• البداية
  • السابق
  • 347 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 66754 / تحميل: 5236
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء 7

مؤلف:
العربية

الفصل الأول: علي (عليه‌السلام ) في حجة الوداع

٦١

٦٢

الذين حجوا مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ):

لقد حج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في سنة عشر حجة الوداع، مع جمع كبير من المسلمين، وقد ذكرنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): أن الذين قدموا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في السنة العاشرة ليحجوا معه كانوا بشراً كثيراً، ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون، وكانوا من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، مدَّ البصر.

وقد ذكرت الروايات: أن الذين خرجوا معه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كانوا سبعين ألفاً(1) .

____________

1- بحار الأنوار ج37 ص202 وروضة الواعظين ص89 والإحتجاج للطبرسي ج1 ص68 واليقين لابن طاووس ص344 والصافي (تفسير) ج2 ص53 ونور الثقلين ج2 ص73 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص308 وموسوعة أحاديث أهل البيت "عليهم‌السلام " للنجفي ج8 ص48 وغاية المرام ج1 ص327 وكشف المهم في طريق خبر غدير خم ص19 والسقيفة للمظفر ص174.

٦٣

وقيل: كانوا تسعين ألفاً(1) .

ويقال: مائة ألف، وأربعة عشر ألفاً(2) .

وقيل: كانوا مائة وعشرين ألفاً(3) .

وقيل: كانوا مئة واربعة وعشرين ألفاً. ويقال أكثر من ذلك(4) .

____________

1- الغدير ج1 ص9 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص308 والنص والإجتهاد ص577 ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص52 عن السيرة الحلبية ج3 ص283 والسيرة النبوية لدحلان ج3 ص3 وتاريخ الخلفاء لابن الجوزي في الجزء الرابع، وتذكرة خواص الأمة ص18 ودائرة المعارف لفريد وجدي ج3 ص542 (غ 1/9).

2- الغدير ج1 ص9 والمجموع للنووي ج7 ص104 ومغني المحتاج ج1 ص345 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص308 ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص52 عن المصادر التي تقدمت.

3- بحار الأنوار ج37 ص150 عن ابن الجوزي، والغدير ج1 ص9 و 296 و 392 عن تذكرة خواص الأمة ص18 والعدد القوية ص183 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص308 والنص والإجتهاد ص206 وخلاصة عبقات الأنوار ج8 ص350 وج9 ص196 ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص52 عن المصادر التي تقدمت.

4- الغدير ج1 ص9 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص308 ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص52.

٦٤

أما قول بعضهم: إن الذين حجوا في تلك السنة كانوا أربعين ألفاً(1) ، فلعل المقصود: هو صحابته الذين كانوا يعيشون في المدينة وأطرافها(2) .

قال العلامة الأميني: (وهذه عدة من خرج معه، أما الذين حجوا معه، فأكثرمن ذلك، كالمقيمين بمكة، والذين أتوا من اليمن مع علي (عليه‌السلام ) (أمير المؤمنين)، وأبي موسى)(3) .

قالوا: (وأخرج معه نساءه كلهن في الهوادج، وسار معه أهل بيته، وعامة المهاجرين والأنصار، ومن شاء الله من قبائل العرب، وأفناء الناس)(4) .

لماذا هذا الحشد؟!:

ونقول:

لم يكن هذا الحشد الهائل بصورة عفوية، بل كان بطلب من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) نفسه، فإنه إرسل الكتب إلى أقصى بلاد الإسلام، وأمر

____________

1- راجع: تفسير القرآن العظيم ج2 ص80 والبداية والنهاية ج5 ص154 وج4 ص270 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص270 ومقدمة ابن الصلاح لعثمان بن عبد الرحمن ص177.

2- راجع المصادر في الهامش السابق.

3- الغدير ج1 ص9 ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص52.

4- الطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج3 ص225 و (ط دار صادر) ج2 ص173 وإمتاع الأسماع ص510 وإرشاد الساري ج6 ص429 والغدير ج1 ص9 عنهم.

٦٥

المؤذنين بأن يؤذنوا بأعلى أصواتهم: بأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يحج في عامه هذا.

ومن الواضح: أن إخراج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) نساءه كلهن في الهوادج إلى الحج، وجمع هذه الأعداد الهائلة، لتسير معه، سوى من سار إلى مكة من دون أن يمر بالمدينة، وما والاها، وسوى الذين جاؤوا من اليمن مع ذلك، إن ذلك لم يكن أمراً عفوياً، ولا مصادفة، ولا كان استجابة لرغبة شخصية، ولا لشيء من أمور الدنيا، فرض على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أن يجمع الناس حوله. فحاشاه من ذلك، فإن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لا يفكر ولا يفعل إلا وفق ما يريده الله تبارك وتعالى..

ولعل الهدف من كل هذا الحشد هو تحقيق أمور كلها تعود بالنفع العميم على الإسلام والمسلمين، ويمكن أن نذكر منها، ما يلي:

1 ـ إنه أراد للناس المتمردين، بل والمنافقين، والذين يحلمون بالإرتداد على الإسلام وأهله عند أول فرصة تسنح لهم، يريد لهم أن يروا عظمة الإسلام، وامتداداته الواسعة، وأنه لم يعد بإمكان أحد الوقوف في وجهه، أو إيقاف مده، فلييأس الطامحون والطامعون، وليراجع حساباتهم المتوهمون، وليعد إلى عقولهم المتهورون والمجازفون..

2 ـ إنه يريد أن يربط على قلوب الضعفاء، ويشد على أيديهم، ويريهم عياناً ما يحصنهم من خدع أهل الباطل، وكيد أهل الحقد والشنآن.. ومن كل ما يمارسونه معهم من تخويف، أو تضعيف..

3 ـ يريد أن ينصب علياً (عليه‌السلام ) إماماً وخليفة من بعده أمام كل

٦٦

هذه الجموع الهائلة، ليكونوا هم الشهداء بالحق على أنفسهم وعلى جميع الناس، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم..

ثم أن يقطع الطريق على الطامحين والطامعين من أن يتمكنوا من خداع الآخرين ببعض الإدعاءات أو الإشاعات كما سنرى حين الحديث عما جرى في عرفات، ومنى، وفي طريق العودة، في غدير خم.

وأما أخذه لجميع نسائه معه، فلعله لأن فيهن من يريد أن يقيم عليها الحجة في ذلك كله، لأنها سيكون لها دور قوي في الإتجاه الآخر الذي يريد أن يحذر الناس من الإنغماس به، والمشاركة فيه..

يمنعهم من ركوب إبل الصدقة:

عن أبي سعيد الخدري، قال: بعث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) علي بن أبي طالب إلى اليمن، قال أبو سعيد: فكنت فيمن خرج معه، فلما احتفر (كذا) إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا، وكنا قد رأينا في إبلنا خللاً، فأبى علينا وقال: إنما لكم منها سهم كما للمسلمين.

قال: فلما فرغ علي، وانطلق من اليمن راجعاً أمر علينا إنساناً، فأسرع هو فأدرك الحج، فلما قضى حجته قال له النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): ارجع إلى أصحابك حتى تقدم عليهم.

قال أبو سعيد: وقد كنا سألنا الذي استخلفه ما كان علي (عليه‌السلام ) منعنا إياه، ففعل. فلما جاء عرف في إبل الصدقة أنها قد ركبت، رأى أثر المراكب، فذم الذي أمره ولامه.

٦٧

فقلت: أما إن لله علي لئن قدمت المدينة لأذكرن لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ولأخبرنه ما لقينا من الغلظة والتضييق..

قال: فلما قدمنا المدينة غدوت إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أريد أن أفعل ما كنت قد حلفت عليه، فلقيت أبا بكر خارجاً من عند رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فلما رآني وقف معي، ورحب بي، وساءلني وساءلته، وقال: متى قدمت؟!

قلت: قدمت البارحة.

فرجع معي إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فدخل وقال: هذا سعد بن مالك بن الشهيد

قال: ائذن له.

فدخلت، فحييت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وحياني، وسلم علي، وساءلني عن نفسي، وعن أهلي، فأحفى المسألة، فقلت: يا رسول الله، ما(ذا) لقينا من علي من الغلظة، وسوء الصحبة والتضييق.

فانتبذ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وجعلت أنا أعدد ما لقينا منه، حتى إذا كنت في وسط كلامي ضرب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على فخذي ـ وكنت قريباً منه ـ وقال: [يا] سعد بن مالك بن الشهيد، مه بعض قولك لأخيك علي، فوالله لقد علمت أنه أخشن في الله!!

قال: فقلت في نفسي: ثكلتك أمك سعد بن مالك، ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم وما أدري؟! لا جرم والله، لا أذكره بسوء أبداً، سراً ولا

٦٨

علانية(1) .

ونقول:

1 ـ إن ما يثير الدهشة هنا: هو أن أبا سعيد الخدري قد أخذ على علي (عليه‌السلام ) أمراً هو عين الحق والعدل، والإلتزام بأحكام الشرع الحنيف، فاتخذ منه ذريعة للطعن عليه، وسبباً للتشهير به..

ثم زاد على ذلك أنه اشتكاه لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الذي كان كل همه وجهده مصروفاً لإقامة هذا العدل، ونشر هذه الأحكام، وحملهم على العمل بها..

فهل يمكن أن يصبر وأن يسكت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على هذا التجني والظلم الظاهر، الذي يريدون التسويق له، وأن يجعلوه نهجاً في الناس؟!

وكيف لم يفهم أبو سعيد وغيره: أن إبل الصدقة ليست ملكاً طلقاً له ولا لغيره. وأنها ليست لهم وحدهم، بل هي أمانة في أيديهم، لا بد من أن

____________

1- تاريخ مدينة دمشق ترجمة الإمام علي (تحقيق المحمودي) ج1 ص387 و 388 و (ط دار الفكر) ج42 ص200 و 201 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج20 ص301 وج21 ص631 وج31 ص46 و 516 عن مختصر تاريخ دمشق (ط دار الفكر) ج 17 ص 351 و (ط بيروت) ج17 ص350 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج5 ص122 وج7 ص382 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص204.

٦٩

يؤدوها إلى أهلها من دون أدنى تصرف فيها..

2 ـ إنه (عليه‌السلام ) قد استفاد من الوسائل الطبيعية لاكتشاف ما حصل، حيث رأى أثر المراكب، فدله ذلك على ما جرى، فرتب الأثر على ما حصل عليه من معلومات، وذم ذلك الرجل الذي سمح لهم بركوب تلك الإبل..

3 ـ لا ندري أية غلظة في علي (عليه‌السلام ) ظهرت لأبي سعيد الخدري!! فهل المنع من التصرف بمال الغير، يعتبر غلظة، وتضييقاً؟! ولو سمح لهم بأن يغيروا على أموال غيرهم، هل يزول التضييق؟! وتزول صفة الغلظة عنه، ويصبح حسن الصحبة؟!..

4 ـ إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بدأ مهمة إيقاظ أبي سعيد بالضرب على فخذ أبي سعيد.. ولم يكتف بمجرد نصيحته بالكلمة، فإن هذه الضربة لا بد أن تثير اهتمامه، وتنقله إلى جو أكثر جدية وحساسية، وتدفعه إلى تفهُّم الكلام الذي سيورده رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عليه بصورة أكثر دقة، وتنبهاً. وسيدرك أن القضية أكثر حساسية وأهمية وجدية مما يظن، وأن مواصلة هذا النهج ربما يجعلهم في مواجهة أمور تتصف بالخطورة الحقيقية على مستقبل علاقتهم برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). وربما يضع علامة استفهام كبيرة حول التزامهم وحركتهم الدينية والإيمانية.

علي (عليه‌السلام ) يلتقي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في مكة:

لقد كان علي (عليه‌السلام ) في اليمن حين جمع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الناس وسار بهم إلى حجة الوداع.. ونزل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

٧٠

بمكة بالبطحاء هو وأصحابه، ولم ينزل الدور.

قالوا: وقدم علي (عليه‌السلام ) من اليمن على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وهو بمكة، فدخل على فاطمة (سلام الله عليها) وقد أحلت، فوجد ريحاً طيبةً، ووجد عليها ثياباً مصبوغة، فقال: ما هذا يا فاطمة؟!

فقالت: أمرنا بهذا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

فخرج علي (عليه‌السلام ) إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مستفتياً، فقال: يا رسول الله، إني رأيت فاطمة قد أحلت وعليها ثياب مصبوغة؟!

فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (أنا أمرت الناس بذلك، فأنت يا علي بما أهللت)؟!

قال: يا رسول الله، إهلالاً كإهلال النبي.

فقال له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (قرّ على إحرامك مثلي، وأنت شريكي في هديي)(1) .

هل هذا تحريف متعمد؟!:

وقد روى ابن كثير وغيره النص المتقدم محرفاً، فقال: قدم علي من

____________

1- الكافي ج4 ص245 ـ 247 وبحار الأنوار ج21 ص390 ـ 392 وراجع ج38 ص72 وراجع: تهذيب الأحكام ج5 ص454 ـ 456 وجامع أحاديث الشيعة ج10 ص350 ـ 354 ومجمع البيان ج2 ص40 و 41 ومنتقى الجمان ج3 ص122 و 123 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص394 وعوالي اللآلي ج2 ص90 و 91.

٧١

اليمن بِبُدْن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) محرشاً لفاطمة.

فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): صدقت ـ ثلاثاً ـ أنا أمرتها، يا علي بم أهللت؟!.

قال: قلت: اللهم إني أهلّ بما أهل به رسولك، قال: ومعي هدي.

قال: فلا تحل.

فكان جملة الهدي الذي قدم به علي من اليمن، والذي ساقه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من المدينة مئة بدنة(1) .

فيلاحظ: أن كلمة (مستفتياً) الواردة في الرواية عن أهل البيت صارت محرشاً، وبدل أن يكون مستفتياً لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، صار (محرشاً لفاطمة) (عليها‌السلام )، للإيحاء بأن فاطمة (عليها‌السلام ) لم تكن ـ بنظر علي (عليه‌السلام ) ـ مأمونة على دينها، أو للدلالة على أن علياً (عليه‌السلام ) كان ذا طبيعة عدوانية استفزازية، حتى بالنسبة لفاطمة (عليها‌السلام )..

أو أن المقصود هو الأمران معاً..

____________

1- سبل الهدى والرشاد ج8 ص467 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج5 ص165 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص291 وراجع: مسند أبي يعلى ج12 ص107 وراجع ج4 ص95 والمنتقى من السنن المسندة ص122 والدرر لابن عبد البر ص262 ومسند أحمد ج3 ص320.

٧٢

الإجمال في النية:

ويلاحظ: أن نية علي (عليه‌السلام ) في إهلاله كانت مجملة، لأنه أهل بما أهل به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. والمفروض: أنه كان غائباً ولم يطلع ـ بحسب الظاهر ـ على نية رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، لأن علينا أن لا نحمل تصرفات النبي والإمام على أنها تستند إلى علم الإمامة، وعلم النبوة، وإلا لبطلت الأسوة والقدوة بهما..

فدلنا ظاهر حال علي (عليه‌السلام ) هنا: على كفاية النية التي يكون تحديد المنوي فيها على سبيل الإجمال، إذ يكفي كون المنوي محدداً في واقع الأمر، وإن لم يعلمه صاحب النية تفصيلاً، ولا يجب تحديد حدوده واستحضار خصوصياته حين انشاء النية، والدخول في العمل..

وكانت نية رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) هنا محددة في واقع الأمر، فقصد علي (عليه‌السلام ) ما قصده النبي إجمالاً، وأغناه ذلك عن التفصيل، إذ لا ترديد في النية، ولا في المنوي بحسب الواقع..

لماذا كان سؤال علي (عليه‌السلام ):

وقد ذكرت الرواية المشار إليها: إن علياً (عليه‌السلام ) كان يريد بسؤاله أن يعرف بماذا أحرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فهو يرى فاطمة (عليها‌السلام ) في حال تختلف عن الحال الذي كان عليه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. فسألها عن سبب ذلك، فلم تفصح له.

فسأل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فبين له أن حجها حج تمتع. أما

٧٣

النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فكان حجه حج قران..

إذن فلم يكن علي (عليه‌السلام ) جاهلاً بالحكم، بل هو لم يخبره أحد بطبيعة ما جرى عليه الحال.

هل ندم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على ما اختاره؟!:

قد يحاول البعض أن يدعي: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد أظهر أنه قد ندم على اختياره حج القران. وأنه لو استقبل من أمره ما استدبر لاختيار حج التمتع..

غير أننا نقول:

أولاً: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لا يقدم على فعل أمر من تلقاء نفسه، بل بوحي ودلالة إلهية..

ثانياً: إن المطلوب منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في خصوص هذه الحجة هو حج القران، لكي يشرك علياً (عليه‌السلام ) في الهدي، ويظهر فضل علي (عليه‌السلام ) ومنزلته منه.. وليمهد لإعلان إمامته، وأخذ البيعة له في هذا الحج بالذات، في عرفة أو منى، أو في غدير خم. وهذا ما يفسر لنا أمره (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) للزهراء (عليها‌السلام ) بأن تحرم بحج التمتع، وأحرم هو بحج القران.

البدن التي نحرت:

قالوا: ثم انصرف (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى النحر بمنى، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة بالحربة، وكان ينحرها قائمة معقولة اليسرى،

٧٤

وكان عدد هذا الذي نحره عدد سنيِّ عمره (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

ثم أمسك، وأمر علياً (عليه‌السلام ) أن ينحر ما بقي من المائة، ثم أمره أن يتصدق بجلالها، وجلودها، ولحومها، في المساكين، وأمره أن لا يعطي الجزار في جزارتها شيئاً منها، وقال: (نحن نعطيه من عندنا)(1) ، وقال: (من شاء اقتطع)(2) .

قال ابن جريج: قلت: من الذي أكل مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وشرب من المرق؟!

قال جعفر: علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) أكل مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وشرب من المرق(3) .

وقول أنس: إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) نحر بيده سبع بدن قياماً(4) .

____________

1- سبل الهدى والرشاد ج8 ص476 و 477 والمجموع للنووي ج8 ص361 وقد تقدمت مصادره فراجع.

2- سبل الهدى والرشاد ج8 ص476 و 477 والمغني لابن قدامة ج3 ص558 وقد تقدمت مصادره فراجع.

3- سبل الهدى والرشاد ج8 ص476 والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص177 ومنتخب مسند عبد بن حميد ص340.

4- سبل الهدى والرشاد ج8 ص477 ونيل الأوطار ج5 ص213 وأحكام القرآن لابن العربي ج3 ص292 وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج2 ص185 وعمدة القاري ج10 ص49.

٧٥

حمله أبو محمد: على أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم ينحر بيده أكثر من سبع بدن كما قال أنس، وأنه أمر من ينحر ما بعد ذلك إلى تمام ثلاث وستين(1) ، ثم زال عن ذلك المكان، وأمر علياً (عليه‌السلام ) فنحر ما بقي.

أو أنه لم يشاهد إلا نحره (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) سبعاً فقط بيده، وشاهد جابر تمام نحره (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) للباقي، فأخبر كل واحد منهما بما رأى وشاهد. أو أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) نحر بيده مفرداً سبع بدن كما قال أنس، ثم أخذ هو وعلي الحربة معاً، فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين.

وقال عروة (غرفة) بن الحارث الكندي: أنه شاهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يومئذ أخذ بأعلى الحربة، وأمر علياً (عليه‌السلام ) فأخذ بأسفلها، ونحرا بها البدن، ثم انفرد علي (عليه‌السلام ) بنحر الباقي من المائة كما قال جابر(2) .

____________

1- سبل الهدى والرشاد ج8 ص477 وصحيح ابن خزيمة ج4 ص285.

2- سبل الهدى والرشاد ج7 ص376 وج8 ص477 وسنن أبي داود ج1 ص396 والمعجم الأوسط ج3 ص173 والمعجم الكبير للطبراني ج18 ص262 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج3 ص1255 والسنن الكبرى للبيهقي ج5 ص238 والمغني لابن قدامة ج3 ص564 والطبقات الكبرى لابن سعد ج7 ص431 وطبقات المحدثين بأصبهان ج3 ص514 وأسد الغابة ج4 ص169 وتهذيب الكمال ج23 ص97 والمنتخب من ذيل المذيل ص79 والبداية والنهاية ج5 ص207 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص376.

٧٦

وكان الهدي الذي جاء به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أربعة وستين، أو ستة وستين.

وجاء علي (عليه‌السلام ) بأربعة وثلاثين، أو ستة وثلاثين، فنحر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ستة وستين، ونحر علي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أربعة وثلاثين بدنة(1) .

وفي الرواية الأخرى: نحر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ثلاثاً وستين نحرها بيده، ثم أخذ من كل بدنة بضعة فجعلها في قدر الخ..(2) .

وأمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أن يؤخذ من كل بدنة منها جذوة من لحم، ثم تطرح في برمة، ثم تطبخ، فأكل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

____________

1- سبل الهدى والرشاد ج8 ص477 وعوائد الأيام ص28 والكافي ج4 ص247 وبحار الأنوار ج21 ص393 وجامع أحاديث الشيعة ج10 ص354 وج12 ص34 و 49 وراجع: الصافي (تفسير) ج3 ص378.

2- الكافي ج4 ص249 وذخيرة المعاد (ط.ق) ج1 ق3 ص551 وعلل الشرائع ج2 ص413 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج11 ص223 و (ط دار الإسلامية) ج8 ص157 وبحار الأنوار ج21 ص396 وج96 ص89 وجامع أحاديث الشيعة ج10 ص357 ومستدرك سفينة البحار ج10 ص6 وموسوعة أحاديث أهل البيت "عليهم‌السلام " للنجفي ج3 ص45 ومنتقى الجمان ج3 ص121 وتفسير الميزان ج2 ص84 وسبل الهدى والرشاد ج8 ص476 عن ابن جريج، عن جعفر بن محمد، عن جابر.

٧٧

وعلي (عليه‌السلام )، وحسيا من مرقها(1) .

وفي صحيح الحلبي عن علي (عليه‌السلام ): أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ساق مئة بدنة(2) .

____________

1- الكافي ج4 ص246 ـ 248 ومجمع الفائدة والبرهان ج7 ص286 وذخيرة المعاد (ط.ق) ج1 ق3 ص670 وج1 ق3 ص670 والحدائق الناضرة ج14 ص318 وجواهر الكلام ج19 ص159 وجامع المدارك ج2 ص462 وتهذيب الأحكام ج5 ص457 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج11 ص217 وج14 ص163 و (ط دار الإسلامية) ج8 ص153 وج10 ص144 وبحار الأنوار ج21 ص393 و 395 وجامع أحاديث الشيعة ج10 ص354 وج12 ص101 وج12 ص104 ومنتقى الجمان ج3 ص125 وج3 ص373 وج3 ص401 وراجع المغني لابن قدامة ج11 ص109 والشرح الكبير لابن قدامة ج3 ص579 وج3 ص582 والتمهيد لابن عبد البر ج2 ص111 وتفسير البغوي ج3 ص284.

2- الكافي (الفروع) ج4 ص248 و 249 وذخيرة المعاد (ط.ق) ج1 ق3 ص551 وجواهر الكلام ج18 ص211 وعلل الشرائع ج2 ص412 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج11 ص222 و (ط دار الإسلامية) ج8 ص157 ومستدرك الوسائل ج8 ص75 وبحار الأنوار ج21 ص395 وج96 ص88 وجامع أحاديث الشيعة ج10 ص356 وج10 ص455 و 499 وموسوعة أحاديث أهل البيت "عليهم‌السلام " للنجفي ج3 ص44 وتفسير العياشي ج1= = ص89 ونور الثقلين ج1 ص185 وكنز الدقائق ج1 ص465 وتفسير الميزان ج2 ص83 ومنتقى الجمان ج3 ص121.

٧٨

وقد ذكر المجلسي: أن المقصود: هو أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ساق مئة بدنة، لكن ساق بضعاً وستين لنفسه، والباقي لأمير المؤمنين (عليه‌السلام )، لعلمه بأنه (عليه‌السلام ) يحرم كإحرامه، ويهل كإهلاله إلخ..(1) .

لكن قد تقدم قولهم: إن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وعلياً (عليه‌السلام ) ساقا البدن، فساق منها النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ستاً وستين، وساق علي (عليه‌السلام ) أربعاً وثلاثين.

وقال ابن كثير: قدم علي من اليمن ببدن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )(2) .

فنسب ما جاء به علي (عليه‌السلام ) إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، لأنه أخوه، ولأنهما تشاركا في مجموع المئة، ونحراها بصورة مشتركة.

وقد تقدم: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان يأخذ بأعلى الحربة، وعلي (عليه‌السلام ) يأخذ بأسفلها إلى ثلاث وستين، ثم نحر علي (عليه‌السلام ) الباقي، وأخذا من كل واحدة جذوة من لحم، وجعلاها في قدرٍ واحد، وأكلا منها، وحسيا من مرقها..

____________

1- مرآة العقول ج17 ص116.

2- سبل الهدى والرشاد ج8 ص467 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج5 ص165 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص291.

٧٩

مضافاً إلى أن علياً (عليه‌السلام ) أهل بما أهل به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فنية علي (عليه‌السلام ) معتمدة على نية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ومتقومة بها..

مجموع البدن:

تذكر الروايات: أن الذي سِيقَ من البدن هو مئة بدنة..

وتذكر أيضاً: أن علياً (عليه‌السلام ) نحر عن نفسه أربعاً وثلاثين، ونحر هو والنبي (صلى الله عليهما وآلهما) ثلاثاً وستين بدنة، فيصير المجموع سبعاً وتسعين وليس مئة.. فلعل إطلاق كلمة مئة قد جاء على سبيل التسامح لا لأجل التحديد.

أو يقال: كان المجموع مئة، وقد نحرت الثلاث الباقية تطوعاً.. أو يكون عمر علي (عليه‌السلام ) آنئذٍ كان سبعة وثلاثين سنة أن كان عمره حين البعثة ثلاث عشرة سنة، أو أربع عشرة سنة.

أو تكون قد حسبت أيام زادت على الثلاث وستين سنة في عمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فنحرت بدنة لأجلها وأيام زادت على سني عمر علي (عليه‌السلام )، فنحرت لها بدنة أيضاً.

ملاحظة ذات مغزى:

إذا كان (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد نحر من البدن على عدد سني عمره الشريف، وهو ثلاث وستون سنة.. فإن علياً (عليه‌السلام ) قد نحر على عدد سني عمره أيضاً في ذلك الوقت، وهو أربع وثلاثون سنة.

٨٠