• البداية
  • السابق
  • 330 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21924 / تحميل: 4820
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء 5

مؤلف:
العربية

فهو إذن لا يطمع بالقصور، ولا بالحور، ولا تهمه الجنان، ولا يفرحه كل ما فيها من حور حسان، بمقدار ما يهمه ويفرحه رضى الله تعالى، ورضى رسوله، وفقاً لقوله تعالى:( ..رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) (1) .

وقوله تعالى:( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) (2) .

____________

1- الآية 8 من سورة البينة.

2- الآيتان 27 و 28 من سورة الفجر.

١٤١

١٤٢

الفصل الثاني:

لمحات أخرى عن ذات السلاسل..

١٤٣

١٤٤

ذات السلاسل برواية القمي:

وقد روى القمي عن جعفر بن أحمد، عن عبيد بن موسى، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه‌السلام ) ـ ما ملخصه ـ:

إن أهل وادي اليابس اجتمعوا اثني عشر ألف فارس، وتعاقدوا، وتعاهدوا، وتواثقوا: أن لا يتخلف رجل عن رجل، ولا يغدر بصاحبه، ولا يخذل أحد أحداً، ولا يفر عن صاحبه، حتى يموتوا كلهم، ويقتلوا محمداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وعلي بن أبي طالب (عليه‌السلام ).

فنزل جبرئيل (عليه‌السلام ) على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وأخبره بالأمر، وأمره أن يبعث أبا بكر في أربعة آلاف فارس، من المهاجرين والأنصار.

فخطب (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الناس، وأخبرهم بما أخبره به جبرئيل (عليه‌السلام ) عن أهل وادي اليابس، وأن جبرئيل أمره بأن يسير إليهم أبو بكر بأربعة آلاف فارس.

ثم أمرهم أن يتجهزوا للمسير مع أبي بكر يوم الإثنين، فلما حان وقت المسير أمر (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أبا بكر: (أن إذا رآهم أن يعرض عليهم

١٤٥

الإسلام، فإن تابعوا، وإلا واقعهم، فقتل مقاتليهم، وسبى ذراريهم، واستباح أموالهم، وخرب ضياعهم، وديارهم).

فسار أبو بكر بهم سيراً رفيقاً، حتى نزل قريباً منهم، فخرج إليه منهم مئتا فارس، وهم مدججون بالسلاح، فسألوهم: من أين أقبلوا؟! وإلى أين يريدون؟! ثم طلبوا مقابلة صاحبهم.

فخرج إليهم أبو بكر، فسألوه، فأخبرهم بما جاء له.

فقالوا: أما واللات والعزى، لولا رحم ماسة، وقرابة قريبة لقتلناك وجميع أصحابك قتلة تكون حديثاً لمن يكون بعدكم، فارجع أنت ومن معك، وارتجوا العافية، فإنما نريد صاحبكم بعينه، وأخاه علي بن أبي طالب.

فقال أبو بكر لأصحابه: يا قوم، القوم أكثر منكم أضعافاً، وأعدُّ منكم، وقد نأت داركم عن إخوانكم من المسلمين، فارجعوا نُعلِم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بحال القوم.

فقالوا جميعاً: خالفت يا أبا بكر رسول الله، وما أمرك به، فاتق الله وواقع القوم، ولا تخالف قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

فقال: إني أعلم ما لا تعلمون. الشاهد يرى ما لا يرى الغائب.

ورجعوا إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فأعلن على المنبر: أن أبا بكر قد عصى أمره، وأنه لما سمع كلامهم: (انتفخ صدره، ودخله الرعب منهم) ثم قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ):

(وإن جبرئيل (عليه‌السلام ) أمرني عن الله: أن أبعث إليهم عمر مكانه في أصحابه، في أربعة آلاف فارس، فسر يا عمر على اسم الله، ولا تعمل كما

١٤٦

عمل أبو بكر أخوك، فإنه عصى الله وعصاني).

وأمره بما أمر به أبا بكر.

فسار بهم يقتصد بهم في سيرهم، حتى نزل قريباً من القوم، وخرج إليه مئتا رجل، وقالوا له ولأصحابه مثل مقالتهم لأبي بكر.

فانصرف، وانصرف الناس معه، وكاد أن يطير قلبه مما رأى من عدة القوم وجمعهم، ورجع يهرب منهم.

فنزل جبرئيل (عليه‌السلام ) وأخبر محمداً بما صنع عمر..

فصعد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) المنبر، وأخبرهم بما صنع عمر، وأنه خالف أمره وعصاه..

فلما قدم عمر قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (يا عمر، عصيت الله في عرشه، وعصيتني، وخالفت قولي، وعملت برأيك، ألا قبح الله رأيك).

ثم ذكر: أن جبرئيل (عليه‌السلام ) أمره أن يرسل علياً (عليه‌السلام ) مع الأربعة آلاف، وأن الله يفتح عليه وعلى أصحابه، ثم دعاه وأخبره بذلك..

فخرج علي (عليه‌السلام ) فسار بأصحابه سيراً غير سير أبي بكر وعمر، فقد أعنف بهم في السير، حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب، وتحفى دوابهم، فقال لهم: لا تخافوا، فإن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد أمرني بأمر، وأخبرني: أن الله سيفتح عليَّ، وعليكم، فأبشروا، فإنكم على خير، وإلى خير.

فطابت نفوسهم وقلوبهم، وواصلوا سيرهم التَّعِب، حتى نزلوا

١٤٧

بالقرب منهم..

فخرج إليه منهم مائتا رجل شاكين بالسلاح، فلما رآهم علي (عليه‌السلام ) خرج إليهم في نفر من أصحابه، فقالوا لهم: من أنتم؟! ومن أين أنتم؟! ومن أين أقبلتم؟! وأين تريدون؟!

قال: أنا علي بن أبي طالب، ابن عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وأخوه ورسوله إليكم، أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، ولكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم من خير وشر.

فقالوا له: إياك أردنا، وأنت طلبتنا، قد سمعنا مقالتك، فاستعد للحرب العوان، واعلم أنَّا قاتلوك وقاتلوا أصحابك، والموعود فيما بيننا وبينك غداً ضحوة، وقد أعذرنا فيما بيننا وبينك.

فقال لهم علي (عليه‌السلام ): ويلكم تهددوني بكثرتكم وجمعكم؟! فأنا أستعين بالله وملائكته والمسلمين عليكم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فانصرفوا إلى مراكزهم، وانصرف علي (عليه‌السلام ) إلى مركزه. فلما جنه الليل أمر أصحابه أن يحسنوا إلى دوابهم، ويقضموا، ويسرجوا.

فلما انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس، ثم غار عليهم بأصحابه، فلم يعلموا حتى وطئتهم الخيل، فما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتليهم، وسبى ذراريهم، واستباح أموالهم، وخرب ديارهم، وأقبل بالأسارى والأموال معه.

ونزل جبرئيل فأخبر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بما فتح الله على

١٤٨

علي (عليه‌السلام ) وجماعة المسلمين، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وأخبر الناس بما فتح الله على المسلمين، وأعلمهم أنه لم يصب منهم إلا رجلان.

ونزل فخرج يستقبل علياً (عليه‌السلام ) في جميع أهل المدينة من المسلمين، حتى لقيه على أميال من المدينة.

فلما رآه علي مقبلاً نزل عن دابته، ونزل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حتى التزمه، وقبل ما بين عينيه.

فنزل جماعة المسلمين إلى علي (عليه‌السلام ) حيث نزل رسول الله، وأقبل بالغنيمة والأسارى، وما رزقهم الله من أهل وادي اليابس.

ثم قال جعفر بن محمد (عليهما‌السلام ): ما غنم المسلمون مثلها قط إلا أن تكون خيبراً، فإنها مثل خيبر.

فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك اليوم:( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً.. ) إلى آخر الرواية(1) .

ونقول:

إن لنا هنا وقفات نجملها على النحو التالي:

____________

3- 1- بحار الأنوار ج21 ص67 ـ 73 وتفسير القمي ج2 ص434 ـ 438 وتفسير فرات ص599 ـ 602 والبرهان (تفسير) ج4 ص495 ـ 497 ونور الثقلين ج5 ص652 ـ 655 والتفسير الصافي ج5 ص361 ـ 365 وتأويل الآيات ص844 ـ 848.

١٤٩

قد استعرضنا الكثير من النقاط الواردة في هذه الرواية، وناقشناها في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ج20 فصل: رواية القمي توضح بل تصرح.. فلا نرى حاجة لإعادته هنا.. فنكتفي هنا بالإلماح إلى بعض ما له ارتباط بعلي (عليه‌السلام )، وهو كما يلي:

الرفق بالحيوان:

تقدم: أن علياً (عليه‌السلام ) أمر أصحابه في الليلة التي عزم على مهاجمة العدو في صبيحتها بأن يحسنوا إلى دوابهم، والمراد بالإحسان إليها هو إنزال أحمالها عنها، وتقديم الماء والعلف لها، وجعلها في مكان مناسب ومريح، وإبعاد جُلِّها عنها، وأن لا تحمل على القيام بجهد لا تطيقه ونحو ذلك..

وهذا يجعلها أكثر حيوية ونشاطاً في مواقع النزال، فلا تتعب بسرعة..

على نفسها جنت براقش:

وقد لوحظ في الرواية أيضاً: أن الأعداء أعلنوا إصرارهم على الحرب، وتوعدوه بأنهم قاتلوه ومن معه.. فلم يعد أمامهم سوى الإعداد والإستعداد للمواجهة، وتوقع أن يلتمس المسلمون ـ الذين يسمعون منهم هذا التهديد ـ غرَّتهم، وأن يوردوا عليهم ضربتهم عند أية فرصة تلوح لهم.

وليس لهم أن يستسلموا للأماني، وأن يأمنوا جانب عدوهم، فإن ترصد غفلتهم، والسعي لخديعتهم، هو غاية الحزم، والتدبير الذكي الذي يستحق عليه التقدير والثناء، لأنه يحفظ بذلك أهل الإيمان، ويبعد عنهم شر

١٥٠

أهل الطغيان، ويبطل كيدهم.

كما لا بد أن يعتمد عنصر السرعة التي لا تترك للعدو مجالاً لإلتقاط أنفاسه، ويفقده القدرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب..

وبذلك يتمكن من تسديد الضربات السريعة والمؤثرة في تدمير قدرات العدو بأقل الخسائر في جانب أهل الإيمان..

وهكذا كان، فإنه لم يصب من أهل الإيمان إلا رجلان..

لا نريد إلا محمداً وعلياً:

واللافت هنا: أن هؤلاء الأعداء يعلنون لأبي بكر حين جاء لمواجهتهم بأنهم لا يريدون إلا شخص رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ونفس علي (عليه‌السلام ).

والأغرب من ذلك: أن لا تظهر من أبي بكر ردة فعل على طلبهم هذا، بل هو يرضى بالرجوع عنهم.. مع أن مقتضيات الإيمان، ومن مقتضيات البيعة للرسول هو الذب عنها، وعن صاحبها وأهل بيته، فموقف أبي بكر هذا لا بد أن يكون قد أعطى انطباعاً غير حميد، من حيث أنه يوحي بأن المسلمين لا يهتمون بالدفاع عن دينهم، وعن نبيهم ووصيه.

بل هم إن وجدوا أن الحرب قد حادت عنهم، ولم تعد تستهدف أشخاصهم، فربما ينصرفون عنها، ولا تعود تعني لهم شيئاً ليتولاها ذلك المعني بها، والمطلوب لها.. أي أنهم يسلمون نبيهم ووصيه لمصير يقرره أعداؤه وفق ما يحلو لهم.

١٥١

ومن شأن هذا التصور أن يزيد أولئك المشركين تصميماً على الحرب، وحماساً واندفاعاً لها وحرصاً على الوصول إلى شخص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ونفس علي (عليه‌السلام ) فيها.

وربما يفكر هؤلاء المشركون بالبحث عن قنوات تصلهم بهذا أو بذاك من رجال المسلمين، لإغداق الوعود عليهم، وإغرائهم بما يثبط عزائمهم عن نصرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وعلي (عليه‌السلام )..

ثم إننا لا ندري إن كان أبو بكر ومن معه قد فكروا في السبب الذي دعا هؤلاء للكف عنهم، ولتقصُّد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وعلي (عليه‌السلام ) بالسوء، دون سائر المسلمين، أليس لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) هو صاحب الدعوة، التي كانت السبب في منابذة المشركين له، ولأن علياً (عليه‌السلام ) شريكه الأساس فيها، وهو سبب حفظها وبقائها بعده، وهو السيف الإلهي المسلول للدفاع عنها، وعن صاحبها، وعن كل من آمن بها؟!

ألم يكن هؤلاء الراجعون يعتبرون أنفسهم من أتباع صاحب الدعوة، ومن المؤمنين بها، والمكلفين بالدفاع عنها، وعمن جاء بها؟!

أبو بكر أخو عمر، وعلي (عليه‌السلام ) أخو النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ):

وتقدم: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال لعمر: (ولا تعمل كما عمل أبو بكر أخوك).. وأنه قال وهو يخطب على المنبر عن علي (عليه‌السلام ): (حتى يقتلوني وأخي علي بن أبي طالب).

وحين تحدث علي (عليه‌السلام ) لأهل وادي اليابس وصف نفسه لهم

١٥٢

بأنه: (ابن عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأخوه)، والأعداء وصفوه بنفس هذا الوصف أيضاً.

من أجل ذلك نلاحظ: أن عمر قد فعل ما يشبه عمل أخيه أبي بكر، حيث سار بأصحابه ـ كأبي بكر ـ سيراً رفيقاً ـ ثم هرب من الأعداء كما هرب، وعاش الرعب والخوف كما عاش.

كما أن علياً (عليه‌السلام ) قد عمل بنفس ما يقتضيه خلق أخيه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فكان دائماً المجاهد، والمحامي، والناصر، والمنتصر.

وذلك كله يشير إلى أن الأخوة هنا، والأخوة هناك قد جاءت على أساس ملاحظة معانٍ حقيقية، وقواسم مشتركة، اقتضت التوافق في السلوك وفي المواقف.

القائد هو المعيار:

وقد وجدنا: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) اكتفى بتبديل القائد، وأما الجيش نفسه، فأبقاه على ما هو عليه، ولم يستبدل منه حتى رجلاً واحداً، وقد كانت الهزيمة من نصيب هذا الجيش مرتين متواليتين، مع نفس العدو، ومع تقارب الزمان، وفي نفس المكان، وفي نفس الظروف، وبنفس الأسلوب، وبعين الكلمات التي استخدمت، ونفس الخطاب والجواب..

وكان النصر حليفاً لهذا الجيش نفسه، مع ذلك العدو بالذات، وفي نفس الحالات، وفي الزمان والمكان عينه، رغم أن القائدين الأولين قد سارا بهذا الجيش سيراً رفيقاً، أو مقتصداً، يحببهم بقائدهم.

١٥٣

أما الأمير الثالث، فقد أعنف بهم في السير، حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب، وأن تحفى دوابهم.. ولا بد أن يثقل أمر هذا القائد عليهم، الذي فعل بهم ذلك، وأن تتجافى عنه قلوبهم، ولا يندفعون في محبته، وفي طاعته بالمقدار الذي يحظى به اللذان سبقاه..

ولكن النتائج جاءت معاكسة تماماً، فقد تحقق النصر، وكان نصيبهم معه الفتح والعز والكرامة، وكانت الهزيمة والمذلة، والمعصية لله في عرشه ولرسوله مع ذينك الأولين.

وهذا مثل للبشر جميعاً، يحمل لهم العبرة، والعظة، ويدعوهم للتأمل العميق، والفكر الدقيق، حملته لنا كلمته (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لعلي (عليه‌السلام ) عن جبرئيل: (فأخبرني: أن الله يفتح عليه، وعلى أصحابه)..

فقد نسب الفتح إلى الله، الذي حبا به علياً (عليه‌السلام ) وأصحابه معاً، مع أن الإنسان العادي قد يتوقع تخصيص الفتح بعلي دون أصحابه، الذين هزموا مع القائدين اللذين سبقاه..

ولكن الله ورسوله يريدان لنا أن ندرك حقيقة أن القيادة الصالحة، هي التي تصنع المواقف، وتغير من أحوال الرعية، وتؤثر في توجهاتها ومواقفها، وتعطيها صلابة في الدين، وورعاً في يقين، وتحملها على الصراط المستقيم، ولو لم تصدر لها أمراً، أو تفرض عليها قراراً، أو تبتز منها موقفاً.

وهي التي تثير حميتها وإباءها، وتمنحها نفحة الشجاعة والإقدام، أو التخاذل والإحجام..

وقد ظهر ذلك في هذه الغزوة بصورة جلية وواضحة، فقد ساقهم

١٥٤

موقف أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) إلى مواقع العزة والكرامة والإباء، وأعطاهم نفحة من نفحات الشجاعة، والشعور بالكرامة. ففتح الله عليه وعليهم، وفق ما قاله الرسول الأكرم والأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله )..

تطمينات علي (عليه‌السلام ) لأصحابه:

وحين سار علي (عليه‌السلام ) باصحابه ذلك السير الحثيث الذي أتعبهم، يكون قد أفهمهم بذلك أن ثمة جدية حقيقية في إنجاز أمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على أحسن وجه وأتمه.

ولعلهم أصبحوا يتخوفون من أن يكون للتعب الذي لحقهم في مسيرهم هذا دوراً في خسارتهم الحرب التي يترقبونها.. فأراد (عليه‌السلام ) أن يطمئنهم، ولكن لا بالوعود المادية، ولا بالخطب الحماسية، بل بإعطائهم جرعة إيمانية روحية، تتولى هي شحذ عزائمهم، وتقوية ضعفهم، وتعطيهم المزيد من الرضا والسعادة والبهجة، وذلك بالاعتماد على الغيب الذي يربطهم بالله سبحانه، وبرسوله.

فذكر لهم قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بصيغة الإخبار من النبي الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لهم بالفتح العظيم.

والخبر من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) معناه: أن الله سبحانه هو الذي عرف رسوله به، وأطلعه على غيبه.. فليس الأمر مجرد تفاؤل، ولا هو كلام لمجرد التشجيع، وإثارة الحماس..

ولذلك يقول النص المتقدم: إن نفوسهم قد طابت وقلوبهم اطمأنت، وواصلوا سيرهم الشاق، وزالت عنهم الوساوس والمخاوف..

١٥٥

وقد حرص علي (عليه‌السلام ) على أن يستعيد جيشه الثقة التي فقدها بسبب تثبيط عزائمه من قبل الذين سبقوه، حيث صار يجبِّن بعضهم بعضاً. وأن يزيل كل شبهة عن المقاتلين، ويطمئنهم إلى أنه لا مبرر للمخاوف، ولا معنى لمعاناة أية توترات..

علي (عليه‌السلام ) أخو النبي ورسوله إليكم:

ولم نعهد في الذين آخى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بينهم أن يذكروا هذه الأخوة في مواقع إبلاغ رسائل الحرب والقتال، لاسيما وأنها أخوة أنشأها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بأمر وجعل من الله تعالى، وليست أخوة نسب..

ولكن علياً (عليه‌السلام ) قد فعل ذلك، وأبلغ هذا العدو المحارب بهذه الحقيقة، حين قال لهم: إنه أخو النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ورسوله إليهم.

ولعله أراد أن يفهمهم أن موقفه منهم يحدده موقفهم من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. وأنه لا مجال للفصل في حسابات الربح والخسارة بين علي كشخص، وبين علي الشريك مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في الأخوة، وفي العمل على حفظ الرسالة، من خلال حفظ الرسول، فإن ذلك هو مقتضى هذه الأخوة، وهو الذي يوصل إلى حفظ هذا الدين، والذود عن حياضه.

١٥٦

علي (عليه‌السلام ) لا يحتكر النصر:

وعلي (عليه‌السلام ) الذي حقق المعجزات في تاريخه الجهادي الطويل، ولاسيما حين قلع باب خيبر، وجعله ترساً يدفع به ضرب السيوف، وطعن الرماح، ثم حمله جاعلاً منه معبراً عن الخندق للجيش، بالإضافة إلى أعظم الإنجازات القتالية في بدر، وأُحد، والأحزاب، وقريظة، والنضير، وما إلى ذلك..

إن علياً هذا لا يتهدد الأعداء بقوته، ولا يذكر لهم مواقفـه هذه، بل يكتفي باستنكار تهديد الأعداء له، ثم هو يستعين بالله، وبالملائكة، وبالمسلمين عليهم، ويخبرهم بأن كل حول وقوة لديه إنما هـو من الله، وبه سبحانه وتعالى..

وهذا يعطي المسلمين نفحة روحية، ويذكرهم بنصر الله لهم في بدر، حين أمدهم بالملائكة وفي سائر المواطن. ولا بد أن يحدث هذا التذكير ارتعاشاً قوياً وبلبلة حقيقية في قلوب الكافرين، وطمأنينة وسكينة في قلوب المؤمنين، لأن له سابقة أثبتت صحة هذا المنطق وقوته، وظهرت نتائجه نصراً مؤزراً في حروب صعبة وهائلة، لابد أن تبقى على مر الأجيال تتمثله كحدث تاريخي فريد، وكيوم من أيام الإسلام مجيد..

ولا بد أن يترك إشراك علي (عليه‌السلام ) للمسلمين في هذا العمل الجهادي أثراً طيباً في نفوسهم.. لأن الذي يعطيهم هذا الوسام هو نفس علي الذي لا يرتاب أحد في مقامه الجهادي والإيماني العظيم، ولا يشك في صدقه، وفي تجربته، وخبرته بالحرب.

١٥٧

وستكون لشهادته هذه قيمة كبيرة لديهم، ولابد أن يهتم كل أحد في أن يحصل على أدنى لفتة من علي، أعظم مجاهد على وجه الأرض، فكيف بما هو أعظم، وأكرم وأفخم..

يضاف إلى ذلك: أن هذا المنطق العلوي، الذي أوضح: أن الله وملائكته سوف يساهمون في تسجيل هذا النصر، لابد أن يصعِّب على المتخاذلين، وعلى غيرهم اتخاذ قرار الانسحاب من المعركة، وسيفرض على الجميع بذل جهد، ودرجة تحملٍ وصبرٍ أعلى وأكبر مما اعتادوا عليه في سائر الحالات..

تخريب الديار:

ولا بد من التروي والتأمل في صدقية ما ذكرته الرواية المتقدمة من أن علياً (عليه‌السلام ) قد خرب ديار الأعداء.

فقد عرفنا: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أصدر أوامره لجيوشه بعدم التعرض للديار والأشجار(1) ، إلا إذا فرضت الحرب نفسها إجراءات تؤدي إلى شيء من ذلك، مثل حفظ المسلمين من الأخطار، أو توقف النصر على العدو على أمر كهذا..

أو كان ذلك إجراء رادعاً للعدو عن معاودة الفساد والإفساد، والعبث بأمن البلاد والعباد..

____________

1- راجع ما ذكرناه في غزوة مؤتة في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

١٥٨

سورة العاديات.. وأصول الحرب:

وقد ذكرت الرواية المتقدمة وغيرها: أن سورة (العاديات) نزلت في غزوة ذات السلاسل، أو وادي اليابس.. وتضمنت هذه السورة المباركة أموراً دقيقة ترتبط بالحرب وأصولها، وربما كان السبب في ذلك هو أن هذه الأصول قد روعيت، وطبقت، وظهرت صدقيتها في هذه الغزوة بالذات، فلا محيص عن الإشارة إلى هذا الأمر هنا، فنقول:

إنه إذا أقسم الله بأمر بعينه، فذلك يدل على أن لهذا الأمر موقعاً أساسياً وحساساً جداً في المنظومة الكونية، إن كان أمراً كونياً، أو في المنظومة النظامية إن كان أمراً نظامياً.. أو في منظومة السنن إن كان من سنن الخلق والتكوين، وكذلك الحال لو كان ما أقسم به من مفردات منظومة القيم، أو التدبير، أو غير ذلك، مما ورد القسم به في القرآن الكريم..

فإن الإهتمام الظاهر بذلك الأمر بعينه، بحيث يجعله موضعاً لقسمه، ويجعل الإلتزام ببقائه على حاله ضمانة لما يريد تقريره ـ إن ذلك ـ يدل على أن لما يقسم به أثراً عظيماً في إنجاز الأهداف الإلهية الكبرى، بإيصال الإنسان وما في هذا الكون إلى كماله..

2 ـ وقبل أن نتحدث عن العاديات يحسن بنا أن نشير إلى أن المناسبة التي نزلت فيها هذه السورة، وهي غزوة ذات السلاسل، قد تضمنت نصوصها أمر علي (عليه‌السلام ) أصحابه ليلة الغارة بأن يحسنوا إلى دوابهم، ويُقْضِمُوا، ويُسْرِجوا..

وهذا يدل على لزوم إعداد وسائل الحرب، وتهيئتها، لتكون في أفضل

١٥٩

حالاتها، وأن يكون إعدادها بحيث لا تحتاج في ساعة الصفر إلا إلى الإستعمال الناجز في القتال. فلا يؤجل ذلك إلى اللحظة الأخيرة.. إذ قد يطرأ ظرف يمنع من الإعداد بالمستوى المطلوب، أو بالطريقة الصحيحة.

3 ـ وقد أقسم الله تعالى بالعاديات، وبالموريات، والمغيرات.. وهي لا تخرج عن هذا السياق الذي أشرنا إليه، فالخيل تعدوا في سبيل الله تعالى، وتسرع في هذا العدو إلى الحد الذي تضبح فيه بأنفاسها، مما يعني أنها قد استنفدت كل طاقتها في سرعة الحركة..

لأن المطلوب هو أن تنجز أمراً هو بأمس الحاجة إلى السرعة. وللسرعة دورها الحاسم في الحرب.

والضبح ـ كما قيل ـ: هو صوت أنفاس الفرس، تشبيهاً له بالضباح، وهو صوت الثعلب.

وقيل: هو حفيف العَدْوِ.

وقيل: الضبح: كالضبع، وهو مد الضبع في العدو(1) ، أي حتى لا يجد مزيداً(2) .

____________

1- المفردات للراغب ص292.

2- بحار الأنوار ج21 ص66 ومجمع البيان ج10 ص528 و 529 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج10 ص422 ومعجم مقاييس اللغة ج3 ص385 وج5 ص349 ولسان العرب ج3 ص509 وج7 ص405 والقاموس المحيط ج1 ص358.

١٦٠