ الْإِصْباحِ ) و لا ضير في عطف الجملة الفعليّة على الاسميّة إذا اشتملت على معنى الفعل و قرئ:( و جاعل) .

و في فلق الصبح و جعل الليل سكناً يسكن فيه المتحرّكات عن حركاتها لتجديد القوى و دفع ما عرض لها من التعب و العيّ و الكلال من جهة حركاتها طول النهار، و جعل الشمس و القمر بما يظهر من الليل و النهار و الشهور و السنين من حركاتهما في ظاهر الحسّ حسباناً تقدير عجيب للحركات في هذه النشأة المتغيّرة المتحوّلة ينتظم بذلك نظام المعاش الإنسانيّ و يستقيم به أمر حياته، و لذلك ذيّلها بقوله:( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) فهو

٣٠٣

العزيز الّذي لا يقهره قاهر فيفسد عليه شيئاً من تدبيره، و العليم الّذي لا يجهل بشي‏ء من مصالح مملكته حتّى ينظمه نظماً ربّما يفسد من نفسه و لا يدوم بطبعه.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها) إلى آخر الآية. المعنى واضح و المراد بتفصيل الآيات إمّا تفصيلها بحسب الجعل التكوينيّ أو تفصيلها بحسب البيان اللفظيّ.

و لا تنافي بين إرادة مصالح الإنسان في حياته و عيشته في هذه النشأة ممّا يتراءى لظاهر الحسّ من حركات هذه الأجرام العظيمة العلويّة و الكرات المتجاذبة السماويّة، و بين كون كلّ من هذه الأجرام مراداً بإرادة إلهيّة مستقلّة و مخلوقة بمشيّة تتعلّق بنفسه و تخصّ شخصه فإنّ الجهات مختلفة، و تحقّق بعض هذه الجهات لا يدفع تحقّق بعض آخر و الارتباط و الاتّصال حاكم على جميع أجزاء العالم.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ ) إلى آخر الآية، قرئ( فَمُسْتَقَرٌّ ) بفتح القاف و كسرها و هو على القراءة الاُولى اسم مكان بمعنى محلّ الاستقرار فيكون( مُسْتَوْدَعٌ ) أيضاً اسم مكان بمعنى محلّ الاستيداع و هو المكان الّذي توضع فيه الوديعة. و قد وقع ذكر المستقرّ و المستودع في قوله تعالى:( وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) هود: ٦ و في الكلام حذف و إيجاز، و التقدير: فمنكم من هو في مستقرّ و منكم من هو في مستودع، و على القراءة الثانية و هي الرجحى( فَمُسْتَقَرٌّ ) اسم فاعل و يكون المستودع اسم مفعول لا محالة، و التقدير فمنكم مستقرّ و منكم مستودع لم يستقرّ بعد.

و الظاهر أنّ المراد بقوله:( وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) انتهاء الذرّيّة الإنسانيّة على كثرتها و انتشارها إلى آدم الّذي يعدّه القرآن الكريم مبدءً للنسل الإنسانيّ الموجود، و أنّ المراد بالمستقرّ هو البعض الّذي تلبّس بالولادة من أفراد الإنسان فاستقرّ في الأرض الّتي هي المستقرّ لهذا النوع كما قال تعالى:( وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ) (البقرة: ٣٦) و المراد بالمستودع من استودع في الأصلاب و الأرحام و لم يولد بعد و سيولد بعد حين فهذا هو المناسب لمقام بيان الآية بإنشاء جميع الأفراد النوعيّة من فرد واحد

٣٠٤

و من الممكن أن يؤخذ مستقرّ و مستودع مصدرين ميميّين.

و قد عبّر بلفظ الإنشاء دون الخلق و نحوه و هو ظاهر في الدفعة و ما في حكمه دون التدريج، و يؤيّد هذا المعنى أيضاً ما تقدّم من قوله تعالى:( وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها ) كما لا يخفى أي يعلم ما استقرّ منها في الأرض بفعليّة التكوّن، و ما هو في طريق التكوّن ممّا لم يتكوّن بالفعل و لم يستقرّ في الأرض.

فالمعنى: و هو الّذي أوجدكم معشر الأناسيّ من نفس واحدة و عمّر بكم الأرض إلى حين فهي مشغولة بكم ما لم تنقرضوا فلا يزال بعضكم مستقرّاً فيها و بعضكم مستودع في الأصلاب و الأرحام أو في الأصلاب فقط في طريق الاستقرار فيها.

و قد أورد المفسّرون في الآية معاني اُخر كقول بعضهم: إنّ المراد من إنشائهم من نفس واحدة خلقهم من نوع واحد من النفس و هو النفس الإنسانيّة، أو أنّ المراد هو الإنشاء من نوع واحد من التركيب النفسيّ و البدنيّ، و هو الحقيقة الإنسانيّة المؤلّفة من نفس و بدن إنسانيّين.

و كقول بعضهم: إنّ المراد بالمستقرّ الأرحام و بالمستودع الأصلاب و قول بعض آخر: إنّ المستقرّ الأرض و المستودع القبر، و قول بعض آخر: إنّ المستقرّ هو الرحم و المستودع الأرض أو القبر، و قول بعض آخر: إنّ المستقرّ هو الروح و المستودع هو البدن، إلى غير ذلك من أقاويلهم الّتي لا كثير جدوى في التعرّض لها.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) إلى آخر الآية. السماء هي جهة العلو فكلّما علاك و أظلّك فهو سماء، و المراد بقوله:( فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) على ما قيل، فأخرجنا بالماء الّذي أنزلناه من السماء النبات و النموّ الّذي في كلّ شي‏ء نام له قوّة النبات من الكمون إلى البروز، أي أنبتنا به كلّ شي‏ء نباتي كالنجم و الشجر و الإنسان و سائر الحيوان.

و الخضر هو الأخضر و كأنّه مخفّف الخاضر، و تراكب الحبّ انعقاد بعضه فوق بعض كما في السنبلة، و الطلع أوّل ما يبدو من ثمر النخل، و القنوان جمع قنو و هو العذق

٣٠٥

بالكسر و هو من التمر كالعنقود من العنب، و الدانية أي القريبة، و المشتبه و غير المتشابه المشاكل و غير المشاكل في النوع و الشكل و غيرهما. و ينع الثمر نضجه.

و قد ذكر الله سبحانه اُموراً ممّا خلقه لينظر فيها من له نظر و بصيرة فيهتدي بالنظر فيها إلى توحيده، و هي اُمور أرضيّة كفلق الحبّة و النواة و نحو ذلك، و اُمور سماويّة كالليل و الصبح و الشمس و القمر و النجوم، و أمر راجع إلى الإنسان نفسه و هو إنشاء نوعه من نفس واحدة فمستقرّ و مستودع، و اُمور مؤلّفة من الجميع كإنزال المطر من السماء و تهيئة الغذاء من نبات و حبّ و ثمر و إنبات ما فيه قوّة النموّ كالنبات و الحيوان و الإنسان من ذلك.

و قد عدّ النجوم آية خاصّة بقوم يعلمون، و إنشاء النفوس الإنسانيّة آية خاصّة بقوم يفقهون، و تدبير نظام الإنبات آية لقوم يؤمنون و المناسبة ظاهرة فإنّ النظر في أمر النظام أمر بسيط لا يفتقر إلى مؤنة زائدة بل يناله الفهم العاديّ بشرط أن يتنوّر بنصفة الإيمان و لا يتلطّخ بقذارة العناد و اللجاج، و أمّا النظر في النجوم و الأوضاع السماويّة فممّا لا يتخطّى العلماء بهذا الشأن ممّن يعرف النجوم و مواقعها و سائر الأوضاع السماويّة إلى حدّ ما و لا يناله الفهم العامّ العامّيّ إلّا بمؤنة: و أمّا آية الأنفس فإن الاطّلاع عليها و على ما عندها من أسرار الخلقة يحتاج مضافاً إلى البحث النظريّ إلى مراقبة باطنيّة و تعمّق شديد و تثبّت بالغ و هو الفقه.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ ) إلى آخر الآية. الجنّ إمّا مفعول لجعلوا و مفعوله الآخر شركاء أو بدل من شركاء، و قوله:( وَ خَلَقَهُمْ ) كأنّه حال و إن منعه بعض النحاة و حجّتهم غير واضحة. و كيف كان فالكلمة في مقام ردّهم، و المعنى و جعلوا له شركاء الجنّ و هو خلقهم و المخلوق لا يجوز أن يشارك خالقه في مقامه.

و المراد بالجنّ الشياطين كما ينسب إلى المجوس القول بأهرمن و يزدان و نظيره ما عليه اليزيديّة الّذين يقولون باُلوهيّة إبليس (الملك طاووس شاه پريان) أو الجنّ المعروف بناءً على ما نسب إلى قريش أنّهم كانوا يقولون: إنّ الله قد صاهر الجنّ فحدث بينهما الملائكة، و هذا أنسب بسياق قوله:( وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ

٣٠٦

بِغَيْرِ عِلْمٍ ) و على هذا فالبنون و البنات هم جميعاً من الملائكة خرقوهم أي اختلقوهم و نسبوهم إليه افتراء عليه سبحانه و تعالى عمّا يشركون.

و لو كان المراد من هو أعمّ من الملائكة لم يبعد أن يكون المراد بهم ما يوجد في سائر الملل غير الإسلام فالبرهمنيّة و البوذيّة يقولون بنظير ما قالته النصارى من بنوّة المسيح كما تقدّم في الجزء الثالث من الكتاب، و سائر الوثنيّين القدماء كانوا يثبتون لله سبحانه بنين و بنات من الآلهة على ما يدلّ عليه الآثار المكتشفة، و مشركو العرب كانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات الله.

قوله تعالى: ( بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلى آخر الآية. جواب عن قولهم بالبنين و البنات، و محصّله أن لا سبيل لتحقّق حقيقة الولد إلّا اتّخاذ الصاحبة و لم يكن له تعالى صاحبة فأنّى يكون له ولد؟.

و أيضاً هو تعالى الخالق لكلّ شي‏ء و فاطره، و الولد هو الجزء من الشي‏ء يربّيه بنوع من اللقاح و جزء الشي‏ء و المماثل له لا يكون مخلوقاً له البتّة، و يجمع الجميع أنّه تعالى بديع السماوات و الأرض الّذي لا يماثله شي‏ء من أجزائها بوجه من الوجوه فكيف يكون له صاحبة يتزوّج بها أو بنون و بنات يماثلونه في النوع فهذا أمر يخبر به الله الّذي لا سبيل للجهل إليه فهو بكلّ شي‏ء عليم، و قد تقدّم في الكلام على قوله تعالى:( ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ ) الخ: (آل عمران: ٧٩) في الجزء الثالث من الكتاب ما ينفع في المقام.

قوله تعالى: ( ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) إلى آخر الآيتين الجملة الاُولى أعني قوله:( ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ) نتيجة متّخذة من البيان المورد في الآيات السابقة، و المعنى: إذا كان الأمر على ما ذكر فالله الّذي وصفناه هو ربّكم لا غير، و قوله:( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) كالتصريح بالتوحيد الضمنيّ الّذي تشتمل عليه الجملة السابقة، و هو مع ذلك يفيد معنى التعليل أي هو الربّ ليس دونه ربّ لأنّه الله الّذي ليس دونه إله و كيف يكون غيره ربّاً و ليس بإله.

و قوله:( خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) تعليل لقوله:( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) أي إنّما انحصرت الاُلوهيّة

٣٠٧

فيه لأنّه خالق كلّ شي‏ء من غير استثناء فلا خالق غيره لشي‏ء من الأشياء حتّى يشاركه في الاُلوهيّة، و كلّ شي‏ء مخلوق له خاضع له بالعبوديّة فلا يعادله فيها.

و قوله:( فَاعْبُدُوهُ ) متفرّع كالنتيجة على قوله:( ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ) أي إذا كان الله سبحانه هو ربّكم لا غير فاعبدوه، و قوله:( وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ ) أي هو القائم على كلّ شي‏ء المدبّر لأمره الناظم نظام وجوده و حياته و إذا كان كذلك كان من الواجب أن يتّقى فلا يتّخذ له شريك بغير علم فالجملة كالتأكيد لقوله:( فَاعْبُدُوهُ ) أي لا تستنكفوا عن عبادته لأنّه وكيل عليكم غير غافل عن نظام أعمالكم.

و أمّا قوله:( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) فهو لدفع الدخل الّذي يوهمه قوله:( وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ ) بحسب ما تتلقّاه أفهام المشركين الساذجة و الخطاب معهم، و هو أنّه إذا صار وكيلاً عليهم كان أمراً جسمانيّاً كسائر الجسمانيّات الّتي تتصدّى الأعمال الجسمانيّة فدفعه بأنّه تعالى لا تدركه الأبصار لتعاليه عن الجسميّة و لوازمها، و قوله:( وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ) دفع لما يسبق إلى أذهان هؤلاء المشركين الّذين اعتادوا بالتفكّر المادّيّ، و أخلدوا إلى الحسّ و المحسوس و هو أنّه تعالى إذا ارتفع عن تعلّق الأبصار به خرج عن حيطة الحسّ و المحسوس و بطل نوع الاتّصال الوجوديّ الّذي هو مناط الشعور و العلم، و انقطع عن مخلوقاته فلا يعلم بشي‏ء كما لا يعلم به شي‏ء، و لا يبصر شيئاً كما لا يبصره شي‏ء فأجاب تعالى عنه بقوله:( وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ) ثمّ علّل هذه الدعوى بقوله:( وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) و اللطيف هو الرقيق النافذ في الشي‏ء، و الخبير من له الخبرة، فإذا كان تعالى محيطاً بكلّ شي‏ء بحقيقة معنى الإحاطة كان شاهداً على كلّ شي‏ء لا يفقده ظاهر شي‏ء من الأشياء و لا باطنه، و هو مع ذلك ذو علم و خبرة كان عالماً بظواهر الأشياء و بواطنها من غير أن يشغله شي‏ء عن شي‏ء أو يحتجب عنه شي‏ء بشي‏ء فهو تعالى يدرك البصر و المبصر معاً، و البصر لا يدرك إلّا المبصر.

و قد نسب إدراكه إلى نفس الأبصار دون اُولي الأبصار لأنّ الإدراك الموجود فيه تعالى ليس من قبيل إدراكاتنا الحسّيّة حقّ يتعلّق بظواهر الأشياء من أعراضها كالبصر مثلاً الّذي يتعلّق بالأضواء و الألوان و يدرك به القرب و البعد و العظم و الصغر و الحركة

٣٠٨

و السكون بنحو بل الأغراض و موضوعاتها بظواهرها و بواطنها حاضرة عنده مكشوفة له غير محجوبة عنه و لا غائبة فهو تعالى يجد الأبصار بحقائقها و ما عندها و ليست تناله.

ففي الآيتين من سطوح البيان و سهولة الطريق و إيجاز القول ما يحيّر اللبّ و هما مع ذلك تهديان المتدبّر فيهما إلى أسرار دونها أستار.

( كلام في عموم الخلقة و انبساطها على كلّ شي‏ء)

قوله تعالى:( ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) ظاهره و عموم الخلقة لكلّ شي‏ء و انبساط إيجاده تعالى على كلّ ما له نصيب من الوجود و التحقّق، و قد تكرّر هذا اللفظ أعني قوله تعالى:( خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) منه تعالى في كلامه من غير أن يوجد فيه ما يصلح لتخصيصه بوجه من الوجوه قال تعالى:( قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) (الرعد: ١٦) و قال تعالى:( اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ ) (الزمر: ٦٢) و. قال تعالى:( ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) (المؤمن: ٦٢).

و قد نشبت بين الباحثين من أهل الملل في هذه المسألة مشاجرات عجيبة يتبعها أقاويل مختلفة حتّى من المتكلّمين و الفلاسفة من النصارى و اليهود فضلاً عن متكلّمي الإسلام و فلاسفته، و لا يهمّنا المبادرة إلى إيراد أقوالهم و آرائهم و التكلّم معهم، و إنّما بحثنا هذا قرآنيّ تفسيريّ لا شغل لنا بغير ما يتحصّل به الملخّص من نظر القرآن الكريم بالتدبّر في أطراف آياته الشريفة.

نجد القرآن الكريم يسلّم ما نتسلّمه من أنّ الموضوعات الخارجيّة و الأشياء الواقعة في دار الوجود كالسماء و كواكبها و نجومها و الأرض و جبالها و وهادها و سهلها و بحرها و برّها و عناصرها و معدنيّاتها و السحاب و الرعد و البرق و الصواعق و المطر و البرد و النجم و الشجر و الحيوان و الإنسان لها آثار و خواصّ هي أفعالها و هي تنسب إليها نسبة الفعل إلى فاعله و المعلول إلى علّته.

و نجده يصدّق أنّ للإنسان كسائر الأنواع الموجودة أفعالاً تستند إليه و تقوم

٣٠٩

به كالأكل و الشرب و المشي و القعود و كالصحّة و المرض و النموّ و الفهم و الشعور و الفرح و السرور من غير أن يفرق بينه و بين غيره من الأنواع في شي‏ء من ذلك فهو يخبر عن أعماله و يأمره و ينهاه، و لو لا أنّ له فعلاً لم يرجع شي‏ء من ذلك إلى معنى محصّل. فالقرآن يزن الواحد من الإنسان بعين ما نزنه نحن معشر الإنسان في مجتمعنا فنعتقد أنّ له أفعالاً و آثاراً منسوبة إليه نؤاخذه في بعض أفعاله الّتي ترجع بنحو إلى اختياره كالأكل و الشرب و المشي و نصفح عنه فيما لا يرجع إلى اختياره من آثاره القائمة به كالصحّة و المرض و الشباب و المشيب و غير ذلك.

فالقرآن ينظم النظام الموجود مثل ما ينتظم عند حواسّنا و تؤيّده عقولنا بما شفّعت به من التجارب، و هو أنّ أجزاء هذا النظام على اختلاف هويّاتها و أنواعها فعّالة بأفعالها مؤثّرة متأثّرة في غيرها و من غيرها و بذلك تلتئم أجزاء النظام الموجود الّذي لكلّ جزء منها ارتباط تامّ بكلّ جزء، و هذا هو قانون العلّيّة العامّ في الأشياء، و هو أنّ كلّ ما يجوز له في نفسه أن يوجد و أن لا يوجد فهو إنّما يوجد عن غيره فالمعلول ممتنع الوجود مع عدم علّته، و قد أمضى القرآن الكريم صحّة هذا القانون و عمومه، و لو لم يكن صحيحاً أو تخلّف في بعض الموارد لم يتمّ الاستدلال به أصلاً، و قد استدلّ القرآن به على وجود الصانع و وحدانيّته و قدرته و علمه و سائر صفاته.

و كما أنّ المعلول من الأشياء يمتنع وجوده مع عدم علّته كذلك يجب وجوده مع وجود علّته قضاءً لحقّ الرابطة الوجوديّة الّتي بينهما. و قد أنفذه الله سبحانه في كلامه في موارد كثيرة استدلّ فيها من طريق ما له من الصفات العليا على ثبوت آثارها و معاليلها كقوله:( وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) و قوله:( إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ ) ،( أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ،( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) و غير ذلك، و استدلّ أيضاً على كثير من الحوادث و الاُمور بثبوت أشياء اُخرى يستعقب ثبوتها بعدها كقوله:( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) (يونس: ٧٤) و غير ذلك ممّا ذكر من أمر المؤمنين و الكافرين و المنافقين و لو جاز أن يتخلّف أثر من مؤثّره إذا اجتمعت الشرائط اللازمة و ارتفعت الموانع المنافية لم يصحّ شي‏ء من هذه الحجج و الأدلّة البتّة.

٣١٠

فالقرآن يسلّم حكومة قانون العلّيّة العامّ في الوجود، و أنّ لكلّ شي‏ء من الأشياء الموجودة و عوارضها و لكلّ حادث من الحوادث الكائنة علّة أو مجموع علل بها يجب وجوده و بدونها يمتنع وجوده هذا ممّا لا ريب فيه في بادئ التدبّر.

ثمّ إنّا نجد أنّ الله سبحانه في كلامه يعمّم خلقه على كلّ ما يصدق عليه شي‏ء من أجزاء الكون قال تعالى:( قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) (الرعد: ١٦) إلى غير ذلك من الآيات المنقولة آنفاً، و هذا ببسط علّيّته و فاعليّته تعالى لكلّ شي‏ء مع جريان العلّيّة و المعلوليّة الكونيّة بينها جميعاً كما تقدّم بيانه.

و قال تعالى:( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ - إلى أن قال -وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (الفرقان: ٢) و قال:( الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ ) (طه: ٥٠) و قال:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) (الأعلى: ٣) إلى غير ذلك من الآيات.

و في هذه الآيات نوع آخر من البيان اُخذت فيه الأشياء منسوبة إلى الخلقة و أعمالها و أنواع آثارها و حركاتها و سكناتها منسوبة إلى التقدير و الهداية الإلهيّة فإلى تقديره تعالى تنتهي خصوصيّات أعمال الأشياء و آثارها كالإنسان يخطو و يمشي في انتقاله المكانيّ و الحوت يسبح و الطير يطير بجناحيه قال تعالى:( فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ ) (النور: ٤٥) و الآيات في هذا المعنى كثيرة، فخصوصيّات أعمال الأشياء و حدودها و أقدارها تنتهي إليه تعالى، و كذلك الغايات الّتي تقصدها الأشياء على اختلافها فيها و تشتّتها و تفنّنها إنّما تتعيّن لها و تروم نحوها بالهداية الإلهيّة الّتي تصحبها منذ أوّل وجودها إلى آخره، و ينتهي ذلك إلى تقدير العزيز العليم.

فالأشياء في جواهرها و ذواتها تستند إلى الخلقة الإلهيّة و حدود وجودها و تحوّلاتها و غاياتها و أهدافها في مسير وجودها و حياتها كلّ ذلك ينتهي إلى التقدير المنتهي إلى خصوصيّات الخلقة الإلهيّة و هناك آيات اُخرى كثيرة ناطقة بأنّ أجزاء الكون متّصل بعضه ببعض متلائم بعض منه مع بعض متوحّدة في الوجود يحكم فيها نظام واحد لا مدبّر له إلّا الله سبحانه، و هو الّذي ربّما سمّي ببرهان اتّصال التدبير.

٣١١

فهذا ما ينتجه التدبّر في كلامه تعالى غير أنّ هناك جهات اُخرى ينبغي للباحث المتدبّر أن لا يغفل عنها و هي ثلاث:

إحداها: أنّ من الأشياء ما لا يرتاب في قبحه و شناعته كأنواع الظلم و الفجور الّتي ينقبض العقل من نسبتها إلى ساحة القدس و الكبرياء و القرآن الكريم أيضاً ينزّهه تعالى عن كلّ ظلم و سوء في آيات كثيرة كقوله:( وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) (حم السجدة: ٤٦) و قوله:( قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) (الأعراف: ٢٨) و غير ذلك، و هذا ينافي عموم الخلقة لكلّ شي‏ء فمن الواجب أن تخصّص الآية بهذا المخصّص العقليّ و الشرعيّ.

و ينتج ذلك أنّ الأفعال الإنسانيّة مخلوقة للإنسان و ما وراءه من الأشياء ذواتها و آثارها مخلوقة لله سبحانه.

على أنّ كون الأفعال الإنسانيّة مخلوقة له تعالى يبطل كونها عن اختيار الإنسان، و يبطل بذلك نظام الأمر و النهي و الطاعة و المعصية و الثواب و العقاب و إرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع. كذا ذكره جمع من الباحثين.

و قد ذهب على هؤلاء في بحثهم أن يفرّقوا بين الاُمور الحقيقيّة الّتي تنال الوجود و التحقّق حقيقة، و الاُمور الاعتباريّة و الجهات الوضعيّة الّتي لا ثبوت لها في الواقع، و إنّما اضطرّ الإنسان إلى تصوّرها أو التصديق بها حاجة الحياة، و ابتغاء سعادة الوجود بالاجتماع و التمدّن فخلطوا بين الجهات الوجوديّة و العدميّة في الأشياء، و قد تقدّمت نبذة من هذا البحث في الكلام على الجبر و التفويض في الجزء الأوّل من الكتاب.

و الّذي يناسب المقام من الكلام أنّ ظاهر قوله:( اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يعمّم الخلقة لكلّ شي‏ء ثمّ قوله تعالى:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) (السجدة: ٧) يثبت الحسن لكلّ ما خلقه الله، و يتحصّل من الآيتين أنّ كلّ ما يصدق عليه اسم شي‏ء ما خلا الله فهو مخلوق، و أنّ كلّ مخلوق فهو متّصف بالحسن فالخلق و الحسن متلازمان في الوجود فكلّ شي‏ء فهو من جهة أنّه مخلوق لله أي بتمام واقعيّته الخارجيّة حسن فلو عرض لها عارض السوء و القبح كان من جهة النسب و الإضافات و اُمور اُخرى غير جهة واقعيّته و وجوده الحقيقيّ الّذي ينسب به إلى الله سبحانه و إلى فاعله المعروض له.

٣١٢

ثمّ إنّا نحصل في كلامه تعالى على موارد كثيرة يذكر فيها السيّئة و الظلم و الذنب و غيرها ذكر تسليم فلنقض بضمّها إلى ما تقدّم بأنّ هذه معان و عناوين غير حقيقيّة لا يلحق الشي‏ء من جهة انتسابه إلى الله سبحانه و خلقه له، و إنّما يلحق الموضوع الّذي يقوم الأثر و العمل به من جهة وضع أو نسبة أو إضافة فإنّ كلّ معصية و ظلم فإنّ معه من سنخه ما ليس بمعصية و إنّما يختلفان من جهة اشتمال أحدهما على مخالفة أمر تشريعيّ أو عقليّ أو اشتماله على فساد في المجتمع أو نقض لغاية دون الآخر مثاله الزنا و النكاح و هما فعلان متماثلان لا يختلفان في حقيقتهما و وجودهما النوعيّ مثلاً و إنّما يختلفان بالموافقة و المخالفة للشرع الإلهيّ أو السنّة الاجتماعيّة أو مصلحة المجتمع، و تلك اُمور وضعيّة و جهات إضافيّة، و الخلقة و الإيجاد إنّما يتعلّق بجهة التكوين و الخارج، و أمّا الجهات الإضافيّة و العناوين الوضعيّة الّتي تلحق الأشياء بحسب انطباقها على المصالح و المفاسد الاجتماعيّة المستعقبة للمدح و الذمّ أو الثواب و العقاب بحسب ما يشخّصها و يحكم بها العقل العمليّ و الشعور الاجتماعيّ فإنّما هي اُمور لا تتعدّى طور الاجتماع و لا يدخل في دار التكوين أصلاً إلّا آثارها الّتي هي أقسام الثواب و العقاب مثلاً.

فالفعل الكذائيّ كالظلم بعنوانه الّذي هو الظلم قبيح في ظرف الاجتماع و معصية تستتبع الذمّ و العقاب عند المجتمعين، و أمّا بحسب التكوين فليس إلّا أثراً أو مجموع آثار من قبيل الحركات العارضة للإنسان و العلل الخارجيّة و خاصّة السببيّة الاُولى الإلهيّة إنّما تنتج هذه الجهة الّتي هي جهة التكوين، و أمّا عنوانه القبيح و ما يلحق به فإنّما هو مولود النظر التشريعيّ أو العقلائيّ لا خبر عنه بنظر التكوين كما أنّ زيداً الرئيس هو بعنوانه الّذي هو الرئاسة موضوع اجتماعيّ عندنا له آثار مترتّبة عليه في المجتمع كالاحترام و التقدّم و نفوذ الكلمة و إدارة الاُمور، و أمّا من حيث التكوين و الواقعيّة فإنّما هو فرد من أفراد الإنسان لا فرق بينه و بين الفرد المرءوس أصلاً، و لا خبر في هذا النظر عن الرئاسة و الآثار المترتّبة عليها، و كذا الغنيّ و الفقير و السيّد و المسود و العزيز و الذليل و الشريف و الخسيس و أمثال ذلك ممّا لا يحصى.

٣١٣

و بالجملة الخلقة في عين أنّها تعمّ كلّ شي‏ء إنّما تتعلّق بالموضوعات و الأفعال الواقعة في ظرف الاجتماع المعنونة بمختلف عناوينها بجهة تكوينها و واقعيّتها الخارجيّة، و أمّا ما وراء ذلك من جهات القبح و الحسن و المعصية و الطاعة و سائر الأوصاف و العناوين الاجتماعيّة الطارئة على الأفعال و الموضوعات فالخلق و الإيجاد لا يتعلّق بها، و ليس لها ثبوت إلّا في ظرف التشريع أو القضاء الاجتماعيّ و ساحة الاعتبار و الوضع.

و إذا تبيّن أنّ ظرف تحقّق الأمر و النهي و انتشاء الحسن و القبح و الطاعة و المعصية و تعلّق الثواب و العقاب و ارتباطهما بالفعل و كذا سائر الاُمور و العناوين الاجتماعيّة كالمولويّة و العبوديّة و الرئاسة و المرءوسيّة و العزّة و الذلّة و نحو ذلك غير ظرف التكوين و ساحة الواقعيّة الخارجيّة الّتي يتعلّق بها الخلق و الإيجاد ظهر أنّ عموم الخلقة لكلّ شي‏ء لا يستلزم شيئاً من المفاسد الّتي ذكروها كبطلان نظام الأمر و النهي و الثواب و العقاب و غير ذلك ممّا تقدّم ذكره.

و كيف يسوغ لمن تدبّر كلامه تعالى أن يفتي بمثل هذه الثنويّة و كلامه مشحون بأنّه خالق كلّ شي‏ء و أنّه الله الواحد القهّار و أنّ قضاءه و قدره و هدايته التكوينيّة و ربوبيّته و تدبيره شامل لكلّ شي‏ء لا يشذّ عنه شاذّ، و أنّ ملكه و سلطانه و إحاطته و كرسيّه وسع كلّ شي‏ء، و أنّ له ما في السماوات و الأرض و ما ظهر و ما بطن، و كيف يستقيم شي‏ء من هذه التعاليم الإلهيّة المنبئة عن توحيده في ربوبيّته مع وجود ما لا يحصى من مخلوقات غيره خلال مخلوقاته؟

الثانية: أنّ القرآن الكريم إذ ينسب خلق كلّ شي‏ء إليه تعالى و يحصر العلّة الفاعلة فيه كان لازمه إبطال رابطة العلّيّة و المعلوليّة بين الأشياء فلا مؤثّر في الوجود إلّا الله، و إنّما هي عادته تعالى جرت أن يخلق ما نسمّيه معلولاً عقيب ما نسمّيه علّة من غير أن تكون بينهما رابطة توجب وجود المعلول منهما عقيب العلّة فالنار الّتي تستعقب الحرارة نسبتها إلى الحرارة و البرودة على السواء، و الحرارة نسبتها إلى النار و الثلج على السواء غير أنّ عادة الله جرت أن يخلق الحرارة عقيب النار و البرودة بعد الثلج من غير أن يكون هناك إيجاب و اقتضاء بوجه أصلاً.

٣١٤

و هذا النظر يبطل قانون العلّيّة و المعلوليّة العامّ الّذي عليه المدار في القضاء العقليّ و ببطلانه ينسدّ باب إثبات الصانع و لا تصل النوبة مع ذلك إلى كتاب إلهيّ يحتجّ به على بطلان رابطة العلّيّة و المعلوليّة بين الأشياء، و كيف يسع أن يبطل القرآن الشريف حكماً صريحاً عقليّاً و يعزل العقل عن قضائه؟ و إنّما تثبت حقّيّته و حجّيّته بالحكم العقليّ و القضاء الوجدانيّ، و هو إبطال النتيجة لدليلها الّذي لا يؤثّر إلّا إبطال النتيجة لنفسها.

و هؤلاء إنّما وقعوا فيما وقعوا من جهة خلطهم بين العلل الطوليّة و العرضيّة و إنّما يستحيل توارد العلّتين على شي‏ء إذا كانتا في عرض واحد لا إذا كانت إحداهما في طول الاُخرى، مثال ذلك أنّ العلّة التامّة لوجود النار كما توجب وجود النار كذلك توجب وجود الحرارة و لا يجتمع مع ذلك في الحرارة إيجابان و لا تعمل فيها علّتان تامّتان مستقلّتان بل علّة معلولة لعلّة.

و بتقريب آخر أدقّ: منشأ الخطأ هو عدم التمييز بين الفاعل بمعنى ما منه و الفاعل بمعنى ما به و لاستقصاء القول في المسألة محلّ آخر.

الثالثة: و هي قريبة المأخذ من الثانية أنّهم لما وجدوا أنّه تعالى ينسب خلق كلّ شي‏ء إلى نفسه، و هو تعالى مع ذلك يسلّم وجود رابطة العلّيّة و المعلوليّة بين الأشياء أنفسها حسبوا أنّ ما له علّة ظاهرة معلومة من الأشياء فهي العلّة له دونه تعالى و إلّا لزم اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد و لا يبقى لتأثيره تعالى إلّا حدوث الأشياء و بدء وجودها و لذا تراهم يرومون إثبات الصانع من جهة حدوث الأشياء كحدوث الإنسان بعد ما لم يكن و حدوث الأرض بعد ما لم تكن و حدوث العالم بعد ما لم يكن.

و يضيفون إلى ذلك وجود اُمور أو حدوث حوادث مجهولة العلل للإنسان كالروح و كالحياة في الإنسان و الحيوان و النبات فإنّ الإنسان لم يظفر بعلل وجودها بعد، و البسطاء منهم يضيفون إلى ذلك أمثال السحب و الثلوج و الأمطار و ذوات الأذناب و الزلازل و القحط و الغلاء و الأمراض العامّة و نحو ذلك ممّا لا يظهر عللها الطبيعيّة للأفهام العامّيّة

٣١٥

ثمّ كلّما لاح لهم في شي‏ء منها علّته الطبيعيّة انهزموا منه إلى غيره و بدّلوا موقفاً بآخر أو سلّموا للخصم.

و هذا بحسب اللسان العلميّ هو أنّ الوجود الممكن إنّما يحتاج إلى الواجب في حدوثه لا في بقائه، و هو الّذي يصرّ عليه جمّ غفير من أهل الكلام حتّى صرّح بعضهم: أنّه لو جاز العدم على الواجب لم يضرّ عدمه وجود العالم تعالى الله و تقدّس، و هذا - فيما نحسب - رأي إسرائيليّ تسرب في أذهان عدّة من الباحثين من المسلمين و من فروع ذلك قولهم باستحالة البداء و النسخ، و الرأي جار سار بين الناس مع ذلك.

و كيف كان هو من أردء الأوهام و الاحتجاج القرآنيّ يخالفه فإنّ الله سبحانه يستدلّ على وجود الصانع و وحدته بالآيات المشهودة في العالم و هو النظام الجاري في كلّ نوع من الخليقة و ما يجري عليه في مسير وجوده و أمد حياته من التغيّر و التحوّل و الفعل و الانفعال و المنافع الّتي يستدرّها من ذلك و يوصلها إلى غيره كالشمس و القمر و النجوم و طلوعها و غروبها و ما يستجلبه الناس من منافعها و التحوّلات الفصليّة الطارئة على الأرض و البحار و الأنهار و الفلك الّتي تجري فيها و السحب و الأمطار و ما ينتفع به الإنسان من الحيوان و النبات و ما يجري عليه من الأحوال الطبيعيّة و التغيّرات الكونيّة من نطفيّة و جنينيّة و صباوة و شباب و شيب و هرم و غير ذلك.

و جميع ذلك من الجهات الراجعة إلى الأشياء من حيث بقائها و موضوعاتها علل أعراضها و آثارها و كلّ مجموع منها في حين علّة للمجموع الحاصل بعد ذلك الحين، و حوادث اليوم علل حوادث الغد كما أنّها معلولة حوادث الأمس.

و لو كانت الاُمور من حيث بقائها مستغنية عن الله سبحانه و استقلّت بما يكتنف بها من الحوادث و يطرء عليها من الآثار و الأعمال لم يستقم شي‏ء من هذه الحجج الباهرة و البراهين القاهرة و ذلك أنّ احتجاج القرآن بهذه الآيات البيّنات من جهتين:

إحداهما: من جهة الفاعل كما يشير إليه أمثال قوله تعالى:( أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) (إبراهيم: ١٠) فإنّ من الضروريّ أنّ شيئاً من هذه الموجودات لم يفطر ذاته و لم يوجد نفسه، و لا أوجده شي‏ء آخر مثله فإنّه يناظره في الحاجة إلى

٣١٦

إيجاد موجد، و لو لم ينته الأمر إلى أمر موجود بذاته لا يقبل طروّ العدم عليه لم يوجد في الخارج شي‏ء من هذه الأشياء فهي موجودة بإيجاد الله الّذي هو في نفسه حقّ لا يقبل بطلاناً و لا تغيّراً بوجه عمّا هو عليه.

ثمّ إنّها إذا وجدت لم تستغن عنه فليس إيجاد شي‏ء شيئاً من قبيل تسخين المسخّن مثلاً حيث تنصبّ الحرارة بالانفصال من المسخّن إلى المتسخّن فيعود المتسخّن واجداً للوصف بقي المسخّن بعد ذلك أو زال، إذ لو كانت إفاضة الوجود على هذه الوتيرة عاد الوجود المفاض مستقلّاً بنفسه واجباً بذاته لا يقبل العدم لمكان المناقضة، و هذا هو الّذي يعبّر عنه الفهم الساذج الفطريّ بأنّ الأشياء لو ملكت وجود نفسها و استقلّت بوجه عن ربّها لم يقبل الهلاك و الفساد فإنّ من المحال أن يستدعي الشي‏ء بطلان نفسه أو شقاءها.

و هو الّذي يستفاد من أمثال قوله:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (القصص: ٨٨) و قوله:( وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً ) (الفرقان: ٣) و يدلّ على ذلك أيضاً الآيات الكثيرة الدالّة على أنّ الله سبحانه هو المالك لكلّ شي‏ء لا مالك غيره، و أنّ كلّ شي‏ء مملوك له لا شأن له إلّا المملوكيّة.

فالأشياء كما تستفيض منه تعالى الوجود في أوّل كونها و حدوثها كذلك تستفيض منه ذلك في حال بقائها و امتداد كونها و حياتها فلا يزال الشي‏ء موجوداً ما يفيض عليه الوجود و إذا انقطع عنه الفيض انمحى رسمه عن لوح الوجود قال تعالى:( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) (الإسراء: ٢٠) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و ثانيتهما: من جهة الغايات كما تشير إليه الآيات الواصفة للنظام الجاري في الكون متلائمة أجزاؤه متوافقة أطرافه يضمن سير الواحد منها إيصال الآخر إلى كماله و يتوجّه ما وقع في طرف من السلسلة المترتّبة إلى إسعاد ما في طرف آخر منها ينتفع فيها الإنسان مثلاً بالنظام الجاري في الحيوان و النبات، و النبات مثلاً بالنظام الجاري في الأرض و الجوّ المحيط بها، و تستمدّ الأرضيّات بالسماويّات و السماويّات بالأرضيّات فيعود الجميع ذا نظام متّصل واحد يسوق كلّ نوع من الأنواع إلى ما يسعد به في كونه

٣١٧

و يفوز به في وجوده و تأبى الفطرة السليمة و الشعور الحيّ إلّا أن يقضي أنّ ذلك كلّه من تقدير عزيز عليم و تدبير حكيم خبير.

و ليس هذا التقدير و التدبير إلّا عن فطر ذواتها و إيجاد هويّاتها و صوغ أعيانها بضرب كلّ منها في قالب يقدّر له أفعاله و يحصره في ما اُريد منه في موطنه و ما يؤل إليه في منازل هيّئت على امتداد مسيره، و الّذي يقف عليه آخر ما يقف، و هي في جميع هذه المراحل على مراكب الأسباب بين سائق القدر و قائد القضاء.

قال تعالى:( لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ ) (الأعراف: ٥٤) و قال:( أَلا لَهُ الْحُكْمُ ) (الأنعام: ٦٢) و قال:( وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) (البقرة: ١٤٨) و قال:( وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) (الرعد: ٤١) و قال:( هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) (الرعد: ٣٣).

و كيف يسع لمتدبّر في أمثال هذه الآيات أن يعطف واضح معانيها و صريح مضامينها إلى أنّ الله سبحانه خلق ذوات الأشياء على ما لها من الخصوصيّات و الشخصيّات ثمّ اعتزلها و ما كان يسعه إلّا أن يعتزل و يرصد فشرع الأشياء في التفاعل و التناظم بما فيها من روح العلّيّة و المعلوليّة و استقلّت في الفعل و الانفعال و خالقها يتأمّلها في معزله و ينتظر يوم يفنى فيه الكلّ حتّى يجدّد لها خلقاً جديداً يثيب فيه من استمع لدعوته في حياته الاُولى و يعاقب المستكبر المستنكف، و قد صبر على خلافهم طول الزمان غير أنّه ربّما غضب على بعض ما يشاهده منهم فيعارضهم في مشيّتهم، و يمنع من تأثير بعض مكائدهم على نحو المعارضة و الممانعة.

أي أنّه تعالى يخرج من مقام الاعتزال في بعض ما تؤدّي الأسباب و العلل الكونيّة المستقلّة الجارية إلى خلاف ما يرتضيه، أو لا يؤدّي إلى ما يوافق مرضاته فيداخل الأسباب الكونيّة بإيجاد ما يريده من الحوادث، و ليس يداخل شيئاً إلّا بإبطال قانون العلّيّة الجاري في المورد إذ لو أوجد ما كان يريده من طريق الأسباب و العلل كان التأثير على مزعمتهم للعلل الكونيّة دونه تعالى، و هذا هو السرّ في إصرار هؤلاء على أنّ المعجزات و خوارق العادات و نحوهما إنّما تتحقّق بالإرادة الإلهيّة وحدها و نقض قانون العلّيّة العامّ، فلا محالة يتمّ الأمر بنقض السببيّة الكونيّة و إبطال قانون العلّيّة و يبطل بذلك

٣١٨

أصل قولهم: إنّ الأشياء مفتقرة إليه تعالى في حدوثها غنيّة عنه في بقائها.

فهؤلاء القوم لا يسعهم إلّا أن يلتزموا أحد أمرين: إمّا القول بأنّ العالم على سعته و نظامه الجاري فيه مستقلّ عن الله سبحانه غير مفتقر إليه أصلاً و لا تأثير له تعالى في شي‏ء من أجزائه و لا التحوّلات الواقعة فيه إلّا ما كان من حاجته إليه في أوّل حدوثه و قد أحدثه فارتفعت الحاجة و انقطعت الخلّة.

أو القول بأنّ الله هو الخالق لكلّ ما يقع عليه اسم شي‏ء و المفيض له الوجود حال الحدوث و في حال البقاء، و لا غنى عنه تعالى لذات و لا فعل طرفة عين.

و قد عرفت أنّ البحث القرآنيّ يدفع أوّل القولين لتعاضد الآيات على بسط الخلقة و السلطة الغيبيّة على ظاهر الأشياء و باطنها و أوّلها و آخرها و ذواتها و أفعالها حال حدوثها و حال بقائها جميعاً فالمتعيّن هو الثاني من القولين و البحث العقليّ الدقيق يؤيّد بحسب النتيجة ما هو المتحصّل من الآيات الكريمة.

فقد ظهر من جميع ما تقدّم: أنّ ما يظهر من قوله:( اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) على ظاهر عمومه من غير أن يتخصّص بمخصّص عقليّ أو شرعيّ.

قوله تعالى: ( قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها ) إلخ قال في المجمع: البصيرة البيّنة و الدلالة الّتي يبصر بها الشي‏ء على ما هو به و البصائر جمعها انتهى. و قيل: البصيرة للقلب كالبصر للعين، و الأصل في الباب على أيّ حال هو الإدراك بحاسّة البصر الّذي يعدّ أقوى الإدراكات، و نيلاً من خارج الشي‏ء المشهود، و الإبصار و العمى في الآية هو العلم و الجهل أو الإيمان و الكفر توسّعاً.

و كأنّه تعالى يشير بقوله:( قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ) إلى ما ذكره في الآيات السابقة من الحجج الباهرة على وحدانيّته و انتفاء الشريك عنه، و المعنى أنّ هذه الحجج بصائر قد جاءتكم من جانب الله بالوحي إليّ، و الخطاب من قبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ ذكر للمخاطبين و هم المشركون أنّهم على خيرة من أمر أنفسهم إن شاءوا أبصروا بها و إن شاءوا عموا عنها غير أنّ الإبصار لأنفسهم و العمى عليها.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالحفظ عليهم رجوع أمر نفوسهم و تدبير قلوبهم إليه فهو

٣١٩

إنّما ينفي كونه حفيظاً عليهم تكويناً و إنّما هو ناصح لهم. و الآية كالمعترضة بين الآيات السابقة و الآية اللاحقة، و هو خطاب منه تعالى عن لسان نبيّه كالرسول يأتي بالرسالة إلى قوم فيؤدّيها إليهم و في خلال ما يؤدّيه يكلّمهم من نفسه بما يهيّجهم للسمع و الطاعة و يحثّهم على الانقياد بإظهار النصح و نفي الأغراض الفاسدة عن نفسه.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) إلخ، و قرئ: دارست بالخطاب و دَرَسْتَ بالتأنيث و الغيبة، قيل: إنّ التصريف هو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة ليجتمع فيه وجوه الفائدة، و قوله:( دَرَسْتَ ) من الدرس و هو التعلّم و التعليم من طريق التلاوة، و على هذا المعنى قراءة دارست غير أنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني و أمّا قراءة( دَرَسْتَ ) بالتأنيث و الغيبة فهو من الدروس بمعنى تعفّي الأثر أي اندرست هذه الأقوال كقولهم: أساطير الأوّلين.

و المعنى: على هذا المثال نصرّف الآيات و نحوّلها بياناً لغايات كثيرة و منها أن يستكمل هؤلاء الأشقياء شقوتهم فيتّهموك يا محمّد بأنّك تعلّمتها من بعض أهل الكتاب أو يقولوا: اندرست هذه الأقاويل و انقرض عهدها و لا نفع فيها اليوم، و لنبيّنه لقوم يعلمون بتطهير قلوبهم و شرح صدورهم به، و هذا كقوله:( وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ) (الإسراء: ٨٢).

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن الفضيل بن يسار قال سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ الله لا يوصف، و كيف يوصف و قال في كتابه:( وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) فلا يوصف بقدر إلّا كان أعظم من ذلك.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه عن ابن عبّاس: في قوله:( وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) قال: هم الكفّار الّذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أنّ الله على كلّ شي‏ء قدير فقد قدر الله حقّ قدره، و من لم يؤمن بذلك فلم يؤمن بالله حقّ قدره.( إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) يعني

٣٢٠