الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 80668
تحميل: 6068


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80668 / تحميل: 6068
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من بني إسرائيل قالت اليهود: يا محمّد أ نزل الله عليك كتاباً؟ قال نعم، قالوا: و الله ما أنزل الله من السماء كتاباً، فأنزل الله:( قُلْ يا محمد مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى‏ نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ - إلى قوله -وَ لا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ) أنزله.

أقول: و المعنى الّذي في صدر الرواية تقدّم في البيان السابق أنّه خلاف ظاهر الآية بل الظاهر أنّ الّذين قالوا:( ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، هم الّذين لم يقدروا الله سبحانه حقّ قدره.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبوالشيخ عن السدّيّ: في قوله:( إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) قال: قال فنحاص اليهوديّ: ما أنزل الله على محمّد من شي‏ء.

أقول: و اختلاف الحاكي و المحكيّ يفسد المعنى، و احتمال النقل بالمعنى مع هذا الاختلاف الفاحش لا مسوّغ له.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له النبيّ: اُنشدك بالّذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة: أنّ الله يبغض الحبر السمين؟ و كان حبراً سميناً فغضب و قال: و الله ما أنزل الله على بشر من شي‏ء، فقال له أصحابه: ويحك و لا على موسى؟ قال: ما أنزل الله على بشر من شي‏ء، فأنزل الله:( وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) الآية.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن بريدة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمّ القرى مكّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عليّ بن أسباط قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : لم سمّي النبيّ الاُمّي؟ قال: نسب إلى مكّة و ذلك من قول الله:( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَ مَنْ حَوْلَها ) و اُمّ القرى مكّة، و من حولها الطائف.

أقول: و على ما في الرواية يصير قوله:( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَ مَنْ حَوْلَها ) من قبيل قوله:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (الشعراء: ٢١٤) و لا ينافي الأمر بإنذار طائفة خاصّة عموم الرسالة لجميع الناس كما يدلّ عليه أمثال قوله:( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) (الأنعام: ١٩) و قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى‏ لِلْعالَمِينَ ) (الأنعام: ٩٠) و قوله:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) (الأعراف: ١٥٨).

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن سنان قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:

٣٢١

( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ - إلى قوله -تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً ) قال: كانوا يكتمون ما شاءوا و يبدون ما شاءوا.

قال: و في رواية اُخرى عنهعليه‌السلام قال: كانوا يكتبونه في القراطيس ثمّ يبدون ما شاءوا و يخفون ما شاءوا. قال: كلّ كتاب اُنزل فهو عند أهل العلم.

أقول: أهل العلم كناية عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

و في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) الآية أخرج الحاكم في المستدرك عن شرحبيل بن سعد قال: نزلت في عبدالله بن أبي سرح:( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‏ءٌ ) الآية، فلمّا دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة فرّ إلى عثمان أخيه من الرضاعة فغيّبه عنده حتّى اطمأنّ أهل مكّة ثمّ استأمن له.

و فيه، أخرج ابن جرير و أبوالشيخ عن عكرمة: في قوله:( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‏ءٌ ) قال: نزلت في مسيلمة فيما كان يسجع و يتكهّن به.( وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ) قال: نزلت في عبدالله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان فيما يملي( عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) فيكتب( غفور رحيم) فيغيّره ثمّ يقرأ عليه كذا كذا لمّا حوّل فيقول: نعم سواء، فرجع عن الإسلام و لحق بقريش.

أقول: و روي هذا المعنى بطرق اُخرى أيضاً غير ما مرّ.

و في تفسير القمّيّ، قال: حدّثنا أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ عبدالله بن سعد بن أبي السرح كان أخاً لعثمان من الرضاعة قدم إلى المدينة و أسلم، و كان له خطّ حسن، و كان إذا نزل الوحي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاه ليكتب ما نزل عليه فكان إذا قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الله سميع بصير يكتب سميع عليم، و إذا قال:( وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) يكتب بصير و كان يفرّق بين التاء و الياء، و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: هو واحد.

فارتدّ كافراً و رجع مكّة و قال لقريش: و الله ما يدري محمّد ما يقول أنا أقول مثل ما يقول فلا ينكر عليّ ذلك فأنا اُنزل مثل ما أنزل الله فأنزل الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك:

٣٢٢

( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‏ءٌ وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ) .

فلمّا فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة أمر بقتله فجاء به عثمان و قد أخذ بيده و رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد فقال: يا رسول الله اعف عنه فسكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ أعاد فقال: هو لك، فلمّا مرّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أ لم أقل: من رآه فليقتله؟ فقال رجل: كانت عيني إليك يا رسول الله أن تشير إليّ فأقتله، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الأنبياء لا يقتلون بالإشارة، فكان من الطلقاء:

أقول: و روى هذا المعنى في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، و مجمع البيان، بطرق اُخرى عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام .

و ذكر بعض المفسّرين بعد إيراد القصّة عن روايتي عكرمة و السدّيّ: إنّ هاتين الروايتين باطلتان فإنّه ليس في شي‏ء من السور المكّيّة( سميعاً عليماً) و لا( عليماً حكيماً) و لا( عزيز حكيم) إلّا في سورة لقمان والمرويّ عن ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الأنعام و أنّ الآية الّتي ختمت بقوله تعالى( عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) منها و ثنتين بعدها مدنيّات كما في الإتقان. قال: و ما قيل من احتمال نزول هذه الآية بالمدينة لا حاجة إليه و الرواية غير صحيحة.

قال: و روي: أنّ عبدالله بن سعد لمّا ارتدّ كان يطعن في القرآن، و لعلّه قال شيئاً ممّا ذكر في الروايات عنه كذباً و افتراءً فإنّ السور الّتي نزلت في عهد كتابته لم يكن فيها شي‏ء ممّا روي عنه أنّه تصرّف فيه كما علمت، و قد رجع إلى الإسلام قبل الفتح و لو تصرّف في القرآن تصرّفاً أقرّه عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكّ في الوحي لأجله لما رجع إلى الإسلام. انتهى.

و قد عرفت أنّ الروايات المعتبرة المرويّة عن الصادقينعليهما‌السلام صريحة في وقوع قصّة ابن أبي سرح في المدينة بعد الهجرة لا في مكّة، و الأخبار المرويّة من طرق أهل السنّة و الجماعة غير صريحة في وقوعها بمكّة لو لم يكن ظهورها في الوقوع بالمدينة، و أمّا ما استند إليه من رواية ابن عبّاس في ترتيب نزول السور القرآنيّة فليس بأقوى

٣٢٣

اعتباراً ممّا طرحه.

و أمّا ما ذكره من إسلام ابن أبي سرح قبل الفتح طوعاً فقد عرفت ورود الرواية من الطريقين أنّه لم يعد إلى الإسلام إلى يوم الفتح، و قد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهدر دمه يوم الفتح حتّى شفع له عثمان فعفا عنه، هذا.

لكن يبقى على ظاهر الروايات أنّ قوله تعالى:( وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ) غير ظاهر الانطباق على قول ابن أبي سرح على ما يحكيه:( فأنا اُنزل مثل ما أنزل الله) .

على أنّ كون قوله تعالى:( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‏ءٌ وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ) نازلاً بالمدينة لا يلائم هذا الاتّصال الظاهر بينه و بين ما يتلوه إلى آخر الآية الثانية فلو كان نازلاً بالمدينة كان الأقرب أن تكون الآيتان جميعاً مدنيّتين.

و هناك رواية اُخرى تعرب عن سبب للنزول آخر و هو ما رواه عبد بن حميد عن عكرمة قال: لمّا نزلت:( وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ) ، قال النضر و هو من بني عبد الدار: و الطاحنات طحناً فالعاجنات عجناً و قولاً كثيراً فأنزل الله:( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‏ءٌ ) الآية.

و في تفسير العيّاشيّ، عن سلام عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ) قال: العطش يوم القيامة.

أقول: و رواه أيضاً عن الفضيل عن أبي عبداللهعليه‌السلام و فيه: قال: العطش.

و في الكافي، بإسناده عن إبراهيم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله عزّوجلّ لمّا أراد أن يخلق آدم بعث جبرئيل في أوّل ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضة بلغت من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، و أخذ من كلّ سماء تربة و قبض قبضة اُخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى فأمر الله عزّوجلّ كلمته فأمسك القبضة الاُولى بيمينه و القبضة الاُخرى بشماله ففلق الطين فلقتين فذرا من الأرض ذرواً و من السماوات ذرواً فقال للّذي بيمينه: منك الرسل و الأنبياء و الأوصياء و الصدّيقون و المؤمنون و الشهداء

٣٢٤

و من اُريد كرامته، فوجب لهم ما لهم ما قال كما قال، و قال للّذي بشماله: منك الجبّارون و المشركون و المنافقون و الطواغيت و من اُريد هوانه أو شقوته فوجب لهم ما قال كما قال.

ثمّ إنّ الطينتين خلطتا جميعاً و ذلك قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى‏ ) فالحبّ طينة المؤمنين الّتي ألقى الله عليها محبّته، و النوى طينة الكافرين الّذين نأوا عن كلّ خير، و إنّما سمّي النوى من أجل أنّه نأى عن الحقّ و تباعد منه.

و قال الله عزّوجلّ:( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ) فالحيّ المؤمن الّذي يخرج من طينة الكافر، و الميّت الّذي يخرج من الحيّ هو الكافر الّذي يخرج من طينة المؤمن فالحيّ المؤمن و الميّت الكافر و ذلك قول الله عزّوجلّ:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ) فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر و كان حياته حين فرّق الله عزّوجلّ بينهما بكلمته كذلك يخرج الله عزّوجلّ المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور، و يخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله إلى(١) النور و ذلك قول الله عزّوجلّ:( لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

أقول: الرواية من أخبار الطينة و سيجي‏ء البحث فيها فيما يناسبه من المحلّ إن شاء الله. و تفسير الحبّ و النوى بما فيها من المعنى من قبيل الباطن دون الظاهر، و قد وقع هذا المعنى في روايات اُخرى غير هذه الرواية.

و في تفسير العيّاشيّ، في قوله تعالى:( وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً ) عن الحسن بن عليّ بن بنت إلياس قال: سمعت أباالحسن الرضاعليه‌السلام يقول: إنّ الله جعل الليل سكناً و جعل النساء سكناً، و من السنّة التزويج بالليل و إطعام الطعام.

و فيه، عن عليّ بن عقبة عن أبيه عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: تزوّجوا بالليل فإنّ الله جعله سكناً و لا تطلبوا الحوائج بالليل.

و في الكافي، بإسناده عن يونس عن بعض أصحابنا عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: إنّ الله خلق النبيّين على النبوّة فلا يكونون إلّا أنبياء، و خلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلّا مؤمنين و أعار قوماً إيماناً فإن شاء تمّمه لهم و إن شاء سلبهم إيّاه. قال: و فيهم جرت( فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ ) و قال: إنّ فلاناً كان مستودعاً فلمّا كذب علينا سلبه الله إيمانه.

____________________

(١) في ظ.

٣٢٥

أقول: و في تفسير المستقرّ و المستودع بقسمي الإيمان روايات كثيرة مرويّة عنهمعليهم‌السلام في تفسيري العيّاشيّ و القمّيّ، و هذه الرواية توجّهها بأنّها من الجري و الانطباق.

و في تفسير العيّاشيّ، عن سعد بن سعيد أبي الأصبغ قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام : في قوله:( فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ ) قال: مستقرّ في الرحم و مستودع في الصلب، و قد يكون مستودع الإيمان ثمّ ينزع منه. الحديث.

و فيه، عن سدير قال: سمعت حمران يسأل أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله:( بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) فقال له أبوجعفرعليه‌السلام : ابتدع الأشياء كلّها بعلمه على غير مثال كان، و ابتدع السماوات و الأرضين و لم يكن قبلهنّ سماوات و لا أرضون أ ما تسمع قوله:( وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ) ؟.

و في الكافي، بإسناده عن عبدالله بن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) قال: إحاطة الوهم أ لا ترى إلى قوله:( قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ) ، ليس يعني من البصر بعينه( وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها ) ليس يعني عمى العيون إنّما عنى إحاطة الوهم كما يقال: فلان بصير بالشعر، و فلان بصير بالفقه، و فلان بصير بالدراهم، و فلان بصير بالثياب، الله أعظم من أن يرى بالعين.

أقول: و رواه في التوحيد بطريق آخر عنهعليه‌السلام و بإسناده عن أبي هاشم الجعفريّ عن الرضاعليه‌السلام .

و فيه، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرّة المحدّث أن اُدخله إلى أبي الحسن الرضاعليه‌السلام فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام حتّى بلغ سؤاله التوحيد فقال أبوقرّة: إنّا روينا: أنّ الله قسّم الرؤية و الكلام بين نبيّين فقسم الكلام لموسى و لمحمّد الرؤية، فقال: أبوالحسنعليه‌السلام : فمن المبلّغ عن الله إلى الثقلين من الجنّ و الإنس، لا تدركه الأبصار، و لا يحيطون به علماً، و ليس كمثله شي‏ء؟ أ ليس محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: بلى. قال: كيف يجي‏ء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عندالله، و أنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: لا تدركه الأبصار، و لا

٣٢٦

يحيطون به علماً، و ليس كمثله شي‏ء ثمّ يقول: أنا رأيته بعيني و أحطت به علماً و هو على صورة البشر، أ ما تستحون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشي‏ء ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر.

قال أبو قرّة: فإنّه يقول:( وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) فقال أبوالحسنعليه‌السلام : إنّ بعد هذه الآية ما يدلّ على ما رأى حيث قال:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى‏ ) يقول: ما كذب فؤاد محمّد ما رأته عيناه ثمّ أخبر بما رأى فقال:( لَقَدْ رَأى‏ مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) فآيات الله غير الله و قد قال الله:( وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت المعرفة.

فقال أبو قرّة: فتكذّب بالروايات؟ فقال الرضاعليه‌السلام : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبتها، و ما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يحاط به علماً، و لا تدركه الأبصار، و ليس كمثله شي‏ء.

أقول: و هذا المعنى وارد في أخبار اُخر مرويّة عنهمعليهم‌السلام ، و هناك روايات اُخر تثبت الرؤية بمعنى آخر أدقّ يليق بساحة قدسه تعالى سنوردها إن شاء الله في تفسير سورة الأعراف، و إنّما شدّد النكير على الرؤية في هذه الرواية لما أنّ المشهور من إثبات الرؤية في عصرهم كان هو إثبات الرؤية الجسمانيّة بالبصر الجسمانيّ الّتي ينفيها صريح العقل و نصّ الكتاب‏ ففي تفسير الطبريّ، عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربّه فقال له رجل عند ذلك: أ ليس قال الله: لا تدركه الأبصار؟ فقال له عكرمة: أ لست ترى السماء؟ قال بلى، قال: فكلّها ترى؟ إلى غير ذلك من الأخبار.

و الّذي تثبته من الرؤية صريح الرؤية الجسمانيّة بالعضو الباصر، و قد نفاها العقل و النقل، و قد فات عكرمة أن لو كان المراد بقوله:( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) هو نفي الإحاطة بجميع أقطار الشي‏ء لم يكن وجه لاختصاصه به تعالى فإنّ شيئاً من الأشياء الجسمانيّة و لها سطوح مختلفة الجهات كالإنسان و الحيوان و سائر الأجسام الأرضيّة و الأجرام السماويّة لا يمسّ الحسّ الباصر منها إلًا ما يواجه الشعاع الدائر بين الباصر و المبصر على ما تعيّنه قوانين الإبصار المدوّنة في أبحاث المناظر و المرايا.

٣٢٧

فإنّا إذا أبصرنا إنساناً مثلاً فإنّما نبصر منه بعض السطوح الكثيرة المحيطة ببدنه من فوق و تحت و القدّام و الخلف و اليمين و اليسار مثلاً، و من المحال أن يقع البصر على جميع ما يحيط به من مختلف السطوح فلو كان المراد من قوله:( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) نفي هذا السنخ من الإدراك البصريّ المحال فيه و في غيره كان كلاماً لا محصّل له.

و في التوحيد، بإسناده عن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أباعبدالله جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام عن الله تبارك و تعالى هل يرى في المعاد؟ فقال: سبحان الله و تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً يا بن الفضل إنّ الأبصار لا تدرك إلّا ما له لون و كيفيّة، و الله خالق الألوان و الكيفيّات.

٣٢٨

( سورة الأنعام الآيات ١٠٦ - ١١٣)

اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ  لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ  وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ( ١٠٦ ) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا  وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا  وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( ١٠٧ ) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ  كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٠٨ ) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا  قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ  وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ( ١٠٩ ) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ١١٠ ) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ( ١١١ ) وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا  وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ  فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( ١١٢ ) وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ( ١١٣ )

( بيان)

اتّصال الآيات بما قبلها واضح لا غبار عليه، و الكلام مسرود في التوحيد.

قوله تعالى: ( اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) أمر باتّباع ما اُوحي إليه من ربّه من أمر التوحيد و اُصول شرائع الدين من غير أن يصدّه ما يشاهده من استكبار المشركين عن الخضوع لكلمة الحقّ و الإعراض

٣٢٩

عن دعوة الدين.

و في قوله:( مِنْ رَبِّكَ ) المشعر بمزيد الاختصاص تلويح إلى شمول العناية الخاصّة الإلهيّة إلّا أنّ قوله:( مِنْ رَبِّكَ ) لمّا كان ملحوقاً بقوله:( وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) و كان ذلك ربّما يوهم أنّ المراد: اتّبع الوحي و اعبد ربّك، و أعرض عنهم يعبدوا أربابهم، و لا يخلو ذلك عن إمضاء لطريقتهم و شركهم قدّم على قوله:( وَ أَعْرِضْ ) إلخ، قوله:( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) ليندفع به هذا الوهم، و يجلو معنى قوله:( وَ أَعْرِضْ ) إلخ، و يأخذ موضعه.

فالمعنى: اتّبع ما اُوحي إليك من ربّك الّذي له العناية البالغة بك و الرحمة المشتملة عليك إذ خصّك بوحيه و أيّدك بروح الاتّباع، و أعرض عن هؤلاء المشركين لا بأن تدعهم و ما يعبدون و تسكت راضياً بما يشركون فيكون ذلك إمضاءً للوثنيّة فإنّما الإله واحد و هو ربّك الّذي يوحي إليك لا إله إلّا هو بل أن تعرض عنهم فلا تجهد نفسك في حملهم على التوحيد و لا تتحمّل شقّاً فوق طاقتك فإنّما عليك البلاغ و لست عليهم بحفيظ و لا وكيل، و إنّما الحفيظ الوكيل هو الله و لم يشأ لهم التوحيد و لو شاء ما أشركوا لكنّه تركهم و ضلالهم لأنّهم أعرضوا عن الحقّ و استنكفوا عن الخضوع له.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) تطييب لقلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يجد لشركهم و لا يحزن لخيبة المسعى في دعوتهم فإنّهم غير معجزين لله فيما أشركوا فإنّما المشيّة لله لو شاء ما أشركوا بل تلبّسوا بالإيمان عن طوع و رغبة كما تلبّس من وفّق للإيمان و ذلك أنّهم استكبروا في الأرض و استعلوا على الله و مكروا به و قد أهلكوا بذلك أنفسهم فردّ الله مكرهم إليهم و حرّمهم التوفيق للإيمان و الاهتداء إذ كما أنّ السنّة الجارية في التكوين هي سنّة الأسباب و قانون العلّيّة و المعلوليّة العامّ، و المشيّة الإلهيّة إنّما تتعلّق بالأشياء و تقع على الحوادث على وفقها فما تمّت فيه العلل و الشرائط و ارتفعت عن وجوده الموانع كان هو الّذي تتعلّق بتحقّقه المشيّة الإلهيّة و إن كان الله سبحانه له فيه المشيّة مطلقاً إن لم يشأه لم يكن و إن شاء كان، كذلك السنّة في نظام التشريع و الهداية هي سنّة الأسباب فمن استرحم الله رحمه

٣٣٠

و من أعرض عن رحمته حرّمه، و الهداية بمعنى إراءة الطريق تعمّ الجميع فمن تعرّض لهذه النفحة الإلهيّة و لم يقطع طريق وصولها إليه بالفسق و الكفر و العناد شملته و أحيته بأطيب الحياة، و من اتّبع هواه و عاند الحقّ و استعلى على الله، و أخذ يمكر بالله و يستهزئ بآياته حرّمه الله السعادة و أنزل الله عليه الشقوة و أضلّه على علم و طبع عليه بالكفر فلا ينجو أبداً.

و لو لا جريان المشيّة الإلهيّة على هذه السنّة بطل نظام الأسباب و قانون العلّيّة و المعلوليّة و حلّت الإرادة الجزافيّة محلّه و لغت المصالح و الحكم و الغايات، و أدّى فساد هذا النظام إلى فساد نظام التكوين لأنّ التشريع ينتهي بالأخرة إلى التكوين بوجه و دبيب الفساد إليه يؤدّي إلى فساد أصله.

و هذا كما أنّ الله سبحانه لو اضطرّ المشركين على الإيمان و خرج بذلك النوع الإنسانيّ عن منشعب طريقي الإيمان و الكفر، و سقط الاختيار الموهوب له و لازم بحسب الخلقة الإيمان، و استقرّ في أوّل وجوده على أريكة الكمال، و تساوى الجميع في القرب و الكرامة كان لازم ذلك بطلان نظام الدعوة و لغو التربية و التكميل، و ارتفع الاختلاف بين الدرجات، و أدّى ذلك إلى بطلان اختلاف الاستعدادات و الأعمال و الأحوال و الملكات و انقلب بذلك النظام الإنسانيّ و ما يحيط به و يعمل فيه من نظام الوجود إلى نظام آخر لا خبر فيه عن إنسان أو ما يشعر به فافهم ذلك.

و من هنا يظهر أن لا حاجة إلى حمل قوله:( وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا ) على الإيمان الاضطراريّ، و أنّ المراد أن لو شاء الله أن يتركوا الشرك قهراً و إجباراً لاضطرّهم إلى ذلك و ذلك أنّ الّذي تقدّم من أنّ المراد تعلّق المشيّة الإلهيّة على تركهم الشرك اختياراً كما تعلّقت بذلك في المؤمنين سواءً هو الأوفق بكمال القدرة، و الأنسب بتسلية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تطييب قلبه.

فالمعنى: أعرض عنهم و لا يأخذك من جهة شركهم وجد و لا حزن فإنّ الله قادر أن يشاء منهم الإيمان فيؤمنوا كما شاء ذلك من المؤمنين فآمنوا. على أنّك لست بمسؤل عن أمرهم لا تكويناً و لا غيره فلتطب نفسك.

٣٣١

و يظهر من ذلك أيضاً أنّ قوله:( وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) أيضاً مسوق سوق التسلية و تطييب النفس، و كأنّ المراد بالحفيظ القائم على إدارة شؤن وجودهم كالحياة و النشوء و الرزق و نحوها، و بالوكيل القائم على إدارة الأعمال ليجلب بذلك المنافع و يدفع المضارّ المتوجّهة إلى الموكّل عنه من ناحيتها فمحصّل المراد بقوله:( وَ ما جَعَلْناكَ ) إلخ، أن ليس إليك أمر حياتهم الكونيّة و لا أمر حياتهم الدينيّة حتّى يحزنك ردّهم لدعوتك و عدم إجابتهم إلى طلبتك.

و ربّما يقال: إنّ المراد بالحفيظ من يدفع الضرر ممّن يحفظه و بالوكيل من يجلب المنافع إلى من يتوكّل عنه، و لا يخلو عن بعد فإنّ الحفيظ فيما يتبادر من معناه يختصّ بالتكوين و الوكيل يعمّ التكوين و غيره، و لا كثير جدوى في حمل إحدى الجملتين على جهة تكوينيّة، و الاُخرى على ما يعمّها و غيرها بل الوجه حمل الاُولى على إحدى الجهتين، و الاُخرى على الاُخرى.

قوله تعالى: ( وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) السبّ معروف، قال الراغب في المفردات: العدو التجاوز و منافاة الالتيام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له: العداوة و المعاداة، و تارة بالمشي فيقال له العدو، و تارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له العدوان و العدو قال:( فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) و تارة بأجزاء المقرّ فيقال له العدواء يقال مكان ذو عدواء أي غير متلائم الأجزاء. انتهى.

و الآية تذكر أدباً دينيّاً تصان به كرامة مقدّسات المجتمع الدينيّ و تتوقّى ساحتها أن يتلوّث بدرن الإهانة و الإزراء بشنيع القول و السبّ و الشتم و السخريّة و نحوها فإنّ الإنسان مغروز على الدفاع عن كرامة ما يقدّسه، و المقابلة في التعدّي على من يحسبه متعدّياً إلى نفسه، و ربّما حمله الغضب على الهجر و السبّ لما له عنده أعلى منزلة العزّة و الكرامة فلو سبّ المؤمنون آلهة المشركين حملتهم عصبيّة الجاهليّة أن يعارضوا المؤمنين بسبّ ما له عندهم كرامة الاُلوهيّة و هو الله عزّ اسمه ففي سبّ آلهتهم نوع تسبيب إلى ذكره تعالى بما لا يليق بساحة قدسه و كبريائه.

و عموم التعليل المفهوم من قوله:( كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) يفيد عموم النهي

٣٣٢

لكلّ قول سيّئ يؤدّي إلى ذكر شي‏ء من المقدّسات الدينيّة بالسوء بأيّ وجه أدّى.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الزينة أمر جميل محبوب يضمّ إلى شي‏ء ضمّاً يجلب الرغبة إليه و يحبّبه عند طالبه فيتحرّك نحو الزينة و ينتهي إلى الشي‏ء المتزيّن بها كاللباس المزيّن بهيئته الحسنة الّذي يلبسه الإنسان لزينته فيصان به بدنه عن الحرّ و البرد.

و قد أراد الله سبحانه أن يعيش الإنسان هذه العيشة الدنيويّة ذات الشعب و الفروع و يديم حياته الأرضيّة الخاصّة به من طريق إعمال قواه الفعّالة فيدرك ما ينفعه و ما يضرّه بحواسه الظاهرة ثمّ يتصرّف فيها بحواسّه و قواه الباطنة ثمّ يتغذّى بأكل أشياء و شرب أشياء و يهيج إلى النكاح بأعمال خاصّة و يلبس و يأوي و يجلب و يدفع و هكذا.

و له في جميع هذه الأعمال و ما يتعلّق بها لذائذ يقارنها و غايات حيويّة ينتهي إليها و آخر ما ينتهي إليه الحياة السعيدة الحقيقيّة الّتي خلق لها أو الحياة الّتي يظنّها الحياة السعيدة الحقيقيّة. و هو إنّما يقصد بما يعمله من عمل ما يتّصل به من اللذّة المادّيّة كلذّة الطعام و الشراب و النكاح و غير ذلك أو اللذّة الفكريّة كلذّة الدواء و لذّة التقدّم و الاُنس و المدح و الفخر و الذكر الخالد و الانتقام و الثروة و الأمن و غير ذلك ممّا لا يحصى.

و هذه اللذائذ اُمور زيّنت بها هذه الأعمال و متعلّقاتها، و قد سخّر الله سبحانه بها الإنسان فهو يوقع الأفعال و يتوخّى الأعمال لأجلها، و بتحقّقها يتحقّق الغايات الإلهيّة و الأغراض التكوينيّة كبقاء الشخص، و دوام النسل، و لو لا ما في الأكل و الشرب و النكاح من اللذّة المطلوبة لم يكن الإنسان ليتعب نفسه بهذه الحركات الشاقّة المتعبة لجسمه و الثقيلة على روحه فاختلّ بذلك نظام الحياة، و فنى الشخص، و انقطع النسل فانقرض النوع، و بطلت حكمة التكوين بلا ريب في ذلك.

و ما كان من هذه الزينة طبيعيّة مغروزة في طبائع الأشياء كالطعوم اللذيذة الّتي في أنواع الأغذية و لذّة النكاح فهي مستندة إلى الخلقة منسوبة إلى الله سبحانه واقعة في طريق سوق الأشياء إلى غاياتها التكوينيّة، و لا سائق لها إليها إلّا الله سبحانه فهو الّذي أعطى كلّ شي‏ء خلقه ثمّ هدى.

٣٣٣

و ما كان منها لذّة فكريّة تصلح حياة الإنسان في دنياه و لا تضرّه في آخرته فهي منسوبة أيضاً إلى الله سبحانه لأنّها ناشئة عن الفطرة السليمة الّتي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال تعالى:( حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (الحجرات: ٧).

و ما كان منها لذّة فكريّة توافق الهوى و تشقي في الاُخرى و الاُولى بإبطال العبوديّة و إفساد الحياة الطيّبة فهي لذّة منحرفة عن طريق الفطرة السليمة فإنّ الفطرة هي الخلقة الإلهيّة الّتي نظمها الله بحيث تسلك إلى السعادة و الأحكام الناشئة منها و الأفكار المنبعثة منها لا تخالف أصلها الباعث لها فإذا خالفت الفطرة و لم تؤمّن السعادة فليست بالمترشّحة منها بل إنّما نشأت من نزعة شيطانيّة و عثرة نفسانيّة فهي منسوبة إلى الشيطان كاللذائذ الوهميّة الشيطانيّة الّتي في الفسوق بأنواعه من حيث إنّه فسوق فإنّها زينة منسوبة إلى الشيطان غير منسوبة إلى الله سبحانه إلّا بالإذن قال تعالى حكاية عن قول إبليس:( لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) (الحجر: ٣٩) و قال تعالى:( فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) (النحل: ٦٣).

أمّا أنّها لا تنسب إلى الله سبحانه بلا واسطة فإنّه تعالى هو الّذي نظم نظام التكوين فساق الأشياء فيه إلى غاياتها و هداها إلى سعادتها ثمّ فرّع على فطرة الإنسان الكونيّة السليمة عقائد و آراءً فكريّة يبني عليها أعماله فتسعده و تحفظه عن الشقاء و خيبة المسعى، و جلّت ساحته عزّ اسمه أن يعود فيأمر بالفحشاء و ينهى عن المعروف و يبعث إلى كلّ قبيح شنيع فيأمر الناس جميعاً بالحسن و القبيح معاً و ينهى الناس جميعاً عن القبيح و الحسن معاً فيختلّ بذلك نظام التكليف و التشريع ثمّ الثواب و العقاب ثمّ يصف الدين الّذي هذه صفته بأنّه دين قيّم فطرة الله الّتي فطر الناس عليها، و الفطرة بريئة من هذا التناقض و أمثاله متأبّية مستنكفة من أن ينسب إليها ما تعدّه من السفه و العتاهية.

فإن قلت: ما المانع من أن تنسب الدعوة إلى الطاعة و المعصية إليه تعالى بمعنى أنّ النفوس الّتي تزيّنت بالتقوى و تجهّزت بسريرة صالحة يبعثها الله إلى الطاعة و العمل الصالح، و النفوس الّتي تلوّثت بقذارة الفسوق و اكتست بخباثة الباطن يدعوها الله سبحانه

٣٣٤

إلى الفجور و الفسق بحسب اختلاف استعداداتها فالداعي إلى الخير و الشرّ و الباعث إلى الطاعة و المعصية جميعاً هو الله سبحانه.

قلت: هذا نظر آخر غير النظر الّذي كنّا نبحث عنه و هذا هو النظر في الطاعة و المعصية من حيث توسيط أسباب متخلّلة بينهما و بينه تعالى فلا شكّ أنّ الحالات الحسنة أو السيّئة النفسانيّة لها دخل في تحقّق ما يناسبها من الطاعات أو المعاصي، و على تقديرها تنسب الطاعة و المعصية إليها بلا واسطة و إلى الله سبحانه بالإذن فالله سبحانه هو الّذي أذن لكلّ سبب أن يتسبّب إلى مسبّبه.

و أمّا الّذي نحن فيه من النظر فهو النظر في حال الطاعة و المعصية من حيث تشريع الأحكام، و من حيث انبعاث النفوس إليهما مع قطع النظر عن سائر الأسباب الباعثة الداعية إليهما فهل من الممكن أن يقال: إنّ الله سبحانه يدعو إلى الإيمان و الكفر جميعاً أو يبعث إلى الطاعة و المعصية معاً؟ و هو الّذي يصف دينه بأنّه الدين القيّم على المجتمع الإنسانيّ المبنيّ على الفطرة الإلهيّة و هذه الشرائع الإلهيّة ثمّ الدواعي النفسانيّة الموافقة لها كلّها فطريّة و الدواعي النفسانيّة الموافقة لهوى النفس المخالفة لأحكام الشريعة مخالفة للفطرة لا تنسب الدعوة إليها إلى ذي فطرة سليمة فمن المحال أن تنسب إليه تعالى قال تعالى:( وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) (الأعراف: ٢٩).

و أمّا أنّها منسوبة إليه تعالى بالإذن فإنّ الملك عامّ و السلطنة الإلهيّة مطلقة و حاشا أن يتأتّى لأحد أن يتصرّف في شي‏ء من ملكه إلّا بإذنه فما يزيّنه الشيطان في قلوب أوليائه من الشرك و الفسق و جميع ما ينتهي بوجه من الوجوه إلى سخط الله سبحانه فإنّما ذلك عن إذن إلهيّ تتمّ به سنّة الامتحان و الاختبار الّذي لا يتمّ دونه نظام التشريع و مسلك الدعوة و الهداية، قال تعالى:( ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) (يونس: ٣) و قال:( وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ ) (آل عمران: ١٤١).

فتبيّن أنّ لزينة الأعمال نسبة إليه تعالى أعمّ ممّا بواسطة الإذن أو بلا واسطة،

٣٣٥

و عليه يجري قوله تعالى:( كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) (الآية: ١٠٨) و أوضح منه في الانطباق على ما تقدّم قوله تعالى:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) (الكهف: ٧).

و للمفسّرين بحسب اختلافهم في نسبة الأفعال إليه تعالى أقوال في الآية.

منها: أنّ المراد هو التزيين بالأمر و النهي و بيان الحسن و القبح فالمعنى: كما زيّنّا لكم أيّها المؤمنون أعمالكم زيّنّا لكلّ اُمّة من قبلكم أعمالهم من حسن الدعاء إلى الله و ترك سبّ الأصنام و نهيناهم أن يأتوا من الأفعال ما ينفّر الكفّار عن قبول الحقّ. و فيه أنّه مخالف لظهور الآية في العموم، و لا دليل على تخصيصها بما ذكروه كما ظهر ممّا تقدّم.

و منها: أنّ المعنى: و كذلك زيّنّا لكلّ اُمّة عملهم بميل الطباع إليه و لكن قد عرّفناهم الحقّ مع ذلك ليأتوا الحقّ و يجتنبوا الباطل.

و فيه: أنّه كما لا يصحّ إسناد الدعوة إلى الطاعة و المعصية و الإيمان و الكفر إليه تعالى بلا واسطة كذلك لا تصحّ نسبة ميل الطباع إلى الأعمال الحسنة و السيّئة على وتيرة واحدة إليه تعالى فالفرق بين الدعوة التكوينيّة و ما يشابهها و بين الدعوة التشريعيّة إلى القبائح و المساوي، و نسبة الأوّل إليه تعالى دون الثاني ليس في محلّه.

و منها: أنّ المراد هو التزيين بذكر الثواب فهو كقوله:( وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ ) (الحجرات: ٧) أي حبّب إليكم الإيمان بذكر ثوابه و مدح فاعليه على فعله، و كرّه الكفر بذكر عقابه و ذمّ فاعليه. و فيه: أنّ فيه تقييداً للأعمال بالحسنة من غير مقيّد. على أنّه معنى بعيد من السياق و من ظاهر لفظ التزيين. على أنّ التزيين بهذا المعنى لا يختصّ بالمؤمنين.

و منها: أنّ المراد التزيين لمطلق الأعمال حسناتها و سيّئاتها ابتداء من غير واسطة و الدعوة منه تعالى إلى الطاعة و المعصية جميعاً بناءً على أنّ الإنسان مجبر في الأفعال المنسوبة إليه.

و فيه: أنّ ظاهر الآية أوفق بالاختيار منه بالإجبار فإنّ الشي‏ء إنّما تضمّ إليه

٣٣٦

الزينة ليرغب فيه الإنسان و يحبّب إليه فتكون مرجّحة لتعلّقه به و ترك غيره، و لو لم تكن نسبة فعله و تركه إليه على السواء لم يكن وجه لترجيحه فتزين الفعل بما يرغب فيه الفاعل نوع من الحيلة يتوسّل بها إلى وقوعه، و هو ينطبق في الطاعات و حسنات الأعمال على ما يسمّى في لسان الشرع هداية و توفيقاً، و في المعاصي و سيّئات الأعمال على ما يعدّ إضلالاً و مكراً إلهيّاً، و لا مانع من نسبة الإضلال و المكر إليه تعالى إذا كانا بعنوان المجازاة دون الإضلال و المكر الابتدائيّين، و قد تقدّم البحث عن هذه المعاني في مواضع من هذا الكتاب و تقدّم البحث عن الجبر و ما يقابله من التفويض و الأمر بين الأمرين في الجزء الأوّل من الكتاب.

و قوله تعالى:( ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) يؤيّد ما تقدّم أنّ حكم التزيين عامّ شامل لجميع الأعمال الباطنيّة كالإيمان و الكفر و الظاهريّة كأعمال الجوارح الحسنة و السيّئة فإنّ ظاهر الآية أنّ الإنسان إنّما يقصد هذه الأعمال و يوقعها لأجل ما يرغب فيه من زينته غافلاً عن الحقائق المستورة تحت هذه الزينات المضروب عليها بحجاب الغفلة ثمّ إذا رجعوا إلى ربّهم نبّأهم بحقيقة ما كانوا يعملونه، و عاينوا ما هم مصروفون عنه، أمّا أولياء الرحمن فوجدوا ما لم يكن يعلم ممّا اُخفي لهم من قرّة أعين، و أمّا أولياء الشيطان فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون فظهور حقائق الأعمال يوم القيامة لا يختصّ بأحد القبيلين من الحسنات و السيّئات.

قوله تعالى: ( وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ - إلى قوله -عِنْدَ اللَّهِ ) الجهد بفتح الجيم الطاقة و الأيمان جمع يمين و هي القسم، و جهد الأيمان أي ما تبلغه قدرتها و هو الطاقة، و المراد أنّهم بالغوا في القسم و أكّدوه ما استطاعوا، و المراد بكون الآيات عندالله كونها في ملكه و تحت سلطته لا ينالها أحد إلّا بإذنه.

فالمعنى: و أقسموا بالله و بالغوا فيه لئن جاءتهم آياته تدلّ على صدق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يدعو إليه ليؤمننّ بتلك الآية - و هذا اقتراح منهم للآية كناية - قل إنّما الآيات عندالله و هو الّذي يملكها و يحيط بها و ليس إليّ من أمرها شي‏ء حتّى اُجيبكم إليها من تلقاء نفسي.

٣٣٧

قوله تعالى: ( وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) قرئ: لا يُؤْمِنُونَ بياء الغيبة و تاء الخطاب جميعاً، و الخطاب على القراءة الاُولى للمؤمنين بنوع من الالتفات، و على القراءة الثانية للمشركين و الكلام من تتمّة قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو ظاهر.

و الظاهر أنّ( إِنَّمَا ) في قوله:( وَ ما يُشْعِرُكُمْ ) للاستفهام، و المعنى: و ما هو الّذي يفيد لكم العلم بواقع الأمر و هو أنّهم لا يؤمنون إذا جاءتهم الآيات؟ فالكلام في معنى قولنا: هؤلاء يحلفون بالله لئن جاءتكم الآيات ليؤمننّ بها فربّما آمنتم و صدّقتم بحلفهم و ليس لكم علم بأنّهم إذا جاءتهم الآيات لا يؤمنون بها لأنّ الله لم يشأ إيمانهم فالكلام من الملاحم.

و ربّما قيل: إنّ( أنّ ) في قوله:( أَنَّها إِذا جاءَتْ ) إلخ، بمعنى لعلّ و هذا معنى شاذّ لا يحمل على مثله كلام الله لو ثبت لغة.

قوله تعالى: ( وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) إلخ، ظاهر السياق أنّ الجملة عطف على قوله:( لا يُؤْمِنُونَ ) و هي بمنزلة التفسير لعدم إيمانهم، و المراد بقوله:( أَوَّلَ مَرَّةٍ ) الدعوة الاُولى قبل نزول الآيات قبال ما يتصوّر له من المرّة الثانية الّتي هي الدعوة مع نزول الآيات.

و المعنى أنّهم لا يؤمنون لو نزلت عليهم الآيات، و ذلك أنّا نقلّب أفئدتهم فلا يعقلون بها كما ينبغي أن يعقلوه، و أبصارهم فلا يبصرون بها ما من حقّهم أن يبصروه فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا بالقرآن أوّل مرّة من الدعوة قبل نزول هذه الآيات المفروضة و نذرهم في طغيانهم يتردّدون و يتحيّرون. هذا ما يقضي به ظاهر سياق الآية..

و للمفسّرين في الآية أقوال كثيرة غريبة لا جدوى في التعرّض لها و البحث عنها، من شاء الاطّلاع عليها فليراجع مظانّها.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) إلى آخر الآية بيان آخر لقوله:( إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ) و أنّ قولهم:( لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها ) دعوى كاذبة أجرأهم عليها جهلهم بمقام ربّهم فليس في وسع الآيات الّتي يظنّون أنّها أسباب مستقلّة في إيجاد الإيمان في قلوبهم و إقدارهم على التلبّس به أن تودع في نفوسهم

٣٣٨

الإيمان إلّا بمشيّة الله.

فهذا السياق يدلّ على أنّ في الكلام حذفاً و إيجازاً، و المعنى: و لو أنّنا أجبناهم في مسألتهم و آتيناهم أعاجيب الآيات فنزّلنا إليهم الملائكة فعاينوهم، و أحيينا لهم الموتى فواجهوهم و كلّموهم و أخبروهم بصدق ما يدعون إليه، و حشرنا و جمعنا عليهم كلّ شي‏ء قبيلاً قبيلاً و صنفاً صنفاً، أو حشرنا عليهم كلّ شي‏ء قبلاً و مواجهة فشهدوا لهم بلسان الحال أو القال، ما كانوا ليؤمنوا و لم يؤثّر شي‏ء من ذلك في استجابتهم للإيمان إلّا أن يشاء الله إيمانهم.

فلا يتمّ لهم الإيمان بشي‏ء من الأسباب و العلل إلّا بمشيّة الله فإنّ النظام الكونيّ على عرضه العريض و إن كان يجري على طبق حكم السببيّة و قانون العلّيّة العامّ غير أنّ العلل و الأسباب مفتقرة في أنفسها متدلّية إلى ربّها غير مستقلّة في شي‏ء من شؤنها و مقتضياتها فلا يظهر لها حكم إلّا بمشيّة الله و لا يحيا لها رسم إلّا بإذنه.

غير أنّ المشركين أكثرهم - و لعلّهم غير العلماء الباغين منهم - يجهلون مقام ربّهم و يتعلّقون بالأسباب على أنّها مستقلّة في نفسها مستغنية عن ربّها فيظنّون أن لو أتاهم سبب الإيمان - و هو الآية المقترحة - آمنوا و اتّبعوا الحقّ و قد اختلط عليهم الأمر بجهلهم فأخذوا هذه الأسباب الناقصة المفتقرة إلى مشيّة الله أسباباً مستقلّة تامّة مستغنية عنه.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ ) إلى آخر الآية الشياطين جمع شيطان و هو في اللغة الشرير غلب استعماله في إبليس الّذي يصفه القرآن و ذرّيّته، و الجنّ من الجنّ بالفتح و هو الاستتار، و هو في عرف القرآن نوع من الموجودات ذوات الشعور و الإرادة مستور عن حواسّنا بحسب طبعها و هم غير الملائكة. يذكر القرآن أنّ إبليس الشيطان من سنخهم. و الوحي هو القول الخفيّ بإشارة و نحوها، و الزخرف الزينة المزوّقة أو الشي‏ء المزوّق فزخرف القول الكلام المزوّق المموّه الّذي يشبه الحقّ و ليس به، و غروراً مفعول مطلق لفعل مقدّر من جنسه أو مفعول له.

و المعنى: و مثل ما جعلنا لك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّاً هم شياطين الإنس و الجنّ

٣٣٩

يشير بعضهم إلى بعض - و كأنّ المراد وحي شياطين الجنّ بالوسوسة و النزغة إلى شياطين الإنس و وحي بعض شياطين الإنس إلى بعض آخر منهم بإسرار المكر و التسويل - بأقوال مزوّقة و كلمات مموّهة يغرّونهم بذلك غروراً أو لغرورهم و إضلالهم بذلك.

و قوله:( وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ ) يشير بذلك إلى أنّ حكم المشيّة عامّ جارٍ نافذ فكما أنّ الآيات لا تؤثّر في إيمانهم شيئاً إلّا بمشيّة الله كذلك معاداة الشياطين الأنبياء و وحيهم زخرف القول غروراً كلّ ذلك بإذن الله و لو شاء الله ما فعلوه و لم يوحوا ذلك فلم يكونوا عدوّاً للأنبياء، و بهذا المعنى يتّصل هذه الآية بما قبلها لاشتراكهما في بيان توقّف الاُمور على المشيّة.

و قوله:( فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ ) تفريع على نفوذ المشيّة أي إذا كانت هذه المعاداة و الإفساد بالوساوس كلّ ذلك بإذن الله و لم يكونوا بمعجزين لله في مشيّته النافذة الغالبة فلا يحزنك ما تشاهد من إخلالهم بالأمر و إفسادهم له بل اتركهم و ما يفترونه على الله من دعوى الشريك و نحوها.

فقوله:( وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ ) إلى آخر الآية في معنى قوله في صدر الآيات:( وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا ) .

و الكلام في قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ ) إلخ، حيث اُسند ظاهراً جعلهم عدوّاً للأنبياء - و فيه التسبّب إلى الشرّ و البعث إلى الشرك و المعصية - إلى الله سبحانه و هو منزّه من كلّ شرّ و سوء نظير الكلام في إسناده تزيين الأعمال إلى الله سبحانه في قوله:( كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) و قد تقدّم الكلام فيه، و كذا الكلام في ظاهر ما يفيده قوله في الآية التالية:( وَ لِتَصْغى‏ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ) إلخ، حيث جعل هذه المظالم و الآثام غايات إلهيّة للدعوة الحقّة.

و للمفسّرين في هاتين الآيتين على حسب اختلاف مذاهبهم في انتساب الأعمال إلى الله سبحانه نظائر ما تقدّم من أقوالهم في انتساب زينة الأعمال إليه تعالى.

و قد عرفت أنّ الّذي يفيده ظاهر الآية الكريمة أنّ كلّ ما يصدق عليه اسم شي‏ء فهو مملوك له تعالى منسوب إليه من غير استثناء لكنّ الآيات المنزّهة لساحة قدسه تعالى

٣٤٠