الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ١٠

مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 334
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 334
أي الشعور الديني الفطري، واحدة من السخافات والمهازل.
إنّ وجود البعد الرابع في الروح الإنسانية يثبت أنّ لجميع الميول الدينية عند الإنسان جذوراً ضاربة في أعماق الوجدان، وقد تجلى هذا الشعور في جميع أدوار الحياة البشرية حتى في تلكم الأدوار والمناطق التي لم تكن فيها مشكلة العامل ورب العمل(١) مطروحة بحال.
فقد كان هذا الشعور يدفع البشر في تلك الأدوار والمناطق إلى الله وإلى ما وراء الطبيعة.
كما أنّ آثار الشعور الديني لم تختف عن الكهوف والمغارات التي كان يسكنها الإنسان الأوّل.
هذا ونظائره يكشف بوضوح عن ملازمة هذا البعد للروح الإنسانية ملازمة الظل للشاخص، وملازمة الزوجية للأربعة وكأنّ التوجه إلى الله وإلى قضايا ما وراء الطبيعة نشيد غيبي لا يفتأ ينبع من الفطرة الإنسانية
نشيد لا يهدأ
رغم كل الدعايات المستمرة التي يقوم بها الماديون ضد « الدين » ووصمهم له بأنّه من عوامل الجمود والتأخر، وكونه منافياً للحرية الإنسانية ومانعاً من تقدم
__________________
(١) هذا هو رد تلويحي إلى ما يردّده الماديون الماركسيون حول الدين إذ يقولون: إنّ الدين لم يوجد إلّا لإخماد ثورة العمال الكادحين على أرباب العمل.
ولكن بعد أن ثبت أنّ للدين جذوراً في ضمير البشر، وأنّه كان موجوداً حتى في النقاط التي لم يكن فيها خبر عن العامل ورب العمل لم يعد للنظرية الماركسية حول الدين أية قيمة.
البشرية في مجالات البناء الفكري والاجتماعي.
رغم كل تلك الدعايات المضادة لم يستطيعوا أن ينبذوا الدين والأفكار الدينية من أدمغة البشر، أو يقلّلوا من تقديس المجتمعات المؤمنة لمعتقداتها.
وربما عاب الماركسيون على المتدينين ذلك التقديس المفرط لمعتقداتهم والحال إنّ تقديس الماركسيين ـ أنفسهم ـ لمبادئ الماركسية ولمؤسسيها لم يقل، ولم يختلف عن معاملة المتديّنين لمعتقداتهم وكتبهم السماوية ومن جاء بها.
إنّ الماركسيين يعتبرون أُصول الماركسية وما جاء به وقاله ماركس وانجلز ولينين، أُموراً صحيحة مائة بالمائة، ويرون أنّها منزّهة عن أي غلط أو عيب وعارية عن أي اشتباه وخطأ، وإنّها قطعية لا يأتي الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يمكن أن تتغيّر أو تتبدل(١) تماماً كما يعتقد المتديِّنون والإلهيون في شأن الوحي والكتب السماوية.
ويكفي لمعرفة مدى تقديس الشيوعيين والماركسيين لشخصياتهم ومؤسسي مبادئهم ما نشرته صحيفة البرافدا الناطقة بلسان الحزب الشيوعي في ٢٦ أبريل ١٩٤٩م إذ قالت :
نحن نؤمن بثلاثة أشياء: كارل ماركس، ولينين ; وستالين، ولا نؤمن بثلاثة أشياء: الله، والدين، والملكية الخاصة.
إنّهم يحرمون أية إعادة نظر في المبادئ والأُصول الماركسية، ويصمون كل من يحاول ذلك بالردة الفكرية، والمروق من اللينينية الماركسية ويعتبرونه مرتداً حزبياً، تماماً كما يفعل المتدينون، إذ يعتبرون الانحراف عن التعاليم النبوية وإنكار
__________________
(١) هذا رغم أنّ من أُصول المادية الديالكتيكية هو التغير المستمر في الأشياء !!!
بعض الضروريات الدينية سبباً للارتداد، ويعدون منكرها « مرتدّاً دينياً » ويهدرون دمه.
إنّ الاحترام الذي يلقاه مؤسسوا الاشتراكية من قبل أتباعهم لا يختلف كثيراً عن احترام أتباع الديانات الإلهية للأنبياء والرسل إن لم يزدد عليه.
وغاية التفاوت بين السلوكين أنّ أتباع هذه الأحزاب والمبادئ المادية يحترمون قادتهم السياسيين ما داموا يحتلون المناصب، ففي مثل هذه الفترة تجدهم يصفون قادتهم بأنّهم « ملائكة الرحمة » وأنّهم « محطمو قيود الاستعمار والاستبداد » وأنّهم « ملجأ الجماهير الكادحة » وما إلى ذلك من ألفاظ المديح والثناء.
ولكن ما أن أُقصي هؤلاء القادة من مناصبهم أو حان موتهم وأُودعوا باطن الأرض إلّا ووجدت انعكاس الآية. فإذا بالأسياد المحترمين بالأمس المستحقين لأجمل وأسمى آيات المديح والثناء، ينهال عليهم كل ما في قاموس الشتائم من سباب واتهامات، فإذا بالقائد التقدمي يصبح رجعياً، ضد الكادحين، سفاكاً، خرق أُسس الماركسية وتجاوز عليها، واستهان بآراء الجماهير، إلى غير ذلك من الاتهامات الرخيصة !!!
وقد وجدنا ووجد العالم كله ـ طوال الفترة التي عشناها ـ نوعين متضادين من الوصف في حق ستالين فبينما كان يعد ذات يوم ملاكاً طاهراً مقدساً صار يعد في يوم آخر سفاكاً دموياً إلى درجة أنّ تماثيله أُزيلت من الساحات والميادين العامة في الاتحاد السوفياتي بعد موته(١) .
__________________
(١) بل وأُريد إخراج جثمانه للحرق انتقاماً، كما تتحدث عن ذلك بعض الكتب عن الاتحاد السوفياتي.
وها نحن اليوم نشاهد بدايات لنفس الموقف في شأن « ماو »، وسوف لن يمضي زمان طويل إلّا ونجد « ماو » وقد أُصيب بما سبق أن أُصيب به سلفه ستالين المنكود الحظ.
إنّ الاحترام والتعظيم الذي يظهره أتباع الفلسفة المادية لمؤسّسي أُصول الماركسية كماركس وانجلز، لدليل قاطع على فطرية سلسلة من المفاهيم كالخلود والأبدية.
فهذه المفاهيم صحيحة في حد ذاتها وهي أُمور قطعية مائة بالمائة إلّا أنّ القوم استخدموها في غير مواضعها خطأ(١) .
فبدل أن يستخدموا وصف الخلود والأبدية في حق « الوحي الإلهي » ويعتبروا الانحراف عن ذلك الوحي ارتداداً، نجدهم وصفوا « الماركسية » بالخلود ونعتوا مؤسسيها بالأبدية فإذا بهم يواجهون ذلك التخبط الذريع.
ولو لم تكن مفاهيم كمفهوم الخلود والأبدية أُموراً فطرية لما راح الماركسيون يطلقونها على هذا أو ذاك حتى ولو خطأ.
ثم إنّنا كثيراً ما نجد الماركسيين يستخدمون في شعاراتهم ونشراتهم ألفاظاً ك « التضحية والفداء » في حين أنّ هذه المفاهيم لا تتلاءم مع أُصول الماركسية لحصرها الوجود في « العالم المادي » وإنكارها لما وراء ذلك.
وإذا كنا نعلم بأنّ الإنسان لا يعمل شيئاً إلّا لتحقيق منفعة شخصية إلى
__________________
(١) يقصد الأُستاذ بأنّ الإيمان الفطري بوجود أُمور خالدة وأبدية أمر صحيح وموجود في باطن البشر، وأنّ هناك بالفعل أُموراً خالدة وأبدية في الوجود بيد أنّ الماركسيين أخطأوا في استعمال هذه الأوصاف فاستخدموها في غير مواضعها ـ الهادي ـ.
درجة أنّ المنافع الاجتماعية أيضاً لا يريدها الإنسان إلّا لمنفعة نفسه، فلمن يضحي الماركسي ولمن يقدم نفسه فداء وهو لا يعتقد بالآخرة وما فيها من أجر وثواب ؟!
أما يعتقد المنطق الماركسي بأنّ الإنسان يفنى بالموت فناء كاملاً ولا تعود منافعه إليه بعد موته ؟
فماذا تعني التضحية والفداء عند الماركسيين ؟
أليس ذلك يدل على أنّ دوافع التضحية والفداء أُمور فطرية متأصلة في ضمير الإنسان ووجدانه، وأنّ الماركسيين أخطأوا في طريقة استخدامها ؟
وقد تفسر فطرية الإيمان بالله بنحو آخر إذ يقال: يكمن في قرارة كل إنسان عشق للكمال والخير المطلق لم يزل ولا يزال يدفع الإنسان إليه.
فإذا ما وجد الإنسان في نفسه ميلاً شديداً إلى العلم أو إلى الأخلاق أو الفن والجمال، فإنّ هذا الميل إنّما هو شعبة نابعة من ذلك العشق للكمال، وإشعاعة من إشعاعاته.
إنّ أوضح دليل على وجود مثل هذا العشق للكمال المطلق في باطن البشر هو أنّ أي كمال مادي لا يروي عطش الإنسان ولا يطفئ ظمأه.
فها هو الإنسان يسعى جهده ليبلغ إلى ما يريده من المناصب الرفيعة، ويظل يطمح إلى ما هو أعلى وأعلى حتى إذا نال ما أراد، فكّر في أن يسخّر قمة أعلى ممّا ناله وكلّما ازداد رقياً ازداد عطشاً وظمأ وطموحاً أكثر فأكثر.
كل هذا ـ لو تأملنا ـ دليل واضح على أنّ للإنسان ضالة ينشدها أبداً ،
ويبحث عنها باستمرار وقد كان يظنها في الكمالات المادية المزيجة بالنقائص والشرور وأنّها قادرة على إرواء ظمئه وغليله، ولكنَّه كلّما خطا خطوة جديدة إلى الإمام رأى خلاف ما كان يتصوره ويتوقعه، ووجده دون ما يهواه ويعشقه.
إنّ عشق الكمال المطلق لدليل ـ حقاً ـ على وجود مثل هذا الكمال، ولدليل أيضاً على وجود رابطة قائمة بين الإنسان والكمال ذاك.
إنّ الوصول إلى ذلك الكمال وبلوغه يحتاج إلى تفكّر وتدبّر، وإلى السير في الطريق المؤدّي إليه، وإلى الرياضة الدؤوبة التي تشعل الجذوة الكامنة في أعماق النفس وتوجد في حناياه شغفاً أكبر وعطشاً أعمق، وتحوله بالتالي من باحث عن الله إلى واجد لله، ثم يتحول وجدانه لله إلى الشهود، واليقين الذي لا ينفذ إليه شك، ولا يتسلل إليه تردد وارتياب.
إنّ هذا الشهود ليس برؤية العين بل بعين البصيرة التي نوّه عنها في كلام الإمام عليعليهالسلام إذ قال :
« لم تدركه العيون بمشاهدة العيان، بل تدركه القلوب بحقائق الإيمان »(١) .
إنّ اليقين الحاصل للسالك والعارف في مسألة « وجدان الله » لهو أعلى من اليقين الحاصل من استخدام الجوارح والحواس، انّه نور لا ظلمة فيه، ويقين لا شك فيه، ولا تردد ولا احتمال ولا ظن.
والآن ما هو طريق الوصول إلى مثل هذا الكمال واليقين المطلق والشهود الأعلى ؟
إنّ القرآن الكريم يشير بنحو ما إلى هذا الطريق في آية، إذ يقول :
__________________
(١) نهج البلاغة: شرح محمد عبده، خطبة ١٧٤.
( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ الْسَّاجِدِينَ *وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ) (١) .
ففي هذه الآية وصفت العبادة والدعاء بكونها طريقاً للوصول إلى هذا اليقين والمعرفة القلبية اليقينية(٢) .
إنّ هذا اليقين هو غير اليقين الذي يحصل لكل العابدين إنّ هذا هو ذلك الشهود الذي يكون على غرار اليقين الحاصل من الاحتكاك بالمحسوسات الذي يكون من القوة بحيث يمنع من تطرق أي شك أو ترديد إليه.
وهذا الطريق ليس في وسع كل أحد سلوكه كيفما اتفق، بل لابد لسلوكه من التهيؤ اللازم الذي لا يوجد إلّا عند القليلين من عباد الله المخلصين.
نظراً للأهمية التي تتمتع بها مسألة فطرية الحس الديني في العلوم الإنسانية وردت بعض الأحاديث الصادرة من النبي الأكرمصلىاللهعليهوآله ، والأئمّة الطاهرين الصادقين: التي تتحدّث عن ذلك وإليك طائفة منها :
١. صحيح البخاري في تفسير الآية( فطرة الله ) نقل الحديث التالي عن النبيصلىاللهعليهوآله :
« ما من مولود إلّا يولد على الفطرة ثمّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو
__________________
(١) الحجر: ٩٨ ـ ٩٩.
(٢) انّ التفسير المذكور في المتن للآية هو أحد المداليل والأبعاد التي يمكن استخراجها من الآية ولا ينافي تفسير بعض الأحاديث اليقين هنا بالموت.
يمجّسانه » ثمّ قالصلىاللهعليهوآله :( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (١) .
وقد ورد في أحاديث أهل البيت: في تفسير آية الفطرة ما يقارب (١٥) حديثاً فسرت الفطرة بالتوحيد، وهي تفيد أنّ توحيد الله والإيمان بذاته ووجوده وصفاته ممّا جبل عليه البشر وعجنت به فطرته(٢) .
وربما فسرت بعض هذه الأحاديث الفطرة المذكورة في الآية ب « الإسلام » و « معرفة الله » التي تعود في الحقيقة إلى المعنى السالف.
ونذكر هاهنا كل تلك الأصناف من الروايات مع الإشارة إلى ما هو مكرر منها :
أمّا ما صرح منها بالتوحيد فهي :
٢. سأل هشام بن سالم الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليهماالسلام عن معنى الفطرة فقال الإمام :
« فطرهم على التوحيد »(٣) .
وقد روى مثل هذا عن الإمام الصادقعليهالسلام غير هشام كزرارة والعلاء بن فضيل ومحمد الحلبي وعبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر.
٣. ما رواه زرارة عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليهماالسلام حينما سأله قائلاً: أصلحك الله، قول الله عزّ وجلّ في كتابه:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) فقال الإمام مجيباً :
__________________
(١) التاج الجامع للأُصول: ٤ / ١٨٠، وتفسير البرهان: ٣ / ٢٦١، الحديث ٥.
(٢) و (٣) راجع تفسير البرهان: ٣ / ٢٦١ ـ ٢٦٣، والتوحيد للصدوق: ٣٢٨ ـ ٣٣١.
« فطرهم على التوحيد(١) عند الميثاق على معرفته أنّه ربّهم »(٢) .
وأمّا ما فسرت الفطرة فيه بالمعرفة فهي :
٤. ما عن زرارة أيضاً عن أبي جعفر الإمام محمد بن علي الباقرعليهماالسلام قال سألته عن قول الله عزّ وجل:( حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ) وعن الحنيفية، فقال الإمام :
« هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله ».
ثم قال :
« فطرهم الله على المعرفة »(٣) .
وقد أوضح الإمام الباقر المقصود بهذه المعرفة في رواية أُخرى رواها زرارة عنه أيضاً لـمّا سأله عن نفس الآية فقالعليهالسلام :
« فطرهم على معرفة أنّه ربهم، ولولا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم »(٤) .
وأمّا ما فسرت الفطرة بالإسلام فهي :
٥. ما عن عبد الله بن سنان، عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليهالسلام لـمّا سأله عن قول الله عزّ وجلّ:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟ قال الإمام:
__________________
(١) إنَّ تفسير الدين المفطور عليه، في هذه الأحاديث بالتوحيد لا يدل على اختصاص الدين في الآية بالتوحيد خاصة بل إنّ ذكر التوحيد إنّما هو من باب ذكر أظهر المصاديق وأجلاها.
(٢) و (٣) و (٤) نفس المصادر السابقة.
« هي الإسلام »(١) .
ثم أوضح الإمام نفسه في رواية أُخرى عن عبد الله بن سنان أيضاً المقصود بالإسلام وأنّه هو التوحيد ومعرفة الله إذ قالعليهالسلام :
« هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد »(٢) .
٦. سأل محمد بن حكيم الإمام الصادقعليهالسلام عن المعرفة من صنع من هي ؟ فقالعليهالسلام :
« من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع »(٣) .
٧. سأل أبو بصير الإمام الصادقعليهالسلام فقال الإمامعليهالسلام :
« نعم وليس للعباد فيها صنع »(٤) .
٨. ولقد تعرض الإمام عليعليهالسلام إلى هذا المطلب « أي فطرية الاعتقاد بالله » في نهج البلاغة في أوّل خطبة فيه عندما ذكر بأنّ الأنبياء أُرسلوا لإثارة دفائن العقول، أي لإحياء ما هو مرتكز في عقول البشر وما هو كامن في حنايا فطرتهم من الاعتراف بوجود الله والإذعان بإلهيته، إذ يقولعليهالسلام :
« فبعث الله فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول »(٥) .
مع ملاحظة هذا الكلام العلوي يمكننا القول بأنّ المقصود من قول الله
__________________
(١) و (٢) المصادر السابقة.
(٣) أُصول الكافي: ١ / ٨٥، ٩٣، ١٦٥.
(٤) أُصول الكافي: ١ / ١٦٣.
(٥) نهج البلاغة: الخطبة الأُولى.
تعالى:( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) (١) في حق الرسول الأعظمصلىاللهعليهوآله هو: أن يذكّر الرسول الأكرم الناس بما هو كامن ومودوع ـ أساساً ـ في فطرتهم أو أنّ هذا هو أحد أبعاد الآية ومعانيها ـ على الأقل ـ.
٩. ما دار بين رجل والإمام جعفر بن محمّد الصادقعليهماالسلام قال الرجل: يابن رسول الله دلّني على الله ما هو ؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني.
فقال له الإمام: « يا عبد الله هل ركبت سفينة قط ؟ » قال: نعم، قال: « فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك ؟ » قال: نعم.
قال: « فهل تعلَّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ » قال: نعم.
قال الصادقعليهالسلام : « فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث »(٢) .
تنبيه
دلّت الأبحاث الماضية على أنّ للإنسان إدراكات فطرية منذ أن يولد، وهي تواكب جميع مراحل حياته، وتتكامل بتكامل وجوده وتتفتح بتفتح مشاعره ولكن ربّما يتوهم أنّ هذا منقوض بقوله تعالى :
( واللهُ أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٣) .
__________________
(١) الغاشية: ٢١.
(٢) بحار الأنوار: ٣ / ٤١، نقلاً عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق.
(٣) النحل: ٧٨.
فهذه الآية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس من خلو صفحة النفس من المعلومات في بدء تكونها، بلا فرق بين العلوم الفطرية وغيرها.
والجواب عن هذا واضح بعد الوقوف على مقدمة وهي: انّ التصورات والتصديقات إمّا كسبية أو بديهية، والكسبية إنّما يمكن تحصيلها بواسطة تركيب البديهيات فلابد من سبق هذه العلوم البديهية.
أمّا العلوم البديهية فلم تكن حاصلة في نفوسنا، بل حصلت هي أيضاً بمعونة الحواس كالسمع والبصر، فالطفل إذا أبصر أو سمع شيئاً مرّة بعد أُخرى ارتسمت ـ في ذهنه ـ ماهيّة ذلك المبصر أو المسموع، وكذا القول في بقية الحواس.
فالمدركات على قسمين: ما يكون نفس حضورها موجباً تاماً في جزم الذهن باسناد بعضها إلى بعض كما إذا حضر في الذهن إنّ الواحد ما هو ؟ وانّ نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التصوّرين في الذهن علّة تامة في جزم الذهن بأنّ الواحد محكوم عليه بأنّه نصف الاثنين وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.
والقسم الثاني ما لا يكون كذلك، وهو العلوم النظرية، مثلما إذا أُحضر في الذهن انّ الجسم ما هو ؟ وإنّ المحدث ما هو ؟ فإنّ مجرد هذين التصوّرين لا يكفي في جزم الذهن بأنّ الجسم محدث بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة.
وهذا هو الملاك في تقسيم العلوم إلى بديهية وكسبية(١) .
والآية ناظرة إلى العلوم الحصولية التي تنقسم إلى البديهي والنظري لا العلوم الحضورية مثل علم النفس بذاتها، ولا العلوم الفطرية التي ليس لها إلّا قوة العلم
__________________
(١) راجع مفاتيح الغيب للرازي: ٥ / ٣٤٩.
وإنّما تنفتح إذا خرج الإنسان إلى هذا العالم واعمل حواسه، ولامس الحقيقة الخارجية، فعند ذاك ينقلب ما هو علم بالقوة إلى العلم بالفعل.
وصفوة القول: إنّ هناك في النفس البشرية سلسلة من المعلومات على صورة خمائر تتجلّى وتظهر وتتفتح شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن ومع احتكاك الإنسان بالوقائع الخارجية ولا يسمّى هذا علماً فعلياً وإدراكاً حاضراً.
وبالتالي فالآية ناظرة إلى ذلك أي انّ الإنسان منذ يخرج من بطن أُمّه ليس فيه علم فعلي ولا ينافي وجود ما يشبه خمائر العلوم التي تحتاج إلى أرضية للتفتح والظهور.
الفصل الثاني الله وعالم الذر |
ما هو عالم الذر وما هو الميثاق ؟
١. استعراض الآيات أوّلاً.
٢. نقاط جديرة بالاهتمام.
٣. آراء العلماء حول « الميثاق في عالم الذر ».
٤. النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث.
٥. انتقادات على هذه النظرية.
٦. النظرية الثانية.
٧. إشكالات على هذه النظرية.
٨. النظرية الثالثة.
٩. أسئلة حول هذه النظرية.
١٠. بحث حول الأحاديث الواردة في تفسير الآية.
قبل أن نعطي رأينا في حقيقة ذلك العالم وواقع ذلك الميثاق المأخوذ في العالم المذكور، ولأجل أن نتجنب اتخاذ أي موقف قبل دراسة ومراجعة الآية المرتبطة بهذا الموضوع يتعين علينا استعراض هذه الآية، أوّلاً، لكي ندفع القارئ نفسه إلى التأمل فيها والتفكير حولها لمعرفة معنى هذه الآية ومغزاها.
وإليك فيما يأتي نص الآية المتعلّقة بالموضوع مضافاً إلى آيتين لاحقتين لها :
( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ *وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (١) .
١. لقد وردت لفظة ( الذرية ) في (١٨) موضعاً آخر ما عدا هذا الموضع أيضاً والمقصود بها في كل تلك الموارد هو: « النسل البشري » وليس في ذلك خلاف، انّما وقع الخلاف في أصل هذه اللفظة وانّها مأخوذة من ماذا ؟
__________________
(١) الأعراف: ١٧٢ ـ ١٧٤.
فذهب فريق إلى أنّ لفظة « الذرية » مشتقة من « الذرء » بمعنى الخلق، وفي هذه الصورة تكون الذرية بمعنى: المخلوق.
وذهب فريق آخر إلى أنّها مشتقة من « الذر » بمعنى الكائنات الصغيرة الدقيقة جداً كذرات الغبار وصغار النمل.
وذهب فريق ثالث إلى أنّها مأخوذة من « الذرو » أو « الذري » بمعنى التفرّق والانتشار وانّما تطلق « الذرية » على ولد آدم ونسله لتفرقهم على وجه الأرض وأكناف البسيطة(١) .
٢. تستعمل لفظة الذرية ـ غالباً ـ في الأولاد الصغار مثل قوله تعالى :
( وَلَهُ ذُرِيَّةٌ ضُعَفَاءُ ) (٢) .
وقد تستعمل في مطلق الأولاد مثل قوله سبحانه :
( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) (٣) .
كما أنّها قد تستعمل في فرد واحد مثل قوله سبحانه :
( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) (٤) .
وفيها يطلب زكريا ولداً صالحاً(٥) .
وقد تستعمل في الجمع مثل قوله تعالى :
__________________
(١) راجع في هذا الصدد: مفردات الراغب مادة « ذرو »، ومجمع البيان: ١ / ١٩٩ تفسير آية( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) .
(٢) البقرة: ٢٦٦.
(٣) الأنعام: ٨٤.
(٤) آل عمران: ٣٨.
(٥) ويؤكد هذا أنّ طلب زكريا تكرر في آية أُخرى بلفظ « ولي » إذ يقول:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيْاً *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ( مريم: ٦ ).
( وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ) (١) .
٣. يجب المزيد من الدقة والعناية في عبارة الآية
فالآية تفيد أنّ الله أخذ من ظهور كل أبناء آدم، أنسالهم وذرياتهم، وليس من ظهر آدم وحده.
وذلك بدليل أنّ الله تعالى يقول :
( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَم ) .
ولم يقل: وإذ أخذ ربك من آدم وعلى هذا الأساس فإنّ مفاد هذه الآية هو غير ما هو معروف عند المفسّرين الذاهبين إلى أنّ الذرية أُخذت من ظهر آدم فحسب.
٤. تصرح الآية بأنّ الله أخذنا شهداء على أنفسنا، وأننا جميعاً اعترفنا بأنّه إلهنا، وانّ هذا الاعتراف كان بحيث لم يبق من ذكراها في ذاكرتنا شيء.
٥. كما تفيد الآية بأنّ هذا الاستيثاق والاستشهاد سيسد باب العذر في يوم القيامة في وجه المبطلين والمشركين، فلا يحقّ لهم بأن يدّعوا بأنّهم لم يعطوا مثل هذه الشهادة، ولم يكن عندهم علم بمثل هذا الميثاق والاعتراف كما يشهد به قوله سبحانه :
( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ) .
من هنا يتخذ المفاد لنفسه شكلاً خاصاً وطابعاً مخصوصاً.
فمن جانب لم يك عندنا أي علم بهذا الميثاق والاعتراف.
__________________
(١) الأعراف: ١٧٣.
فمن جانب آخر لا يحق لنا أن ندعي الغفلة عن هذا الميثاق، وعن مثل هذا الإقرار كما تقول الآية :
( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) .
أي أن لا تقولوا(١) .
في هذه الصورة ينطرح هذا السؤال :
كيف يمكن أن يسد اقرار لا نعلم به هنا أبداً (باب العذر) علينا ؟!
وكيف يمكن أن نلزم بميثاق لا نتذكره وعهد لا نعرف عنه شيئاً ؟!
وبعبارة أُخرى: إنّنا ـ لا شك ـ لا نعلم مثل هذا الميثاق على نحو العلم الحصولي، في حين أنّ الآية (١٧٢) تقول بمنتهى الصراحة والتأكيد: إنّه لا حق لأحد أن يغفل أو يتغافل عن هذا الميثاق فكيف تتلاءم هذه الغفلة وعدم تذكرنا له في هذه الدنيا مع قوله تعالى:( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) ؟
٦. لا شك أنّ الخطاب في هذه الآية إمّا موجه إلى النبيصلىاللهعليهوآله وإمّا إلى
__________________
(١) إنّ للمفسّرين في أمثال هذه الآية مذهبين :
أحدهما: تقدير لا، ففي مثل قوله سبحانه :
( يُبَيّن الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) ( النساء: ١٧٦ ) قالوا: إنّ المعنى هو أن لا تضلّوا.
فهم جعلوا قوله:( أَنْ تَضِلُّوا ) مفعولاً له ليبين، بنحو « التحصيلي » فيكون المعنى « يبيّن الله لكم لأجل أن لا تضلوا ».
الثاني: عدم تقدير لا وجعل المفعول له من باب « الحصولي » كقول القائل ضربته لسوء أدبه، أي لوجود هذا وحصوله فعلاً ضربته.
فيكون معنى الآية السابقة هو « يبين الله لوجود الضلالة فيكم » ومنه يعلم حال الآية المبحوثة عنها، فيجوز فيها وجهان.
ب: لا دليل على أن الخصومة بينهما كانت في قسمة النظر، فإن ذلك مجرد تبرع بلا دليل.
ج: قول الهيثمي: إن الميراث واضح، فإن لعلي سهماً بسبب زوجته، والسهم الآخر للعباس. لا معنى له، لأن العم لا يرث مع وجود البنت، لبطلان التعصيب، الذي نظن أنهم قالوا به لأجل تصحيح موقف أبي بكر هنا من إرث فاطمة (عليهاالسلام ).
فلعل العباس ظن أن له نصيباً في الميراث، فجاء يطالب به..
أو لعلهما أرادا: أن يعرفا عمر بن الخطاب بأن حقهما في ميراث النبي (صلىاللهعليهوآله ) ثابت..
أو أرادا أن يعرفا الناس بأن عدم ارجاع فدك إنما هو لإصرار الحكام على حرمانهم منها لا لأاجل عدم ثبوت هذا الحق لهم، لأن هذا الحق ثابت لهم بنص القرآن الكريم.. وهذا هو الأقرب والأصوب.
د: قال الشوكاني: لكن في رواية النسائي، وعمر بن شبة، من طريق أبي البختري ما يدل على أنهما أرادا أن يقسم بينهما على سبيل الميراث، ولفظه في آخره: ثم جئتماني الآن تختصمان، يقول هذا: أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي الخ..(١) .
____________
١- نيل الأوطار ج٦ ص١٩٨ وفتح الباري ج٦ ص١٤٥ وتحفة الأحوذي ج٥ ص١٩٤ وراجع: تاريخ المدينة ج١ ص٢٠٦ وبحار الأنوار ج٢٩ ص٣٧٠ والسقيفة وفدك ص١١٤ وشرح معاني الآثار ج٣ ص٣٠٧ واللمعة البيضاء ص٧٦٤.
مانعة خلو:
هذا.. وقد ذكر العلامة الحلي (رحمهالله )(١) : أن عمر بن الخطاب أخبر أن علياًعليهالسلام والعباس (رحمهالله ) كانا يريان أبا بكر وعمر، كاذبين، آثمين، خائنين، غادرين. فان كان ذلك حقاً، فهما لا يصلحان للخلافة..
وإن كان كذباً، لزمه تطرق الذم إلى علي (عليهالسلام ) والعباس، فكيف استصلحوا علياً للخلافة بعد ذلك؟! كما أن عمر نفسه قد جعله في الشورى.. مع أن الله تعالى قد نزهه من الكذب وطهره..
وإن كان عمر قد نسب إلى العباس (رحمهالله ) وعلي (عليهالسلام ) ما لا أصل له، تطرق الذم إلى عمر نفسه، لأنه ينسب إليهما الباطل.
ولم نجد علياً اعترض على عمر في ذلك، ولا وجدنا أحداً من الحاضرين برأ ساحة أبي بكر من هذا الأمر..
بل إن نفس عودة العباس وعلي (عليهالسلام ) إلى الترافع في هذه القضية مع سبق حكم أبي بكر فيها يدل على أنهما لم يصدقاه فيما نسبه إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، من نفي إرث الأنبياء.
المعتزلي وحديث الترافع إلى عمر:
وقد علق المعتزلي على حديث: أن العباس وعلياً (عليهالسلام )، قد
____________
١- راجع: دلائل الصدق ج ٣ ق ١ ص٣٣.
ترافعا إلى عمر في موضوع الميراث(١) ..
بقوله:
(هذا من المشكلات، لأن أبا بكر حسم المادة أولاً، وقرر عند العباس وعلي، وغيرهما: أن النبي لا يورث، وكان عمر من المساعدين له على ذلك. فكيف يعود العباس وعلي بعد وفاة أبي بكر يحاولان أمراً قد فرغ منه، ويئس من حصوله؟!
اللهم إلا أن يكونا ظنا: أن عمر ينقض قضاء أبي بكر، وهذا بعيد، لأن علياً والعباس كانا في هذه المسـألة يتهمان عمر بممالأة أبي بكر على ذلك..
ألا تراه يقول: نسبتماني ونسبتما أبا بكر إلى الظلم والخيانة؟! فكيف يظنان أنه ينقض قضاء أبي بكر ويورثهما؟!(٢) .
ونقول:
أولاً: إن هدف علي (عليهالسلام ) والعباس (رحمهالله ) إن كان هو الحصول على فدك، فكلام المعتزلي له وجه، ولكن من قال: إن هذا هو هدفهما من المطالبة.
____________
١- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٦ ص٢٢٩ و ٢٢٦ و ٢٢٧ والسقيفة وفدك للجوهري ص١١٦ والدرجات الرفيعة ص٩٤ وتاريخ المدينة لابن شبة ج١ ص٢٠٨ واللمعة البيضاء ص٧٦٦ وسفينة النجاة للتنكابني ص١٦٥.
٢- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٦ ص٢٢٩ و ٢٣٠ والدرجات الرفيعة ص٩٤ و ٩٥ واللمعة البيضاء ص٧٦٦.
بل الهدف منها هو إبقاء موضوع غاصبية فدك حياً في أذهان الناس.. وتعريفهم، وتعريفنا: بأن سكوت علي (عليهالسلام ) وبني هاشم عن هذا الأمر طيلة هذه المدة لم يكن عن قناعة بصحة كلام أبي بكر، ولا لأنهما اكتشفا صحة الحديث الذي نسبه أبو بكر إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) عن عدم توريث الأنبياء. كما ربما كان يتوقع من أنصار أبي بكر وعمر أن يروجوا له.
ثانياً: إن عمر قد ناقض نفسه في العديد من الموارد، وخصوصاً في الأحكام.. فلماذا لا يتوقعون، أو لا يحتملون أن يناقض نفسه في هذه القضية أيضاً، بعد أن استحكمت له الأمور، وثبتت دعائم حكمه، فقد يرى: أن من المصلحة التقرب إلى علي (عليهالسلام )، وإظهار إنصافه له..
وقد فعل الخلفاء ذلك عبر التاريخ، ولا سيما المأمون حتى قال الشاعر:
أصبح وجهُ الزمانِ قد ضَحِكَ بِرَدِّ مَأمونِ هاشِمٍ فَدَكَا(١)
غير أن هذه الرواية قد دس فيها الكثير مما يتضمن الطعن على علي
____________
١- ديوان دعبل الخزاعي (ط الأعلمي) ص١٤١ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٦ ص٢١٧ ومعجم البلدان ج٤ ص٢٣٩ وإحقاق الحق (الأصل) ص٢٢٥ واللمعة البيضاء ص٨٣٨ وبحار الأنوار ج٢٩ ص٣٤٧ و السقيفة وفدك للجوهري ص١٠٧ وقاموس الرجال للتستري ج١٢ ص١٤٧ ومستدرك سفينة البحار ج٨ ص١٥٣ والإمام علي بن أبي طالب (عليهالسلام ) للهمداني ص٧٣٧.
والزهراء (عليهماالسلام )، فقد تضمنت: أن عمر ناشد علياً (عليهالسلام ) والعباس إن كانا يعلمان بأن النبي (صلىاللهعليهوآله ) قال: لا نورث، ما تركناه صدقة.
فقالا: نعم.
فكيف يعلمان ذلك، ثم يطالبان بالإرث؟!
وكيف يوافق علي فاطمة (عليهماالسلام ) على أن تطالب بما يعلم أنها لا حق لها به؟!
وإذا كانا يعلمان ذلك، فكيف يزعمان: أن أبا بكر وعمر كانا ظالمين فاجرَين في هذه القضية؟!
الإنتصار للرسول أم لعمر؟!:
قال العقيلي: (سمعت علي بن عبد الله بن المبارك الصنعاني يقول: كان زيد بن المبارك لزم عبد الرزاق، فأكثر عنه، ثم خرق كتبه، ولزم محمد بن ثور، فقيل له في ذلك، فقال: كنا عند عبد الرزاق، فحدثنا بحديث معمر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان الحديث الطويل؛ فلما قرأ قول عمر لعلي والعباس:
(فجئت أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك، وجاء هذا يطلب ميراث امرأته من أبيها).
قال عبد الرزاق: انظروا إلى الأنوك يقول: تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها ألا يقول: رسول الله
(صلىاللهعليهوآله )؟!.
قال زيد بن المبارك: فقمت، فلم أعد إليه، ولا أروي عنه.
قال الذهبي: (لا اعتراض على الفاروق فيها، فإنه تكلم بلسان قسمة التركات)(١) .
وقال: (إن عمر إنما كان في مقام تبيين العمومة والبنوة، وإلا.. فعمر أعلم بحق المصطفى وبتوقيره (صلىاللهعليهوآله ) وتعظيمه من كل متحذلق متنطع.
بل الصواب أن نقول عنك: انظروا إلى هذا الأنوك الفاعل ـ عفا الله عنه ـ كيف يقول عن عمر هذا، ولا يقول: قال أمير المؤمنين الفاروق)؟!(٢) .
ونقول:
١ ـ إن بيان العمومة والبنوة ليس ضرورياً هنا، وذلك لوضوحهما لكل أحد.
٢ ـ إن بيانهما والتكلم بلسان قسمة التركات لا يمنع من الإتيان بعبارة تفيد توقير رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) واحترامه.
____________
١- راجع: الضعفاء الكبير ج٣ ص١١٠ وميزان الإعتدال ج٢ ص٦١١ وسير أعلام النبلاء ج٩ ص٥٧٢ ودلائل الصدق ج٣ قسم ٢ ص١٢٧ وتفسير القرآن للصنعاني ج١ ص٢٠ وتاريخ مدينة دمشق ج٣٦ ص١٨٧ ومعجم البلدان ج٣ ص٤٢٩.
٢- سير أعلام النبلاء ج٢ ص٥٧٢.
٣ ـ إن التكلم بلسان قسمة التركات في غير محله، لأن العباس لا يرث؛ لبطلان التعصيب..
٤ ـ إذا صح: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) لا يورث، فلا حاجة إلى التحدث بلسان قسمة التركات، لا سيما وأن المطلوب ـ حسب ما يدَّعون ـ هو قسمة النظر، كما زعموا. وقد قلنا لهم نحن: إنه باطل أيضاً.
٥ ـ إن زيد بن المبارك لا يعود إلى عبد الرزاق، لأنه رآه ينتصر لرسول الله (صلىاللهعليهوآله )، ولا يرضى من اقدام عمر على عدم توقير النبي (صلىاللهعليهوآله ). وهذا من ابن المبارك عجيب!! وعجيب جداً!!
٦ ـ وأعجب منه أن الذهبي، وغيره يغضبون لعمر، ويشتمون عبد الرزاق لتوهينه عمر، ولا يغضبون لرسول الله (صلىاللهعليهوآله )، ولا يقبلون حتى بانتقاد عمر بسبب إهانته له (صلىاللهعليهوآله ).
٧ ـ إنهم يطلبون من عبد الرزاق أن يذكر عمر بألقابه، ولا يطلبون من عمر أن يذكر النبي بألقابه التي شرَّفه الله تعالى بها، مع أن عبد الرزاق تكلم بلسان المنتقد الغاضب، الذي لا يتوقع منه هذا التوقير لمن أهان رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ـ بنظره ـ فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الوقائع ترد الأقوال:
ونلاحظ هنا: أن الوقائع لا تتلاءم مع الأقوال، فإن الوقائع تثبت الإرث، والأقوال الحريصة على تأييد قول أبي بكر تنفيها.. فلاحظ ما يلي:
ألف: إن الحكام بعد رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) قد دفعوا الحجر في مسجد النبي (صلىاللهعليهوآله ) إلى زوجاته (صلىاللهعليهوآله )(١) .
كما أن خلفاء بني العباس قد تداولوا البردة والقضيب(٢) .
وقد قال ابن المعتز مخاطباً العلويين:
ونحن ورثنا ثياب النبي فكم تجذبون بأهدابها
لكم رحم يا بني بنته ولكن بنو العم أولى بها(٣)
فأجابه الصفي الحلي بقوله:
وقلت ورثنا ثياب النبي فكم تجذبون بأهدابها
وعندك لا يورث الأنبياء فكيف حظيتم بأثوابها(٤)
____________
١- راجع: تلخيص الشافي ج٣ ص١٢٩ و ١٣٠ ودلائل الصدق ج٣ قسم ٢ ص١٢٩ ونهج الحق ص٣٦٦.
٢- تلخيص الشافي ج٣ ص١٤٧ و ١٤٨ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج٧ ص١٢٩ وحياة الإمام الرضا (عليهالسلام ) للقرشي ج٢ ص٢٣٣.
وراجع: العبر وديوان المبتدأ والخبر ج١ ص٢٦٦ والكامل في التاريخ ج٧ ص١٦٧ وج٨ ص٤٢١ والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج١١ ص٢٣٧.
٣- ديوان ابن المعتز ص٢٩ وراجع: تلخيص الشافي هامش ج٣ ص١٤٨ والغدير ج٦ ص٥٢ والوافي بالوفيات ج١٧ ص٢٤٣ وفوات الوفيات للكتبي ج١ ص٥٩٥ وأعيان الشيعة ج٨ ص٢٣.
٤- راجع: ديوان الصفي الحلي، وراجع: تلخيص الشافي هامش ج٣ ص١٤٨ والغدير = = ج٦ ص٥٣ والوافي بالوفيات ج١٧ ص٢٤٤ وفوات الوفيات للكتبي ج١ ص٥٩٥ وأعيان الشيعة ج٨ ص٢٣.
وقال الشريف الرضي (رحمهالله ):
ردوا تراث محمد ردوا ليس القضيب لكم ولا البرد(١)
كما أنهم دفعوا آلته، وبغلته، وحذاءه، وخاتمه، وقضيبه إلى علي (عليه الصلاة والسلام)(٢) .
وعليه فيرد ما أورده المعتزلي الشافعي هنا حيث قال: (إذا كان (صلىاللهعليهوآله ) لا يورث؛ فقد أشكل دفع آلته ودابته، وحذائه إلى علي (عليهالسلام )، لأنه غير وارث في الأصل، وإن كان إعطاؤه ذلك لأن زوجته بعرضة أن ترث لولا الخبر، فهو أيضاً غير جائز؛ لأن الخبر قد منع أن يرث منه شيئاً، قليلا كان أو كثيراً).
ب: إعترض ابن طاووس على دعوى أن علياً (عليهالسلام ) قد غلب العباس على أرض بني النضير، وقال: إن ذلك غير صحيح.
(لاستمرار يد علي (عليهالسلام ) وولده على صدقات نبيهم، وترك
____________
١- ديوان الشريف الرضي ج١ ص٤٠٧ وتلخيص الشافي ج٣ هامش ص١٤٨.
٢- راجع: مناقب آل أبي طالب ج١ ص٢٦٢ وراجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٦ ص٢٢٤ و ٢١٤ والسقيفة وفدك للجوهري ص١٠٣ واللمعة البيضاء ص٧٥٨ ومعالم المدرستين ج٢ ص١٣٨ عن: الأحكام السلطانية للماوردي ص١٧١ وراجع: تلخيص الشافي ج٣ ص١٤٧ وفي هامشه أيضاً عن: الرياض النضرة.
منازعة بني العباس لهم، مع أن العباس ما كان ضعيفاً عن منازعة علي، ولا كان أولاد العباس ضعفاء عن المنازعة لأولاد علي في الصدقات المذكورة).
ثم ذكر (رحمهالله ) روايتين عن قثم وعن عبد الله ابني عباس، يقرَّان فيها: بأن الحق في إرث رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) لعلي (عليهالسلام )(١) .
ويجب أن لا ننسى مدى حرص الحكام على كسر شوكة علي (عليهالسلام )، وإبطال قوله وقول أهل بيته (عليهمالسلام ) في ذلك، سواء في ذلك أولئك الذين استولوا على تركة النبي (صلىاللهعليهوآله )، أو الذين أتوا بعدهم من الأمويين أو العباسيين.
علي (عليهالسلام ) لا يسترد فدكاً، ولا غيرها:
وقد ذكرت الروايات أسباب عدم استرجاع أمير المؤمنين (عليهالسلام ) أيام خلافته، ما كان قد أخذ منهم، ويمكن تلخيص ما ورد فيها كما يلي:
____________
١- الطرائف لابن طاووس ص٢٨٤ و ٢٨٥ وراجع: المستدرك للحاكم ج٣ ص١٢٥ والمراجعات ص٢٩٩ وأجوبة مسائل جار الله للسيد شرف الدين ص١٣٦ ونهج السعادة ج٢ ص٤٩٦ و ٤٩٧ وخصائص أمير المؤمنين (عليهالسلام ) للنسائي ص١٠٧ والمعجم الكبير للطبراني ج١٩ ص٤٠ وأسد الغابة ج٤ ص١٩٧ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٧ ص٥٠٩ وج٢٣ ص٣١٧.
١ ـ إن الظالم والمظلوم كانا قد قدما على الله عز وجل، وأثاب الله المظلوم، وعاقب الظالم؛ فكره أن يسترجع شيئاً قد عاقب الله عليه غاصبه، وأثاب عليه المغصوب (عن الإمام الصادق (عليهالسلام ))(١) .
٢ ـ للإقتداء برسول الله (صلىاللهعليهوآله ) لما فتح مكة وقد باع عقيل بن أبي طالب داره؛ فقيل له: يا رسول الله، ألا ترجع إلى دارك؟!
فقال (صلىاللهعليهوآله ): وهل ترك عقيل لنا داراً، إنَّا أهل بيت لا نسترجع شيئاً يؤخذ منا ظلماً.
فلذلك لم يسترجع فدكاً لما ولي (عن الإمام الصادق (عليهالسلام ))(٢) .
لكن هذه الرواية تنسب الظلم إلى عقيل.. وهذا لا يتلاءم مع ما عرف عن عقيل (رحمهالله ) الذي كان يحبه رسول الله (صلىاللهعليهوآله )..
إلا أن يقال: إنه إنما فعل ذلك قبل أن تشمله الألطاف.. أو أنه فعل ذلك بعد إسلامه، وقبل أن يهتم ويستجيب للهدايات الإلهية بمراعاة أحكام الشريعة والدين.
وفي نص آخر: لأنَّا أهل بيت لا يأخذ حقوقنا ممن ظلمنا إلا هو (يعني:
____________
١- الطرائف لابن طاووس ص٢٥١ وعلل الشرائع ص١٥٤ و ١٥٥ ومستدرك سفينة البحار ج٧ ص٣٢٥ وبحار الأنوار ج٢٩ ص٣٩٥ واللمعة البيضاء ص٨٢٩.
٢- الطرائف لابن طاووس ص٢٥١ وعلل الشرائع ص١٥٥ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٢٧٠ و (ط المكتبة الحيدرية) ج١ ص٢٣٢ والصوارم المهرقة ص١٦٥ وبحار الأنوار ج٢٩ ص٣٩٦ واللمعة البيضاء ص٨٢٩.
إلا الله)، ونحن أولياء المؤمنين، إنما نحكم لهم، ونأخذ حقوقهم ممن ظلمهم، ولا نأخذ لأنفسنا (عن أبي الحسن (عليهالسلام ))(١) .
وغير خاف على احد أن مسألة فدك كانت بالغة الحساسية بالنسبة لمناوئي علي (عليهالسلام )، فلعل استرجاعها يعطي ذريعة لتعديات على المدى الطويل، لا حاجة إلى اعطائهم المبرر لها.. وربما يحفز ذلك إلى القيام بحملة إعلامية مسمومة، تحمل في طياتها الكثير من الشبهات والأضاليل، والشائعات الباطلة.. التي لا بد من تجنبها في تلك الظروف الحساسة..
____________
١- الطرائف لابن طاووس ص٢٥١ و٢٥٢ وعلل الشرائع ص١٥٥ وعيون أخبار الرضا ج١ ص٩٢ وسنن النبي (صلىاللهعليهوآله ) للطباطبائي ص٣٣٧ ومسند الإمام الرضا للعطاردي ج١ ص١٣٦ وفضائل أمير المؤمنين (عليهالسلام ) لابن عقدة ص٤١ واللمعة البيضاء ص٨٢٩ وحياة الإمام الرضا للقرشي ج٢ ص٦٣.
الفصل الخامس: أحداث وتوقعات.. مسار الأحداث: من حجة الوداع.. إلى غصب فدك..
بداية توضيحية:
هناك سلسلة من الأحداث، تتابعت في غضون أقل من ثلاثة أشهر، كان لكل منها دوره القوي في توضيح معالم الصراع بين خطين: أحدهما يريد حفظ الدين، وتثبيت دعائمه، وتوطيد أركانه، وتشييد بنيانه.. والآخر يريد أن يستفيد من هذا الدين، ويستأثر لنفسه بكل ما يمكنه الحصول عليه، على قاعدة: (احلب حلباً لك شطره). أو: (لشد ما تشطرا ضرعيها)..
وقد بذل النبي والوصي صلوات الله عليهما وعلى آلهما أعظم الجهد في حفظ أساس الدين، وإماطة كل أذى عنه، ولا سيما فيما يرتبط بالإمامة.. التي كانت محور طموح أهل الأطماع الذين يبذلون أقصى الجهد في جلب المنافع، والإستئثار بالمناصب والمواقع..
وكنا قد أشرنا إجمالاً لهذين المسارين، في الجزء الثامن عشر من كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله ).. وقد رأينا أن نورده هنا مع بعض التقليم، والتطعيم، فنقول:
١ ـ في حجة الوداع:
لقد بذل النبي (صلىاللهعليهوآله ) ـ وفقاً للتوجيهات والأوامر الإلهية ـ جهداً يرمي إلى تحصين أمر الإمامة، بالتأكيد والنص عليها بمختلف الأساليب
البيانية: قولاً، وعملاً، وتصريحاً، وتلميحاً، وكناية، وإشارة، وسراً، وجهراً، وما إلى ذلك..
وكان الفريق الطامع والطامح ـ وهم قريش ـ يسعون إلى إحباط هذه المساعي، والتشكيك في تلك البيانات ومحاصرتها، وإبطال آثارها..
وقد اتجهت الأمور نحو التصعيد في الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياته (صلىاللهعليهوآله )، بصورة قوية وحاسمة. ونحن نذكر هنا سبعة مفاصل أساسية وشاخصة، ظهرت في هذه الفترة بالذات، فنقول:
كان أول مفصل هام وحساس وأساسي، في يوم عرفة، في حجة الوداع؛ حيث بادر النبي (صلىاللهعليهوآله ) إلى إبلاغ إمامة علي (عليهالسلام ) للناس، في موسم الحج هذا، الذي يجتمع فيه الناس من كل الأجناس، والفئات والمستويات ومن مختلف البلاد، يجتمعون في صعيد واحد، يظهرون التوبة والندم، ويجأرون بالدعاء لله تعالى بأن يتوب عليهم، ويتقبل منهم..
فأراد (صلىاللهعليهوآله ) أن يخطبهم، ويبلِّغهم ما أمره الله تعالى بتبليغه، فلما انتهى إلى الحديث عن الإمامة والأئمة، تصدى له الفريق القرشي الطامح، ليفسد عليه تدبيره، وليمنعه من القيام بما أمره الله سبحانه به، فصاروا يقومون ويقعدون، وضجوا إلى حد لم يعد للحاضرين المحيطين به (صلىاللهعليهوآله ) مجال لسماع كلامه (صلىاللهعليهوآله ).
ولعلهم قد ظنوا أنهم نجحوا فيما أرادوه، كما توحي به ظواهر الأمور.
ولكن الحقيقة هي العكس من ذلك تماماً.. فإن النبي (صلىاللهعليهوآله )
كان يعلم: أنهم سوف يغتصبون الخلافة على كل حال.. ولكنه يريد أن يعرِّف الأجيال إلى يوم القيامة ذلك.. وأن لا يمكِّنهم من التشكيك في أحقية أمير المؤمنين علي (عليهالسلام ) بها، وفي النص عليه، ونصبه لهذا الأمر من قبل الله ورسوله..
ولأجل ذلك: فإن الخطة النبوية كانت ترمي إلى التأكيد على هذا الأمر، وفضح الذين يريدون أن يتخذوا من التظاهر بالدين والتقوى ذريعة إلى مآربهم..
وقد تحقق ذلك له (صلىاللهعليهوآله )في هذا الموقف بالذات، في أقدس البقاع، وهو عرفة وأجل مناسبة عامة وهي الحج، وأفضل الأزمنة ـ يوم عرفة ـ وهم يؤدون فريضة عظيمة، وركناً من أركان الشريعة.
وهم محرمون لله تعالى، يجهرون بتلبية النداء الإلهي: (لبيك اللهم لبيك).
ثم يعلنون اعترافهم بوحدانيته (لبيك لا شريك لك لبيك)، وبمالكيته، وسلطانه وبنعمته وفواضله (إن الحمد والنعمة لك والملك..) ويقفون في أحد المشاعر المعظمة، ولا همَّ لهم إلا الدعاء، والإستغفار، وطلب الحاجات من الله تعالى.. والإجتهاد في الحصول على رضاه لكي يستجيب لهم، ويكون معهم.
نعم، وفي هذا الموقف بالذات ظهر للناس جميعاً: أنه رغم أمر الله تعالى لهم بأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي (صلىاللهعليهوآله )، لكي لا تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون، صاروا يضجون إلى حد أنهم أصموا الناس، فلا يستطيع أحد أن يسمع شيئاً من كلامه (صلىاللهعليهوآله )، وصاروا
يقومون ويقعدون الخ..
وحمل الناس، الذين أتوا من كل حي وبلد وقبيلة، في قلوبهم هذه الذكرى المرة، معهم إلى بلادهم، التي يعودون إليها من سفر طويل وشاق، وفيه أخطار الامراض والتعديات، ويتلهف من يستقبلهم ليسألهم عما رأوه أو سمعوه من أفضل البشر، وأكرم الأنبياء (عليهالسلام )، وأشرف المخلوقات، الذي لم يره الكثيرون منهم إلا هذه المرة اليتيمة، وسيموت (صلىاللهعليهوآله ) بعدها، وتبقى ذكراه في قلوب هؤلاء كأعز شيء عليهم، وأثمنه عندهم.
ولا بد أن ينقلوا ذلك للناس دائماً بحزن، وأسى، ومرارة، بعد أن اتضح لهم أمر عجيب وغريب، وهو: أن صحابته (صلىاللهعليهوآله ) لا يوقرون نبيهم الأعظم، والخاتم، ولا يطيعونه.
٢ ـ غدير خم:
وربما يمكن لهم أن يعتذروا للناس، ويقولوا لهم: لقد حاسبنا أنفسنا، وندمنا على ما بدر منا، فإنها كانت هفوة عابرة، وقد اعتذرنا، وقبل رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) عذرنا..
ثم يزعمون لهم: أنه قد استجدت أمور قبل وفاته (صلىاللهعليهوآله ) أوجبت أن يعدل (صلىاللهعليهوآله ) عن أمر الإمامة الأئمة، فأعاد الأمر شورى بين المسلمين..
وقد يجدون من طلاب اللبانات، ومن عبيد الدنيا، من يرغب في تصديق مزاعمهم هذه، فجاءت قضية غدير خم لتقول للناس: لا تقبلوا
أمثال هذه الأعذار.
وذلك لأن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بمجرد أن انقضت مراسم الحج، ترك مكة ولم يزر البيت!! وخرج مع الحجيج العائد إلى بلاده قبل أن يتفرقوا في الطرقات إليها.
وكان رؤوس هؤلاء الطامعين والطامحين يرافقونه، ليعودوا معه إلى المدينة، وبقي في مكة والطائف، وفي كل هذا المحيط أنصار هؤلاء ومحبوهم.. وها هم يبتعدون شيئاً فشيئاً عن المناطق التي تدين لهم بالولاء، وأصبحوا غير قادرين على الإقدام على أية إساءة للرسول (صلىاللهعليهوآله ).. لأنهم يعجزون عن مواجهة عشرات الألوف، وهم بضع عشرات من الأفراد، فإن جماهيرهم في مكة وما والاها لم يأتوا، ولن يستطيعوا أن يأتوا معهم..
فلما بلغ (صلىاللهعليهوآله ) غدير خم، نزلت الآيات الآمرة له بلزوم إنجاز المهمة التي كلفه الله تعالى بها من جديد، ومعها تهديد صريح لأولئك المعاندين: بأن استمرار اللجاج والعناد سوف يعيد الأمور إلى نقطة الصفر( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ.. ) (١) ، أي أن ذلك يعني أنه مستعد للدخول معهم في حرب طاحنة، كحرب بدر وأحد، أو قد ينزل بهم العذاب، كما جرى لبعض الأمم السالفة.. فاضطر هذا الفريق المناوئ، والطامح، والطامع، إلى السكوت، والانحناء أمام العاصفة، ولو إلى حين.
____________
١- الآية ٦٧ من سورة المائدة.
وبلَّغ النبي (صلىاللهعليهوآله ) إمامة علي (عليهالسلام ) في غدير خم، وتظاهر ذلك الفريق بالطاعة، وقدم البيعة لعلي (عليهالسلام )، حتى قال له أحدهم: بخ بخ لك يا علي، لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن..
ولا ندري إن كانت هذه البخبخة أيضاً انحناءً أمام العاصفة؟! أم أنها جاءت لتعبِّر عن حسرة وألم، وعن أمور أخرى لا نحب التصريح بها!
٣ ـ تجهيز جيش أسامة:
ولكن الباب قد بقي مفتوحاً أمام هذا الفريق للخروج من هذا المأزق، إذ يمكن أن يقول هؤلاء للناس: صحيح أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) نصب علياً (عليهالسلام ) في غدير خم، وقد بايعناه، وبخبخنا له.. ولكن قد استجدت أمور بعد ذلك جعلته (صلىاللهعليهوآله ) يعدل عن قراره هذا، والله على ما نقول وكيل، فإننا صحابته المحبون، المطيعون، المأمونون، على ما يأمرنا به.
أو يقولون: إن هذه الأمور جعلت علياً (عليهالسلام ) نفسه يستقيل من هذا الأمر.. (وقد سرت شائعة بهذا المضمون فعلاً، وتركت لها آثاراً حتى على اجتماع السقيفة نفسه كما تقدم).
فجاءت قضية تجهيز جيش أسامة، لتبين بالفعل لا بالقول: أنهم لا يطيعون أمر رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، حتى مع إصراره عليهم، والتصريح بغضبه منهم، فهو يأمرهم بالخروج في جيش أسامة، ويلعن من يتخلف عن ذلك الجيش، ولكنهم يصرون على رفض الخروج معه، ويتعللون بأنهم يخافون على النبي (صلىاللهعليهوآله ) من أن يحدث له