الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 80677
تحميل: 6069


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80677 / تحميل: 6069
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ذلك هل هو بقلب ماهيّة الملكيّة إلى الماهيّة الإنسانيّة - الّذي ربّما يحيله عدّة من الباحثين - أو بتمثيله مثالاً إنسانيّاً كتمثّل الروح لمريم بشراً سويّاً، و تمثّل الملائكة الكرام لإبراهيم و لوطعليهما‌السلام في صورة الضيفين من الآدميّين.

و جلّ الآيات الواردة في مورد الملائكة و إن كان يؤيّد الثاني من الوجهين لكن قوله تعالى:( وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ) (الزخرف: ٦٠) لا يخلو عن دلالة مّا على الوجه الأوّل، و للبحث ذيل ينبغي أن يطلب من محلّ آخر.

و ثالثاً: أنّ قوله تعالى:( وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) من قبيل قوله تعالى:( فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (الصفّ: ٥) فهو إضلال إلهيّ لهم بعد ما استحبّوا الضلال لأنفسهم من غير أن يكون إضلالاً ابتدائيّاً غير لائق بساحة قدسه سبحانه.

و رابعاً: أنّ متعلّق يلبسون المحذوف أعمّ يشمل لبسهم على أنفسهم و لبس بعضهم على بعض.

و خامساً: أنّ محصّل الآية احتجاج عليهم بأنّه لو اُنزل عليهم ملك بالرسالة لم ينفعهم ذلك في رفع حيرتهم فإنّ الله جاعل الملك عندئذ رجلاً يماثل الرسول البشريّ و هم لابسون على أنفسهم معه متشكّكون فإنّهم لا يريدون بهذه المسألة إلّا أن يتخلّصوا من الرسول البشريّ الّذي هو في صورة رجل ليبدّلوا بذلك شكّهم يقيناً و إذا صار الملك على هذا النعت - و لا محالة - فهم لا ينتفعون بذلك شيئاً.

و سادساً: أنّ في التعبير:( لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ) و لم يقل: لجعلناه بشراً ليشمل الرجل و المرأة جميعاً إشعاراً - كما قيل - بأنّ الرسول لا يكون إلّا رجلاً كما أنّ التعبير لا يخلو من إشعار بأنّ هذا الجعل إنّما هو بتمثّل الملك في صورة الإنسان دون انقلاب هويّته إلى هويّة الإنسان كما قيل.

و غالب المفسّرين وجّهوا الآية بأنّ المراد: أنّهم لمّا كانوا لا يطيقون رؤية الملك في صورته الأصليّة لتوغّلهم في عالم المادّة فلو اُرسل إليهم ملك لم يكن بدّ من تمثّله لهم بشراً سويّاً، و حينئذ كان يبدو لهم من اللبس و الشبهة ما يبدو مع الرسول من البشر و لم ينتفعوا به شيئاً.

٢١

و هذا التوجيه لا يفي باستقامة الجواب، و إن سلّمنا أنّ الإنسان العاديّ لا تسعه مشاهدة الملائكة في صورهم الأصليّة بالاستناد إلى أمثال قوله تعالى:( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ) (الفرقان: ٢٢).

و ذلك أنّ شهود الملك في صورته الأصليّة لو كان محالاً على الإنسان لم يختلف فيه حال الأفراد الإنسانيّة بالجواز و الامتناع، و قد ورد في روايات الفريقين أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى جبرئيل في صورته الأصليّة مرّتين، و من المقدور لله أن يقوّي سائر الناس على ما قوّى عليه نبيّه فيعاينوهم و يؤمنوا بهم، و لا محذور فيه بحسب الحكمة إلّا محذور الإلجاء فهو المحذور الّذي يجب أن يدفع بالآية كما تقدّم.

و كذا مشاهدة الملك في صورة الآدميّين لا تلازم جواز الشكّ و اللبس فإنّ الله سبحانه يخبر عن إبراهيم و لوطعليهما‌السلام أنّهما عاينا الملائكة في صورة الآدميّين ثمّ عرفهم و لم يشكّا في أمرهم، و كذا أخبر عن مريم أنّها شاهدت الروح ثمّ عرفته و لم تشكّ فيه و لا التبس عليها أمره فلم لم يكن من الجائز أن يكون حال سائر الناس حالهمعليهم‌السلام في معاينة الملك في صورة الإنسان ثمّ معرفته و اليقين بأمره؟ لو لا أنّ جعل نفوس الناس جميعاً كنفس إبراهيم و لوط و مريم يستلزم إمحاء غرائزهم و فطرهم، و تبديلها نفوساً طاهرة قادسة، و فيه محذور الإلجاء، فالإلجاء هو المحذور الّذي لا يبقى معه موضوع الامتحان، و هو الّذي يجب دفعه بالآية كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ) إلى آخر الآيتين، الحيق الحلول و الإصابة، و في مفردات الراغب: قيل و أصله حقّ فقلب نحو زلّ و زال، و قد قرئ:( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ ) فأزالهما، و على هذا ذمّه و ذامه، انتهى.

و قد كان استهزاؤهم بالرسل بالاستهزاء بالعذاب الّذي كانوا ينذرونهم بنزوله و حلوله فحاق بهم عين ما استهزؤا به، و في الآية الاُولى تطييب لنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و إنذار للمشركين، و في الآية الثانية أمر بالاعتبار و عظة.

٢٢

( سورة الأنعام الآيات ١٢ - ١٨)

قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  قُل لِّلَّهِ  كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ  لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ  الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( ١٢ ) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ  وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٣ ) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ  قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ  وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ١٤ ) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ١٥ ) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ  وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( ١٦ ) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ  وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٧ ) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ  وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( ١٨ )

( بيان)

فريق من الآيات تحتجّ على المشركين في أمر التوحيد و المعاد فالآيتان الأوليان تتضمّنان البرهان على المعاد، و بقيّة الآيات و هي خمس مسوقة للتوحيد تقيم البرهان على ذلك من وجهين على ما سيأتي.

قوله تعالى: ( قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ) شروع في البرهنة على المعاد، و محصّله أنّ الله تعالى مالك ما في السماوات و الأرض جميعاً له أن يتصرّف فيها كيف شاء و أراد، و قد اتّصف سبحانه بصفة الرحمة و هي رفع حاجة كلّ محتاج و إيصال كلّ شي‏ء إلى ما يستحقّه و إفاضته عليه و عدّة من عباده و منهم الإنسان صالحون لحياة خالدة مستعدّون لأن يسعدوا فيها فهو بمقتضى ملكه و رحمته سيتصرّف فيهم بحشرهم و إعطائهم ما يستحقّونه البتّة.

٢٣

فقوله تعالى:( قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلخ، يتضمّن إحدى مقدّمات الحجّة و قوله:( كَتَبَ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) يتضمّن مقدّمة اُخرى، و قوله:( وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ ) إلخ، مقدّمة اُخرى ثالثة بمنزلة الجزء من الحجّة.

فقوله تعالى:( قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلخ، يأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسألهم عمّن يملك السماوات و الأرض و له التصرّف فيها بما شاء من غير مانع يمنعه، و هو الله سبحانه من غير شكّ لأنّ غيره حتّى الأصنام و أرباب الأصنام الّتي يدعوها المشركون هي كسائر الخلقة ينتهي خلقها و أمرها إليه تعالى فهو المالك لما في السماوات و الأرض جميعاً.

و لكون المسؤل عنه معلوماً بيّناً عند السائل و المسؤل جميعاً و الخصم معترف به لم يحتج إلى صدور الجواب عن الخصم و اعترافه به بلسانه، و أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكر هو الجواب و يتكفّل ذلك لتتمّ الحجّة من غير انتظار مّا لجوابهم.

و السؤال عن الخصم، و مباشرة السائل بنفسه الجواب كلاهما من السلائق البديعة الدائرة في سرد الحجج، يقول المنعم لمن أنعم عليه فكفر بنعمته: من الّذي أطعمك و سقاك و كساك؟ أنا الّذي فعل ذلك بك و منّ بها عليك و أنت تجازيني بالكفر.

و بالجملة ثبت بهذا السؤال و الجواب أنّ الله سبحانه هو المالك على الإطلاق فله التصرّف فيها بما شاء من إحياء و رزق و إماتة و بعث بعد الموت من غير أن يمنعه من ذلك مانع كدقّة في العمل و موت و غيبة و اختلال و غير ذلك. و بهذا تمّت إحدى مقدّمات الحجّة فألحقها المقدّمة الاُخرى و هي قوله:( كَتَبَ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) .

قوله تعالى: ( كَتَبَ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) الكتابة هو الإثبات و القضاء الحتم، و إذ كانت الرحمة - و هي إفاضة النعمة على مستحقّها و إيصال الشي‏ء إلى سعادته الّتي تليق به - من صفاته تعالى الفعليّة صحّ أن ينسب إلى كتابته تعالى، و المعنى: أوجب على نفسه الرحمة و إفاضة النعم و إنزال الخير لمن يستحقّه.

و نظيره في نسبة الفعل إلى الكتابة و نحوها قوله تعالى:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي ) (المجادلة: ٢١) و قوله:( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) (الذاريات: ٢٣) و أمّا

٢٤

صفات الذات كالحياة و العلم و القدرة فلا تصحّ نسبتها إلى الكتابة و نحوها البتّة لا يقال: كتب على نفسه الحياة و العلم و القدرة.

و لازم كتابة الرحمة على نفسه - كما تقدّم - أن يتمّ نعمته عليهم بجمعهم ليوم القيامة ليجزيهم بأقوالهم و أعمالهم فيفوز به المؤمنون و يخسر غيرهم.

و لذلك ذيل بقوله و هو كالنتيجة في الحجّة:( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) فأكّد المعنى بأبلغ التأكيد: لام القسم و نون التأكيد و قوله:( لا رَيْبَ فِيهِ ) .

ثمّ أشار إلى أنّ الربح في هذا اليوم للمؤمنين و الخسران على غيرهم فقال:( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

و الحجّة الّتي اُقيمت في هذه الآية على المعاد غير ما اُقيمت من الحجّتين عليه في قوله تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (ص: ٢٨) فإنّ الآيتين تقيمان الحجّة على المعاد من جهة أنّ فعله تعالى ليس بباطل بل له غاية، و من جهة أنّ التسوية بين المؤمن و الكافر و المتّقي و الفاجر ظلم لا يليق به تعالى، و هما في الدنيا لا يتميّزان فلا بدّ من نشأة اُخرى يتميّزان فيها بالسعادة و الشقاوة، و هذا غير ما في هذه الآية من السلوك إلى المطلوب من طريق الرحمة.

قوله تعالى: ( وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) السكون في الليل و النهار هو الوقوع في ظرف هذا العالم الطبيعيّ الّذي يدبّر أمره بالليل و النهار، و يجري نظامه بغشيان النور الساكب من شمس مضيئة، و عمل التحوّلات النوريّة فيه بالقرب و البعد و الكثرة و القلّة و الحضور و الغيبة و المسامتة و غيرها.

فالليل و النهار هما المهد العامّ يربّى فيه العناصر الكلّيّة و مواليدها تربية تسوق كلّ جزء من أجزائها و كلّ شخص من أشخاصها إلى غايته الّتي قدّرت له، و تكمّلها روحاً و جسماً.

و كما أنّ للمسكن عامّاً و خاصّاً دخلاً تامّاً في كينونة الساكن كالإنسان مثلاً يسكن أرضاً فيطوف بها في طلب الرزق، و يرتزق ممّا يخرج منها من حبّ و فاكهة و ما

٢٥

يتربّى فيها من حيوان، و يشرب من مائها، و يستنشق من هوائها، و يفعل و ينفعل من كيفيّات منطقتها، و ينمو جميع أجزاء جسمه على حسب تقديرها كذلك الليل و النهار لهما الدخل التامّ في تكوّن عامّة ما يتكوّن فيهما.

و الإنسان من الأشياء الساكنة في الليل و النهار تكوّن بمشيّة الله من ائتلاف أجزاء بسيطة و مركّبة على صورة خاصّة يمتاز وجوده حدوثاً و بقاءً بحياة تقوم على شعور فكريّ و إرادة يتهيّئان له من قوى له باطنيّة عاطفيّة تأمره بجذب المنافع و دفع المضارّ، و تدعوه إلى إيجاد مجتمع متشكّل فيه ما نراه من تفاصيل التفاهم باللغات و التباني على اتّباع السنن و القوانين و العادات في المعاشرات و المعاملات، و احترام الآراء و العقائد العامّة في الحسن و القبح و العدل و الظلم و الطاعة و المعصية و الثواب و العقاب و الجزاء و العفو.

و إذا كان الله سبحانه هو الخالق لليل و النهار و ما سكن فيهما المتفرّد بإيجادها فله ما سكن في الليل و النهار، و هو المالك الحقّ لجميع الليل و النهار و سكّانهما و ما يستعقب وجودها من الحوادث و الأفعال و الأقوال، و له النظام الجاري فيها على عجيب سعته فهو السميع لأقوالنا من أصوات و إشارات، و العليم بأعمالنا و أفعالنا بما لها من صفتي الحسن و القبح، و العدل و الظلم و الإحسان و الإساءة، و ما تكتسبه النفوس من سعادة و شقاء.

و كيف يمكنه الجهل بذلك و قد نشأ الجميع في ملكه و بإذنه؟ و نحو وجود هذا النوع من الاُمور أعني الحسن و القبح و العدل و الظلم و الطاعة و المعصية، و كذا اللغات الدالّة على المعاني الذهنيّة كلّ ذلك اُمور علميّة لا تحقّق لها في غير ظرف العلم، و لذلك نرى أنّ الفعل لا يقع منّا حسناً و لا قبيحاً و لا طاعة و لا معصية، و الصوت المؤلّف لا يسمّى كلاماً إلا إذا علمنا به و قصدنا وجهه.

و كيف يمكن أن يملك شي‏ء علميّ في نفسه من حيث كونه كذلك ثمّ يجهله مالكه و لا يعلم به؟ (أجد التأمّل فيه).

و الله سبحانه هو الّذي أوجد هذا العالم على عجيب سعته في أجزائه البسيطة و العنصريّة و المركّبة على نظام يدهش اللبّ، ثمّ خلقنا و أسكننا الليل و النهار ثمّ كثّرنا و أجرى بيننا نظام الاجتماع الإنسانيّ ثمّ هدانا إلى وضع اللغات، و اعتبار السنن و وضع

٢٦

الاعتبارات، و لم يزل يصاحبنا و يصاحب سائر الأسباب خطوة خطوة، و يجارينا و إيّاها في مسير الليل و النهار لحظة لحظة، و ساق حوادث لا نحصيها حادثة بعد حادثة.

حتّى تكلّم الواحد منّا بكلام فوضع المعنى في قلبه بإلهامه، و أجرى اللفظ في لسانه بتعريفه، و أسمع الصوت لمخاطبه بإسماعه، و سار بمعناه إلى ذهنه بحفظه، و فهّم المعنى لمفكرته بتعليمه، ثمّ بعثه لموافقة ما ألقاه إليه المتكلّم أو صدّه عن ذلك بإرادة باعثة له إليه أو كراهة دافعة له عنه، و هو في جميع هذه المراحل الّتي تعجز عن الانعقاد عليها أنامل العدّ و الإحصاء قائد و سائق و هاد و حفيظ و رقيب! فكيف يسع لقائل إلّا أن يقول: إنّه تعالى سميع عليم، و ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم و لا خمسة إلّا هو سادسهم و لا أدنى من ذلك و لا أكثر إلّا هو معهم أينما كانوا ثمّ ينبّئهم بما عملوا يوم القيامة إنّ الله بكلّ شي‏ء عليم.

و كذا إذا عمل الواحد منّا بعمل حسنة كان أو سيّئة فهو مولود من أب و اُمّ يولّدانه تحت مراقبة الاختيار و الإرادة، و قد انتقل إليهما بعد ما قطع طريقاً بعيداً و أمداً مديداً في أصلاب أسباب فاعله، و أرحام علل اُخرى منفعلة إلى أن ينتهي بما الله أعلم به، و لم يزل سبحانه ينقله بإرادته من حجر إلى حجر، و الأرض قبضته و السماوات بيمينه حتّى نزل منزل الاختيار فصاحبه منزلاً بعد منزل بإذنه حتّى طلع من اُفق العين، و أخذ موضعه من مسكن الليل و النهار ثمّ لا يزال يجري فيما يتأثّر منه من أجزاء الكون كأحد الأسباب الجارية، و الله سبحانه عليه شهيد و به محيط فكيف يمكن أن يغفل سبحانه عمّا هذا شأنه؟ أ لا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير.

و ممّا تقدّم يظهر أنّ قوله تعالى:( وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) بمنزلة النتيجة لقوله:( وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ ) .

و السمع و العلم و إن كانا معدودين من صفاته تعالى الذاتيّة الّتي هي عين الذات المتعالية من غير أن يتفرّع على أمر غيرها لكن من العلم و كذا السمع و البصر ما هو صفة فعليّة خارجة عن الذات و هي الّتي يتوقّف ثبوتها على تحقّق متعلّق غير الذات المقدّسة كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة المتوقّفة على وجود مخلوق و مرزوق و حيّ و ميّت.

٢٧

و الأشياء لمّا كانت بأنفسها و أعيانها مملوكة محاطة له تعالى فهي إن كانت أصواتاً سمع و مسموعة له تعالى، و إن كانت أنواراً و ألواناً بصر و مبصرة له تعالى، و الجميع كائنة ما كانت علم و معلومة له تعالى، و هذا النوع من العلم من صفاته الفعليّة الّتي تتحقّق عند تحقّق الفعل منه تعالى لا قبل ذلك، و لا يلزم من ثبوتها بعد ما لم تكن تغيّر في ذاته تعالى و تقدّس لأنّها لا تعدو مقام الفعل، و لا يدخل في عالم الذات فالآية في استنتاجها العلم من الملك تريد إثبات العلم الفعليّ، فافهم ذلك.

و الآية أعني قوله:( وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ ) إلخ، كإحدى مقدّمات الحجّة المبيّنة بالآية السابقة فإنّ الحجّة على المعاد و إن تمّت بقوله:( قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) لكنّ النظر الابتدائيّ الساذج ربّما غفل عن كون ملكه تعالى للأشياء مستلزماً لعلمه بها و سمعه بما يسمع منها كالأصوات و الأقوال.

و لذلك نبّه عليه بتكرار ملك السماوات و الأرض، و تفريع السمع و العلم عليه فقال:( وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ ) و هو في معنى قوله:( له ما في السماوات و الأرض و هو السميع العليم) فكانت هذه الآية لذلك بمنزلة مقدّمة متمّمة للحجّة المسرودة في الآية السابقة.

و الآية - على أنّا لم نستوف حقّها و لن يستوفي - من أرقّ الآيات القرآنيّة معنى و أدقّها إشارة و حجّة، و أبلغها منطقاً.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ ) شروع في الاحتجاج على وحدانيّته تعالى و أن لا شريك له.

و الّذي يتحصّل من تاريخ الوثنيّة و اتّخاذ الأصنام و الآلهة أنّهم كانوا إنّما دانوا بذلك و خضعوا للآلهة لأحد أمرين: إمّا أنّهم وجدوا أنفسهم في حاجة إلى أسباب كثيرة في إبقاء الحياة كالتغذّي بالطعام و اللباس و المسكن و الأزواج و الأولاد و العشيرة و نحو ذلك، و عمدتها الطعام الّذي حاجة الإنسان إليه أشدّ من حاجته إلى غيره بحسب النظر الساذج، و قد اعتقدوا أنّ لكلّ صنف من أصناف هذه الحوائج تعلّقاً بسبب هو الّذي يجود لهم بالتمتّع من وسيلة رفع تلك الحاجة كالسبب الّذي يمطر السماء فينبت

٢٨

المرعى و الكلأ لدوابّهم و يمنع بالخصب لأنفسهم، و السبب الّذي يدبّر أمر السهل و الجبل أو يلقي بالمحبّة و الاُلفة أو إليه أمر البحر و السفائن الجارية فيه.

ثمّ وجدوا أنّ قوّتهم لا تفي بالتسلّط على تلك الحاجة أو الحوائج الضروريّة فاضطرّوا إلى الخضوع إلى السبب المربوط بحاجتهم و اتّخاذه إلهاً ثمّ عبادته.

و إمّا لأنّهم وجدوا هذا الإنسان الأعزل غرضاً لسهام الحوادث محصوراً بمكاره و شرور عامّة عظيمة لا يقاومها كالسيل و الزلزلة و الطوفان و القحط و الوباء، و ببلايا و محن اُخرى جزئيّة لا يحصيها كالأمراض و الأوجاع و السقوط و الفقر و العقم و العدوّ و الحاسد و الشانئ و غير ذلك، ثمّ وضعوا لها أسباباً قاهرة هي المرسلة لها إليهم، و القاصمة بها ظهورهم، و المكدّرة لصفوة عيشهم، و هي مخلوقات علويّة كأرباب الأنواع و أرواح الكواكب و الأجرام العلويّة فاتّخذوها آلهة خوفاً من سخطهم و عذابهم، و عبدوها ليستميلوها بالعبادة و يرضوها بالخضوع و الاستكانة فيخلصوا بذلك عن المكاره و الرزايا و يأمنوا شرورها و المضارّ النازلة منها إليهم.

و الآية أعني قوله:( قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ) إلخ، و الآيات التالية لها تحتجّ على المشركين بقلب حجّتيهم بعينهما إليهم أي تسلّم أصل الحجّة و تعدّها حقّة لكن تبيّن أنّ لازمها أن يعبدالله سبحانه وحده، و ينفى عنه كل شريك موضوع.

فقوله تعالى:( قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ ) إشارة إلى الحجّة من المسلك الأوّل، و هو مسلك الرجاء أن يعبد الإله لأنّه منعم فيكون عبادته شكراً لإنعامه سبباً لمزيده.

أمر سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبيّن لهم في صورة الاستفهام و السؤال أنّ الله سبحانه وحده هو الوليّ للنعمة الّتي يتنعّم بها الإنسان و غيره لأنّه هو الرازق الّذي لا يحتاج إلى أن يرزقه غيره يطعم و لا يطعم، و الدليل عليه أنّه تعالى هو الّذي فطر السماوات و الأرض، و أخرجها من ظلمة العدم إلى نور الوجود، و أنعم عليها بنعمة التحقّق و الثبوت، ثمّ أفاض عليها بنعم لا يحصيها إلّا هو لإبقاء وجودها، و منها الإطعام للإنسان و غيره فإنّ جميع هذه النعم المعدّة لبقاء وجود الإنسان و غيره، و الأسباب الّتي تسوق تلك النعم

٢٩

إلى محالّ الاستحقاق كلّ ذلك ينتهي إلى فطرة و إيجاده الأشياء و الأسباب و مسبّباتها جميعاً من صنعه.

فإليه سبحانه يرجع الرزق الّذي من أهمّ مظاهره عند الإنسان الإطعام فيجب أن يعبدالله وحده لأنّه هو الّذي يطعمنا من غير حاجة إلى إطعام من غيره.

فظهر بما بيّنّاه أوّلاً: أنّ التعبير عن العبوديّة و التألّه باتّخاذ الوليّ في قوله:( أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ) إنّما هو لكون الحجّة مسوقة من جهة إنعامه تعالى بالإطعام.

و ثانياً: أنّ التعلّق بقوله:( فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إنّما هو لبيان سبب انحصار الإطعام به تعالى كما تقدّم تقريره، و ربّما استفيد ذلك من التعريض الّذي في قوله:( وَ لا يُطْعَمُ ) فإنّ فيه تعريضاً بكون سائر من اتّخذوهم آلهة محتاجين كعيسى و غيره إلى إطعام أو ما يجري مجراه.

و من الممكن أن يستفاد من ذكره في الحجّة أنّه إشارة إلى مسلك آخر في إقامة الحجّة على توحيده تعالى هو أشرف من المسلكين جميعاً، و محصّله أنّ الله سبحانه هو الموجد لهذا العالم، و إلى فطرة ينتهي كلّ شي‏ء فيجب الخضوع له.

و وجه كون هذا المسلك أشرف: هو أنّ المسلكين الآخرين و إن كانا أنتجا توحيد الإله من جهة أنّه معبود لكنّهما لا يخلوان مع ذلك من شي‏ء، و هو أنّهما ينتجان وجوب عبادته طمعاً في النعمة أو خوفاً من النقمة فالمطلوب بالذات هو جلب النعمة أو الأمن من النقمة دونه تعالى و تقدّس، و أمّا هذا المسلك فإنّه ينتج وجوب عبادة الله لأنّه الله سبحانه.

و ثالثاً: أنّ اختصاص الإطعام من بين نعمه تعالى على كثرتها بالذكر إنّما العناية فيه كون الإطعام بحسب النظر الساذج أوضح حوائج الحيوان العائش و منه الإنسان.

ثمّ أمر سبحانه بعد تمام الحجّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكر لهم ما يؤيّد به هذه الحجّة العقليّة، و هو أنّ الله أمره من طريق الوحي أن يجري في اتّخاذ الإله على الطريق الّذي يهدي إليه العقل و هو التوحيد، و نهاه صريحاً أن يتخطّاه إلى أن يلحق بالمشركين فقال:( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) ثمّ قال:( وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

٣٠

بقي هنا أمران:

أحدهما: أنّ قوله:( أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) إن كان المراد أوّل من أسلم من بينكم فهو ظاهر فقد أسلمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل اُمّته، و إن كان المراد به أوّل من أسلم من غير تقييد كما هو ظاهر الإطلاق كانت أوّليّته في ذلك بحسب الرتبة دون الزمان.

و ثانيهما: أنّ نتيجة الحجّة لما كانت هي العبوديّة و هي نوع خضوع و تسليم كان استعمال لفظة الإسلام في المقام أولى من لفظة الإيمان لما فيه من الدلالة على غرض العبادة، و هو الخضوع.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) و هذا هو المسلك الثاني من المسلكين اللّذين تقدّم أنّ المشركين تعلّقوا بهما في اتّخاذ الآلهة، و هو أنّ عبادة آلهتهم يؤمنهم من شمول سخطها و نزول عذابها.

و قد أخذ سبحانه في الحجّة أخوف ما يجب أن يخاف منه من أنواع العذاب و أمرّه و هو عذاب الساعة الّتي ثقلت في السماوات و الأرض كما أخذ في الحجّة الاُولى أحوج ما يحتاج إليه الإنسان بحسب بادئ النظر من النعم، و هو الإطعام.

و قد قيل:( إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ) دون أن يقال: إن أشركت بربّي إشارة إلى ما في قوله تعالى في الآية السابقة:( وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) من نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الشرك فأفادت الآية أنّ من الواجب عليّ عقلاً أن أعبدالله وحده لاُومن ممّا أخاف من عذاب يوم عظيم، و هذا الّذي دلّ عليه العقل دلّني عليه الوحي من ربّي.

و بهذا تناظر هذه الآية الآية السابقة من جهة إقامة الحجّة العقليّة أوّلاً ثمّ تأييده بالوحي من الله سبحانه فافهم ذلك، و هذا من لطائف إيجاز القرآن الكريم فقد اكتفى في إفادة هذا المعنى على سعته بمجرّد وضع قوله:( عَصَيْتُ ) موضع أشركت.

قوله تعالى: ( مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ) إلخ، المعنى ظاهر الآية متمّمة للحجّة المسرودة في الآية السابقة فظاهر الآية السابقة بحسب النظر البسيط إقامة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحجّة في وجوب التوحيد على نفسه بأنّ الله نهاه عن الشرك فيجب عليه توحيده ليؤمن عذاب الآخرة.

٣١

فيلوح لنظر المغفّل غير المتدبّر أن يردّ عليه الحجّة بأنّ النهي لمّا كان مختصّاً بك كما تدّعيه يختصّ الخوف ثمّ وجوب التوحيد أيضاً بك فلا تقتضي الحجّة وجوب التوحيد و نفي الشريك على غيرك، و تصير الحجّة عليك لا على غيرك.

فأفاد بقوله:( مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ) أنّ عذابه مشرف على الجميع محيط بالكلّ لا مخلص عنه إلّا برحمته فعلى كلّ إنسان أن يخاف من عذاب يومئذ على نفسه ما يخافه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نفسه فالحجّة عامّة قائمة على جميع الناس لا خاصّة بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ) إلى آخر الآية، قد كانت الحجّتان المذكورتان في الآيات السابقة أخذتا اُنموذجاً ممّا يرجوه الإنسان و هو الإطعام و اُنموذجاً ممّا يخافه و هو عذاب يوم القيامة، و تمّمتا بهما البيان، و لم تتعرّضاً لسائر أنواع الضرّ و أقسام الخير الّتي يمسّ الله سبحانه بهما الإنسان، و الكلّ من الله عزّ اسمه.

فالآية توضح بالتصريح أنّ هناك من الضرّ ما هو غير عذاب يوم القيامة يمسّ الله سبحانه به الإنسان يجب أن يتوجّه إليه تعالى في كشفه، و أنّ من الخير ما يمسّ الله به الإنسان و لا رادّ لفضله و لا مانع يمنع من إفاضته لقدرته على كلّ شي‏ء، و رجاء الخير يوجب على الإنسان أن يتّخذه سبحانه إلهاً معبوداً.

و لما أمكن أن يتوهّم أنّ كونه تعالى يمسّ الإنسان بضرّ أو بخير إنّما يقتضي أن يتّخذ معبوداً، و الخصم لا ينكر ذلك(١) . و أمّا قصر الاُلوهيّة و المعبوديّة فيه تعالى فلا لأنّ ما اتّخذوه من الآلهة هي أسباب متوسّطة و شفعاء أقوياء لها تأثيرات في الكون من شرّ أو خير يوجب على الإنسان أن يتقرّب إليها خوفاً من شرّها أو رجاءً لخيرها.

دفعه بأنّ الله سبحانه هو القاهر فوق عباده لا يفوقه منهم أحد و لا يعادله فهم أنفسهم تحت قهره، و كذا أفعالهم و آثارهم لا يعملون عملاً من خير أو شرّ إلّا بإذنه و مشيّته غير مستقلّين بأمر البتّة و لا يملكون لأنفسهم ضرّاً و لا نفعاً و لا غير ذلك، فما

يطلع من اُفق ذواتهم من أثر خيراً أو شرّاً ينتهي إلى أمره و مشيّته و إذنه يستند إليه على ما يليق بساحة

____________________

(١) الخاصّة من الوثنيّة و إن كانوا يجوزون عبادته تعالى استناداً إلى أنّه غير محدود الوجود لا يتعلّق به التوجّه العبادي لكن العامّة منهم ربّما عبدوه في عرض سائر الآلهة كما يظهر من تلبية مشركي مكّة في الحجّ: لبّيك لا شريك لك الله شريكاً هو لك تملكه و له ملك.

٣٢

قدسه و عزّته من الاستناد.

فالآيتان جميعاً تتمّمان معنى واحداً، و هو أنّ ما يصيب الإنسان من خير أو شرّ فمن الله على ما يليق بساحته من الانتساب، فالله سبحانه هو المتوحّد بالاُلوهيّة، و المتفرّد بالمعبوديّة لا إله غيره، و لا معبود سواه.

و قد عبّر عن إصابة الضرّ و الخير بالمسّ الدالّ على الحقارة في قوله:( إِنْ يَمْسَسْكَ ) ( وَ إِنْ يَمْسَسْكَ ) ليدلّ به على أنّ ما يصيب الإنسان من ضرّ أو من خير شي‏ء يسير ممّا تحمله القدرة غير المتناهية الّتي لا يقوم لها شي‏ء، و لا يطيقها و لا يتحمّلها مخلوق محدود.

و كأنّ قوله تعالى في جانب الخير:( فَهُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) وضع موضع نحو من قولنا: فلا مانع يمنعه، ليدلّ على أنّه تعالى قدير على كلّ خير مفروض كما أنّه قدير على كلّ ضرّ مفروض، و تنكشف به علّة قوله:( فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ) إذ لو كشف غيره تعالى شيئاً ممّا مسّ به من ضرّ دفع ذلك قدرته عليه، و كذلك قدرته على كلّ شي‏ء تقتضي أن لا يقوى شي‏ء على دفع ما يمسّ به من خير.

و تخصيص ما يمسّ به من ضرّ أو خير بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآية نظير التخصيص الواقع في قوله:( قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) و يفيد قوله:( وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ) من التعميم نظير ما أفاد قوله:( مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ) .

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) القهر هو نوع من الغلبة، و هو أن يظهر شي‏ء على شي‏ء فيضطرّه إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما للمغلوب من الأثر طبعاً أو بنحوه من الافتراض كالماء يظهر على النار فيقهرها على الخمود، و النار تقهر الماء فتبخّره أو تجفّف رطوبته. و إذ كانت الأسباب الكونيّة إنّما أظهرها الله سبحانه لتكون وسائط في حدوث الحوادث فتضع آثارها في مسبّباتها، و هي كائنة ما كانت مضطرّة إلى مطاوعة ما يريده الله سبحانه فيها و بها، يصدق عليها عامّة أنّها مقهورة لله سبحانه فالله قاهر عليها.

فالقاهر من الأسماء الّتي تصدق عليه تعالى كما تصدق على غيره، غير أنّ بين قهره تعالى و قهر غيره فرقاً، و هو أنّ غيره تعالى من الأشياء إنّما يقهر بعضها بعضاً و هما مجتمعان من جهة

٣٣

مرتبة وجودهما و درجة كونهما بمعنى أنّ النار تقهر الحطب على الاحتراق و الاشتعال، و هما معاً موجودان طبيعيّان يقتضي أحدهما بالطبع خلاف ما يقتضيه الآخر لكن النار أقوى في تحميل أثرها على الحطب منه من النار فهي تظهر عليه في تأثيرها بأثرها فيه.

و الله سبحانه قاهر لا كقهر النار الحطب، بل هو قاهر بالتفوّق و الإحاطة على الإطلاق بمعنى أنّا إذا نسبنا إحراق جسم و إشعاله كالحطب مثلاً إلى الله سبحانه فهو سبحانه قاهر عليه بالوجود المحدود الّذي أوجده به، قاهر عليه بالخواصّ و الكيفيّات الّتي أعطاها له و عبّأه بها بيده، قاهر عليه بالنار الّتي أوقدها لإحراقه و إشعاله، و هو المالك لجميع ما للنار من ذات و أثر، قاهر عليه بقطع عطيّة المقاومة للحطب، و وضع الاحتراق و الاشتعال موضعه فلا مقاومة و لا تعصّي و لا جموح و لا شبه ذلك قبال إرادته و مشيّته لكونها من اُفق أعلى.

فهو تعالى قاهر على عباده لكنّه فوقهم لا كقهر شي‏ء شيئاً و هما متزاملان. و قد صدّق القرآن الكريم هذا البحث بنتيجته فذكره اسماً له تعالى في موضعين من هذه السورة و هما هذه الآية و آية (٦١).

و قيّد الاسم في كلا الموضعين بقوله:( فَوْقَ عِبادِهِ ) و الغالب في المحفوظ من موارد استعمال القهر هو أن يكون المغلوب من اُولي العقل بخلاف الغلبة، و لذا فسّره الراغب بالتذليل، و الذلّة في اُولي العقل أظهر، و لا يمنع ذلك من صحّة صدقه في غير مورد اُولي العقل بحسب الاستعمال أو بعناية.

و الله سبحانه قاهر فوق عباده يمسّهم بالضرّ و بالخير و يذلّلهم لمطاوعته و قاهر فوق عباده فيما يفعلونه و يؤثّرون به من أثر لأنّه المالك لما ملّكهم و القادر على ما عليه أقدرهم.

و لمّا نسب في الآيتين إليه المسّ بالضرّ و الخير، و قد ينسبان إلى غيره، ميّز مقامه من مقام غيره بقوله في ذيل الآية:( وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) فهو الحكيم لا يفعل ما يفعل جزافاً و جهلاً، الخبير لا يخطئ و لا يغلط كغيره.

٣٤

( سورة الأنعام الآيات ١٩ - ٢٠)

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً  قُلِ اللَّهُ  شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ  وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ  أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ  قُل لَّا أَشْهَدُ  قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ١٩ ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ  الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( ٢٠ )

( بيان)

احتجاج على الوحدانيّة من طريق الوحي فإنّ وحدة الإله و انتفاء الشريك عنه و إن كانت ممّا يناله العقل بوجوه من النيل فلا مانع من إثباته من طريق الوحي الصريح الّذي لا مرية فيه، فالمطلوب هو اليقين بأنّه تعالى إله واحد لا شريك له، و إذا فرض حصوله من طريق الوحي الّذي لا يداخله ريب في كونه وحياً إلهيّاً كالقرآن المتّكئ على التحدّي فلا مانع من الاستناد إليه.

قوله تعالى: ( قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) أمر نبيّه أن يسألهم عن أكبر الأشياء من حيث الشهادة، و الشهادة هي تحمّل الخبر عن نوع من العيان كالإبصار و نحوه، و أداء ما تحمّل كذلك بالإخبار و الإنباء، و إذ كان التحمّل و الأداء - و خاصّة التحمّل - ممّا يختلف بحسب إدراك المتحمّلين و بحسب وضوح الخبر الّذي تحمّله المتحمّل، و بحسب قوّة المؤدّى بياناً و ضعفه اختلافاً فاحشاً.

فليس المتحمّل الّذي يغلب على مزاجه السهو و النسيان أو الغفلة كالّذي يحفظ ما يعيه سمعه و يقع عليه بصره، و ليس الصاحي كالسكران و لا الخبير الأخصّائيّ بأمر كالأجنبيّ الأعزل.

و إذا كان الأمر على ذلك فلا يقع ريب في أنّ الله سبحانه هو أكبر من كلّ شي‏ء شهادة

٣٥

فإنّه هو الّذي أوجد كلّ ما دقّ و جلّ من الأشياء، و إليه ينتهي كلّ أمر و خلق، و هو المحيط بكلّ شي‏ء و مع كلّ شي‏ء لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السماوات و الأرض و لا أصغر من ذلك و لا أكبر لا يضلّ و لا ينسى.

و لكون الأمر بيّناً لا يقع فيه شكّ لم يحتج إلى إيراد الجواب في اللفظ بأن يقال: قل الله أكبر شهادة، كما قيل:( قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ) (الأنعام ١٢) أو يقال: سيقولون الله، كما قيل:( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) (المؤمنون: ٨٥).

على أنّ قوله:( قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) يدلّ عليه و يسدّ مسدّه، و ليس من البعيد أن يكون قوله( شَهِيدٌ) خبراً لمبتدإ، محذوف هو الضمير العائد إلى الله، و التقدير:( قل الله هو شهيد بيني و بينكم) فتشتمل الجملة على جواب السؤال و على ما استؤنف من الكلام.

و قوله:( قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) على أنّه يشتمل على إخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة الله تعالى هو بنفسه شهادة لمكان قوله:( قُلْ ) إذ أمره بأن يخبرهم بشهادته تعالى بالنبوّة لا ينفكّ عن الشهادة بذلك، و على هذا فلا حاجة إلى التشبّث بأنواع ما وقع في القرآن الكريم من شهادة الله تعالى على نبوّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و على نزول القرآن من عنده كقوله تعالى:( وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ) (المنافقون: ١) أو قوله:( لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) (النساء: ١٦٦) و غير ذلك من الآيات الدالّة على ذلك تصريحاً أو تلويحاً بلفظ الشهادة أو بغيره.

و تقييد شهادته تعالى بقوله:( بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) يدلّ على توسّطه تعالى بين طرفين متخاصمين هما النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قومه، و النبيّ لم ينعزل عنهم و لم يتميّز منهم في جانب إلّا في دعوى النبوّة و الرسالة و دعوى نزول القرآن لكن نزول القرآن بالوحي قد ذكر بعد في قوله:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ ) فالمراد بشهادته تعالى بينه و بينهم شهادته بنبوّته، و يؤيّده أيضاً قوله في الآية التالية:( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ ) على ما سيجي‏ء إن شاء الله.

٣٦

قوله تعالى: ( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) من مقول القول و هو معطوف على قوله:( اللَّهُ شَهِيدٌ ) إلخ، و جعل الإنذار غاية لنزول القرآن الكريم أخذ بمسلك الخوف في الدعوة النبويّة، و هو الأوقع في أفهام عامّة الناس فإنّ مسلك الرجاء و الوعد و إن كان أحد الطريقين في الدعوة، و قد استعمله الكتاب العزيز في الجملة لكنّ رجاء الخير لا يبعث إلى طلبه بعثاً إلزاميّاً و إنّما يورث شوقاً و رغبة بخلاف الخوف لوجوب دفع الضرر المحتمل عقلاً.

و لأنّ دعوة الإسلام إنّما هي إلى دين الفطرة، و هو مخزون مكنوز في فطرة الناس و إنّما حجبهم عنه ما ابتلوا به من الشرك و المعصية ممّا يوجب عليهم غلبة الشقوة و نزول السخط الإلهيّ فالأقرب إلى الحكمة و الحزم في دعوتهم أن تبدأ بالإنذار، و لهذا كلّه ربّما حصر شأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإنذار كما في قوله:( إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ) (الفاطر ٢٣) و قوله:( وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (العنكبوت: ٥٠).

هذا في عامّة الناس و أمّا الخاصّة من عباد الله، و هم الّذين يعبدونه حبّاً له لا خوفاً من نار و لا طمعاً في جنّة فإنّهم يتلقّون من الدعوة بالخوف و الرجاء أمراً آخر فإنّهم يتلقّون من النار أنّها دار بعد و سخط فيخافونها لذلك، و من الجنّة أنّها ساحة قرب و رضوان فيشتاقون إليها لذلك.

و ظاهر قوله:( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) أنّه خطاب لمشركي مكّة أو لقريش أو للعرب عامّة إلّا أنّ التقابل بين ضمير الخطاب و بين من بلغ - و المراد بمن بلغ هو من لم يشافهه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعوة في زمن حياته أو بعده - يدلّ على أنّ المراد بالمخاطبين في قوله:( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ) هم الّذين شافههم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعوة ممّن تقدّم دعاؤه على نزول الآية أو قارنه أو تأخّر عنه.

فقوله:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) يدلّ على عموم رسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن لكلّ من سمعه منه أو سمعه من غيره إلى يوم القيامة، و إن شئت فقل: تدلّ الآية على كون القرآن الكريم حجّة من الله و كتاباً له ينطق بالحقّ على أهل الدنيا من لدن نزوله إلى يوم القيامة.

٣٧

و قد قيل:( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ) و لم يقل: لأنذركم بقراءته فالقرآن حجّة على من سمع لفظه و عرف معناه و اهتدى إلى مقاصده، أو فسّر له لفظه و قرع سمعه بمضامينه فليس من شرط كتاب مكتوب إلى قوم أن يكون بلسانهم بل أن تقوم عليهم حجّته و تشملهم مضامينه، و قد دعاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتابه إلى مصر و الحبشة و الروم و إيران و لسانهم غير لسان القرآن، و قد كان فيمن آمن به في حياته و قبل إيمانهم سلمان الفارسيّ و بلال الحبشيّ و صهيب الروميّ و عدّة من اليهود و لسانهم عبريّ هذا كلّه ممّا لا ريب فيه.

قوله تعالى: ( أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى‏ قُلْ لا أَشْهَدُ ) إلى آخر الآية، لمّا ذكر شهادة الله و هو أكبر شهادة على رسالته و لم يرسل إلّا ليدعوهم إلى دين التوحيد، و ليس لأحد بعد شهادة الله سبحانه على أن لا شريك له في اُلوهيّته أن يشهد أنّ مع الله آلهة أمر نبيّه أن يسألهم سؤال متعجّب منكر: هل يشهدون بتعدّد الآلهة، و هذا هو الّذي يدلّ عليه تأكيد المسؤل عنه بأنّ و اللّام، كأنّ النفس لا تقبل أن يشهدوا به بعد أن سمعوا شهادة الله تعالى.

ثمّ أمره أن يخالفهم في الشهادة فينفي عن نفسه الشهادة بما شهدوا به فقال:( قُلْ لا أَشْهَدُ ) أي بما شهدتم به بقرينة المقام، ثمّ قال:( قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) و هو شهادة على وحدانيّته تعالى، و البراءة ممّا يدعون له من شركاء.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ ) و هذا إخبار عمّا شهد به الله سبحانه في الكتب المنزّلة على أهل الكتاب، و علمه علماء أهل الكتاب ممّا عندهم من كتب الأنبياء من البشارة بعد البشارة بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وصفه بما لا يعتريه شكّ و لا يطرأ عليه ريب.

فهم بما استحضروا من نعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرفونه بعينه كما يعرفون أبناءهم، قال تعالى:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ ) (الأعراف: ١٥٧) و قال تعالى:( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ) (الفتح: ٢٩)، و قال تعالى:( أَ وَ لَمْ يَكُنْ

٣٨

لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ ) (الشعراء: ١٩٧).

و لمّا كان بعض علمائهم يكتمون ما عندهم من بشاراته و نعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يستنكفون عن الإيمان به بيّن الله تعالى خسرانهم في أمرهم فقال:( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ‏ ) .

و قد تقدّم بعض الكلام في تفسير نظيرة الآية من سورة البقرة (آية ١٤٦) و بيّنّا هناك وجه الالتفات من الحضور إلى الغيبة و سيأتي تمام الكلام في سورة الأعراف (آية ١٥٦) إن شاء الله تعالى.

( بحث روائي)

في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن محمّد بن عيسى بن عبيد قال: قال لي أبوالحسنعليه‌السلام : ما تقول إذا قيل لك: أخبرني عن الله عزّوجلّ أ شي‏ء أم لا شي‏ء؟ قال: قلت: قد أثبت الله عزّوجلّ نفسه شيئاً حيث يقول:( قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) و أقول: إنّه شي‏ء لا كالأشياء إذ في نفي الشيئيّة عنه نفيه و إبطاله: قال لي: صدقت و أحسنت.

قال الرضاعليه‌السلام : للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفي، و تشبيه، و إثبات بغير تشبيه فمذهب النفي لا يجوز، و مذهب التشبيه لا يجوز لأنّ الله تبارك و تعالى لا يشبهه شي‏ء، و السبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه.

أقول: المراد بمذهب النفي نفي معاني الصفات عنه تعالى كما ذهبت إليه المعتزلة، و في معناه إرجاع الصفات الثبوتيّة إلى نفي ما يقابلها كالقول بأنّ معنى القادر أنّه ليس بعاجز، و معنى العالم أنّه ليس بجاهل إلّا أن يرجع إلى ما ذكرهعليه‌السلام من المذهب الثالث.

و المراد بمذهب التشبيه أن يشبّه تعالى بغيره - و ليس كمثله شي‏ء - أي أن يثبت

٣٩

له من الصفة معناه المحدود الّذي فينا المتميّز من غيره من الصفات بأن يكون قدرته كقدرتنا و علمه كعلمنا، و هكذا، و لو كان ما له من الصفة كصفتنا احتاج كاحتياجنا فلم يكن واجباً تعالى عن ذلك.

و المراد بمذهب الإثبات من غير تشبيه أن يثبت له من الصفة أصل معناه و تنفى عنه خصوصيّته الّتي قارنته في الممكنات المخلوقة أي تثبت الصفة و ينفي الحدّ.

و في تفسير القمّيّ: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام :( قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) و ذلك أنّ مشركي أهل مكّة قالوا: يا محمّد ما وجد الله رسولاً أرسله غيرك؟ ما نرى أحداً يصدّقك بالّذي تقول - ذلك في أوّل ما دعاهم و هم يومئذ بمكّة - قالوا: و لقد سألنا عنك اليهود و النصارى فزعموا أنّه ليس لك ذكر عندهم، فأتنا بمن يشهد أنّك رسول الله، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن بكير عن محمّد عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قول الله:( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) قال: عليّعليه‌السلام ممّن بلغ.

أقول: ظاهره أنّ( مَنْ بَلَغَ ) معطوف على ضمير( بَيْنَكُمْ ) ، و لقد ورد في بعض الروايات أنّ المراد بمن بلغ هو الإمام، و لازمه عطف( مَنْ بَلَغَ ) على فاعل( لِأُنْذِرَكُمْ ) المقدّر، و ظاهر الآية هو الأوّل.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن يحيى بن عمران الحلبيّ عن أبيه عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سئل عن قول الله عزّوجلّ:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) قال: بكلّ لسان.

أقول: قد مرّ وجه استفادته من الآية.

و في تفسير المنار: أخرج أبوالشيخ عن اُبيّ بن كعب قال: اُتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باُسارى فقال لهم: هل دعيتم إلى الإسلام؟ قالوا: لا، فخلّى سبيلهم ثمّ قرأ:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) ثمّ قال: خلّوا سبيلهم حتّى يأتوا مأمنهم من أجل أنّهم لم يدعوا.

٤٠