ثانياً: إن تنصيب علي (عليهالسلام ) لم يكن حين ذهاب النبي (صلىاللهعليهوآله ) من المدينة إلى مكة، بل كان حين رجوعه (صلىاللهعليهوآله ) من مكة إلى المدينة، بعد أدائه مناسك الحج(١) .
ويظهر من كلام الذهبي: أن صاحب هذا الزعم الباطل هو ابن داود، فعمل ابن جرير كتاب الفضائل ردّ فيه عليه، والظاهر: أنه سماه (كتاب الرد على الحرقوصية)(٢) نسبة إلى حرقوص بن زهير زعيم الخوارج، معرضاً: بأن صاحب هذا الزعم كان خارجياً.
وقال الذهبي: إنه رأى مجلداً من كتاب ابن جرير، فاندهش له ولكثرة
____________
١- إقبال الأعمال ص٤٥٣ و (ط مكتب الإعلام الإسلامي) ج٢ ص٢٧٩ وأشار إلى كتاب ابن جرير في: البداية والنهاية ج١١ ص١٤٦ وتهذيب التهذيب ج٧ ص٣٣٩ وقاموس الرجال ج١١ ص٢٦٤ وكشف المهم في طريق خبر غدير خم ص٨٢ والفهرست للطوسي ص١٥٠ وبحار الأنوار ج٩٥ ص٣٠١ وخلاصة عبقات الأنوار ج٧ ص٢٢٨ والغدير ج١ ص٢٣ وأسد الغابة ج١ ص٣٠٨ وتنبيه الغافلين ص٦٥ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٦ ص٢٧٤.
٢- راجع: مشكل الآثار ج٢ ص٣٠٨ والصواعق المحرقة ص٤٢ و ٤٣ والمعتصر من المختصر ج٢ ص٣٠١ والمرقاة في شرح المشكاة ج١٠ ص٤٧٦ وشرح الأخبار ج١ ص٨١ والمسترشد للطبري ص٣٥ وإقبال الأعمال لابن طاووس ج٢ ص٢٣٩ وبحار الأنوار ج٣٧ ص١٢٦ والغدير ج١ ص١٥٣ ورجال النجاشي ص٣٢٢ وقاموس الرجال ج٩ ص١٥١ و ١٥٤ و ١٩٣.
تلك الطرق(١) .
علي (عليهالسلام ) بعد العبدين الصالحين:
ورد في رواية جرير بن عبد الله البجلي لواقعة الغدير: أنه (صلىاللهعليهوآله ) أخذ بذراع علي (عليهالسلام ) وقال:
(من يكن الله ورسوله مولاه، فإن هذا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. اللهم من أحبّه من الناس فكن له حبيباً، ومن أبغضه فكن له مبغضاً. اللهم إنّي لا أجد أحداً استودعه في الأرض بعد العبدين الصالحين(٢) غيرك(٣) ، فاقض له بالحسنى.
____________
١- تذكرة الحفاظ ج٢ ص٧١٣ ومشكل الآثار ج٢ ص٣٠٨ والصواعق المحرقة ص٤٢ و ٤٣ والإمام علي بن أبي طالب "عليهالسلام " للرحماني ص٨٠٧ والمعتصر من المختصر ج٢ ص٣٠١ وفتح الملك العلي ص١٥ والمرقاة في شرح المشكاة ج١٠ ص٤٧٦ والمسترشد للطبري ص٤٣ والكنى والألقاب ج١ ص٢٤١ وخلاصة عبقات الأنوار ج٧ ص٢١٨ والغدير ج١ ص١٥٢ و ٣٠٧.
٢- الغدير ج١ ص٢٣ وخلاصة عبقات الأنوار ج٩ ص١١٣ و ١١٤ وكنز العمال ج١٣ ص١٣٨.
٣- راجع: الغدير (تحقيق مركز الغدير للدراسات) ج١ ص٦٢١ ومجمع الزوائد ج٩ ص١٠٦ والمعجم الكبير للطبراني ج٢ ص٣٥٧ وتاريـخ مدينة دمشق ج٤٢ ص٢٣٧ والإكمال في أسماء الرجال ص٣٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٦ ص٥٦٤ وج٣٠ ص٤٢٢ عن مخـتـصـر تـاريـخ دمشق (ط دار الفـكـر) ج١٧ = = ص٣٥٨ وهداية العقول ص٣١ وقال في الغدير: في تعليق هداية العقول (ص ٣١): لعله أراد بالعبدين الصالحين أبا بكر وعمر، وقيل: الخضر وإلياس.
وقيل: حمزة وجعفر رضي الله عنهما، لأن علياً "عليهالسلام " كان يقول عند اشتداد الحرب: وا حمزتاه ولا حمزة لي؟! وا جعفراه ولا جعفر لي؟!
أقول: هذا رجم بالغيب، إذ لا مجال للنظر في تفسير العبدين الصالحين بمن ذكر إلا أن يعثر على نص، والظاهر: عدم ذلك لما ذكره سيدي العلامة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن المفضل "رحمهالله " لما سأله بعضهم عن تفسير الحديث، فأجاب بما لفظه: لم أعثر عليه في شيء من كتب الحديث، إلا أن في رواية مجمع الزوائد ما يدل على عدم معرفة الراوي أيضاً بالمراد بالرجلين، لأن فيه قال بشر، أي الراوي عن جرير: قلت: من هذان العبدان الصالحان؟!
قال: لا أدري.
قال "رحمهالله ": ومثل هذا إن لم يرد به نقل فلا طريق إلى تفسيره بالنظر هـ. راجع: الغدير ج١ هامش ص٦٢.
وقال في كتاب على ضفاف الغدير: وأخرجه عنه أحمد بن عيسى المقدسي في الجزء الثاني من فضائل جرير بن عبد الله البجلي الموجود في المجموع ٩٣ في المكتبة الظاهرية. أخرجه في الورقة ٢٤٠.
وأخرجه ابن عساكر في تاريخـه: رقم ٥٨٧، وابن منظور في مختصر تاريخ دمشق ص١٧ ص٣٥٨، والقرافي في نفحات العبير الساري: ق٧٦/ب، والسيوطي في جمع الجوامع ص١ ص٨٣١، وفي قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة= = ص٢٧٧ ح١٠٢، والزبيدي في لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة ص٢٠٦، والشوكاني في در السحابة ص٢١٠، والكتاني في نظم المتناثر في الحديث المتواتر ص١٩٤ وإسحاق بن يوسف الصنعاني في تفريج الكروب في حرف الميم.
قال بشر (الراوي عن جرير) قلت: من هذان العبدان الصالحان؟!
قال: لا أدري(١) .
ونقول:
إنه (صلىاللهعليهوآله ) أشار إلى أن العبدين الصالحين الذين سيكون علي (عليهالسلام ) ثالثهما بعده، كانا على قيد الحياة، وأن لهما دوراً في وديعته (صلىاللهعليهوآله ).. ولعلهما: الخضر وإلياس.
لكن لا مجال للتأكيد على أنهما هما اللذان قصدهما (صلىاللهعليهوآله ) بكلامه هذا.. وإن كان ذلك محتملاً في حد نفسه. بل قد يقال: أن أحداً لا يصلح للاستيداع، مع وجود الحسنين(عليهماالسلام ) فهو من قبيل: رب لا تذرني فرداً، أو من قبيل: إن تهلك هذه العصابة لا تعبد، فهو بمثابة طلب حفظ الحسنين (عليهماالسلام ) على لسان رسول (صلىاللهعليهوآله ).
____________
١- الغدير ج١ ص٢٣ ومجمع الزوائد ج٩ ص١٠٦ والمعجم الكبير ج٢ ص٣٥٧ و ٣٥٨ والإكمال في أسماء الرجال ص٣٦ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٢ ص٢٣٦ وشرح إحقاق الحق ج١٦ ص٥٦٤ وج٣٠ ص٤٢٣ وأسد الغابة ج١ ص٣٠٨ وقال: أخرجه الثلاثة. يريد: ابن عبد البر، وابن مندة، وأبا نعيم.
الزهري.. وحديث الغدير:
وقد حدث الزهري بحديث الغدير، فقيل له: لا تحدث بهذا بالشّام وأنت تسمع ملء أذنيك سب علي.
فقال: والله، إن عندي من فضائل علي (عليهالسلام ) ما لو تحدّثت بها لقتلت(١) .
فكلام الزهري هذا صريح في: أن لديه فضائل أكثر صراحة في حقيقة فضله (عليهالسلام )، وأشد إيلاماً لمناوئيه، وأكثر إثارة لغضبهم إلى حد أنها تدفعهم إلى قتله..
إلا إذا كان مراده: أن كثرتها هي الموجبة لغضب أعداء علي (عليهالسلام ).
فإذا كان الزهري يكتم من فضائله ما يؤدي به إلى القتل، فما بالك بما كان يكتمه العشرات والمئات غير الزهري من فضائله (عليهالسلام )؟!
عمر في خدمة جبرئيل:
عن عمر بن الخطاب، قال: نصب رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) علياً علماً، فقال: (من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره، اللهم أنت شهيدي عليهم).
____________
١- أسد الغابة ج١ ص٣٠٨ وقاموس الرجال ج١٢ ص٣٨ وخلاصة عبقات الأنوار ج٧ ص٢٢٨ والغدير ج١ ص٢٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٦ ص٢٧٤ و ٣٧٦.
قال عمر بن الخطاب: وكان في جنبي شاب حسن الوجه، طيب الريح، قال لي: يا عمر، لقد عقد رسول الله عقداً لا يحله إلا منافق (زاد في مودة القربى، قوله: فاحذر أن لا تحله). (لعل الصحيح: أن تحله، أو فاحذر.. لا تحله).
قال عمر: فقلت: يا رسول الله، إنك حيث قلت في علي كان في جنبي شاب حسن الوجه، طيب الريح قال لي: يا عمر لقد عقد رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) عقداً لا يحله إلا منافق
فأخذ رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بيدي، فقال: يا عمر، إنه ليس من ولد آدم، لكنه جبرائيل، أراد أن يؤكد عليكم ما قلته في علي(١) .
ونقول:
إننا نلاحظ ما يلي:
١ـ قول النبي (صلىاللهعليهوآله ): اللهم أنت شهيدي عليهم.. كأنه إشارة إلى أن هذا الحدث سوف يتعرض للإنكار من قبل جماعة من الناس، أو على الأقل لتحريف دلالته، والتلاعب بمقاصده ومراميه، المساوق
____________
١- مودة القربى ص١٨ لشهاب الدين الهمداني، المودة الخامسة، وينابيع المودة ج٢ ص٢٨٤ والغدير ج١ ص٥٧ وراجع: خلاصة عبقات الأنوار ج٧ ص١٨٧ وج٩ ص٢٧٣ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٦ ص٢٥٢ وج٢١ ص٦٥ والإمام علي "عليهالسلام " في آراء الخلفاء ص٧٣ عن الكوكب الدري للكشفي ص١٣١ المنقبة رقم١٥٤.
لإنكاره. وسيعرض الأمر يوم القيامة للحساب والمطالبة، فيحتاج (صلىاللهعليهوآله ) إلى الشهادة له بأنه قد ابلغهم مقاصده، واضحة لا لبس فيها.
٢ ـ إنه (صلىاللهعليهوآله ) حين أراد أن يخبر عمر بحقيقة ذلك الشاب الحسن الوجه، الطيب الريح أخذ بيد عمر، لكي تتشارك المشاعر في وعي وحفظ ما سيلقيه إليه.. فإن تحريك الحواس الظاهرية باللمس، ونبرات الصوت، وبتعابير الوجه، يجعل المشاعر أكثر تحفزاً لمتابعة ما يجري بانتباه أشد، ويهيء الذاكرة لاختزان ذلك كله بصورة أعمق وأدق.
٣ ـ إن جمال ذلك الشاب قد لفت نظر عمر، حيث لم يعهد في نظرائه وأقرانه جمالاً أو طيب ريح يستحق الذكر، إلا ما كان من ذلك في بني هاشم.
ثم جاءت كلمة ذلك الشاب متوافقة مع مظهره في التأثير على عمر إلى حد دعاه إلى استيضاح الحال من النبي (صلىاللهعليهوآله ) مباشرة.
ولعله كان يرمي إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو أن يسجل شكواه منه، علّه يسمع من النبي (صلىاللهعليهوآله ) استنكاراً لكلام ذلك الشاب وإدانة له، لكي يرتاح عمر، وتهدأ خواطره، ويزول بلباله.. ولكن عمر فوجئ بما أخبره به رسول الله، وهو أن ذلك الشاب هو جبرئيل..
ولنا أن نتصور كم كان عمر يحلم في أن يروي للناس أنه قد رأى جبرائيل، مباهياً بذلك ومفاخراً.. ولكن ما يصده عن ذلك كان أعظم وأخطر، فإن حديث جبرائيل قد نص على نفاق من يحل العقدة التي عقدها رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) لعلي (عليهالسلام ).
وهل يمكن أن يرضى أولئك الذين ساروا في هذا الإتجاه بما قاله
جبرئيل عنهم؟!
وإذا كان جبرئيل قد قال ذلك، فكيف يمكن بعد هذا ادعاء أن هذا التصرف كان من ابتكارات رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) حباً بصهره وابن عمه؟
ماذا بعد الأئمة؟!:
قلنا: إن قريشاً كانت مهتمة بصرف الأمر عن علي (عليهالسلام ) بأي ثمن كان، ولو بإثارة الشبهات والشكوك حول عدل النبي وإنصافه، بل إلى حد اتهامه في عقله، حين قالوا: إن النبي ليهجر، فضلاً عن الشائعات وحياكة المؤمرات.. التي كانت تدفع بها في كل اتجاه.. وكانت تمانع بالفعل وبالقول، وتتحدى، وتعج، وتضج، ولكنه (صلىاللهعليهوآله ) لم يزل يهتف باسمه، ويعمل لإحكام أمره، وتثبيت إمامته من بعده. حتى أمام الحشود الغفيرة في يوم عرفة.
وحين غُلِبت قريش على أمرها، وأعلن النبي للأمة كلها يوم عرفة: أن الأئمة الإثني عشر كلهم من قريش، ومن بني هاشم قصدته قريش إلى منزله، ليستوضحوا منه الأمر عن هؤلاء الأئمة، وماذا يكون من بعدهم، لترى إن كان لها نصيب، ولو بعد انقضاء عهد الأئمة، وإذ بها تفاجأ بقوله: ثم يكون الهرج، وفي نص آخر: (الفرج)، كما رواه الخزاز(١) .
____________
١- راجع: كفاية الأثر ص٥٢ ويقارن ذلك مع ما في إحقاق الحق (الملحقات) وغيبة النعماني ص١٠٤ والغيبة للطوسي ص١٢٨ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٢٥٠ = = وغيرهم. فإنهم صرحوا بان قريشاً هي التي أتته. وراجع: الصوارم المهرقة للتستري ص٩٣ وبحار الأنوار ج٣٦ ص٣٦٥ ومكاتيب الرسول ج٣ ص٧٢٧ ومسند أحمد ج٥ ص٩٢ وسنن أبي داود ج٢ ص٣٠٩ وصحيح ابن حبان ج١٥ ص٤٣ والمعجم الكبير للطبراني ج٢ ص٢٥٣ وتهذيب الكمال ج٣ ص٢٢٤ والبداية والنهاية ج٦ ص٢٧٩ وإمتاع الأسماع ج١٢ ص٣٠٣ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص٣ و ١٦ و ٢٠ وج٢٩ ص٩١ و ٩٤ و ٩٦.
أي يوم أعظم حرمة؟!:
ولكي نربط الأحداث ببعضها نعود فنذكر القارئ بما جرى في عرفة، فنقول:
إنه بالرغم من أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كان قد ذكرهم بشرف الزمان، وشرف المكان، وشرف المناسبة، فإن ذلك لم يمنعهم من إساءة الأدب مع رسول الله والإسراف في التحدي لله ولرسوله، فقد سألهم: عن أي شهر أعظم حرمة، وأي بلد أعظم حرمة، وأي يوم أعظم حرمة(١) .
____________
١- راجع هذه الفقرات الواردة في خطبة النبي "صلىاللهعليهوآله " في حجة الوداع في المصادر التالية: مسند أحمد ج٣ ص٣١٣ و ٣٧١ وكنز العمال ج٥ ص٢٨٦ و ٢٨٧ والمصنف لابن أبي شيبة ج٨ ص٦٠٠ والكافي ج٧ ص٢٧٣ و ٢٧٥ ودعائم الإسلام ج٢ ص٤٨٤ والمجموع للنووي ج٨ ص٤٦٦ وج١٤ ص٢٣١ والمحلى لابن حزم ج٧ ص٢٨٨ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج٢٩ ص١٠ و (ط دار الإسلامية) ج١٩ ص٣ والتفسير الصافي ج٢ ص٦٧ وتفسير نور الثقلين = = ج١ ص٦٥٥ وتفسير القمي ج١ ص١٧١ ومستدرك الوسائل ج١٧ ص٨٧ وبحار الأنوار ج٣٧ ص١١٣ وإمتاع الأسماع ج١٠ ص٣٤٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج٤ ص٣٩١ والبداية والنهاية ج٥ ص٢١٥ وجامع أحاديث الشيعة ج٢٦ ص١٠٠ ومستدرك سفينة البحار ج٧ ص١٧٠ إضافة إلى مصادر أخرى تقدمت.
فأقروا له بالحقيقة، ولكن ذلك لم يمنعهم من العجيج والضجيج، والتحدي.
ولا ندري ماذا كان سيحصل لو أنه (صلىاللهعليهوآله ) صرح لهم بإسمه (عليهالسلام ) في ذلك الموقف، فهل كانوا سيكتفون بشتم النبي (صلىاللهعليهوآله ) (والعياذ بالله) أم أنهم سيتجاوزون ذلك إلى قذفه بالحصباء أو بالحجارة، أو إلى ما هو أعظم من ذلك؟! وهو مباشرة قتله والعياذ بالله!!
التهديد الإلهي حسم الأمر:
وحين جاء التهديد الإلهي لهم، الذي صرح باعتبارهم في دائرة الكفر الذي يفتح باب الحرب معهم، وتضمن تطمين النبي (صلىاللهعليهوآله ) إلى أنهم سيكونون عاجزين عن فعل أي شيء يضر في أمر إبلاغ ذلك الأمر الخطير، وإقامة الحجة كما يريده الله في قوله تعالى:
( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (١) .
____________
١- الآية ٦٧ من سورة المائدة.
وحين أبلغهم أن الله سبحانه يعتبر عدم إبلاغ هذا الأمر بمثابة عدم إبلاغ أصل الدين وأساس الرسالة.. مما يعني: أنه قد يحل بهم عذاب الإستئصال، فهو ينذرهم بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، أو على الأقل أنه سيعاملهم على أساس أنهم عادوا إلى نقطة الصفر، التي اقتضت حرب بدر، وأحد، والخندق، وحنين وسوى ذلك.. وهذا ما لا طاقة لهم به..
نعم.. حين بلغ الأمر إلى هذا الحد، قرروا الإنحناء أمام العاصفة، واللجوء إلى سياسة المداراة والمكيدة، وانتظار الفرصة.. حتى لا تحل كارثة فاضحة، تتلاشى معها جميع الآمال..
ولزمتهم الحجة بالبيعة التي أعطوها له (عليهالسلام ) يوم الغدير، وقامت الحجة بذلك على الأمة بأسرها.. ولم يكن المطلوب أكثر من ذلك..
وكان ذلك قبل استشهاده (صلىاللهعليهوآله ) بسبعين يوماً.
محاولة قتل رسول الله (صلىاللهعليهوآله ):
ومما يذكر هنا: أن بعض النصوص يقول: إن تنفير الناقة برسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ليلة العقبة ليسقط في ذلك الوادي السحيق قد كان بعد حجة الوداع، وبعد البيعة لعلي (عليهالسلام ) يوم الغدير..
ويمكن ترجيح هذا النص، لكثير من الإعتبارات التي ألمحنا إليها في كتابنا هذا وفي كتاب الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله ).
الباب الثاني عشر: من تاريخ علي (عليهالسلام ) في عهد الرسول (صلىاللهعليهوآله )
الفصل الأول: أحداث ذات مغزى..
أبو هريرة أعلم من أبي بكر وعمر:
وحدث أبو هريرة: أنه كان في المدينة مجاعة، ومر بي يوم وليلة لم أذق شيئاً، وسألت أبا بكر آية كنت أعرف بتأويلها منه، ومضيت معه إلى بابه، وودعني وانصرفت جايعاً يومي.
وأصبحت وسألت عمر آية كنت أعرف منه بها، فصنع كما صنع أبو بكر.
فجئت في اليوم الثالث إلى علي، وسألته ما يعلمه فقط. فلما أردت أن أنصرف دعاني إلى بيته، فأطعمني رغيفين وسمناً، فلما شبعت انصرفت إلى رسول الله.
فلما بصر بي ضحك في وجهي وقال: أنت تحدثني أم أحدثك، ثم قص علي ما جرى، وقال لي: (جبرئيل عرفني)(١) .
ونقول:
نلاحظ هنا أموراً نقتصر منها على ما يلي:
____________
١- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج٢ ص١٢٢ و(ط المكتبة الحيدرية) ج١ ص٣٤٧ و (ط أخرى) ج٢ ص٧٣ وبحار الأنوار ج٤١ ص٢٧.
١ ـ إن أبا هريرة يصف نفسه بأنه أعرف من أبي بكر وعمر بتأويل الآيات التي سألهما عنها، فكيف نوفق بين قوله هذا، وبين قول الناس الذين لم يروا أبا بكر ولا غيره من الصحابة: بأنه أعلم من أبي هريرة وغيره؟!
٢ ـ إنه ذكر: أنه سأل علياً عما يعلمه فقط، أي سأله عما يعلمه هو دون سواه.. ولا يعلمه غيره..
فدل أيضاً بذلك على أنه يرى أن لدى علي (عليهالسلام ) علوماً قد تفرد بها عن غيره، وذلك ينقض أيضاً دعواهم لحوق غيره (عليهالسلام ) به. فضلاً عن دعواهم الغريبة والمضحكة للثكلى: أن غيره (عليهالسلام ) أعلم منه.
٣ ـ لا بأس بالمقارنة بين فعل علي (عليهالسلام ) مع أبي هريرة بعد جوابه له، وبين فعل غيره معه!!
٤ ـ نلاحظ: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) ذكر لأبي هريرة أن جبرئيل عرفه بما جرى.. وذلك يدل على أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كان يعرف بتفاصيل ما يجري للناس، وأن ذلك كان بواسطة الوحي الإلهي.. فليس لأبي هريرة ولا لغيره: أن يظن أنه قد اطلع على ما جرى بنفسه، أو بإخبار علي (عليهالسلام ) إياه، أو بواسطة ناظر ومراقب من الناس، أو بأية وسيلة أخرى قد يتوهمها متوهم.
لو كان علي (عليهالسلام ) معكم لما ضللتم:
وعن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن (عليهالسلام ): أن ماعز بن مالك أقر عند رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بالزنا، فأمر به أن يرجم،
فهرب من الحفرة، فرماه الزبير ـ بن العوام ـ بساق بعير، فعقله به فسقط، فلحقه الناس، فقتلوه.
فأخبر النبي (صلىاللهعليهوآله ) بذلك، فقال: هلا تركتموه يذهب إذا هرب، فإنما هو الذي أقر على نفسه. وقال: أما لو كان علي حاضراً معكم لما ضللتم.
قال: ووداه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) من مال المسلمين(١) .
ونقول:
١ ـ إن من يثبت عليه الزنا بإقراره يرجم، ولكنه إذا هرب من الحفيرة، لا يعاد إليها، بل يكف عنه، وكأنه لأجل أن هربه بمثابة رجوع عن إقراره ذاك.
٢ ـ إن كلمة النبي (صلىاللهعليهوآله ): (أما لو كان علي حاضراً معكم لما ضللتم) يفيد ما يلي:
ألف: إن هذ الحكم كان قد بلغهم، ولكنهم ضلوا، بعد هدايتهم.
ب: إن التعبير بالضلال دون التعبير بالنسيان، أو الغفلة يشعر بذمهم على ذلك، وأنهم غير معذورين في فعلهم..
ج: إن وجود علي (عليهالسلام ) معهم يفرض عليهم الإلتزام بأحكام الله، ويمنع من انسياقهم وراء عصبياتهم، وميولهم وأهوائهم، حين يريدون
____________
١- الكافي ج٧ ص١٨٥ والمحاسن للبرقي ج٢ ص٣٠٦ ووسائل الشيعة ج١٨ ص٣٧٦ وبحار الأنوار ج٧٦ ص٤٤.
إجراء الأحكام.
٣ ـ يلاحظ: أنه (صلىاللهعليهوآله ) وصفهم بالضلال حين فقدهم علياً (عليهالسلام ) من دون تقييد، فلم يقل: ضللتم عن ذلك الحكم..
ليفيد: أن ضلالهم حين يفقدون النبي (صلىاللهعليهوآله ) وعلياً (عليهالسلام ) يكون عاماً وشاملاً..
٤ ـ إنه (صلىاللهعليهوآله ) لم يؤاخذهم بفعلهم هذا، ولم يغرمهم ديته، لأنهم يدعون الغفلة عن الحكم ونسيانه، أو عدم سماعه من الرسول (صلىاللهعليهوآله ).. فلا محيص من معاملتهم وفقاً لما يظهرونه ولو أمكن تحصيل العلم بالوسائل العادية بوجود متعمد بينهم على سبيل الإجمال، فيصعب تحديد المتعمد للقتل منهم، ويصعب أيضاً تحديد القاتل بصورة أو بأخرى.
٥ ـ وربما كان غير علي (عليهالسلام ) يعرف الحكم، ولو كان حاضراً معهم لعرفهم به كسلمان مثلاً. ولكن بما أنهم قد لا ينقادون له، لأنهم يستضعفونه، ويتعصبون عليه. أو قد يلجأون إلى تكذيبه إلى غير ذلك من حالات وتصرفات. إلا أنهم لا يمكنهم ممارسة ذلك مع علي (عليهالسلام ) ، فإنه (صلىاللهعليهوآله ) حصر أمر إعادتهم إلى جادة الصواب به..
يضاف إلى ذلك: أنه (عليهالسلام ) هو الهادي لهم، والمبين ما يختلفون فيه بعد وفاته كما قاله (صلىاللهعليهوآله )، وكما أثبتته الوقائع والأحوال.