الصحيح من سيرة الإمام علي(عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٤

الصحيح من سيرة الإمام علي(عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى)16%

الصحيح من سيرة الإمام علي(عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى) مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 342

  • البداية
  • السابق
  • 342 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18881 / تحميل: 6918
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام علي(عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام علي(عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

بن حارثة غير صحيح.

الغطرسة القرشية، والحكمة المحمدية:

وعن علي (عليه‌السلام ) قال: "فقدمت قريش، فأقامت على الخندق محاصرة لنا، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف، ترعد وتبرق، ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يدعوها إلى الله عز وجل، ويناشدها بالقرابة والرحم، فتأبى، ولا يزيدها ذلك إلا عتواً"(١) .

ونقول:

ليس غريباً على قريش هذا العتو، وهذه الغطرسة، ما دامت تقيس الأمور بمقاييس مادية، وترى القوة في أنفسها، والضعف في المسلمين، الذين جاءت لاستئصالهم، وإبادة خضرائهم، ولكن هذا العتو وتلك الغطرسة سرعان ما تلاشت، ليحل محلها الضعف والخنوع، والخيبة القاتلة، كما سنرى.

وليس غريباً أيضاً: أن نجد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ومن موقع الشعور بالمسؤولية يعتمد الأسلوب الإنساني، ويستثير العاطفة الناشئة عن صلات القربى ولحمة النسب، والتي تكون لها هيمنة حقيقية على الإنسان، ولا بد أن تجتاح لمعاتها وهزاتها الجامحة كل كيانه، وكل وجوده. ثم هو

____________

١- الخصال ج٢ ص٦٨ باب السبعة، و (ط مركز النشر الإسلامي) ص٣٦٨ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٤٤ وج٣٨ ص١٧٠ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج٣ ص١٢٥ وحلية الأبرار ج٢ ص٣٦٣ وغاية المرام ج٤ ص٣١٩.

٢١

(صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقرن ذلك بالدعوة إلى الله عز وجل، الذي هو مصدر الخير والقوة والبركات.

وحين لا تستجيب لداعي الرحم، ولا لداعي الله، وتصرّ على الإستجابة للهوى وللشيطان، فلا يبقى خيار سوى التصدي لها، وإسقاط هذا العنفوان الرديء والرذل، وتمريغ أنفها برغام الذلة والخزي والهوان.. وهكذا كان.

حراسة العسكر:

قال القمي: "كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أمر أصحابه أن يحرسوا المدينة بالليل، وكان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) على العسكر كله بالليل يحرسهم، فإن تحرك أحد من قريش نابذهم.

وكان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) يجوز الخندق، ويصير إلى قرب قريش حيث يراهم، فلا يزال الليل كله قائماً وحده يصلي، فإذا أصبح رجع إلى مركزه..

ومسجد أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) هناك معروف، يأتيه من يعرفه، فيصلي فيه، وهو من مسجد الفتح إلى العقيق أكثر من غلوة نشابة(١) "(٢) .

____________

١- غلوة نشاب: أي مقدار رمية سهم.

٢- راجع: تفسير القمي ج٢ ص١٨٦ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٣٠ ومستدرك الوسائل ج١٠ ص٢٠٠ وجامع أحاديث الشيعة ج١٢ ص٢٧٤ والصافي ج٤ ص١٧٨ وج٦ ص٢٨ ونور الثقلين ج٤ ص٢٥٤.

٢٢

ونقول:

إن لنا مع هذا النص وقفات هي التالية:

ضرورة الحراسة:

إن من البديهيات ضرورة الحذر من العدو المحارب، وحرمانه من فرصة تسديد ضربات هنا وهناك، من شأنها إرباك الجيش الإسلامي، أو إحداث ثغرات خطيرة فيه، وإلحاق الأذى بمعنوياته، وبثقته بقدارته، وطمأنينته إلى حسن تدبير القائمين على الأمور فيه.

ولم يكن يتولى الحراسة في حرب الخندق أشخاص عاديون، بل كان يتولاها قائد الجيش كله، وحامل لوائه وأميره الذي لم يكن فقط قادراً على اتخاذ القرار المناسب، ثم يأمر وينهى، بل كان يقرر ثم يباشر التنفيذ بنفسه، ثم هو في نفس الوقت لا يترك الفرصة تمر، ولا يمنح العدو أية قدرة على إتخاذ أي قرار آخر سوى الفرار، أو مواجهة الموت المحتم..

وكان لا بد لهذه الحراسة من أن تتواصل لتستغرق الزمان كله، لأن ذلك يعطي العدو الفرصة السانحة، ويجعل من الغفلة العارضة أو المنظمة منفذاً وسبباً لتضييع الجهد، وحمل النصر للعدو.

ولذلك كان لا بد من مواصلة الحراسة في الليل كله، لأن الليل هو وقت الهجعة اللذيذة، والغفلة القاهرة، لا سيما بعد أن يأخذ الملل والتعب مأخذهما.

والليل أيضاً هو الذي يمنح العدو الغطاء والوقاء، ويمكنه من تسديد ضرباته وفق ما يحلو له، وفي المكان الذي يختاره.

٢٣

من أجل ذلك نقول:

إنها لا بد أن تكون حراسة غير خاضعة لحدود الزمان والمكان، فلا تستقر في نقاط بعينها، لأنها في هذه الحال تمنح العدو فرصة التخطيط لإختراقها، أو لتحاشيها..

كما أن إطلاقها هذا يضيع على العدو الإحساس بالأمن، في أي من حالاته، ويجعله يتوقع المفاجآت، فيشغله ذلك بالعمل على تحاشيها، والإهتمام بحفظ نفسه قبل أن يفكر بأي تحرك خارج هذا النطاق، حيث لا بد أن يتوقع أن يفاجأ بدوريات الحراسة في كل إتجاه..

رصد العدو قتالياً:

كما أن المهمة التي اضطلع بها علي (عليه‌السلام ) لم تقف عند حدود الحراسة، بل تعدت ذلك إلى الرصد الدقيق لتحركات العدو..

ولم يكن ذلك مجرد رصد يهتم بنقل مشاهداته إلى القيادة لكي تتخذ هي القرار، بل هو الذي يرصد، ثم يقرر، ثم يباشر التنفيذ..

والذي يتولى الرصد ليس إنساناً عادياً، بل هو قائد الجيش كله، الذي لن يجد معلومات أصح مما يحصل هو بنفسه عليه، ويراه بعينيه، ويسمعه بأذنيه.. ولن يحسن أحد تنفيذ ما يريده، ويرسم خطته أكثر منه، ولا يحتاج في المستجدات إلى انتظار القرار من أحد.. وهو أيضاً رصد دائم ومتواصل.

وكان الموضع الذي يستقر فيه لممارسة مهمته، موقعاً متقدماً جداً، قد لا يجرؤ على الوصول إليه أحد سواه.. وإن بلغه أحد، فلن يجرؤ على الإستقرار فيه طوال الليل.

٢٤

مسجد في موضع صلاة علي (عليه‌السلام ):

وقد بقي المسجد في ذلك المكان الذي كان علي (عليه‌السلام ) يرصد ويصلي فيه طوال الليل ـ بقي ذلك الشاهد الصادق على هذه التضحيات الجسام من أمير المؤمنين (عليه‌السلام )، وقد صمد هذا المسجد عشرات أو مئات الأعوام.

ولكن هل تركته الفئة الوهابية، أم هدمته متذرعة بأعذار واهية، لممارساتها المتواصلة لمحو آثار الإسلام، حيث هدمت قبور أهل البيت، وأزالت المساجد، ومحت الآثار الدالة على جهاد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وجهاد وصيه، والشاهدة على تضحيات الأخيار من أصحابه، والصفوة من أهل بيته؟!

وإذا كان لا يزال باقياً، فهل سيستمر بمرأى ومسمع منهم، ولا سيما إذا علموا أن لعلي (عليه‌السلام ) أي أثر فيه؟!

الراصد المصلي:

ويواجهنا هنا سؤال يقول:

ذكروا: أن علياً (عليه‌السلام ) أصاب رجله في غزوة أحد سهم صعب، فأمر (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بإخراجه منها حين اشتغال علي (عليه‌السلام ) بالصلاة، فأخرجوه من رجله، فقال بعد فراغه من الصلاة: إنه لم يلتفت لما جرى(١) .

____________

١- إحقاق الحق (الملحقات) ج٨ ص٦٠٢ عن المناقب المرتضوية الكشفي الحنفي ص٣٦٤.

٢٥

وفي نص آخر: كانوا إذا أرادوا إخراج الحديد والنشاب من جسده الشريف تركوه حتى يصلي، فإذا اشتغل بالصلاة، وأقبل على الله تعالى أخرجوا الحديد من جسده ولم يحسّ، فإذا فرغ من صلاته يرى ذلك، فيقول لولده الحسن (عليه‌السلام ): إن هي إلا فعلتك يا حسن(١) .

وفي نص ثالث: أن الزهراء "عليها‌السلام " هي التي أشارت عليهم بذلك(٢) .

وفي نص آخر: أن ذلك كان في حرب صفين، وأنهم أخرجوه حال سجوده(٣) .

ولا مانع من أن تتكرر الواقعة، فإنه (عليه‌السلام ) قد خاض حروباً كثيرة، لعلها تعد بالعشرات، ولم يكن يجرؤ أحد على الإقتراب منه، فكان رشقه بالسهام هي الطريقة الممكنة لإلحاق الأذى به (عليه‌السلام )..

فلنا بعد هذا أن نسأل: كيف يمكن رصد حركة العدو من قبل من هو مشغول بالصلاة، إذا كان هذا هو حال الراصد في صلاته؟!

ونجيب:

أولاً: بأن الله تعالى قد أجاب عن ذلك في آية قرآنية مباركة، هي قوله

____________

١- إرشاد القلوب ص٢١٧ وحلية الأبرار ج٢ ص١٧٩.

٢- المحجة البيضاء ج١ ص٣٩٧ و ٣٩٨ وجامع السعادات ج٣ ص٢٦٣.

٣- الحدائق الناضرة ج٧ هامش ص٢٤٢ وأسرار الشهادة (ط سنة ١٣١٩هـ) ص٢٥٥.

٢٦

تعالى:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (١) .

وقد جعل الله تبارك وتعالى حديث التصدق بالخاتم في حال الركوع مبرراً للإعلان عن أخطر منصب، وأجلّ مقام، يرتبط بمستقبل ومصير البشرية بأسرها، لا في جيل بعينه، وإنما في الأجيال المتعاقبة كلها إلى يوم القيامة..

مع أن هذا التصدق إنما حصل من نفس هذا الذي استخرجت السهام من جسده وهو يصلي، ولم يشعر بذلك..

ثانياً: إن هذا التصدق لا يتنافى مع تلك الصلاة، فإنهما معاً من سنخ واحد، فهما عيش مع الله، وتفكير بما يرضيه، فهو لم يفكر في الدنيا، ولا اهتم لزبارجها وبهارجها.. بل انصرف إلى عبادة الله..

ثالثاً: بل هو (عليه‌السلام ) قد مارسهما معاً في آن واحد، ومن الممكن توضيح ذلك بالإشارة إلى أن من يشرف على الجنة، فإنه يرى أشجارها، وأنهارها، وحورها، وقصورها بنظرة واحدة.

كما أن من يعيش في واحات الرضى والقرب الإلهي، فإنه يشعر ويحس ويرى، ويتفاعل مع كل ما تحويه تلك الواحات، فهو يسبح الله، ويبكي خوفاً منه، ويفرح بكونه في مقام الزلفى، ويرجو أن يحصل على المزيد من منازل الكرامة في آن واحد أيضاً.

____________

١- الآية ٥٥ من سورة المائدة.

٢٧

وهذا بالذات هو ما جرى حين التصدق بالخاتم في الصلاة، وكذلك حين كان (عليه‌السلام ) يصلي ويرصد حركة أعداء الله..

رابعاً: حتى لو أردنا أن نضع هذا الأمر في سياق الحسابات المفرطة في ماديتها، فنسلخها عن أبعادها الإيمانية، العميقة، فإن الناس العاديين قد يتمكنون من فعل ذلك، فإذا كان الراصد يصلي ركعتين مثلاً، ثم يجري معاينة للمحيط الذي يرصده، فإن رأى أنه لم يتغير شيء عاد إلى صلاته.. فإن التحرك المؤثر للعدو، يستغرق أكثر مما تستغرقه صلاة ركعة أو ركعتين، لأن الهدوء في الليل يفضح الأصوات، لمن يكون قريباً من مصدرها، مهما حاول من تصدر عنه أن يتستر عليها، وتحتاج لكي تختفي في ذلك الزمان الذي كان يعتمد في تحركاته الوسائل المغرقة في بدائيتها إلى المزيد من الوقت، حال الإنتقال من مكان إلى مكان.

فكيف إذا كانت تلك التحركات في مكان لا يتحاشى العدو وفيها من أحداث الأصوات، لأنه يظن نفسه بعيداً عن مواقع الرصد من الطرف الآخر..

٢٨

الفصل الثاني :

عمرو في المواجهة.. نصوص.. وآثار

٢٩

٣٠

علي (عليه‌السلام ) يسد طريق الهرب:

وذُكر أنه لما عبر عمرو بن عبد ود ومن معه الخندق أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) علياً (عليه‌السلام )، بأن يمضي بمن خف معه ليأخذ الثغرة عليهم، وقال: "فمن قاتلكم عليها فاقتلوه"(١) .

فخرج (عليه‌السلام ) في نفر من المسلمين حتى أخذ الثغرة، وسلمها إليهم، فوقف عمرو، وطلب البراز(٢) .

____________

١- شرح الأخبار ج١ ص٢٩٤.

٢- راجع المصادر التالية: مناقب آل أبي طالب ج١ ص١٩٨ والإرشاد للمفيد ص٥٢ و (ط دار المفيد) ج١ ص٩٨ وكشف الغمة للأربلي ج١ ص٢٠٧ و ٢٠٣ والكامل في التاريخ ج٢ ص١٨١ وتاريخ الأمم والملوك ج٢ ص٢٣٩ ومجمع البيان ج٨ ص٣٤٢ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٥٣ وتاريخ الخميس ج١ ص٤٨٧ وعيون الأثر ج٢ ص٦١ والسيرة النبوية لابن هشام ج٣ ص٢٣٥ و (ط مكتبة محمد علي صبيح وأولاده) ج٣ ص٧٠٨ وتهذيب سيرة ابن هشام ص١٩٣ ودلائل النبوة للبيهقي ج٣ ص٤٣٧ والبدء والتاريخ ج٤ ص٢١٨ وبهجة المحافل ج١ ص٢٦٦ والإكتفاء للكلاعي ج٢ ص١٦٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج٣ ص٢٠٢ وتاريخ= = الإسلام للذهبي (المغازي) ص٢٣٩ و (ط دار الكتاب العربي) ص٢٩٠ وإعلام الورى (ط دار المعرفة) ص١٠٠ و (ط مؤسسة آل البيت) ج١ ص١٩٢ وشرح الأخبار ج١ ص٢٩٤ والدرر لابن عبد البر ص١٧٤ والجامع لأحكام القرآن ج١٤ ص١٣٤ وقصص الأنبياء للراوندي ص٣٤٢ وسبل الهدى والرشاد ج٤ ص٣٧٨ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٨ ص١٠٨ عن مختصر سيرة الرسول لابن عبد الوهاب الحنبلي الوهابي (ط المطبعة السلفية في القاهرة) ص ٢٨٥.

٣١

وقد وصف علي (عليه‌السلام ) قريشاً: "..وفارسها وفارس العرب عمرو بن ود يهدر كالبعير المغتلم..

إلى أن قال: والعرب لا تعد لها فارساً غيره"(١) .

مبارزة علي (عليه‌السلام ) لعمرو:

ونذكر هنا طائفة من النصوص التي تصف ما جرى بين علي وعمرو بن عبد ود ومن معه. وقد آثرنا أن نستعيرها من كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله )(٢) ، فنقول:

____________

١- الخصال ج٢ ص٣٦٨ و (ط مركز النشر الإسلامي) ص٣٦٨ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٤٤ وج٣٨ ص١٧٠ والإختصاص ص١٦٧ وشرح الأخبار ج١ ص٢٨٧ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج٣ ص١٢٦ وحلية الأبرار ج٢ ص٣٦٣ وغاية المرام ج٤ ص٣١٩.

٢- راجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (الطبعة الخامسة) ج١١ ص١٢٠ ـ ١٣٦.

٣٢

ذكروا: أن عمرو بن عبد ود جعل يدعو للبراز وكان قد أعلم(١) ، لكي يرى مكانه.. وهو يعِّرض بالمسلمين.

فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على ما في الروايات: من لهذا الكلب؟!

فلم يقم إليه أحد.

فلما أكثر، قام علي (عليه‌السلام )، فقال: أنا أبارزه يا رسول الله، فأمره بالجلوس، انتظاراً منه ليتحرك غيره.

وأعاد عمرو النداء والناس سكوت كأن على رؤوسهم الطير، لمكان عمرو، والخوف منه وممن معه، ومن وراءه.

فقال عمرو: أيها الناس، إنكم تزعمون: أن قتلاكم في الجنة، وقتلانا في النار؟ أفما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة، أو يقدم عدواً له إلى النار؟.

فلم يقم إليه أحد.

فقام علي (عليه‌السلام ) مرة أخرى، فقال: أنا له يا رسول الله، فأمره بالجلوس.

فجال عمرو بفرسه مقبلاً مدبراً. وجاءت عظماء الأحزاب، ووقفت من وراء الخندق، ومدت أعناقها تنظر، فلما رأى عمرو: أن أحداً لا يجيبه قال:

ولقد بححت من النداء

بجمعهم هل من مبارز

____________

١- أعلم: أي ميز نفسه بعلامة، لكي يراه الأقران، وهو يدلل على شجاعته، وأنه غير هائب من أحد.

٣٣

طووقـفــت مـذ جبـن المـشجـع

مـوقــف القــرن المـنـاجـز

إنـي كذلــــك لــــم أزل

متســرعاً قـبــل الهـزاهـــز

إن الـشــجاعــة فــي الفـتى

والجـود مـــن خــيـــر الغرائز

فقام علي (عليه‌السلام )، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في مبارزته.

فلما طال نداء عمرو بالبراز، وتتابع قيام أمير المؤمنين (عليه‌السلام )، قال له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): ادن مني يا علي.

فدنا منه، فقلده سيفه (ذا الفقار)، ونزع عمامته من رأسه، وعممه بها، وقال: امض لشأنك.

فلما انصرف، قال: اللهم أعنه عليه(١) .

____________

١- راجع المصادر التالية: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٩ ص٦٣ و ٦٤ والإرشاد للمفيد ص٥٩ و ٦٠ وعيون الأثر ج٢ ص٦١ و (ط مؤسسة عز الدين ـ بيروت) ج٢ ص٣٩ وإعلام الورى ص١٩٤ و ١٩٥ والمغازي للواقدي ج٢ ص٤٧٠ و ٤٧١ وحبيب السير ج١ ص٣٦١ وراجع: مناقب آل أبي طالب ج٣ ص١٣٥ وبحار الأنوار ج٣٩ ص٤ و ٥ وج٤١ ص٨٨ و ٨٩ وج٢٠ ص٢٢٥ ـ ٢٢٨ و ٢٠٣ و ٢٠٥ و ٢٥٤ ـ ٢٥٦ وتفسير القمي ج٢ ص١٨١ ـ ١٨٥ وكشف الغمة ج١ ص٢٠٤ والسيرة النبوية لدحلان ج٢ ص٦ و ٧ والسيرة الحلبية ج٢ ص٣١٩ و (ط دار المعرفة) ج٢ ص٦٤١ وشجرة طوبى ج٢ ص٢٨٧ ـ ٢٨٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٢ ص٦٨ و إمتاع الأسماع ج١ ص٢٣٦ وأعيان الشيعة ج١ ص٢٦٤ وسبل الهدى والرشاد ج٤ ص٣٧٧.

٣٤

ولكن ابن شهرآشوب قال: إن عمرواً جعل يقول: هل من مبارز؟! والمسلمون يتجاوزون عنه.

فركز رمحه على خيمة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وقال: ابرز يا محمد.

فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): من يقوم إلى مبارزته فله الإمامة بعدي؟!

فنكل الناس عنه.

إلى أن قال: روي: أنه لما قتل عمرو أنشد علي (عليه‌السلام ):

ضربتـه بـالسيف فوق الهـامـة

بـضربة صارمـــة هــدامــة

أنـا علي صاحب الصمصــامة

وصـاحب الحوض لدى القيامة

أخـو رسول الله ذي العـلامــة

وقال إذ عـمـمـنـي عـمامــة

أنـت الـذي بـعـدي لـه الإمامة(١)

والمفارقة هنا أن علياً هو الذي يقتل عمرواً الذي نكل عنه أبو بكر الذي طلب الإمامة واستأثر بها لنفسه بالقوة والقهر..

وعن حذيفة قال: فألبسه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) درعه ذات الفضول، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وعممه بعمامته السحاب على رأسه تسعة أكوار، ثم قال: تقدم.

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لما ولى: اللهم احفظه من بين يديه،

____________

١- مناقب آل أبي طالب ج٣ ص١٣٥ و (ط المكتبة الحيدرية) ج٢ ص٣٢٤ وبحار الأنوار ج٤١ ص٨٨.

٣٥

ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوق رأسه، ومن تحت قدميه(١) .

ويضيف البعض: "أنه رفع عمامته، ورفع يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه، وقال: اللهم إنك أخذت مني عبيدة بن الحرث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وهذا أخي علي بن أبي طالب.( رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) (٢) "(٣) .

____________

١- مجمع البيان ج٨ ص٣٤٣ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج٣ ص١٣٢ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٠٣ و ٢٢٦ وشواهد التنزيل (ط سنة ١٤١١ هـ.ق) ج٢ ص١١ وينابيع المودة ص٩٥ و (ط دار الأسوة) ج١ ص٢٨٤ وشرح الأخبار ج١ ص٣٢٣ وشجرة طوبى ج٢ ص٢٨٨ وتفسير القمي ج٢ ص١٨٣ وجوامع الجامع ج٣ ص٥٢ والصافي ج٤ ص١٧٦ وج٦ ص٢٦ ونور الثقلين ج٤ ص٢٥١ وتأويل الآيات ج٢ ص٤٥١ وغاية المرام ج٤ ص٢٧٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٢٠ ص٦٢٥ وج٣١ ص٢٣٤.

٢- الآية ٨٩ من سورة الأنبياء.

٣- راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٩ ص٦١ وج ١٣ ص٢٨٣ و ٢٨٤ وكنز الفوائد (ط دار الأضواء) ج١ ص٢٩٧ و (ط مكتبة المصطفوي ـ قم) ص١٣٧ والسيرة النبوية لدحلان ج٢ ص٦ وتاريخ الخميس ج١ ص٤٨٧ والسيرة الحلبية ج٢ ص٣١٩ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢١٥ وج٣٨ ص٣٠٠ و ٣٠٩ وج٣٩ ص٣ وكنز العمال ج١٢ ص٢١٩ وج١٠ ص٢٩٠ و (ط مؤسسة الرسالة) ج١١ ص٦٢٣ ومناقب آل أبي طالب ج٢ ص٢٢١ و (ط المكتبة الحيدرية) ج٢ ص٦٢ = = ومستدركات علم رجال الحديث ج٥ ص٢٠٠ ومناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه ص١٥٢ وفضائل أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) لابن عقدة ص٧٩ والمناقب للخوارزمي ص١٤٤ وكشف الغمة ج١ ص٣٠٠ وتأويل الآيات ج١ ص٣٢٩ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٧ ص٤٤ وج١٧ ص١١٢ وج٢٠ ص٦٢٤ و ٦٢٦ وج٢٣ ص٦٤٨ وج٣١ ص٣٩٤.

٣٦

وتصور لنا رواية عن علي (عليه‌السلام ) الحالة حين عبور الفرسان الخندق، فهو يقول: "وفارسها وفارس العرب يومئذٍ عمرو بن عبد ود، يهدر كالبعير المغتلم، يدعو إلى البراز، ويرتجز، ويخطر برمحه مرة، وبسيفه مرة، لا يقدم عليه مقدم، ولا يطمع فيه طامع، فأنهضني إليه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وعممني بيده، وأعطاني سيفه هذا ـ وضرب بيده إلى ذي الفقار ـ فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقاً عليَّ من ابن عبد ود، فقتله الله عز وجل بيدي، والعرب لا تعد لها فارساً غيره"(١) .

ونحن نشك في الفقرة التي تذكر أن نساء المدينة بواك على علي (عليه‌السلام ) حين خرج إلى عمرو.. فإن نساء المدينة لم يحضرن إلى ذلك المكان، إلا إن كان المقصود كل النساء اللواتي حضرن مع أزواجهن كما هو عادة كثير منهم.

____________

١- راجع: الخصال ج٢ ص٣٦٨ و (ط مركز النشر الإسلامي) ص٣٦٨ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٤٤ وج٣٨ ص١٧٠ والإختصاص ص١٦٦ و ١٦٧ وشرح الأخبار ج١ ص٢٨٧ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج٣ ص١٢٦ وحلية الأبرار ج٢ ص٣٦٣ وغاية المرام ج٤ ص٣١٩.

٣٧

ويذكر البعض: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): "أدناه، وقبله، وعممه بعمامته، وخرج معه خطوات كالمودع له، القلق لحاله، المنتظر لما يكون منه. ثم لم يزل (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) رافعاً يديه إلى السماء، مستقبلاً لها بوجهه، والمسلمون صموت حوله، كأن على رؤوسهم الطير الخ.."(١) .

برز الإسلام كله إلى الشرك كله:

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حينئذٍ: برز الإسلام أو الإيمان كله، إلى الشرك كله(٢) .

فخرج له علي (عليه‌السلام ) وهو راجل، وعمرو فارساً، فسخر به

____________

١- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٣ ص٢٨٥ والعثمانية للجاحظ ص٣٣٢ وغاية المرام ج٤ ص٢٧٢ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٢٠ ص٦٢٦.

٢- راجع: كشف الغمة ج١ ص٢٠٥ وإعلام الورى ص١٩٤ ومناقب آل أبي طالب ج٣ ص١٣٦ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٣ ص٢٦١ و ٢٨٥ وج١٩ ص٦١ والطرائف لابن طاووس ص٣٥ و ٦٠ وكنز الفوائد (ط دار الأضواء) ج١ ص٢٩٧ و (ط مكتبة المصطفوي ـ قم) ص١٣٧ ومجمع البيان ج٨ ص٣٤٣ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢١٥ و ٢٧٣ وج٣٩ ص٣ ونهج الحق ص٢١٧ وشجرة طوبى ج٢ ص٢٨٨ والعثمانية للجاحظ ص٣٢٤ و ٣٣٣ وتأويل الآيات ج٢ ص٤٥١ وينابيع المودة ج١ ص٢٨١ و ٢٨٤ وغاية المرام ج٤ ص٢٧٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٦ ص٩ وج١٦ ص٤٠٤ وج٢٠ ص١٤٠ و ٦٢٥ وج٣١ ص٢٣٤.

٣٨

عمرو، ودنا منه علي(١) ، ومعه جابر بن عبد الله الأنصاري "رحمه‌الله "، لينظر ما يكون منه ومن عمرو(٢) .

وفي بعض الروايات: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال لأصحابه: أيكم يبرز إلى عمرو وأضمن له على الله الجنة؟! والجنة اعظم خطرا من السلطة، ومن المناصب الدنيوية والأموال وكل ما في الدنيا ولكنهم زهدوا بها.

فلم يجبه منهم أحد هيبة لعمرو، واستعظاماً لأمره. فقام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ثلاث مرات، والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يأمره بالجلوس(٣) .

وحسب نص ابن إسحاق، وغيره من المؤرخين: خرج عمرو بن عبد ود، وهو مقنع بالحديد، فنادى: من يبارز؟!

فقام علي بن أبي طالب، فقال أنا (له) يا نبي الله.

____________

١- إمتاع الأسماع ج١ ص٢٣٢ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٨ ص٣٧١.

٢- راجع: الإرشاد للمفيد ص٥٩ و ٦٠ و (ط دار المفيد) ج١ ص١٠٠ و ١٠١ وحبيب السير ج١ ص٣٦١ وكشف الغمة ج١ ص٢٠٣ وإعلام الورى ص١٩٤ و (ط مؤسسة آل البيت) ج١ ص٣٨١ والدر النظيم ص١٦٤ والمستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص٧٠ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٥٥ وأعيان الشيعة ج١ ص٢٦٤ و ٣٩٥.

٣- كنز الفوائد (ط دار الأضواء) ج١ ص٢٩٧ و (ط مكتبة المصطفوي ـ قم) ص١٣٧ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢١٥.

٣٩

فقال: إنه عمرو، إجلس.

ثم نادى عمرو: ألا رجل يبرز؟! فجعل يؤنبهم، ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها؟! أفلا تُبرزون إليَّ رجلاً؟!

فقام علي، فقال: أنا يا رسول الله.

فقال: إجلس.

ثم نادى الثالثة، فقال:

ولـقـد بـحـحــت مـن الـنــداء (... إلى آخر الأبيات)

قال: فقام علي (عليه‌السلام )، فقال: يا رسول الله، أنا له.

فقال: إنه عمرو.

فقال: وإن كان عمرواً.

فأذن له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فمشى إليه حتى أتاه وهو يقول:

لا تـعـجـلن فـقـد أتــاك

مجـيــب صـوتـك غير عـاجز

ذو نـيـــة وبـصــيـــرة

والـصـدق مـنـجــا كـل فـائز

عـلـيــك نـائـحـة الجـنـائز

عـلـيــك نـائـحـة الجـنـائز

مـن ضـربـة نـجـلاء يـبقى

ذكــرهــا عـنــد الهــزاهـز

وفي الديوان المنسوب لعلي (عليه‌السلام ) بيتان آخران هما:

ولـقــد دعــوت إلى الـبـراز

فـتـى يجـيـب إلــى المـبـارز

يـعـلـيـك أبـيـض صـارماً

كـالمـلـح حـتـفـاً لـلـمبارز

فقال له عمرو: من أنت؟!

٤٠

شرائطها التي منها الاعتماد على الحسّ دون الحدس. وهو شرط اتّفق عليه العلماء ، ومن المعلوم عدم تحقّق هذا الشَّرط ، لعدم تعاصر المعدِّل ( بالكسر ) والمعدَّل ( بالفتح ) غالباً.

والجواب أنَّه يشترط في الشهادة ، أن يكون المشهود به أمراً حسّياً أو تكون مبادئه قريبة من الحسّ وإن لم يكن بنفسه حسّياً ، وذلك مثل العدالة والشّجاعة فإنَّهما من الأُمور غير الحسيّة ، لكن مبادئها حسّية من قبيل الالتزام بالفرائض والنوافل ، والاجتناب عن اقتراف الكبائر في العدالة ، وقرع الأبطال في ميادين الحرب ، والاقدام على الأُمور الخطيرة بلا تريُّث واكتراث في الشجاعة.

وعلى ذلك فكما يمكن إحراز عدالة المعاصر بالمعاشرة ، اوبقيام القرائن والشَّواهد على عدالته ، أو شهرته وشياعه بين الناس ، على نحو يفيد الاطمئنان ، فكذلك يمكن إحراز عدالة الراوي غير المعاصر من الاشتهار والشياع والأمارات والقرائن المنقولة متواترة عصراً بعد عصر ، المفيدة للقطع واليقين أو الاطمئنان.

ولا شكَّ أنَّ الكشّي والنجاشي والشيخ ، بما أنَّهم كانوا يمارسون المحدِّثين والعلماء ـ بطبع الحال ـ كانوا واقفين على أحوال الرواة وخصوصيّاتهم ومكانتهم من حيث الوثاقة والضبط ، فلأجل تلك القرائن الواصلة اليهم من مشايخهم وأكابر عصرهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، شهدوا بوثاقة هؤلاء.

وهناك جواب آخر ؛ وهو أنَّ من المحتمل قويّاً أن تكون شهاداتهم في حق الرواة ، مستندة إلى السَّماع من شيوخهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، وكانت الطّبقة النهائيَّة معاشرة لهم ومخالطة إيّاهم.

وعلى ذلك ، لم يكن التَّعديل أو الجرح أمراً ارتجاليّاً ، بل كان مستنداً ، إمّا إلى القرائن المتواترة والشواهد القطعية المفيدة للعلم بعدالة الراوي أو

٤١

ضعفه ، أو إلى السَّماع من شيخ إلى شيخ آخر.

وهناك وجه ثالث ؛ وهو رجوعهم إلى الكتب المؤلفة في العصور المتقدّمة عليهم ، التي كان أصحابها معاصرين للرواة ومعاشرين لهم ، فإنَّ قسماً مهمّاً من مضامين الأصول الخمسة الرجاليّة ، وليدة تلك الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة.

فتبيَّن أنَّ الأعلام المتقدّمين كانوا يعتمدون في تصريحاتهم بوثاقة الرَّجل ، على الحسّ دون الحدس وذلك بوجوه ثلاثة :

1 ـ الرجوع إلى الكتب التي كانت بأيديهم من علم الرجال التي ثبتت نسبتها إلى مؤلّفيها بالطّرق الصحيحة.

2 ـ السَّماع من كابر عن كابر ومن ثقة عن ثقة.

3 ـ الاعتماد على الاستفاضة والاشتهار بين الأصحاب وهذا من أحسن الطّرق وأمتنها ، نظير علمنا بعدالة صاحب الحدائق وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري وغيرهم من المشايخ عن طريق الاستفاضة والاشتهار في كل جيل وعصر ، إلى أن يصل إلى زمان حياتهم وحينئذ نذعن بوثاقتهم وإن لم تصل الينا بسند خاصّ.

ويدلّ على ذلك ( أي استنادهم إلى الحسّ في التوثيق ) مانقلناه سالفاً عن الشيخ ، من أنّا وجدنا الطائفة ميَّزت الرجال الناقلة ، فوثّقت الثّقات وضعَّفت الضعفاء ، وفرَّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يعتمد على خبره ـ إلى آخر ما ذكره.(1)

ولاجل أن يقف القارئ على أنَّ أكثر ما في الأُصول الخمسة الرجالية ـ لا جميعها ـ مستندة إلى شهادة من قبلهم من الاثبات في كتبهم في حق الرواة ،

__________________

1 ـ لاحظ عدة الأُصول : 1 / 366.

٤٢

نذكر في المقام أسامي ثلّة من القدماء ، قد ألَّفوا في هذا المضمار ، ليقف القارئ على نماذج من الكتب الرجاليَّة المؤلَّفة قبل الأُصول الخمسة أو معها ولنكتف بالقليل عن الكثير.

1 ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر محمَّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ( المتوفّى 381 هـ ) ، ترجمه النجاشي ( الرقم 1049 ) وعدَّ من تصانيفه كتاب « المصابيح » في من روى عن النبي والأئمةعليهم‌السلام وله ايضاكتاب « المشيخة » ذكر فيه مشايخه في الرجال وهم يزيدون عن مائتي شيخ ، طبع في آخر « من لايحضره الفقيه »(1) .

2 ـ الشيخ أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد البزاز المعروف بـ « ابن عبدون » ( بضم العين المهملة وسكون الباء الموحدة ) ، كما في رجال النجاشي ( الرقم 211 ) وبـ « ابن الحاشر » كما في رجال الشيخ(2) ، والمتوفّى سنة 423 هـ وهو من مشايخ الشيخ الطوسي والنجاشي وله كتاب « الفهرس ». أشار إليه الشيخ الطوسي في الفهرس في ترجمة إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي(3) .

3 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بـ « ابن عقدة » ( بضم العين المهملة وسكون القاف ، المولود سنة 249 هـ والمتوفّى سنة 333 هـ ) له كتاب « الرجال » وهو كتاب جمع فيه أسامي من روى عن جعفر بن محمدعليهما‌السلام وله كتاب آخر في هذا المضمار جمع فيه أسماء الرواة عمن تقدم على الإمام الصّادق من الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام .(4)

__________________

1 ـ ترجمة الشيخ في الرجال ، في الصفحة 495 ، الرقم 25 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 156 ، تحت الرقم 695 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 184 ، تحت الرقم 709.

2 ـ رجال الشيخ : 450 ، ترجمه الشيخ بـ « أحمد بن حمدون ».

3 ـ الفهرس : 4 ـ 6 ، « الطبعة الأولى » ، تحت الرقم 7 و « الطبعة الثانية » : 27 ـ 29.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 44 ، الرقم 30 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » ص 28 ،

٤٣

4 ـ أحمد بن علي العلويّ العقيقيّ ( المتوفى عام 280 هـ ) له كتاب « تاريخ الرجال » وهو يروي عن أبيه ، عن إبراهيم بن هاشم القمي.(1)

5 ـ أحمد بن محمّد الجوهري البغدادي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 207 ) والشيخ الطوسي(2) وتوفّي سنة 401 هـ ، ومن تصانيفه « الاشتمال في معرفة الرجال ».

6 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمّد بن نوح ، ساكن البصرة له كتاب « الرجال الذين رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام »(3) .

7 ـ أحمد بن محمَّد القمي ( المتوفى سنة 350 هـ ) ترجمه النجاشي ( الرقم 223 ) ، له كتاب « الطبقات ».

8 ـ أحمد بن محمَّد الكوفي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 236 ) وعدَّ من كتبه كتاب « الممدوحين والمذمومين »(4) .

9 ـ الحسن بن محبوب السرّاد ( بفتح السين المهملة وتشديد الراء ) أو الزرّاد ( المولود عام 149 هـ ، والمتوفّى عام 224 هـ ) روى عن ستّين رجلاً من

__________________

تحت الرقم 76 ، وفي « الطبعة الثانية » ص 52 ، تحت الرقم 86 ، وذكر في رجال النجاشي تحت الرقم 233.

1 ـ ترجمه النجاشي في رجاله ، تحت الرقم 196 ، والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 24 ، تحت الرقم 63 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 48 ، تحت الرقم 73 ، وفي الرجال في الصفحة 453 ، الرقم 90.

2 ـ رجال الشيخ : 449 ، الرقم 64 ، والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 33 ، تحت الرقم 89 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 57 ، تحت الرقم 99.

3 ـ ترجمه الشيخ في رجاله : 456 ، الرقم 108 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 37 ، تحت الرقم 107 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 61 ، تحت الرقم 117.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 454 ، وقال في الفهرس « الطبعة الأولى » بعد ترجمته في الصفحة 29 ، تحت الرقم 78 : « توفي سنة 346 هـ » ويكون في « الطبعة الثانية » من الفهرس في الصفحة 53 ، تحت الرقم 88.

٤٤

اصحاب الصادقعليه‌السلام وله كتاب « المشيخة » وكتاب « معرفة رواة الأخبار »(1) .

10 ـ الفضل بن شاذان ، الّذي يُعدُّ من أئمّة علم الرجال وقد توفّي بعد سنة 254 هـ ، وقيل 260 هـ ، وكان من أصحاب الرضا والجواد والهاديعليهم‌السلام وتوفّي في أيام العسكريعليه‌السلام (2) ينقل عنه العلاّمة في الخلاصة في القسم الّثاني في ترجمة « محمد بن سنان » ـ بعد قوله : والوجه عندي التوقّف فيما يرويه ـ « فإنَّ الفضل بن شاذان ـ رحمهما الله ـ قال في بعض كتبه : إنَّ من الكذّابين المشهورين ابن سنان »(3) .

إلى غير ذلك من التآليف للقدماء في علم الرِّجال وقد جمع أسماءها وما يرجع اليها من الخصوصيّات ، المتتبع الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتاب أسماه « مصفى المقال في مصنّفي علم الرجال »(4) .

والحاصل ، أنّ التتبّع في أحوال العلماء المتقدّمين ، يشرف الإنسان على الاذعان واليقين بأنَّ التوثيقات والتضعيفات الواردة في كتب الأعلام الخمسة وغيرها ، يستند إمّا إلى الوجدان في الكتاب الثّابتة نسبته إلى مؤلّفه ، أو إلى النّقل والسّماع ، أو إلى الاستفاضة والاشتهار ، أو إلى طريق يقرب منها.

__________________

1 ـ راجع رجال الشيخ الطوسي : 347 ، الرقم 9 والصفحة 372 ، الرقم 11 والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 46 ، تحت الرقم 151 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 72 ، تحت الرقم 162.

2 ـ ذكره النجاشي في رجاله تحت الرقم 840 والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 124 ، تحت الرقم 552 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 150 ، تحت الرقم 564 ، وفي الرجال في الصفحة 420 ، الرقم 1 ، والصفحة 434 ، الرقم 2.

3 ـ الخلاصة : 251 ، طبع النجف.

4 ـ طبع الكتاب عام 1378.

٤٥

السابع : التوثيق الإجمالي

إنَّ الغاية المُتوخّاة من علم الرجال ، هو تمييز الثِّقة عن غيره ، فلو كانت هذه هي الغاية منه ، فقد قام مؤلّف الكتب الأربعة بهذا العمل ، فوثَّقوا رجال أحاديثهم واسناد رواياتهم على وجه الاجمال دون التَّفصيل ، فلو كان التَّوثيق التفصيلي من نظراء النَّجاشي والشَّيخ وأضرابهما حجَّة ، فالتَّوثيق الاجمالي من الكليني والصَّدوق والشيخ أيضاً حجَّة ، فهؤلاء الأقطاب الثَّلاثة ، صحَّحوا رجال أحاديث كتبهم وصرَّحوا في ديباجتها بصحّة رواياتها.

يقول المحقّق الكاشاني في المقدّمة الثانية من مقدّمات كتابه « الوافي » في هذا الصَّدد ، ما هذا خلاصته(1) : « إنَّ أرباب الكتب الأربعة قد شهدوا على صحَّة الروايات الواردة فيها. قال الكليني في أوَّل كتابه في جواب من التمس منه التَّصنيف : « وقلت : إنَّك تحبُّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه مَنْ يُريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنّة نبيّه إلى أن قالقدس‌سره : وقد يسَّر الله له الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخَّيت ». وقال الصَّدوق في ديباجة « الفقيه » : « إنّي لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحّته ، وأعتقد فيه أنَّه حجَّة فيما بيني وبين ربي ـ تقدَّس ذكره ـ ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المُعوَّل وإليها المرجع ». وذكر الشيخ في « العدّة » أنَّ جميع ما أورده في كتابيه ( التهذيب والاستبصار ) ، إنَّما أخذه من الأُصول المعتمد عليها.

والجواب : أنَّ هذه التَّصريحات أجنبيَّة عمّا نحن بصدده ، أعني وثاقة

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ، المقدمة الثانية.

٤٦

رواة الكتب الأربعة.

أَمّا أوّلاً : فلأن المشايخ شهدوا بصحَّة روايات كتبهم ، لا بوثاقة رجال رواياتهم ، وبين الأمرين بون بعيد ، وتصحيح الروايات كما يمكن أن يكون مستنداً إلى إحراز وثاقة رواتها ، يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المنفصلة التي صرّح بها المحقّق البهائي في « مشرق الشمسين » والفيض الكاشاني في « الوافي » ومع هذا كيف يمكن القول بأنَّ المشايخ شهدوا بوثاقة رواة أحاديث كتبهم؟ والظّاهر كما هو صريح كلام العَلَمين ، أنَّهم استندوا في التَّصحيح على القرائن لا على وثاقة الرواة ، ويدلّ على ذلك ما ذكره الفيض حول هذه الكلمات ، قالقدس‌سره بعد بيان اصطلاح المتأخّرين في تنويع الحديث المعتبر : « وسلك هذا المسلك العلاّمة الحلّيرحمه‌الله وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ـ قدس الله أرواحهم ـ كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلِّ حديث اعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به ، والركون إليه (1) كوجوده في كثير من الأُصول الأربعمائة المشهورة المتداولة بينهم التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمةعليهم‌السلام (2) وكتكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة ـ وأسانيد عديدة معتبرة (3) وكوجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الّذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمَّد بن مسلم والفضيل بن يسار (4) ، أو على تصحيح مايصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ، ويونس بن عبد الرّحمن ، وأحمد بن محمَّد بن أبي نصر البزنطي (5) ، أو العمل بروايتهم ، كعمار الساباطي ونظرائه (6) وكاندراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام فأثنوا على مؤلّفيها ، ككتاب عبيد الله الحلبي الّذي عرض على الصّادقعليه‌السلام وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكريعليه‌السلام (7) وكأخذه من أحد الكتب التي شاع

٤٧

بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الإماميّة ، ككتاب الصَّلاة لحريز بن عبد الله السجستاني وكتب ابني سعيد ، وعليّ بن مهزيار ، أو من غير الإماميّة ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، والحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري إلى أن قال : فحكموا بصحَّة حديث بعض الرواة من غير الإماميّة كعليّ بن محمد بن رياح وغيره لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم ، وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الَّذين انعقد الاجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم إلى أن قال : فإن كانوا لا يعتمدون على شهادتهم بصحَّة كتبهم فلا يعتمدوا على شهادتهم وشهادة أمثالهم من الجرح والتعديل إلى أن قال : نعم ، إذا تعارض الخبران المعتمد عليهما على طريقة القدماء فاحتجنا إلى الترَّجيح بينهما ، فعلينا أن نرجع إلى حال رواتهما في الجرح والتعَّديل المنقولين عن المشايخ فيهم ونبني الحكم على ذلك كما اُشير إليه في الأخبار الواردة في التراجيح بقولهمعليهم‌السلام « فالحكم ما حكم به أعدلهما وأورعهما واصدقهما في الحديث » وهو أحد وجوه التّراجيح المنصوص عليها ، وهذا هو عمدة الأسباب الباعثة لنا على ذكر الأسانيد في هذا الكتاب »(1) .

وثانياً : سلَّمنا أنَّ منشأ حكمهم بصحَّتها هو الحكم بوثاقة رواتها ، لكن من أين نعلم أنَّهم استندوا في توثيقهم إلى الحسِّ ، إذ من البعيد أن يستندوا في توثيق هذا العدد الهائل من الرواة الواردة في هذه الكتب إلى الحسّ ، بل من المحتمل قويّاً ، أنَّهم استندوا إلى القرائن التي يستنبط وثاقتهم منها ، ومثله يكون حجَّة للمستنبط ولمن يكون مثله في حصول القرائن.

وثالثاً : نفترض كونهم مستندين في توثيق الرُّواة إلى الحسِّ ، ولكنَّ الأخذ بقولهم إنَّما يصحّ لو لم تظهر كثرة أخطائهم ، فإنَّ كثرتها تسقط قول

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ـ 12 ، المقدمة الثانية.

٤٨

المخبر عن الحجّية في الإخبار عن حسٍّ أيضاً ، فكيف في الاخبار عن حدس. مثلاً إنَّ كثيراً من رواة الكافي ضعّفهم النجاشي والشيخ ، فمع هذه المعارضة الكثيرة يسقط قوله عن الحجّية. نعم ، إن كانت قليلة لكان لاعتبار قوله وجه. وإنَّ الشيخ قد ضعَّف كثيراً من رجال « التهذيب والاستبصار » في رجاله وفهرسه ، فكيف يمكن أن يعتمد على ذلك التَّصحيح.

فظهر أنَّه لا مناص عن القول بالحاجة إلى علم الرجال وملاحظة أسناد الروايات ، وأنَّ مثل هذه الشهادات لا تقوم مكان توثيق رواة تلك الكتب.

الثامن : شهادة المشايخ الثلاثة

إذا شهد المشايخ الثلاثة على صحَّة روايات كتبهم ، وأنَّها صادرة عن الأئمّة بالقرائن التي أشار إليه المحقّق الفيض ، فهل يمكن الاعتماد في هذا المورد على خبر العدل أو لا؟

الجواب : أنَّ خبر العدل وشهادته إنَّما يكون حجَّة إذا أخبر عن الشَّيء عن حسٍّ لا عن حدس ، والاخبار عنه بالحدس لا يكون حجَّة إلا على نفس المخبر ، ولا يعدو غيره إلا في موارد نادرة ، كالمفتي بالنّسبة إلى المستفتي. وإخبار هؤلاء عن الصُّدور إخبار عن حدس لا عن حسٍّ.

توضيح ذلك ؛ أنَّ احتمال الخلاف والوهم في كلام العادل ينشأ من أحد أمرين :

الأوّل : التعمُّد في الكذب وهو مرتفع بعدالته.

الثاني : احتمال الخطأ والاشتباه وهو مرتفع بالأصل العقلائي المسلَّم بينهم من أصالة عدم الخطأ والاشتباه ، لكن ذاك الأصل عند العقلاء مختصٌّ بما إذا أخبر بالشيء عن حسٍّ ، كما إذا أبصر وسمع ، لا ما إذا أخبر عنه عن حدس ، واحتمال الخطأ في الإبصار والسَّمع مرتفع بالأصل المسلَّم بين العقلاء ، وأمّا احتمال الخطأ في الحدس والانتقال من المقدّمة إلى النتيجة ،

٤٩

فليس هنا أصل يرفعه ، ولأجل ذلك لا يكون قول المحدس حجَّة الا لنفسه.

والمقام من هذا القبيل ، فإنَّ المشايخ لم يروا بأعينهم ولم يسمعوا بآذانهم صدور روايات كتبهم ، وتنطّق أئمّتهم بها ، وإنَّما انتقلوا إليه عن قرائن وشواهد جرَّتهم إلى الاطمئنان بالصّدور ، وهو إخبار عن الشيء بالحدس ، ولا يجري في مثله أصالة عدم الخطأ ولايكون حجَّة في حق الغير.

وإن شئت قلت : ليس الانتقال من تلك القرائن إلى صحَّة الروايات وصدورها أمراً يشترك فيه الجميع أو الأغلب من النّاس ، بل هو أمر تختلف فيه الأنظار بكثير ، فرُبَّ إنسان تورثه تلك القرائن اطمئناناً في مقابل إنسان آخر ، لا تفيده إلا الظنَّ الضعيف بالصحَّة والصدور ، فإذن كيف يمكن حصول الاطمئنان لأغلب النّاس بصدور جميع روايات الكتب الأربعة التي يناهز عددها ثلاثين ألف حديث ، وليس الإخبار عن صحَّتها كالاخبار عن عدالة إنسان أو شجاعته ، فإنَّ لهما مبادئ خاصَّة معلومة ، يشترك في الانتقال عنها إلى ذينك الوصفين أغلب الناس أو جميعهم ، فيكون قول المخبر عنهما حجَّة وإن كان الإخبار عن حدس ، لأنَّه ينتهي إلى مبادئ محسوسة ، وهي ملموسة لكلّ من أراد أن يتفحَّص عن أحوال الإنسان. ولا يلحق به الإخبار عن صحِّة تلك الروايات ، مستنداً إلى تلك القرائن التي يختلف الناس في الانتقال عنها إلى الصحَّة إلى حدٍّ ربَّما لا تفيد لبعض الناس إلا الظّنَّ الضَّعيف. وليس كلُّ القرائن من قبيل وجود الحديث في كتاب عرض على الإمام ونظيره ، حتّى يقال إنَّها من القرائن الحسيّة ، بل أكثرها قرائن حدسية.

فان قلت : فلو كان إخبارهم عن صحَّة كتبهم حجَّة لأنفسهم دون غيرهم ، فما هو الوجه في ذكر هذه الشهادات في ديباجتها؟

قلت : إنَّ الفائدة لا تنحصر في العمل بها ، بل يكفي فيها كون هذا الإخبار باعثاً وحافزاً إلى تحريك الغير لتحصيل القرائن والشواهد ، لعلَّه يقف

٥٠

أيضاً على مثل ما وقف عليه المؤلِّف وهو جزء علَّة لتحصيل الرُّكون لا تمامها.

ويشهد بذلك أنَّهم مع ذاك التَّصديق ، نقلوا الروايات بإسنادها حتّى يتدبَّر الآخرون في ما ينقلونه ويعملوا بما صحَّ لديهم ، ولو كانت شهادتهم على الصحَّة حجَّة على الكلّ ، لما كان وجه لتحمّل ذاك العبء الثقيل ، أعني نقل الروايات بإسنادها. كلّ ذلك يعرب عن أنَّ المرمى الوحيد في نقل تلك التصحيحات ، هو إقناع أنفسهم وإلفات الغير إليها حتّى يقوم بنفس ما قام به المؤلّفون ولعلَّه يحصِّل ما حصَّلوه.

٥١
٥٢

الفصل الثالث

المصادر الاولية لعلم الرجال

1 ـ الاصول الرجالية الثمانية.

2 ـ رجال ابن الغضائري.

٥٣
٥٤

الاصول الرجالية الثمانية

* رجال الكشي.

* فهرس النجاشي.

* رجال الشيخ وفهرسه.

* رجال البرقي.

* رسالة أبي غالب الزراري.

* مشيخة الصدوق.

* مشيخة الشيخ الطوسي.

٥٥
٥٦

اهتم علماء الشيعة من عصر التابعين الى يومنا هذا بعلم الرجال ، فألفوا معاجم تتكفل لبيان أحوال الرواة وبيان وثاقتهم أو ضعفهم ، وأول تأليف ظهر لهم في أوائل النصف الثاني من القرن الاول هو كتاب « عبيد الله بن أبي رافع » كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث دون أسماء الصحابة الذين شايعوا علياً وحضروا حروبه وقاتلوا معه في البصرة وصفين والنهروان ، وهو مع ذلك كتاب تاريخ ووقائع.

وألف عبدالله بن جبلة الكناني ( المتوفى عام 219 هـ ) وابن فضّال وابن محبوب وغيرهم في القرن الثاني الى أوائل القرن الثالث ، كتباً في هذا المضمار ، واستمر تدوين الرجال الى أواخر القرن الرابع.

ومن المأسوف عليه ، أنه لم تصل هذه الكتب الينا ، وانما الموجود عندنا ـ وهو الذي يعد اليوم اصول الكتب الرجالية(1) ـ ما دوّن في القرنين الرابع والخامس ، واليك بيان تلك الكتب والاصول التي عليها مدار علم الرجال ، واليك اسماؤها وأسماء مؤلفيها وبيان خصوصيات مؤلفاتهم.

__________________

1 ـ المعروف أن الاصول الرجالية اربعة أو خمسة بزيادة رجال البرقي ، لكن عدها ثمانية بلحاظ أن الجميع من تراث القدماء ، وان كان بينها تفاوت في الوزن والقيمة ، فلاحظ.

٥٧

1 ـ رجال الكشّي

هو تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بالكشّي ، والكشّ ـ بالفتح والتشديد ـ بلد معروف على مراحل من سمرقند ، خرج منه كثير من مشايخنا وعلمائنا ، غير أن النجاشي ضبطه بضم الكاف ، ولكن الفاضل المهندس البرجندي ضبطه في كتابه المعروف « مساحة الارض والبلدان والاقاليم » بفتح الكاف وتشديد الشين ، وقال : « بلد من بلاد ما وراء النهر وهو ثلاثة فراسخ في ثلاثة فراسخ ».

وعلى كل تقدير ; فالكشي من عيون الثقات والعلماء والاثبات. قال النجاشي : « محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي أبو عمرو ، كان ثقة عيناً وروى عن الضعفاء كثيراً ، وصحب العياشي وأخذ عنه وتخرج عليه وفي داره التي كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم. له كتاب الرجال ، كثير العلم وفيه أغلاط كثيرة »(1) .

وقال الشيخ في الفهرست : « ثقة بصير بالاخبار والرجال ، حسن الاعتقاد ، له كتاب الرجال »(2) .

وقال في رجاله : « ثقة بصير بالرجال والأخبار ، مستقيم المذهب »(3) .

وأما اُستاذه العيّاشي أبو النَّضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي المعروف بالعيّاشي ، فهو ثقة صدوق عين من عيون هذه الطائفة قال لنا أبو جعفر الزاهد : أنفق أبو النَّضر على العلم والحديث تركة أبيه وسائرها وكانت ثلاثمائة ألف دينار وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو

__________________

1 ـ رجال النجاشي : الرقم 1018.

2 ـ فهرس الشيخ « الطبعة الاولى » الصفحة 141 ، الرقم 604 ، و : « الطبعة الثانية » ، الصفحة 167 الرقم 615.

3 ـ رجال الشيخ : 497.

٥٨

مقابل أو قارئ أو معلِّق ، مملوءة من الناس(1) وله كتب تتجاوز على مائتين.

قد أسمى الكشّي كتابه الرجال بـ « معرفة الرجال » كما يظهر من الشّيخ في ترجمة أحمد بن داود بن سعيد الفزاري(2) .

وربَّما يقال بأنه أسماه بـ « معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين » أو « معرفة الناقلين » فقط ، وقد كان هذا الكتاب موجوداً عند السيد ابن طاووس ، لأنه تصدّى بترتيب هذا الكتاب وتبويبه وضمِّه الى كتب أُخرى من الكتب الرجاليَّة وأسماه بـ « حلّ الاشكال في معرفة الرجال » وكان موجوداً عند الشهيد الثاني ، ولكن الموجود من كتاب الكشّي في هذه الاعصار ، هو الذي اختصره الشيخ مسقطاً منه الزوائد ، واسماه بـ « اختيار الرجال » ، وقد عدَّه الشيخ من جملة كتبه ، وعلى كل تقدير فهذا الكتاب طبع في الهند وغيره ، وطبع في النجف الاشرف وقد فهرس الناشر أسماء الرواة على ترتيب حروف المعجم. وقام اخيراً المتتبع المحقق الشيخ حسن المصطفوي بتحقيقه تحقيقاً رائعاً وفهرس له فهارس قيّمة ـ شكر الله مساعيه ـ.

كيفية تهذيب رجال الكشي

قال القهبائي : « إن الاصل كان في رجال العامة والخاصة فاختار منه الشيخ ، الخاصة »(3) .

والّظاهر عدم تماميّته ، لأنه ذكر فيه جمعاً من العامة رووا عن ائمّتنا

__________________

1 ـ راجع رجال النجاشي : الرقم 944.

2 ـ ذكره في « ترتيب رجال الكشي » الذي رتب فيه « اختيار معرفة الرجال » للشيخ على حروف التهجي ، والكتاب غير مطبوع بعد ، والنسخة الموجودة بخط المؤلف عند المحقق التستري دام ظله.

3 ـ راجع فهرس الشيخ : « الطبعة الاولى » الصفحة 34 ، الرقم 90 ، و : « الطبعة الثانية » الصفحة 58 ، الرقم 100.

٥٩

كمحمد بن اسحاق ، ومحمد بن المنكدر ، وعمرو بن خالد ، وعمرو بن جميع ، وعمرو بن قيس ، وحفص بن غياث ، والحسين بن علوان ، وعبد الملك بن جريج ، وقيس بن الربيع ، ومسعدة بن صدقة ، وعباد بن صهيب ، وأبي المقدام ، وكثير النوا ، ويوسف بن الحرث ، وعبد الله البرقي(1) .

والظاهر أن تنقيحه كان بصورة تجريده عن الهفوات والاشتباهات التي يظهر من النجاشي وجودها فيه.

ان الخصوصية التي تميز هذا الكتاب عن سائر ما ألف في هذا المضمار عبارة عن التركيز على نقل الروايات المربوطة بالرواة التي يقدر القارئ بالامعان فيها على تمييز الثقة عن الضعيف وقد ألفه على نهج الطبقات مبتدءاً بأصحاب الرسول والوصي الى أن يصل الى أصحاب الهادي والعسكريعليهما‌السلام ثم الى الذين يلونهم وهو بين الشيعة كطبقات ابن سعد بين السنة.

2 ـ رجال النجاشي

هو تأليف الثبت البصير الشيخ أبي العباس(2) أحمد بن علي بن أحمد بن العباس ، الشهير بالنجاسي ، وقد ترجم نفسه في نفس الكتاب وقال : « أحمد بن علي بن أحمد بن العباس بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن النجاشي ، الذي ولي الاهواز وكتب الى أبي عبد اللهعليه‌السلام يسأله وكتب اليه رسالة عبد الله بن النجاشي المعروفة(3) ولم ير لأبي عبداللهعليه‌السلام مصنَّف غيره.

__________________

1 ـ قاموس الرجال : 1 / 17.

2 ـ يكنى بـ « أبي العباس » تارة وبـ « أبي الحسين » اخرى.

3 ـ هذه الرسالة مروية في كشف الريبة ونقلها في الوسائل في كتاب التجارة ، لاحظ : الجزء 12 ، الباب 49 من أبواب ما يكتسب به.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342