وليس لأحد أن يدعي ـ على سبيل القطع واليقين ـ: بأن ذلك قد جاء على سبيل الصدفة.
يضاف إلى ذلك: أن مشاركة علي (عليهالسلام ) شارك النبي (صلىاللهعليهوآله ) في نحر البدن التي كانت على عدد سني عمره الشريف لا تخلو من إشارة إلى مشاركته (عليهالسلام ) له في كل حلو ومرّ.
وقد أنتجت هذه المشاركة كل ما عاش النبي (صلىاللهعليهوآله ) من أجله وهو إقامة دين الله سبحانه.. وكانت سني عمر علي (عليهالسلام )، التي عاشها مع النبي (صلىاللهعليهوآله ) قد استغرقها ما نحره (صلىاللهعليهوآله ) متوافقاً مع سني عمره الشريف، فشارك كل منهما الآخر فيما يخصه، وأعانه عليه.. وهكذا كان الحال في كل ما يتصل بإقامة دين الله، ونشر شرائعه، وحقائقه..
لو أشرك النبي (صلىاللهعليهوآله ) أبا بكر:
ويمر الناس على هذا الحدث الجليل مرور الكرام، ونحن على يقين من أنه (صلىاللهعليهوآله ) لو أشرك أبا بكر في هديه كما أشرك علياً، بل لو أشركه في واحدة من هديه، ولو بأن يهتم بها، ويرعاها بالسقي، والإطعام لأقام أتباع أبي بكر الدنيا ولم يقعدوها في التحليل، والإستنتاج، والإستدلال على عظمة أبي بكر ومنزلته، وإمامته وخلافته.. وربما تجنح بهم الأوهام إلى ما هو أبعد من هذا بكثير..
وكيف لا يكون الأمر كذلك، ونحن نرى كيف تحولت أخطاء، وضعف وهنات أبي بكر وعمر إلى فضائل وكرامات، وإشارات ودلالات.. وسنرى
كيف أصبح قول عمر: إن النبي (صلىاللهعليهوآله ) ليهجر فضيلة لعمر، وسبباً في إنقاذ الإسلام والأمة من أمر عظيم..
ولكن الأمر إذا تعلق بعلي (عليهالسلام )، فإن الألسنة تخرس، والأسماع تصم، والعيون تعمى، والمحابر تجف، والأقلام تلتوي وتتحطم، أو تعيا عن تسجيل عشر معشار الحقيقة، ثم هي تقتل ما سجلته بالتأويلات الباردة، والإحتمالات السقيمة، وقشور العبقريات، لاختراع المعارضات، والتحريف والتزييف، والسعي لإفراغ أعظم المواقف من محتواها، فهل نتوقع بعد هذا أن نجد في كلامهم ما ينفع ويجدي من الإستنطاق الموضوعي للنصوص، أو الإشارة إلى شيء ذي بال من الدلالات واللمحات؟!
الفصل الثاني: اضواء على ما جرى في عرفة.
للإمامة تاريخها:
صحيح أن موضوع الإمامة هو من أكثر الموضوعات حساسية، وأشدها أهمية.. وله تأثيره في الكثير الكثير من قضايا التاريخ، وفي فهمها، ومعرفة أسرارها وخلفياتها..
وصحيح أيضاً: أن أمير المؤمنين علياً (عليهالسلام ) هو محورها الأعظم، وهو أساسها وبه قوامها.. وأنه لا يمكن لمن يريد أن يبحث في أي شأن من شؤونه أن يتجاهل أمر الإمامة هذا..
ولكن من الواضح والصحيح أيضاً: أن إيفاء هذا الأمر حقه من البحث والتقصي غير ميسور، بل غير مقدور.. بل هو كإيفاء علي (عليهالسلام ) حقه من ذلك. وإن أياً كان من الناس لا يستطيع أن يدعي أنه قادر على استيفاء البحث في هذين الأمرين معاً، ولو حاول أن يتصدى لذلك، فإنه سوف ينتهي إلى الفشل الذريع، والخيبة القاتلة، والفضيحة الصلعاء والنكراء..
من أجل ذلك نقول:
لا بد لنا من تجنب الدعاوى الفارغة، وتحاشي استعراض العضلات المنتفخة بالأورام التي تنتج له الأسقام والآلام.. فلا ندعي أننا نريد أن نوفي سيرة أمير المؤمنين (عليهالسلام ) حقها.. أو نريد إعطاء موضوع الإمامة
حقه.. لأن نتيجة المغامرة ستكون غاية في الضعف، وفي منتهى الهزال، والتواضع..
لذلك آثرنا أن نحيل القارئ الكريم إلى ما أوردناه في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله )، ولا سيما الأجزاء الثلاثة الأخيرة منه، ليطلع منها على بعض التفاصيل في الناحيتين التاريخية والعقائدية في موضوع الإمامة.. فإن ما ذكرناه هناك وما نذكره هنا ربما يعطي لمحة ولو محدودة ومتواضعة عن بعض معاناة النبي (صلىاللهعليهوآله ) وعلي (عليهالسلام ) فيما يرتبط بالعمل على ترسيخ موضوع الإمامة، وصيانته في ضمير ووجدان الأمة..
وإحالتنا هذه على كتاب الصحيح سوف تغنينا عن التعرض هنا لكثير مما ذكرناه هناك.. مع اعترافنا بأننا لم نوف كلا الأمرين حقهما، ونحن أعجز من ذلك.. فكيف نجيز لأنفسنا أن ندعيه..
ليلة عرفة تمهيد ليوم عرفة:
١ـ رووا: أنه خرج (صلىاللهعليهوآله ) على الحجيج عشية عرفة، فقال لهم: إن الله قد باهى بكم الملائكة عامة، وغفر لكم عامة، وباهى بعلي خاصة، وغفر له خاصة، إني قائل لكم قولاً غير محاب فيه لقرابتي: إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب علياً (عليهالسلام ) في حياته وبعد موته(١) .
____________
١- الفصول المئة ج٣ ص٢٩١ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج٩ ص١٦٨ عن أحمد= = بن حنبل في المسند والفضائل، وبحار الأنوار ج٤٠ ص٨١ وج٣٩ ص٢٦٥ والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص٩٢ وينابيع المودة ج٢ ص٤٨٧ والتحفة العسجدية ص١٣٥ وغاية المرام ج٥ ص١٤٠ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٧ ص٢٥٤ وج٢١ ص٢٩٦.
٢ ـ وعن فاطمة (عليهاالسلام )، قالت: خرج علينا رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) عشية عرفة، فقال: إن الله تبارك وتعالى باهى بكم وغفر لكم عامة، ولعلي خاصة، وإني رسول الله إليكم غير محاب لقرابتي، هذا جبرئيل يخبرني: أن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب علياً في حياته وبعد موته.
زاد في نص آخر: (إن الشقي من أبغض علياً في حياته وبعد مماته)(١) .
____________
١- المعجم الكبير للطبراني ج٢٢ ص٤١٥ والمناقب للخوارزمي ص٧٨ والأمالي للصدوق ص٢٤٨ ومجمع الزوائد ج٩ ص١٣٢ ودلائل الإمامة ص٧٤ والأمالي للمفيد ص١٦١ والأربعون حديثاً لمنتجب الدين بن بابويه ص٣٣ ومناقب آل أبي طالب ج٣ ص٣ والعمدة لابن البطريق ص٢٠٠ والصراط المستقيم ج٢ ص٥٠ وكتاب الأربعين للشيرازي ص٤٦٢ وبحار الأنوار ج٢٧ ص٧٤ وج٣٩ ص٢٥٧ و ٢٧٤ و ٢٨٤ وكشف الغمة ج١ ص٩٢ و ١٠٥ وج٢ ص٧٨ ونهج الإيمان ص٤٥٢ والفصول المهمة لابن الصباغ ص١٢٥ و (ط دار الحديث) ج١ ص٥٨٥ عن معالم العترة النبوية، وكتاب الأربعين للماحوزي ص٢٤٣ وبشارة المصطفى ص٢٣٧.
ونقول:
يلاحظ هنا ما يلي:
أولاً: إن يوم عرفة قد شهد حدثاً هاماً يرتبط بالنص النبوي على إمامة علي (عليهالسلام ).. ويأتي هذا الموقف من رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) عشية ليلة في سياق الإعداد لما سيقوم به في اليوم التالي..
ثانياً: إنه (صلىاللهعليهوآله ) قد ضمن كلامه ما يدل على أنه كان يتوقع اتهامه بمحاباة قرابته، لكي يسقطوا كلامه في حقه عن الإعتبار بالرغم من أن اتهاماً من هذا القبيل يُخرج من يطلقه عن دائرة التقوى، بل عن دائرة الإيمان، لتضمنه اتهام النبي (صلىاللهعليهوآله ) بالإنقياد إلى الهوى، وتجاوز ما يمليه عليه الوحي الإلهي، ليصبح (صلىاللهعليهوآله ) خارج دائرة العصمة، ولا يبقى مأموناً على ما أتمنه الله عليه..
ثالثاً: إنه أخبرهم: بأن الله تعالى قد باهى بهم، وغفر لهم عامة، وباهى وغفر لعلي خاصة، وفي هذا النص كلام من عدة جهات، هي:
ألف: إن علياً (عليهالسلام ) معصوم لا يصدر منه الذنب، إلا إن كان المقصود الذنب الذي هو من قبيل ما ورد في أول سورة الفتح:( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً ) (١) .
حيث ثبت: أن المراد بالذنب: هو ما كان قومه يعدونه ذنباً، وهو مجيئه
____________
١- الآيتان ١ و ٢ من سورة الفتح.
بهذا الدين. فإنهم غفروا له ذلك، وصاروا يعتبرونه فضلاً وسداداً.. شاهدنا على ذلك: أنه لو كان بالذنب معصية لما كافأه عليه بالفتح المبين، لأن المذنب يعاقب ولا يكافأ.
أو أن المراد: أن الله تعالى غفر لعلي ما يراه (عليهالسلام ) ذنباً في جنب الله، وإن لم يكن كذلك في الواقع. حيث يرى: أن عبادته لا تليق بمقام الألوهية الأقدس.. ويعتبر نفسه مذنباً ومقصراً في أداء واجبه..
ب: إن المراد بمغفرة ذنوبهم عامة: هو مغفرة ذنوب من تاب منهم وأناب، وعزم على عدم العود للمعاصي. أما المصر على معصية الله، وعلى مخالفة ما يأتي به نبيه الأكرم (صلىاللهعليهوآله )، ولا سيما فيما يرتبط بإمامة وصيه من بعده، فلا تشمله المغفرة، لا عموماً ولا خصوصاً.
رابعاً: إنه (صلىاللهعليهوآله ) قد ربط السعادة كل السعادة بحب علي (عليهالسلام ) في حياة علي وبعد موته.. ولم يزد على ذلك..
فهنا سؤلان:
أولهما: ما معنى التأكيد على حب علي (عليهالسلام ) في الحياة وبعد الممات؟!
ونجيب:
لعل السبب في تعميم الحب إلى ما بعد الممات: هو أن حبه في هذه الحالة يكون صادقاً وحقيقياً، وليس حباً مصلحياً، ولا متأثراً بمؤثرات خارجية، بل هو يحبه لأنه يراه مستحقاً للحب..لا لشيء آخر.
الثاني: لقد اقتصر على ذكر الحب، ولم يشر إلى الطاعة والقبول بحكمه
وخلافته، لأن الحديث عن السعادة التامة في الدنيا والآخرة، وأي شيء آخر غير الحب قد لا يحققهما معاً، حتى الطاعة والإنقياد، فإن الإنسان قد يطيع الحاكم خوفاً، أو طمعاً، أو حباً بالسلامة، أو لغير ذلك.. أما الحب الحقيقي فهو يدعوه للطاعة في الدنيا، ويجعله أهلاً لشفاعته في الآخرة.
وبعد ما تقدم نقول، ونتوكل على خير مسؤول:
حديث عرفات:
ذكرنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله ) نصوصاً تدل على ما جرى للنبي (صلىاللهعليهوآله ) في عرفات، وهي التالية:
ذكرت الروايات الصحيحة: أن رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، خطب الناس في حجة الوداع؛ في عرفة، فلما ذكر حديث الثقلين(١) ، ثم ذكر عدد الأئمة، وأنهم اثنا عشر، واجهته فئات من الناس بالضجيج والفوضى، إلى حد أنه لم يتمكن من إيصال كلامه إلى الناس.
وقد صرح بعدم التمكن من سماع كلامه كل من: أنس، وعبدالملك بن عمير، وعمر بن الخطاب، وأبي جحيفة، وجابر بن سمرة(٢) ، ولكن رواية
____________
١- راجع: حديث الثقلين للوشنوي ص١٣ وما ذكره من مصادر..
٢- راجع: كشف الغطاء (ط.ق) ج١ ص٧ والسنة في الشريعة الإسلامية لمحمد تقي الحكيم ص٦٣ والأمالي للصدوق ص٣٨٧ و ٤٦٩ والخصال ص٤٧٠ و ٤٧١ و ٤٧٢ وإكمال الدين ص٦٨ و ٢٧٢ و ٢٧٣ وكفاية الأثر ص٥١ و ٧٦ و ٧٧ و ٧٨ = = وشرح أصول الكافي ج٢ ص٢٤٠ وج٥ ص٢٣٠ وج٧ ص٣٧٤ وكتاب الغيبة للنعماني ص١٠٤ و ١٠٥ و ١٢٠ و ١٢١ و ١٢٢ و ١٢٣ و ١٢٤ والغيبة للطوسي ص١٢٨ و ١٢٩ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٢٤٨ و ٢٤٩ و ٢٥٤ والعمدة لابن البطريق ص٤١٦ و ٤١٧ و ٤١٨ و ٤٢٠ و ٤٢١ والطرائف لابن طاووس ص١٧٠ وبحار الأنوار ج٣٦ ص٢٣١ و ٢٣٤ و ٢٣٥ و ٢٣٦ و ٢٣٧ و ٢٦٦ و ٢٦٧ و ٢٦٩ و ٢٩٨ و ٣٦٢ و ٣٦٣ و ٣٦٤ و ٣٦٥ وكتاب الأربعين للماحوزي ص٣٨١ و ٣٨٦ وسفينة النجاة للسرابي التنكابني ص٣٨٥ والإكمال في أسماء الرجال للخطيب التبريزي ص١٩٣ والملاحم والفتن لابن طاووس ص٣٤٥ والمسلك في أصول الدين للمحقق الحلي ص٢٧٤ وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص٤١٨ وإعلام الورى ج٢ ص١٥٩ و ١٦٢ وكشف الغمة ج١ ص٥٧ و ٥٨ ومسند أحمد ج٥ ص٨٧ و ٨٨ و ٩٠ و ٩٢ و ٩٣ و ٩٤ و ٩٥ و ٩٦ و٩٧ و ٩٨ و ٩٩ و ١٠٠ و ١٠١ و ١٠٦ و ١٠٧ و ١٠٨ وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج٨ ص١٢٧ وصحيح مسلم (ط دار الفكر) ج٦ ص٣ و ٤ وسنن أبي داود ج٢ ص٣٠٩ وسنن الترمذي ج٣ ص٣٤٠ والمستدرك للحاكم ج٣ ص٦١٧ و ٦١٨ وشرح مسلم للنووي ج١٢ ص٢٠١ ومجمع الزوائد ج٥ ص١٩٠ وفتح الباري ج١٣ ص١٨١ وعمدة القاري ج٢٤ ص٢٨١ ومسند أبي داود الطيالسي ص١٠٥ و ١٨٠ ومسند ابن أبي الجعد ص٣٩٠ والآحاد والمثاني ج٣ ص١٢٦ و ١٢٧ وكتاب السنة لابن أبي عاصم ص٥١٨ وصحيح ابن حبان ج١٥ ص٤٣ و ٤٤ و ٤٦ والمعجـم الأوسـط ج٣ ص٢٠١ وج٦ ص٢٠٩ والمعجـم الكـبـير ج٢ ص١٩٥ = = و١٩٦ و ١٩٧ و ٢١٤ و ٢١٨ و ٢٢٣ و ٢٢٦ و ٢٣٢ و ٢٤١ و ٢٤٩ و ٢٥٣ و ٢٥٤ و ٢٥٥ وج٢٢ ص١٢٠ والرواة عن سعيد بن منصور لأبي نعيم الأصبهاني ص٤٤ والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص٩٥ والكامل لابن عدي ج٢ ص٣٨٦ وطبقات المحدثين بأصبهان ج٢ ص٩٠ وتاريخ بغداد ج٢ ص١٢٤ وج١٤ ص٣٥٤ وتاريخ مدينة دمشق ج٥ ص١٩١ وسير أعلام النبلاء ج٨ ص١٨٤ وج١٤ ص٤٤٤ وذكر أخبار إصبهان ج٢ ص١٧٦ والبداية والنهاية ج١ ص١٧٧ وج٦ ص٢٧٨ و ٢٧٩ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج١٢ ص٣٠٢ و ٢٠٣ وينابيع المودة ج٣ ص٢٨٩.
هذا الأخير، كانت أكثر صراحة ووضوحاً.
ويبدو أنه قد حدّث بما جرى مرات عديدة، فرويت عنه بأكثر من طريق. وبأكثر من تعبير يشير إلى المعنى الثابت، ونختار بعض نصوص تلك الرواية ـ ولا سيما ما ورد منها في الصحاح والكتب المعتبرة، فنقول:
١ ـ في مسند أحمد؛ حدّثنا عبد الله، حدثني أبو الربيع الزهراني، سليمان بن داود، وعبيد الله بن عمر القواريري، ومحمد بن أبي بكر المقدمي، قالوا: حدثنا حماد بن زيد، حدثنا مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن جابر بن سمرة، قال: خطبنا رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بعرفات ـ وقال المقدمي في حديثه: سمعت رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يخطب بمنى.
وهذا لفظ حديث أبي الربيع: فسمعته يقول:
(لن يزال هذا الأمر عزيزاً ظاهراً، حتى يملك اثنا عشر كلهم ـ ثم لغط
القوم، وتكلموا ـ فلم أفهم قوله بعد (كلّهم)؛ فقلت لأبي: يا أبتاه، ما بعد كلّهم؟!
قال: (كلّهم من قريش)(١) .
وحسب نص النعماني: (وتكلم الناس، فلم أفهم، فقلت لأبي..)(٢) .
٢ ـ عن الشعبي، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً، يُنصرون على من ناواهم عليه إلى اثني عشر خليفة.
قال: (فجعل الناس يقومون ويقعدون)(٣) .
____________
١- مسند أحمد ج٥ ص٩٩ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص٣٤ و ٣٧ وكتاب الغيبة للنعماني ص١٢٣ والمعجم الكبير للطبراني ج٢ ص١٩٦ وراجع: الأمالي للصدوق ص٣٨٧ والخصال ص٤٧٥ وكمال الدين ص٢٧٣ وبحار الأنوار ج٣٦ ص٢٣١ و ٢٤١ وغاية المرام ج٢ ص٢٧١.
٢- الغيبة للنعماني ص١٢١ و ١٢٢وعن عوالم العلوم ص١٥٣/١٠٦ ح١٦.
٣- مسند أحمد ج٥ ص٩٩ وراجع ص٩٨ و ١٠١ والغيبة للنعماني ص١٠٥ والغيبة للطوسي ص١٢٩ وإعلام الورى ص٣٨٤ و (ط مؤسسة آل البيت) ج٢ ص١٦٢ والإستنصار لأبي الفتح الكراجكي ص٢٥. وبحار الأنوار ج٣٦ ص٢٣٧ و ٢٩٩ وراجع ص٢٣٥ و ٢٦٨ وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص٤١٨ ومنتخب الأثر ص٢٠ وغاية المرام ج٢ ص٢٥٤ و ٢٧٥ وراجع ص٢٧٤ والخصال ص٤٧٠ و ٤٧٢ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٢٥٠ والملاحم والفتن لابن طاووس ص٣٤٥ وصحيح ابن حبان ج١٥ ص٤٥.
زاد الطوسي: (وتكلم بكلمة لم أفهمها، فقلت لأبي، أو لأخي:..)(١) .
وفي حديث آخر عن جابر بن سمرة صرّح فيه: (أن ذلك كان في حجة الوداع)(٢) .
ومن المعلوم: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) لم يحج إلا هذه الحجَّة..(٣) .
____________
١- الغيبة للطوسي ص٨٨ و ٨٩ و (ط مؤسسة المعارف الإسلامية) ص١٢٨ و ١٢٩ وكتاب الغيبة للنعماني ص١٠٥ وإعلام الورى ص٣٨٤ و (ط مؤسسة آل البيت) ج٢ ص١٦٢ وبحار الأنوار ج٣٦ ص٢٣٧ و ٢٩٩ وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص٤١٨ ومنتخب الأثر ص٢٠ وغاية المرام ج٢ ص٢٥٤ و٢٧٥.
٢- مسند أحمد ج٥ ص٨٧ والثقات لابن حبان ج٧ ص٢٤١.
٣- راجع: السيرة الحلبية (ط سنة ١٣٩١ هـ) ج٣ ص٢٨٩ والسيرة النبوية لدحلان (بهامش السيرة الحلبية أيضاً) ج٣ ص٢ وصحيح ابن خزيمة ج٤ ص٣٥٢ ومسند زيد بن علي ص٢٢٠ وعمدة القاري ج٤ ص٢٧١ وج٩ ص١٢٥ وج١٨ ص٣٦ و ٤٠ و ٤١ وج٢٥ ص٦٢ وشرح مسلم للنووي ج٨ ص٢٣٦ وأضواء البيان للشنقيطي ج٤ ص٣٣١ والبداية والنهاية ج٤ ص٢٠٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج٣ ص٣٤٢ واختلاف الحديث للشافعي ص٥٦٨ ومعرفة السنن والآثار ج٣ ص٥١٥ وسنن النسائي ج٥ ص١٦٣ ومسند أبي يعلى ج٤ ص٢٣ وعون المعبود ج٥ ص١٣٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج٤ ص٣٤٢ وج٥ ص٦ والكافي ج٤ ص٢٤٤ وبحار الأنوار ج٢١ ص٣٩٩ ومستدرك سفينة البحار ج٢ ص١٨٧ والتمهيد لابن عبد البر ج١٦ ص١٧٤.
٣ ـ عن جابر بن سمرة، قال: (خطبنا رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بعرفات؛ فقال: لا يزال هذا الأمر عزيزاً منيعاً، ظاهراً على من ناواه حتى يملك اثنا عشر، كلهم ـ قال: فلم أفهم ما بعد ـ قال: فقلت لأبي: ما قال بعد كلّهم؟
قال: (كلّهم من قريش)(١) .
وعن أبي داود وغيره: ـ وإن لم يصرّح بأن ذلك كان في عرفات ـ زاد قوله: كلّهم تجتمع عليه الأمة، فسمعت كلاماً من النبي (صلىاللهعليهوآله ) لم أفهمه، فقلت لأبي..(٢) .
____________
١- مسند أحمد ج٥ ص٩٣ وفي ص٩٦ في موضعين وص٩٨ و ١٠١، وكتاب الغيبة للنعماني ص١٢٣ والإكمال في أسماء الرجال ص٣٤ و ١٨٣.
٢- سنن أبي داود السجستاني ج٤ ص١٠٦ و (ط دار الفكر) ج٢ ص٣٠٩ ومسند أبي عوانة ج٤ ص٤٠٠ وتاريخ الخلفاء ص١٠ و ١١ وراجع: فتح الباري ج١٣ ص١٨١ وكرر عبارة "كلهم تجتمع عليه الأمة" في ص١٨٢ و ١٨٣ و ١٨٤.
وذكرها أيضاً في: الصواعق المحرقة ص١٨ وفي إرشاد الساري ج١٠ ص٢٧٣ وينابيع المودة ص٤٤٤ و(ط دار الأسوة) ج٣ ص٢٨٩.
وراجع: الغيبة للطوسي ص٨٨ و الغيبة للنعماني ص١٢١ و ١٢٢ و ١٢٣ و ١٢٤ والبحار ج٣٦ ص٣٦٥ وسفينة النجاة للسرابي التنكابني ص٣٨٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص١٨ وج١٩ ص٦٢٩.
وفي لفظ آخر: (كلهم يعمل بالهدى ودين الحق)(١) .
وفي بعض الروايات: ثم أخفى صوته، فقلت لأبي: ما الذي أخفى صوته؟
قال: قال: (كلهم من بني هاشم)(٢) .
٤ ـ وذكر في نص آخر: أن ذلك كان في حجة الوداع، وقال:
ثم خفي عليّ قول رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، وكان أبي أقرب إلى راحلة رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) مني؛ فقلت: يا أبتاه، ما الذي خفي عليّ من قول رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ؟!
قال: يقول (كلهم من قريش).
قال: فأشهد على إفهام أبي إيّاي: قال: (كلهم من قريش)(٣) .
____________
١- الخصال ج٢ ص٤٧٤ و (ط مركز النشر الإسلامي) ص٤٧٤ وعيون أخبار الرضا "عليهالسلام " للصدوق ج٢ ص٥٥ والبحار٣٦ ص٢٤٠ عنه وعن عيون أخبار الرضا "عليهالسلام ". وفتح الباري ج١٣ ص١٨٤ وعمدة القاري ج٢٤ ص٢٨٢ وتاريخ بغداد ج٤ ص٢٥٨ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٥ ص١٨٩ والبداية والنهاية ج٦ ص٢٨٠ وإمتاع الأسماع ج١٢ ص٣٠٦ وشرح إحقاق الحق ج١٣ ص٤٧ وج١٩ ص٦٢٩.
٢- ينابيع المودة ص٤٤٥ و (ط دار الأسوة) ج٢ ص٣١٥ وج٣ ص٢٩٠ عن كتاب: مودة القربى للسيد علي الهمداني (المودة العاشرة) وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص٣٠ عن مودة القربى (ط لاهور) ص٤٤٥.
٣- مسند أحمد ج٥ ص٩٠ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص٣٢.
٥ ـ وبعد أن ذكرت رواية أخرى عنه حديث أن الأئمة اثنا عشر قال: ثم تكلم بكلمة لم أفهمها، وضج الناس؛ فقلت لأبي: ما قال؟(١) .
٦ ـ ولفظ مسلم عن جابر بن سمرة، قال: انطلقت إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، ومعي أبي؛ فسمعته يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة؛ فقال كلمة صمّنيها الناس.
فقلت لأبي: ما قال؟
قال: (كلهم من قريش)(٢) .
وعند أحمد وغيره: فقلت لأبي ـ أو لابني ـ: ما الكلمة التي أصمّنيها الناس؟!.
قال: (كلهم من قريش)(٣) .
٧ ـ وعن جابر بن سمرة قال: كنت عند النبي (صلىاللهعليهوآله )، فقال: يلي هذا الأمر اثنا عشر، فصرخ الناس؛ فلم أسمع ما قال، فقلت لأبي
____________
١- مسند أحمد ج٥ ص٩٣ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص٣٥.
٢- صحيح مسلم ج٦ ص٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص١ عنه، والعمدة لابن البطريق ص٤٢١ و (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ص٤١٨ الإكمال في أسماء الرجال ص٣٤.
٣- مسند أحمد ج٥ ص١٠١ والخصال ج٢ ص٤٧٠ و ٤٧٢ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص٣٩ والبحار ج٣٦ ص٢٣٥ وراجع: النهاية في اللغة ج٣ ص٥٤ ولسان العرب ج١٢ ص٣٤٣ ونقل عن كتاب: القرب في محبة العرب ص١٢٩.
ـ وكان أقرب إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) مني ـ فقلت: ما قال رسول الله؟
فقال: قال: (كلّهم من قريش، وكلهم لا يُرى مثله)(١) .
٨ ـ ولفظ أبي داود: فكبر الناس، وضجوا، ثم قال كلمة خفية..(٢) .
ولفظ أبي عوانة: فضج الناس.
وقد قال النبي (صلىاللهعليهوآله ) كلمة خفيت عليّ..(٣) .
وعلى كل حال.. فإن حديث الاثني عشر خليفة بعده (صلىاللهعليهوآله )، والذي قال فيه (صلىاللهعليهوآله ) كلمة لم يسمعها جابر، وغيره ـ ممن كان حاضراً، وروى الحديث.. أو لم يفهمها، أو خفض بها صوته، أو خفيت عليه، أو نحو ذلك ـ إن هذا الحديث ـ مذكور في كثير من المصادر
____________
١- إكمال الدين ج١ ص٢٧٢ ـ ٢٧٣ و (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ص٦٨ و ٢٧٣ والخصال ج٢ ص٤٧٣ وراجع: البحار ج٣٦ ص٢٣٩.
٢- سنن أبي داود ج٤ ص١٠٦ و (ط دار الفكر) ج٢ ص٣٠٩ ومسند أحمد ج٥ ص٩٨ وفتح الباري ج١٣ ص١٨١ والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص٩٥ وإرشاد الساري ج١٠ ص٢٣٧ والبحار ج٣٦ ص٣٦٥ تاريخ بغداد ج٢ ص١٢٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٢٩ ص٩٤.
٣- مسند أبي عوانة ج٤ ص٣٩٤ والخصال ج٢ ص٤٧١ والبحار ج٣٦ ص٢٣٦ والمستدرك للحاكم ج٣ ص٦١٧ والمعجم الكبير ج٢ ص١٩٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص٢٩ و ٤١.
والمراجع، فليراجعها طالبها(١) .
ونقول:
إن ملاحظة الحدث المتقدم: تفرض على الباحث التأمل ملياً في كل ما جرى، فإنه على درجة عالية جداً من الخطورة، ونستطيع نحن أن نفتح للقارئ باب التأمل من خلال لفتات ولمحات نشير إليها ضمن العناوين التالية:
علي (عليهالسلام ) امتداد للرسول (صلىاللهعليهوآله ):
وذكرت الروايات: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) خطب الناس في منى،
____________
١- راجع المصادر التالية: صحيح مسلم ج٦ ص٣ بعدة طرق، ومسند أحمد ج٥ ص٩٣ و ٩٢ و ٩٤ و ٩٠ و ٩٥ و ٩٦ و ٩٧ و ٩٨ و ٨٩ و ٩٩ و ١٠٠ و ١٠١ و ١٠٦ و ١٠٧ و ١٠٨ ومسند أبي عوانة ج٤ ص٣٩٤ وحلية الأولياء ج٤ ص٣٣٣ وإعلام الورى ص٣٨٢ والعمدة لابن البطريق ص٤١٦ ـ ٤٢٢ وإكمال الدين ج١ ص٢٧٢ و ٢٧٣ والخصال ج٢ ص٤٦٩ و ٤٧٥ وفتح الباري ج١٣ ص١٨١ ـ ١٨٥ والغيبة للنعماني ص١١٩ ـ ١٢٥ وصحيح البخاري ج٤ ص١٥٩ وينابيع المودة ص٤٤٤ ـ ٤٤٦ وتاريخ بغداد ج٢ ص١٢٦ وج١٤ ص٣٥٣ ومستدرك الحاكم ج٣ ص ٦١٨ وتلخيصه للذهبي (مطبوع بهامش المستدرك) نفس الصفحة، ومنتخب الأثر ص١٠ ـ ٢٣ عن مصادر كثيرة، والجامع الصحيح ج٤ ص٥٠١ وسنن أبي داود ج٤ ص١١٦ وكفاية الأثر ص٤٩ إلى آخر الكتاب، والبحار ج٣٦ ص٢٣١ إلى آخر الفصل، وإحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص١ ـ ٥٠ عن مصادر كثيرة..
وخطبهم في عرفات، ولكن قد ظهر أن ثمة فرقاً قد ظهر بين الموقفين..
فقد أظهر الله الكرامة للنبي (صلىاللهعليهوآله ) في منى.. ولم يحصل مثل ذلك في عرفات.
فقد ذكروا: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كان في منى يخطبهم، ويصل صوته إلى كل من كان في منى(١) .
ولكنه حين خطبهم في عرفات كان (صلىاللهعليهوآله ) يخطبهم وكان علي (عليهالسلام ) يقف في مكان آخر، ويوصل كلامه إلى من هم في الجهة الأخرى(٢) .
____________
١- راجع المصادر المتقدمة في الفصل السابق.
٢- راجع: مسند أحمد ج٣ ص٤٧٧ والبداية والنهاية ج٥ ص٢١٧ وتاريخ مدينة دمشق ج١٨ ص٤ و ٥ وأسد الغابة ج٢ ص١٥٥ وج٥ ص١١ وتهذيب الكمال ج٩ ص٣٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج٤ ص٣٩٦ وأدب الإملاء والإستملاء ص١٠١ والسنن الكبرى للبيهقي ج٢ ص٣٤٣ و (ط دار الفكر) ج٣ ص٢٤٧ وج٥ ص١٤٠ والسنن الكبرى للنسائي ج٢ ص٤٤٣ والمعجم الكبير ج٥ ص١٩ وإمتاع الأسماع ج٦ ص٣٨٩ والمغني لابن قدامة ج١ ص٦٢٤ وتحفة الأحوذي ج٥ ص٣١٩ وسبل الهدى والرشاد ج٧ ص٣١٢ و ٣١٤ وج٨ ص٢١٢ وج٩ ص١٣٨ وتلخيص الحبير لابن حجر ج٤ ص٦٢١ وسنن أبي داود ج١ ص٤٣٧ وج٢ ص٢٦٣ ونيل الأوطار ج٢ ص٩٠ وكشف اللثام (ط.ج) ج٦ ص٧٨ و (ط.ق) ج١ ص٣٥٦ والمجموع للنووي ج٨ ص٩٠.
ثم اجتمع في تلك الصورة وفيها هيئة نبيناصلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له الله تعالى: أنت المختار وعندك مستودع الأنوار، وأنت المصطفى المنتخب الرضا المنتجب المرتضى، من أجلك أضع البطحاء وأرفع السماء وأجري الماء وأجعل الثواب والعقاب والجنة والنار، وأنصب أهل بيتك علماً للهداية وأودع أسرارهم في سري بحيث لا يشكل عليهم دقيق ولا يغيب عنهم خفي، وأجعلهم حجتي على بريتي والمنبهين على قدري والمطلعين على أسرار خزائني.
ثم أخذ الحق سبحانه عليهم الشهادة بالربوبية والاقرار بالوحدانية في مكنون علمه، ونصب العوالم وموج الماء وأثار الزبد وأهاج الدخان، فطفى عرشه على الماء، ثم أنشأ الملائكة من أنوار أبدعها وأنواع اخترعها، ثم خلق الأرض وما فيها.
ثم قرن بتوحيده نبوة نبيّه محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم وصفيّه، وشهدت السماوات والأرض والملائكة والعرش والكرسي والشمس والقمر والنجوم وما في الأرض له بالنوبة، فلمّا خلق آدم أبان للملائكة فضله وأراهم ما خصه به من سابق العلم وجعله محراباً وقبلة لهم وسجدوا له، ثم بيّن لآدم حقيقة ذلك النور ومكنون ذلك السر، فلما حانت أيامه أودعه شيئاً، ولم يزل ينقل من الأصلاب الفاخرة إلى الأرحام الطاهرة إلى أن وصل عبد المطلب ثم إلى عبد الله ثم إلى نبيهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فدعا الناس ظاهراً وباطناً وندبهم سراً وعلانية، واستدعى الفهوم إلى القيام بحقوق ذلك السر المودع في الذر قبل النسل، فمن وافقه قبس من لمحات ذلك النور واهتدى إلى السر وانتهى إلى العهد المودع، ومن غمرته الغفلة وشغلته المحنة فاستحق البعد.
ثم لم يزل ذلك النور ينتقل فينا ويتشعشع في غرائزنا، فنحن أنوار السماوات والأرض وسفن النجاة، وفينا مكنون العلم وإلينا مصير الأمور وبمهديّنا تقطع الحجج خاتمة الأئمة ومنقذ الأمة ومنتهى النور، فليهن من استمسك بعروتنا وحشر
على محبتنا »(١) .
وقال سيدنا الامام علي بن الحسين زين العابدينعليهالسلام : « نحن الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها ويغرق من تركها » رواه البلخي بقوله: « أخرج الحافظ الجعابي أن الامام زين العابدينرضياللهعنه قال: نحن الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها ويغرق من تركها، وإن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق من يحبّنا وهم في أصلاب آبائهم، فلا يقدرون على ترك ولا يتنا، لأن الله عز وجل جعل جبلتهم على ذلك »(٢) .
وقال عمرو بن العاص في مدح أمير المؤمنينعليهالسلام :
« هو النبأ العظيم وفلك نوح |
وباب الله وانقطع الخطاب » |
في قصيدة نسبها إليه جماعة من علماء أهل السنة، منهم: أبو محمد الحسن ابن أحمد بن يعقوب الهمداني اليمني في كتاب ( الإِكليل ) وجمال الدين المحدّث الشيرازي في ( تحفة الأحباء في مناقب آل العباء ).
قال أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني اليمني: « روى أن معاوية بن أبي سفيان قال يوماً لجلسائه: من قال في علي على ما فيه فله البدرة؟ فقال كل منهم كلاماً غير موافق من شتم أمير المؤمنين إلّا عمرو بن العاص، فإنه قال أبياتاً اعتقدها وخالفها بفعاله:
___________________
(١). تذكرة خواص الامة ١٢٨.
(٢). ينابيع المودة ٢٣.
بآل محمد عرف الصواب |
وفي أبياتهم نزل الكتاب |
|
وهم حجج الإِله على البرايا |
بهم وبجدّهم لا يستراب |
|
ولا سيّما أبي حسن علي |
له في المجد مرتبة تهاب |
|
إذا طلبت صوارمهم(١) نفوساً |
فليس بها(٢) سوى نعم جواب |
|
طعام حسامه مهج الأعادي |
وفيض دم الرقاب لها شراب |
|
وضربته كبيعته بخم |
معاقدها من الناس الرقاب |
|
إذا لم تبرء من أعداء علي |
فما لك في محبته ثواب |
|
هو البكّاء في المحراب ليلاً |
هو الضحّاك إنْ آن الضرّاب |
|
هو النبأ العظيم وفلك نوح |
وباب الله وانقطع الجواب(٣) |
فأعطاه معاوية البدر وحرم الآخرين »(٤) .
وقال الحسن البصري في كتاب له إلى سيدنا الامام الحسن السبطعليهالسلام « فإنكم معاشر بني هاشم كالفلك الجارية في بحر لجي، ومصابيح الدجى وأعلام الهدى، والأئمة القادة الذين من تبعهم نجا، كسفينة نوح المشحونة التي يؤول إليها المؤمنون وينجو فيها المتمسكون ».
___________________
(١). كذا والظاهر: صوارمه.
(٢). كذا والظاهر: لها.
(٣). كذا والظاهر: الخطاب.
(٤). هذا الاستشهاد مبني على نسبة من ذكرنا القصيدة إلى عمرو بن العاص. ومن القوم من نسبها إلى الناشئ الصغير المتوفى سنة ٣٦٥ وهي ٣٢ بيت، قال صاحب الغدير: وهو الأصح.
(٥).. الحسن البصري هو: الحسن بن يسار أبو سعيد. من كبار التابعين وإمام أهل البصرة وحبر الامة في زمنه، وأحد العلماء الفقهاء النساك عند أهل السنة. توفي سنة ١١٠ وله ترجمة في جميع كتب الرجال كتهذيب التهذيب وتقريب التهذيب وميزان الاعتدال. وقد أثنى عليه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء ٢ / ١٣١.
رواه أبو الحسن الغزنوي في ( كشف المحجوب لأرباب القلوب ٦١ ) وعنه الشهاب الدولت آبادي في ( هداية السعداء ) وعبد الرحمن الجشتي في ( مرآة الأسرار ) ورواه محمد محبوب في ( تفسير شاهي ) بتفسير قوله تعالى:( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) عن كتاب ( جواهر العلوم ).
دلالة حديث السفينة
ويدلّ حديث السفينة على إمامة أهل البيتعليهمالسلام : من وجوه:
إن هذا الحديث يدلّ على وجوب اتباع أهل البيتعليهمالسلام على الإِطلاق، ولا يجب اتباع أحد كذلك - بعد الله ورسولهصلىاللهعليهوآلهوسلم - إلّا الإمام كما دريت فيما سبق في وجوه دلالة حديث الثقلين على المطلوب.
ويشهد لدلالته على وجوب ابتاعهم مطلقاً كلمات عدة من علماء أهل السنة منهم العجيلي الشافعي، وقد تقدّم ذكر بعض تلك الكلمات.
إن هذا الحديث يدل على أن اتباع أهل البيتعليهمالسلام يوجب النجاة والخلاص، ومن المعلوم أن كونهم كذلك دليل العصمة، وهي تستلزم الامامة والخلافة.
وقد نصّ على دلالة الحديث على ذلك جماعة في بيان وجه تشبيههم بالسفينة:
قال الواحدي: « أنظر كيف دعا الخلق إلى النسب إلى ولائهم والسير تحت لوائهم بضرب مثله بسفينة نوحعليهالسلام ، جعل ما في الآخرة من مخاوف
الأخطار وأهوال النار كالبحر الذي لج براكبه، فيورده مشارع المنية ويفيض عليه سجال البلية، وجعل أهل بيته عليهو عليهم السلام مسبب الخلاص من مخاوفه والنجاة من متالفه، وكما لا يعبر البحر الهياج عند تلاطم الامواج إلّا بالسفينة، كذلك لا يأمن نفخ الجحيم ولا يفوز بدار النعيم إلّا من تولى أهل بيت الرسول صلوات الله عليه وعليهم، وتخلى لهم وده ونصيحته وأكد في موالاتهم عقيدته، فإن الذين تخلّفوا عن تلك السفينة آلوا شر مآل وخرجوا من الدنيا إلى أنكال وجحيم ذات أغلال، وكما ضرب مثلهم بسفينة نوح قرنهم بكتاب الله تعالى فجعلهم ثاني الكتاب وشفع التنزيل »(١) .
وقال السمهودي في تنبيهات الذكر الخامس: « ثانيها قولهصلىاللهعليهوآلهوسلم : مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه، الحديث، ووجهه أن النجاة ثبتت لأهل السفينة من قوم نوحعليهالسلام ، وقد سبق في الذكر قبله في حثّهصلىاللهعليهوآلهوسلم على التمسك بالثقلين كتاب الله وعترته قولهصلىاللهعليهوآلهوسلم فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، و قوله في بعض الطرق: نبأني اللطيف الخبير ، فأثبت لهم بذلك النجاة وجعلهم وصلة اليها، فتم التمسك المذكور، ومحصله الحث على التعلّق بحبلهم وحبهم وإعظامهم شكراً لنعمة مشرفهم صلّى الله عليه وعليهم، والأخذ بهدي علمائهم ومحاسن أخلاقهم وشيمهم، فمن أخذ بذلك نجا من ظلمات المخالفة وأدى شكر النعمة الوافرة، ومن تخلّف عنه غرق في بحار الكفران وتيار الطغيان فاستوجب النيران »(٢) .
وقال ابن حجر: « ووجه تشبيههم بالسفينة فيما مر: إن من أحبهم وعظمهم شكراً لنعمة مشرفهمصلىاللهعليهوآلهوسلم وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم وهلك في مفاوز ( تيّار -
___________________
(١). تفسير الواحدي - مخطوط.
(٢). جواهر العقدين - مخطوط.
ظ ) الطغيان »(١) .
إن هذا الحديث يدل على أفضلية أهل البيتعليهمالسلام من سائر الناس مطلقاً، إذ لو كان أحد أفضل منهم - أو في مرتبتهم من الفضل - لأمر الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم بالاقتداء به دونهم، وإلّا لزم أنْ يكون قد غش أمته، وحاشا لله من ذلك
وقد صرّح بدلالة الحديث على ذلك جماعة من أعيان علماء السنة كما تقدم.
إن هذا الحديث يدل على وجوب محبة أهل البيتعليهمالسلام على الإِطلاق، ووجوبها كذلك دليل على وجوب عصمتهم وأفضليتهم والانقياد لهم، كما بحث عن ذلك بالتفصيل في مجلد آية المودة. وكل ذلك يستلزم الإِمامة.
إن هذا الحديث يدل على أن محبة أهل البيتعليهمالسلام توجب النجاة. وهذا المعنى يستلزم عصمتهم، إذ لو كان منهم ما يوجب سخط الباري تعالى لما جازت محبتهم ومتابعتهم فضلاً عن وجوبها وكونها سبباً للنجاة - وهذا واضح.
وإذا ثبتت عصمتهمعليهمالسلام لم يبق ريب في إمامتهم
إن هذا الحديث يدل على هلاك وضلال المتخلّفين عن أهل البيت عليهم
___________________
(١). الصواعق المحرقة: ٩١.
السلام، وتخلّف الخلفاء عنهم من الوضوح بمكان، كما أثبته علماؤنا الأعيان في كتب هذا الشأن، فبطل بهذا خلافتهم عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وثبتت خلافة سيدنا أمير المؤمنينعليهالسلام .
إن هذا الحديث يدل على أن من اتّبعهم كان من المفلحين الناجين، ومن خالفهم وتركهم كان من الكافرين الخاسرين، فبهم وباتّباعهم يعرف المؤمن من الكافر، وهذا المعنى أيضاً يقتضي الامامة والرئاسة العامة، لأنه من شوؤن العصمة المستلزمة للامامة كما تقدم.
إن هذا الحديث يدل على لزوم وجود إمام معصوم من أهل البيتعليهمالسلام في كل زمان إلى يوم القيامة، ليتسنى للأمة في جميع الأدوار ركوب تلك السفينة والنجاة بها من الهلاك، فهو إذاً يدل على صحة مذهب أهل الحق وبطلان المذاهب الأخرى، كما لا يخفى.
لقد جاء حديث السفينة بعد حديث الثقلين في سياق طويل بحيث لا يبقى ريب لمن لاحظه في دلالته على مطلوب أهل الحق وذلك ما رواه أبو عبد الله محمد بن مسلم بن أبي الفوارس الرازي في صدر كتابه ( الأربعين في فضائل أمير المؤمنين ) حيث قال: « وقال النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم : إني تارك فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فهما خليفتان بعدي، أحدهما أكبر من الآخر سبب موصول من السماء إلى الأرض، فإن استمسكتم بهما لن تضلوا، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة، فلا تسبقوا أهل بيتي بالقول فتهلكوا ولا تقصّروا عنهم
فتذهبوا، فإن مثلهم فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك، ومثلهم فيكم كمثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له، ألا وإن أهل بيتي أمان لأمتي فإذا ذهب أهل بيتي جاء أمّتي ما يوعدون، ألا وإنّ الله عصمهم من الضلالة وطهّرهم من الفواحش واصطفاهم على العالمين، ألا وإنّ الله أوجب محبّتهم وأمر بمودتهم، ألا وإنّهم الشهداء على العباد في الدنيا ويوم المعاد، ألا وإنّهم أهل الولاية الدالّون على طرق الهداية، ألا وإنّ الله فرض لهم الطاعة على الفرق والجماعة، فمن تمسك بهم سلك ومن حاد عنهم هلك. ألا وإن العترة الهادية الطيبين دعاة الدين وأئمة المتقين وسادة المسلمين، وقادة المؤمنين وأمناء العالمين على البرية أجمعين، الذين فرّقوا بين الشك واليقين وجاءوا بالحق المبين »(١) .
لقد ورد هذا الحديث في سياقٍ يدل دلالة واضحة على أنهصلىاللهعليهوآلهوسلم يريد بذلك النص على الأئمة الاثني عشرعليهمالسلام من بعده.
وقد جاء ذلك في حديث رواه أبو منصور شهردار بن شيرويه الديلمي: « عن أبي سعيد الخدري، قال: صلّى بنا رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم الصلاة الاُولى ثم أقبل بوجهه الكريم علينا فقال: يا معاشر أصحابي إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح وباب حطة في بني إسرائيل، فتمسكوا بأهل بيتي بعدي الأئمة الراشدين من ذريتي، فإنكم لن تضلوا أبداً، فقيل: يا رسول الله كم الأئمة بعدك؟ قال: اثنا عشر من أهل بيتي - أو قال - من عترتي »(٢) .
فإنه يدل على إمامة أهل البيتعليهمالسلام من جهات:
١ - تشبيههصلىاللهعليهوآلهوسلم أهل البيت بسفينة نوح.
___________________
(١). الأربعين لابن أبي الفوارس - مخطوط.
(٢). مسند الفردوس.
٢ - تشبيههم بباب حطة.
٣ - أمرهصلىاللهعليهوآلهوسلم الأصحاب بالتمسك بهم.
٤ - وصفهم بالأئمة الراشدين.
٥ - ذكر أنهم لن يضلوا إن تمسكوا بهم.
٦ - كون الأئمة من بعده اثني عشر من أهل بيته.
لقد جاء هذا الحديث ضمن كلام للرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم ، خاطب به علياًعليهالسلام بأسلوب بديع وسياق رفيع لا يرتاب في كونه نصاً في الامامة إلا مكابر عنيد جاء ذلك في ( ينابيع المودة ) وهذا لفظه: « أخرجه الحمويني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : يا على أنا مدينة الحكمة وأنت بابها ولن تؤتى المدينة إلّا من قبل الباب، وكذب من زعم أنه يحبني ويبغضك، لأنك مني وأنا منك لحمك من لحمي ودمك من دمي، وروحك من روحي وسريرتك من سريرتي، وعلانيتك من علانيتي، وأنت إمام أمتي ووصيي، سعد من أطاعك وشقي من عصاك وربح من تولاك وخسر من عاداك، فاز من لزمك وهلك من فارقك، ومثلك ومثل الأئمة من ولدك مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق، ومثلكم مثل النجوم كلما غاب نجم طلع نجم إلى يوم القيامة »(١) .
لقد جاء معنى هذا الحديث ضمن حديث يدل بوجوه عديدة على امامة أهل البيتعليهمالسلام ، بحيث لو تأمله عاقل لم يخالجه أي شك في دلالته على
___________________
(١). ينابيع المودة ١٣٠.
مطلوب أهل الحق، و قد روى ذلك الحديث الهمداني في ( مودة القربى ) والبلخي القندوزي: « عن علي قال: قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : من أحبّ أن يركب سفينة النجاة ويستمسك بالعروة الوثقى ويعتصم بحبل الله المتين فيوال علياً بعدي وليعاد عدوّه وليأتمّ بالأئمة الهداة من ولده، فإنهم خلفائي وأوصيائي وحجج الله على خلقه بعدي وسادة [ سادات ] أمتي وقادة [ قادات ] الأتقياء إلى الجنة، حزبهم حزبي وحزبي حزب الله، وحزب أعدائهم حزب الشيطان »(١) .
لقد جاء هذا الحديث في حديث الأشباح الخمسة بنهج يدل بوضوح على إمامة أهل البيتعليهمالسلام .
وهو ما رواه صدر الدين الحموئي بسنده: « عن أبي هريرة عن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال: لما خلق الله تعالى أبا البشر ونفخ فيه من روحه، التفت آدم يمنة العرش فإذا نور خمسة أشباح سجّداً وركّعاً، قال آدم: يا رب هل خلقت أحداً من طين قبلي؟ قال: لا يا آدم. قال: فمن هؤلاء الخمسة الذين أراهم في هيئتي وصورتي؟ قال: هؤلاء خمسة من ولدك، لولاهم ما خلقتك ولولاهم ما خلقت الجنة ولا النار ولا العرش ولا الكرسي ولا السماء ولا الأرض ولا الملائكة ولا الانس ولا الجن، هؤلاء الخمسة شققت لهم خمسة أسماء من أسمائي فأنا المحمود وهذا محمد، وأنا العالي وهذا علي، وأنا الفاطر وهذه فاطمة، وأنا الإِحسان وهذا الحسن، وأنا المحسن وهذا الحسين، آليت بعزتي أنه لا يأتيني أحد بمثقال حبّة من خردل من بغض أحدهم الّا أدخلته ناري ولا أبالي. يا آدم هؤلاء صفوتي من خلقي بهم أنجيهم وأهلكهم، فإذا كان لك إلى حاجة فبهؤلاء توسّل.
فقال النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم : نحن سفينة النجاة من تعلّق بها نجا ومن
___________________
(١). ينابيع المودة ص ٢٥٨.
حاد عنها هلك، فمن كان له إلى الله حاجة فليسأل بنا أهل البيت »(١) .
لقد جمع رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بين حديث السفينة - في طرق عديدة من طرقه - وحديث باب حطة وقد ثبت دلالة حديث باب حطة على وجوب اتباع أهل البيتعليهمالسلام مطلقاً، وعلى عصمتهم وطهارتهم من الرجس، وعلى كفر المعرضين عنهم والمخالفين لهم
فهكذا حديث السفينة يفيد ذلك كله، وبكلّ منهما يتم مطلوب أهل الحق.
لقد جمع أمير المؤمنينعليهالسلام بين حديث السفينة وباب حطة قائلاً - فيما رواه السيوطي كما تقدّم - « إنما مثلنا في هذه الأمة كسفينة نوح وكباب حطة في بني إسرائيل » أي: إن الانقياد لهم والانقطاع إليهم سبب لنجاة الأمة كما نجا من ركب سفينة نوح ومن دخل باب حطة وهذا المقام لا يكون إلّا للامامعليهالسلام .
لقد جمع أمير المؤمنينعليهالسلام في خطبة له - رواها اليعقوبي كما تقدّم - بين حديث السفينة وحديث الثقلين فأشار فيها إلى واقعة الغدير أيضاً وهذا يفيد أن حديث السفينة من براهين إمامتهعليهالسلام مثلهما.
___________________
(١). فرائد السمطين ١ / ٣٦.
لقد اهتم سيدنا أبوذر رضوان الله عليه بشأن حديث السفينة، وهذا الاهتمام البالغ يكشف عن اعتقاده بدلالة هذا الحديث على إمامة أمير المؤمنينعليهالسلام ، وهذا هو الذي يرغم آناف الأعداء اللئام، ويرفع رؤوس الأولياء الكرام.
إنه رضوان الله تعالى عليه قرن - في رواية الطبراني وغيره - بين حديث السفينة وحديث باب حطة وهو يدل على المطلوب كما سبق.
لقد علم من رواية ابن الصباغ المالكي وغيره: أن أباذر صعد على عتبة باب الكعبة ثم ذكر حديث السفينة، وأنهصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: إجعلوا أهل بيتي فيكم مكان الرأس من الجسد ومكان العينين من الرأس
وهذا دليل واضح على عصمة أهل البيتعليهمالسلام وإمامتهم وخلافتهم عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم .
لقد جمع أبوذررضياللهعنه - فيما رواه البلخي القندوزي - بين هذا الحديث وحديثي باب حطة والثقلين وهو أيضاً دليل على المطلوب.
دحض مناقشات الدهلوي
في دلالة حديث السفينة
وبعد، فلنأت على كلمات الدهلوي حول دلالة حديث السفينة، لنبيّن فساد مزاعمه وبطلان دعاويه في المقام، فنقول وبالله التوفيق:
قوله:
وكذلك حديث: مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق. فإنه لا يدل إلّا على الفلاح والهداية الحاصلين من حبّهم والناشئين من اتباعهم، وأن التخلّف عن حبّهم موجب للهلاك.
أقول:
إذا كان ( الدهلوي ) يعترف بذلك، فلم لا يعترف بإمامة أهل البيتعليهمالسلام ؟ فلقد علمت أنّ إيجاب موالاتهم ومحبّتهم يستلزم خلافتهم وإمامتهم، على أنّه سيأتي اعترافه بأن الامام هو من أوجب اتّباعه النجاة في الآخرة.
قوله:
وهذا المعنى - بفضل الله تعالى - يختص به أهل السنة من بين الفرق الاسلامية كلّها.
أقول:
إن من المعلوم لدى كلّ عاقب بصير أنه ليس لأهل السنة من ولاء أهل البيتعليهمالسلام واتباعهم نصيب أصلاً، فضلاً عن أن يكون خاصاً بهم، كيف وهم يوالون بل يقتدون بمن ظلمهم وحاربهم وسبّهم وسمّهم وأبغضهم وانحرف عنهم! هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإنهم ينفون فضلهم وينكرون عصمتهم ويخطّؤونهم في الأقوال والأفعال ولا يعتبرون بإجماعهم كما لا يخفى على من راجع كتبهم الكلامية والأصولية!! وهل هذا الذي زعمه ( الدهلوي ) إلّا مباهتة تتحير منها الأحلام والأذهان؟
قوله:
لأنهم متمسكون بحبل وداد أهل البيت جميعهم حسب ما يريد القرآن:( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) وموقفهم من ذلك كموقفهم من الأنبياء:( لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) فلا يؤمنون ببعضهم ويعادون غيرهم.
أقول: هذه دعوى باطلة لا يسندها أي دليل، ولعمري أنه يتذكر المرء منها قوله عز وجل:( إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ) (١) .
وقوله تعالى:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ) (٢) .
___________________
(١). سورة المنافقون - ١.
(٢). سورة البقرة - ٩.