• البداية
  • السابق
  • 329 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18505 / تحميل: 4707
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء 6

مؤلف:
العربية

1 ـ اشتراك خيبر واليمن في أن ظهور الإسلام فيهما فيه إسقاط لهيمنة اليهود على المنطقتين، وكسر لشوكتهم، وإذلال لهم.

2 ـ إن هذه الحادثة تمهد لإظهار مدى طاعة علي (عليه‌السلام )، وإلتزامه بحرفية الأوامر النبوية، وعلى الناس أن يوازنوا بينه وبين غيره ممن يحاولون مناوأته، ويعرضون صدورهم لأمور لا يقدرون عليها، أوليسوا أهلاً لها، مع أنهم يتصرفون من خلال أهوائهم وطموحاتهم الدنيوية.

3 ـ إن هذا التوجيه النبوي الكريم يعطي درساً في أنه يجب الكف عن التوسع الإجتهادي في امتثال الأوامر الصادرة عن القيادة، ولا سيما إذا كانت قيادة معصومة، مسددة بالوحي الإلهي..

4 ـ هو يشير إلى أن من يكلفه النبي، والإمام والقائد المنصوب من أحدهما بمهمة جهادية، فعليه أن يكون كل همه تنفيذ الأمر الصادر إليه، وإنجاز المهمة، وأن يقطع تعلقاته بكل ما يمكن أن يصرفه عن مهمته هذه مهما كان..

لا تقاتلهم حتى يقاتلوك:

وكان علي (عليه‌السلام ) يعرف ما كان يجب عليه فعله.. ولكنه أراد أن يسمع الناس كيف أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يحتم على الناس أن لا يقاتلوا أحداً حتى يقاتلوهم.. لأن المهمة منحصرة في الدعوة إلى الله، وإصلاح أمر الناس، وسلوك طريق الرشاد والسداد.

فما ذكرته بعض الروايات المتقدمة، من أنه (عليه‌السلام ) لما وصل إلى أدنى ما يريد من مذحج فرق أصحابه، فأتوه بنهب وسبايا، قبل أن يلقى

١٦١

لهم جمعاً، فلما لقيهم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، لا يتنافى مع ما ذكرناه. لأن الأصحاب هم الذين أتوا بالنهب والسبايا، ولعله بمبادرة منهم، ولكنه (عليه‌السلام ) لم يتصرف بما جاؤوا به، بل جمعه في مكان، ووكل به من يحفظه حتى يدعو أهل الحي، فإن قبلوا الدعوة رد المال والسبي إليهم، وإن أبوا كانوا من المحاربين.. فيجري عليهم أحكام أهل الحرب.. فيكون ما فعله (عليه‌السلام ) منسجماً مع وصية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) له بأن لا يقاتلهم حتى يقاتلوه؟! فهو لم يقاتلهم، ولا دليل على أنه رضي من أصحابه ما فعلوه، بل ظاهر فعله أنه لم يرض به. ولعل الرواية مختصرة، أو أن ما فعله خالد نسب لعلي (عليه‌السلام ).

وكثرة أفراد السرية لم يكن لأجل أن مهمتهم كانت قتالية، بل لأجل صيانة حرية الدعاة، وحفظهم من أي سوء قد يتعرضون له من أهل العدوان أو الطغيان..

التدرج في الدعوة:

ويلاحظ: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أراد أن تكون الدعوة تدريجية وعلى مراحل.. وأن المطلوب انحصر بأمور ثلاثة، ومنع من طلب الزائد عليها:

أولها: أن يشهدوا الشهادتين.. فإذا فعلوا لم يجز التعرض لهم بشيء، بل هو قد منع من التدقيق في أي شيء آخر، وبعد أن يتحقق ذلك، ينتقل إلى الطلب.

الثاني: وهو أن يصلُّوا.. فإن فعلوا ذلك، انتقل إلى الطلب.

الثالث: وهو أن يزكوا.

١٦٢

ثم قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): ولا تبغ منهم غير ذلك..

ومعنى ذلك: أن على من يشارك في تلك السرايا أن يعرف حده فيقف عنده، فلا يسعى للإبتزاز، أو للحصول على الغنائم بإسم الدين، أو باسم الدعوة..

كما أن على الذين يطلب منهم الدخول في هذا الدين أن لا يتوهموا: أن هذه الدعوة تخفي وراءها الطمع بأموالهم، أو بنسائهم، أو بالهيمنة عليهم.

لمن يعود نفع هذه المطالب؟!:

وإذا فكروا فيما يطلب منهم، فسيجدون أن الشهادتين من أعمال القلب، التي ليس فيها مكسب مادي أو معنوي لغير من يشهدهما..

وأن الصلاة هي صلة بين الإنسان وربه.

وأن الزكاة نفع يعود على الفقراء والمساكين الذين هم منهم، ويعيشون معهم، ولا يتحرج أحد في برهم، وسد حاجاتهم.. ولا يجوز للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ولا لأحد من أهل بيته أن يستفيد منها بشيء، ولو بمقدار حبة.

دلالات إرجاع خالد:

وحول أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) علياً بأن يقفل خالداً إليه نقول:

إن هذا يضع علامة استفهام كبيرة حول خالد، وحول طبيعة أدائه، وسلامة تصرفاته، ويؤكد هذه الشبهة حوله أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يلزم أحداً ممن كان معه بالرجوع أو بالمضي.

فهل الهدف من ذلك هو الإشارة إلى أنهم لا مسؤولية لهم عما جرى،

١٦٣

وأن المسؤولية منحصرة بشخص خالد..

أو أن الهدف هو تحقيق فرز طبيعي وطوعي لمن كان منسجماً مع مسلكية خالد، عمن لم يكن كذلك، بل كان لا يوافقه الرأي، ولا يرضى مسلكيته، ويكون هذا الفريق الأخير هو الذي يلتحق بعلي (عليه‌السلام ).

غير أن النصوص المتوفرة لا تحدد لنا طبيعة الخلل الذي ظهر من خالد، ولم تشر إلى من أيده فيه.. ونحن لا نستغرب شحة النصوص في ذلك، ما دام أن الأمر يرتبط برجل كان بمجرد وفاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) سيف السلطةالذي اشهرته في وجه معارضيها ممن رفض البيعة لأبي بكر..

كما أن هذا الأمر يرتبط أيضاً بعلي (عليه‌السلام ) الذي لم يزل محارباً على كل صعيد، وتمارس ضده مختلف أساليب القهر، والتزوير والتحامل.. وإلى يومنا هذا..

يقبلون من علي (عليه‌السلام )، لا من خالد:

وقد يقال: إن الإسلام الذي دعا إليه خالد أهل اليمن هو الإسلام الذي دعا إليه علي (عليه‌السلام )، فلماذا لم يقبلوا دعوة خالد، وقبلوا دعوة علي؟!.. مع أن خالداً بقي ستة أشهر يدعوهم.. وعلي (عليه‌السلام ) ذهب إليهم، وصلى بأصحابه، ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فأسلمت همدان كلها في ساعة واحدة!

وأجاب البعض: بأن الناس الذين لا يقبلون دعوة الدعاة إلى الإسلام، يواجهون التجريدات العسكرية، وبذلك تحمل القوة الحربية رسالة هؤلاء

١٦٤

الدعاة السلمية، وحين ذهب خالد إلى اليمن سنة عشر، ولم تثمر جهوده طيلة ستة أشهر، عززت قوة خالد بجيش يقوده علي، فأسلمت همدان في يوم واحد(1) .

ونقول:

هذا كلام باطل من عدة جهات.

فأولاً: إن خالداً أرسل إلى اليمن في سنة ثمان، بعد الفراغ من غزوة الفتح، وحنين، والطائف. وقد أرسله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، حين كان لا يزال بالجعرانة..

ثانياً: إن علياً (عليه‌السلام ) ذهب إلى خالد بعد ستة أشهر لكي يقفله، فأقفله ومن معه إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، لا ليعينه، وبعد أن ذهب إليهم، وصلى بأصحابه، وقرأ كتاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، أسلمت همدان في يوم واحد..

ثالثاً: إن قبائل اليمن لا تنحصر بهمدان، فكانت همدان هي البادئة بالإسلام ثم تبعها غيرها، أي أن أهل اليمن لم يسلموا دفعة واحدة خوفاً من السيف، كما زعمه ذلك القائل.

رابعاً: إن هذا الرجل يريد أن يدعى أن هؤلاء أسلموا تحت وطأة التهديد والجبر والقهر.. وأن الإسلام كان يفرض على الناس بقوة

____________

1- نشأة الدولة الإسلامية (تأليف عون شريف قاسم) ص227 و 240.

١٦٥

السيف.. وهو كلام باطل جزماً، فقد قال تعالى:( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (1) .

وقال:( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (2) .

وقال:( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (3) .

والقتال في الإسلام كان دفاعياً، أو استباقاً لخطر يكون المشركون قد أعدوا واستعدوا له بالفعل، ويريدون الإنقضاض على المسلمين على حين غفلة منهم، ولم يكن في أي وقت هجومياً إبتدائياً..

والجواب الأقرب والأصوب هو التالي:

أولاً: إن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب(4) ، وقد أسلم خالد أو استسلم في سنة ثمان، أي قبل أشهر يسيرة من إرساله إلى اليمن، بعد أن بقي يحارب الله ورسوله أكثر من عشرين سنة، رغم ما يراه من معجزات وكرامات، وما يشاهده من محاسن الإسلام، التي كان يجسدها سلوك النبي والوصي صلى الله عليهما وعلى آلهما، والأخيار من الصحابة..

____________

1- الآية 256 من سورة البقرة.

2- الآية 99 من سورة يونس.

3- الآية 29 من سورة الكهف.

4- راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج20 ص287 وراجع: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج2 ص8 وشرح اللمعة للشهيد الثاني ج1 ص661 وإثنا عشر رسالة للمحقق الداماد ج8 ص1 و 3 و 20 و 28 والحديقة الهلالية للشيخ البهائي ص13.

١٦٦

ولم يدخل في الإسلام إلا بعد أن أيقن بسطوع نجمه، وظهوره على الدين كله.. وأفول نجم الشرك، وصيرورته إلى البوار والتلاشي والسقوط في حمأة الذل والخزي والعار..

فكان خالد ـ كما أظهرته سيرة حياته وممارساته قبل وبعد سفره إلى اليمن ـ لا يزال يعيش مفاهيم الجاهلية، وعصبياتها، وانحرافاتها، وتهيمن عليه أهواؤه وشهواته وغرائزه..

أما علي (عليه‌السلام ) فهو الرجل الإلهي الخالص، الذي وهب كل حياته ووجوده لله تعالى.. ورضاه عنده كان هو الأغلى والأسمى والأعلى.

فإذا دعا خالد إلى الإسلام، فإن دعوته لن تخرج من قلبه كي تدخل في قلوب الآخرين، ولن تكون أكثر من حركات يجريها، أو كلمات يؤديها، تنوء بثقل الشكليات ولا تتجاوز التراقي أو اللهوات..

ثانياً: لعل خالداً لم يستوف شرائط الدعوة، مع أولئك الناس، أي أنه لم يدع إلى سبيل الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، ولا جادلهم بالتي هي أحسن..

أو أن الناس لم يروا محاسن الإسلام في تصرفاته، ولا في أقواله وكلماته، فهو يترك ما يأمرهم به، ويرتكب ما ينهاهم عنه..

ولعله أساء إليهم، أو حاول أن يبتزهم في أموالهم، أو يتجاوز على أعراضهم.. أو أن يفرض عليهم الإسلام، والخضوع لأوامره ونواهيه، أي أنه قدم لهم دعوة لسانية مقرونة بكثير من الصوارف والمنفرات العملية..

وربما يدلنا على ذلك، ما ورد في النصوص المتقدمة من أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أمر علياً (عليه‌السلام ) بأن يقفل خالداً إليه، أما من كان مع

١٦٧

خالد فهم بالخيار بين القفول والبقاء..

أما علي (عليه‌السلام ) فإنه بمجرد وصوله إلى أولئك القوم أفهمهم بطريقة عفوية، وعملية أنه ملتزم بفروض الطاعة والعبودية لله تعالى من خلال إلتزامه بالإسلام، الذي يجعل من المتفرقين عشائرياً، ومناطقياً، وطبقاتياً، أو غير ذلك نموذجاً فذاً في مجتمعاتهم ـ سواء من الناحية الإقتصادية، أو العرقية، أو الثقافية، أو غير ذلك من خصوصيات جعلها الله تعالى من أسباب التكامل، والتعاون بين البشر، فجعلت منها الأهواء أسباباً للتفرق والتشتت والتمزق.

وأفهمهم أيضاً أن هذا الدين سبب للقوة، والتعاون، والتوحد في الله كأنهم بنيان مرصوص، لهم نهج واحد، وقائد واحد، وهدف واحد.

يرسل الخمس للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ):

لا شك في أن الخمس للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ولبني هاشم، ولكنه كان يرى أن في الناس حاجة، ولهم بالمال رغبة، فكان يعطيهم إياه رفقاً بهم، ومراعاةً لحالهم.

ولكنهم صاروا يستأثرون بهذا الخمس، فيعطيه قادة السرايا إلى خيلهم الخاص، ثم يخبرون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بما فعلوا، فلا يطالبهم به..

ولكن علياً (عليه‌السلام ) أبى أن يعطي الخمس لهؤلاء، رغم طلبهم ذلك، وحمله الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فلما رجعوا إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) شكوا علياً (عليه‌السلام )، فسأله فأخبره، فسكت (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. فنلاحظ هنا ما يلي:

١٦٨

1 ـ لم يكن من اللائق أن يستأثر أولئك القادة بالخمس بقرار من عند أنفسهم، ومن دون استئذان من صاحبه (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

2 ـ وأقبح من ذلك: أن يشتكوا علياً (عليه‌السلام ) إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، لأنه أراد أن يوصل الحق إلى صاحبه، وأن يلتزم بقواعد الدين، فلا يتصرف في مال الغير بدون إذن.

بل إن شكواهم هذه تفيد: أنهم أصبحوا يرون الخمس صار لهم، وها هم يطالبون صاحبه الشرعي بأن يصحح ما يرونه خطأ وقع فيه وكيله ونائبه..

3 ـ إنهم يريدون أن يستفيدوا من هذا المال الذي لا حق لهم به، في صلاتهم، وفي حجهم، وفي سائر شؤونهم، غير متحرجين من ذلك.

4 ـ إن علياً (عليه‌السلام ) قد وضع حداً لهذه التصرفات.. ولولاه (عليه‌السلام ) لصار ذلك سنة جارية، ولأصبح من العسير إعادة الحق إلى أهله..

5 ـ لو أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أراد أن يفعل ذلك لاتهموه بالإمساك والبخل والعياذ بالله..

6 ـ إنهم قد انتهزوا فرصة غياب علي (عليه‌السلام ) لمعاودة السعي لنقض قراره، ومحاولة الحصول على تلك الأموال التي لا حق لهم بها..

وكأنهم ظنوا أن غيبته (عليه‌السلام ) تزيل عنه صفة الأمين الذي لا بد أن يؤدي الأمانة إلى أهلها.

7 ـ إنه (عليه‌السلام ) رفض المبررات التي ساقها أبو رافع لتقسيمه

١٦٩

الحلل على أفراد السرية، والمبررات هي:

ألف: خاف من شكايتهم..

ب : ظن أن الأمر يسهل على علي (عليه‌السلام ).

ج: إن من كان قبل علي (عليه‌السلام ) كان يفعل ذلك..

وهي مبررات لا قيمة لها.

فأولاً: لا معنى للخوف من شكايتهم، إذا كان علي (عليه‌السلام ) منعهم أمراً لا يستحقونه.

ثانياً: إن علياً مؤتمن على مال الغير، فلا بد من تأدية ذلك المال إلى صاحبه، من دون تفريط، فكيف يسهل عليه إعطاؤه لغير صاحبه؟!

ثالثاً: إن فعل السابقين على علي (عليه‌السلام ) إذا كان خطأ لم يجز لعلي (عليه‌السلام ) ولا لغيره أن يتأسى بهم فيه..

التكريم والتعظيم:

وقد بادر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى تعميم علي (عليه‌السلام ) بيده بصورة لافتة، ميزت فعله عما هو مألوف ومعهود، وأخذ عمامته وجعلها مثنية مربعة في رأس الرمح.. وقد فعل ذلك بعد أن تتام أصحابه (عليه‌السلام )..

وهذا كله يعد من التكريم والتعظيم لعلي (عليه‌السلام )، الذي يشد أنظار الناس، ويثير لديهم مشاعر متمازجة بالإعجاب والرضا، ويفسح المجال لسياحات مرضية في آفاق البهاء والصفاء، والجمال والجلال، والمحبة والرضا.

١٧٠

هل كان ثمة غنائم؟!:

ملاحظة الروايات تعطي: أنها لا تخلو من شائبة ثم إن خلط فيما بينها..

ولعل الأقرب إلى الحقيقة هو السياق التالي:

أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أرسل خالداً إلى اليمن، ثم أرسل علياً بعده.. وبعد رجوعهما أرسل (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) علياً (عليه‌السلام ) في سرية، وخالداً في سرية أخرى، وقال لهما النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): إن التقيتما فعلي الأمير.

ثم فتحت بعض الحصون على يد أمير المؤمنين (عليه‌السلام )، وأخذ منها سبايا وغنائم، فحصل البراء من الغنائم على أواقي ذوات عدد..

ولا ندري إن كان خالد قد حصل على بعض السبايا من قتاله في مجال آخر أو لا. ولكن من الثابت أن علياً (عليه‌السلام ) اصطفى جارية من السبي وأخذها من الخمس.. فشكوه إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. إلى آخر ما جرى..

سرور النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بإسلام همدان:

لا شك في أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان أحرص الناس على إخراج الناس من الظلمات إلى النور.. مما يعني أنه أشد الناس سروراً بما يتحقق من ذلك.

ولكن الملاحظ هنا هو أن سروره (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بإسلام همدان كان غير عادي، إذا قورن بما أظهره من سرور في موارد أخرى قد يكون

١٧١

الذين أسلموا فيها أكثر عدداً، أو أن لهم موقعاً ـ كقريش ـ أشد حساسية، وأعظم أهمية مما عُرِف لقبيلة همدان في اليمن.

فهل تراه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان ينظر في ذلك إلى الغيب، وتكشف له الحجب عن موقف سوف تتخذه قبيلة همدان، يحبه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )؟!

إننا إذا راجعنا التاريخ، فلا نجد لهمدان موقفاً مميزاً سوى مناصرتها لعلي (عليه‌السلام )، حتى استحقت منه القول الشهير:

فلو كنت بواباً على باب جنةٍ لقلت لهمدان ادخلوا بسلام(1)

____________

1- مناقب آل أبي طالب ج1 ص394 وبحار الأنوار ج32 ص477 وج38 ص71 وأصدق الأخبار للسيد محسن الأمين ص9 والغدير ج11 ص222 ومستدرك سفينة البحار ج10 ص552 والإمام علي بن ابي طالب ( عليه‌السلام ) للهمداني ص770 ومكاتيب الرسول ج2 ص556 و 575 ومواقف الشيعة ج1 ص390 ونهج السعادة ج5 ص43 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج5 ص217 وج8 ص78 وتفسير الآلوسي ج19 ص149 وتاريخ مدينة دمشق ج45 ص487 والأعلام للزركلي ج8 ص94 وأنساب الأشراف للبلاذري ص322 والأنساب للسمعاني ج5 ص647 والجوهرة في نسب الإمام علي وآله للبري ص25 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق1 ص252 وتاريخ الكوفة للسيد البراقي ص234 و 531 وأعيان الشيعة ج1 ص410 و 489 و 505 و 553 وج2 ص515 وج4 ص160 و 366 وج7 ص43 و 243 و 245 وج9 = = ص234 وصفين للمنقري ص274 و 437 والفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص604 وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي ( عليه‌السلام ) لابن الدمشقي ج2 ص255 والخصائص الفاطمية للشيخ الكجوري ج2 ص110.

١٧٢

وهذا لا ينافي ما ثبت عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): من أنه قسيم الجنة والنار، لأن المقصود بهذا الشعر المبالغة في مدح هذه القبيلة، حتى إنها لتستحق أن لا ينظر في أعمال أفرادها، فيؤخذ المسيء بإسائته، ةالمحسن بإحسانه.. بل هي بمجرد أن ترد عليه، فإنه يصدرها مباشرة إلى الجنة.

ومن أمثلة نصرة همدان هذه:

1 ـ أنه حين أراد أهل الكوفة بعد موت يزيد (لعنه الله) أن يؤمروا عليهم الخبيث المجرم عمر بن سعد لعنه الله واخزاه، جاءت نساء همدان، وربيعة، وكهلان، والأنصار، والنخع إلى الجامع الأعظم صارخات، باكيات، معولات، يندبن الحسين (عليه‌السلام ) ويقلن: أما رضي عمر بن سعد بقتل الحسين حتى أراد ان يكون أميراً علينا على الكوفة؟!

فبكى الناس، وأعرضوا عنه(1) .

____________

1- مروج الذهب ج2 ص105 ومقتل الحسين للمقرم ص246 عنه. وأنصار الحسين ( عليه‌السلام ) للشيخ محمد مهدي شمس الدين ص199 عن المبرد (أبي العباس محمد بن يزيد) في: الكامل (تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم والسيد شحاتة ـ مطبعة نهضة مصر) (غير مؤرخة) ج1 ص223.

١٧٣

2 ـ إنه حين طعن الإمام الحسن (عليه‌السلام ) دعا ربيعة وهمدان. فأطافوا به ومنعوه، فسار ومعه شوب من غيرهم(1) .

____________

1- كشف الغمة للأربلي ج2 ص163 وراجع: الأخبار الطوال ص217 والإرشاد للمفيد ج2 ص12 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج16 ص41 وأعيان الشيعة ج1 ص569.

١٧٤

الفصل الرابع:

علي (عليه‌السلام ) في بني زبيد..

١٧٥

١٧٦

علي (عليه‌السلام ) في بني زبيد:

وقالوا: (وجه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) علي بن أبي طالب، وخالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن، وقال: (إذا اجتمعتما فعلي الأمير، وإن افترقتما فكل واحد منكما أمير)(1) .

فاجتمعا. وبلغ عمرو بن معد يكرب مكانهما. فأقبل على جماعة من قومه(2) . فلما دنا منهما قال: دعوني حتى آتي هؤلاء القوم، فإني لم أسمَّ لأحد قط إلا هابني.

فلما دنا منهما نادى: أنا أبو ثور، وأنا عمرو بن معد يكرب.

فابتدره علي وخالد، وكلاهما يقول لصاحبه: خلني وإياه، ويفديه بأمه وأبيه.

____________

1- سبل الهدى والرشاد ج6 ص386 و 246 عن مناقب الإمام الشافعي لمحمد بن رمضان بن شاكر، وفي هامشه عن: المعجم الكبير للطبراني ج4 ص14 والإصابة ج3 ص18 والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج2 ص522 و (ط دار الجيل) ج3 ص1203 وأسد الغابة ج4 ص133.

2- أي مترئِّساً على جماعة من قومه.

١٧٧

فقال عمرو إذ سمع قولهما: العرب تُفَزَّع بي، وأراني لهؤلاء جزراً.

فانصرف عنهما.

وكان عمرو فارس العرب، مشهوراً بالشجاعة. وكان شاعراً محسناً(1) .

وقالوا أيضاً: إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بعث خالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن وقال له: (إن مررت بقرية فلم تسمع أذاناً، فاسبهم).

فمر ببني زبيد، فلم يسمع أذانا، فسباهم.

فأتاه عمرو بن معد يكرب، فكلمه فيهم، فوهبهم له، فوهب له عمرو سيفه الصمصامة، فتسلمه خالد. ومدح عمرو خالداً في أبيات له(2) .

ونقول:

1 ـ لقد ظن عمرو بن معدي كرب أن جميع الناس على شاكلته، من حيث تعلقهم بالحياة الدنيا، وخشيتهم من الموت، فكلما زادت احتمالات تعرضهم للخطر ازداد حبهم لما يقرِّبهم من السلامة والأمن..

وقد اعتاد أن يرى ذوي السطوة والنفوذ يدفعون من هم تحت أيديهم

____________

1- سبل الهدى والرشاد ج6 ص246 و 386 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج3 ص1204 والإصابة (ط دار الكتب العلمية) ج4 ص569 وعيون الأثر ج2 ص292.

2- سبل الهدى والرشاد ج6 ص246 عن ابن أبي شيبة من طرق. وفي هامشه عن: الإصابة ج3 ص18 و (ط دار الكتب العلمية) ج4 ص569 وتاريخ مدينة دمشق ج46 ص377 وراجع: كنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج4 ص483.

١٧٨

إلى مواجهة الأخطار، ودرئها عن أنفسهم، وأن يستغنوا بذلك عن التعرض لها ومكابدتها. ولكنه رأى هؤلاء القادمين عليه يتسابقون إلى الموت حباً بسلامة إخوانهم ففاجأه ذلك.

2 ـ إن غرور ابن معد يكرب بنفسه، واعتماده على بعد صيته دفعه إلى التهويل باسمه على هؤلاء القادمين، فلم يجد عندهم ما تعوده في غيرهم، فاضطر إلى التراجع الذليل، ولم يكلف نفسه عناء خوض معركة لعلها هي أول معركة حقيقية يشهدها في حياته.

فرضي بوصمة الخوف والجبن، والتراجع الذليل، حين أعلن أن هؤلاء القادمين يعتبرونه جزراً.

3 ـ إننا نلمح في هذه الواقعة: أن ما كان يشاع عن هذا الرجل بين الناس كانت تشوبه شائبة التزوير للحقائق، وهو إعلام معتمد على التهويل الكاذب، وعلى الدعايات الفارغة.

ولعل عمرواً كان يبطش ببعض الضعفاء، أو الجبناء، أو يغدر ببعض الآمنين، ثم يخلط ذلك بكثير من الشائعات التي تصل إلى حد الخرافة، ويشيعه بين الناس على أنه بطولات، وإنجازات، وهي لا تعدو كونها أوهاماً وخيالات باطلة.

ولأجل ذلك كله كان عمرو بن معدي كرب هذا قد عرف بالكذب بين الناس.

فقد رووا: أنه كان يحدث بحديث، فقال فيه: لقيت في الجاهلية خالد بن الصقعب، فضربته وقددته، وخالد في الحلقة.

١٧٩

فقال له رجل: إن خالداً في الحلقة.

فقال له: أسكت يا سيء الأدب، إنما أنت مُحدَّث، فاسمع أو فقم.

ومضى في حديثه، ولم يقطعه، فقال له رجل: أنت شجاع في الحرب والكذب معاً.

قال: كذلك أنا تام الآلات(1) .

أسئلة بلا جواب:

وقد ادعت الرواية المتقدمة: أن عمرواً انصرف عن علي (عليه‌السلام ) فهنا أسئلة تحتاج إلى جواب، فهل كان علي (عليه‌السلام )، وخالد بن سعيد، ومن معهما يقصدون بني زبيد؟!

أم كانوا يقصدون قوماً آخرين؟!

أم كانوا يقصدون دعوة كل من يصادفونه إلى الإسلام؟!

فإن كانوا يقصدون بني زبيد.. فعلى أي شيء اتفقوا مع عمرو وجماعته؟!

وكيف تركوهم ينصرفون من دون دعوة؟!

وإن كانوا يقصدون قوماً غيرهم، فمن هم أولئك القوم؟!

____________

1- تاريخ مدينة دمشق ج46 ص389 وقال في هامشه: رواه المعافي بن زكريا في الجليس الصالح الكافي ج2 ص214 و 215 وراجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص362.

١٨٠