• البداية
  • السابق
  • 330 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21931 / تحميل: 4822
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء 5

مؤلف:
العربية

أولاها: إن ذلك كشف عن أن قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يوجب للزبير وأضرابه اليقين الكافي بوجود الرسالة معها.. بل هم قد صدقوها، أو حكموا ببراءتها، ولزوم إخلاء سبيلها..

وتصديقها معناه تكذيب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. وواجب النصيحة لرسول الله يفرض عدم إطلاق سراح المرأة، بل أن يحتفظوا بها، ويراجعوه في أمرها، حتى لو فتشوها ولم يجدوا عندها شيئاً..

ثانيها: إنهم لم يراعوا حتى أبسط القواعد في المهمة التي أوكلت إليهم، فإن تصرفات تلك المرأة، وأحوالها تشي بلزوم الريبة في أمرها، فإنها قد تركت الطرقات السهلة، التي اعتاد الناس سلوكها، واختارت السير في القفار والشعاب فترة طويلة، ثم عادت إلى الطريق في العقيق، فأخذوها هناك، ولا يسلك تلك المسالك إلا هارب، أو خائف من انكشاف أمر خطير يخفيه معه، ويريد أن ينفذ به إلى بلاد أخرى..

ثالثها: إنهم لم يستقصوا تفتيشها ليحكموا ببراءتها.. ولو حصل ذلك لم يكن معنى لتهديد علي (عليه‌السلام ) لها.. مع قيام احتمال أن تكون قد أخفته أو رمته بصورة خفية في مكان قريب حين أحست بالخطر، لتعود إليه وتأخذه من ذلك الموضع بعد أن تأمن الطلب والرقباء..

رابعها: بالنسبة لتهديد علي (عليه‌السلام ) بكشفها أو بتجريدها نقول:

إن هذا التهديد منه (عليه‌السلام ) يهدف إلى تلافي الكشف والتجريد. ولو فرض أنها أصرت على الإنكار، فإن تجريدها وكشفها يمكن أن يتم بواسطة امرأة مثلها، وليس بالضرورة أن يتولى ذلك الرجال، ولو فرض

٢٤١

عدم وجود نساء ـ وهو فرض غير واقعي ـ فإنها تكون هي التي أسقطت حرمة نفسها.. ويصبح الحفاظ على الدين وأهله، وصيانته من كيد المدسوسين والجواسيس أهم عند الله من كشف رأس امرأة تتعمد الإيقاع بالإسلام وأهله.

ألا يكفي إرسال علي (عليه‌السلام ) وحده؟!:

وعن سؤال:

ألم يكن يكفي أن يرسل (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) علياً وحده لأخذ الكتاب من تلك المرأة؟!.

ونجيب:

قد تكون هناك عدة أسباب اقتضت إشراك البعض في هذا الأمر:

أولاً: أن الأمر لا يقتصر على إرادة الحصول على الرسالة، ومنعها من الوصول إلى قريش، بل هو يريد أن يثير جواً يشعر الناس بمدى خطورة تصرف كهذا، وأن عواقب تسريب أية معلومة عن تحركات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ستكون بالغة الخطورة والقسوة على من تسول له نفسه الدخول في هذه المخاطرة..

فكان أن اختار (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لهذه المهمة أشخاصاً من فئات شتى، ولهم توجهات وارتباطات، وأهواء مختلفة ليشيع هذا الأمر في كل اتجاه، ويكون حديث كل ناد وبيت، وليأخذ الجميع منه العبرة على أتم وأبلغ وجه..

ثانياً: إن إرسال هؤلاء جميعاً، وفشلهم في تحقيق الغرض المطلوب

٢٤٢

وظهور ضعف نفوسهم، حتى أمام امرأة لا حول لها ولا قوة، في حالات السلم كما في الحرب ـ إن ذلك ـ كان مطلوباً من أجل تعريف الناس بفضل أهل الفضل، فإن لهذه المهمات أهلها، فلا يصح إيكالها إلى أي كان من الناس.. بل لا بد من التبصر والتدقيق البالغ في مواقف كهذه.

ثالثاً: إن ما حصل قد أفهم الجميع بأن عليهم أن يتلمسوا مدى التفاوت بين عليعليه‌السلام ، وبين سائر من شارك في هذا الأمر.. فلا يقاس أحد منهم به وبما له من معرفة، ووعي ويقين، وصحة تدبير، وكيفية نظرته للوحي الكريم وللنبي العظيم، وتعامله مع أوامره، واخباراته، وسائر ما يصدر عنه..

وأن ما يدعيه الآخرون لأنفسهم، أو ما يدعيه الناس لهم، من مقامات وبطولات، وخصائص وميزات، وجهاد وتضحيات، ما هو إلا زيف خادع، وسراب لامع..

وحسبهم أنهم خالفوا أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لهم حين قال: خذوه منها، وخلوا سبيلها، فإن أبت فاضربوا عنقها..

إن أبت فاضربوا عنقها:

وبعد ما تقدم نقول:

ألف: قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): فإن أبت فاضربوا عنقها، يدل:

أولاً: على عمق يقين النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بأمر الرسالة، يجعل من تخلية سبيل تلك المرأة عصياناً لهذا الأمر الصادر عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

٢٤٣

بقتلها..

ثانياً: إن هذه الكلمة تدلنا على حكم من يفشي سر المسلمين، ويصر على التآمر عليهم، فإن حكمه القتل، حتى لو كان امرأة.

ثالثاً: إن قتلها يجعل إيصال الكتاب إلى المشركين متعذراً، لأن الكتاب إن كان معها، فقد قتلت، وإن كانت قد خبأته في مكان، فلم يعد هناك من يدل عليه.

أما بالنسبة لتخلية سبيلها بعد أخذ الكتاب منها، فهو حكم إرفاقي، وإحسان بالغ لها، لأن الكتاب أخذ منها رغماً عنها، وبعد التهديد بالقتل.

ب: إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لو أمرهم بالإتيان بها ـ ولم يأمر بضرب عنقها ، لوجدنا الكثيرين يأتون بها ـ لأن ذلك لا يضرهم، لا عند قريش، ولا عند غيرها.. ولكنه حين أمرهم بضرب عنقها فـ:

أولاً: إن الكثيرين قد لا ينصاعون لهذا الأمر النبوي..

ثانياً: إن ذلك قد يمنع من انكشاف أمر هؤلاء الذين صدقوا المرأة، وكذبوا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

ثالثاً: إنه قد لا ينكشف كذب المرأة إذا كانت قد خبأت الكتاب في موضع، حين أحست بالطلب والملاحقة.. بل قد يظهر: أنها مظلومة.. وأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) غير دقيق فيما يصدره من أوامر، أو يطلقه من اتهامات..

ج: ويظهر مما تقدم: الحكمة في أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أمرهم أن يأتوه بالكتاب لا بالمرأة. فلم يعد يمكنهم الإتيان بالمرأة دون الكتاب..

٢٤٤

التهديد بالقتل:

ولا يصح قولهم: إن المتهم لا يهدد بالقتل، فإن هذه المرأة لم تعد متهمة، بل أصبحت مدانة، لأن الوحي الإلهي هو الذي فضحها وكشف أمرها..

ولو استمرت على إنكارها، لكان يجب قتلها..

أولاً: لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أمر بقتلها، إن أصرت على عدم تسليم الكتاب، لأن ذلك بمثابة:

ألف: الإصرار على محاربة الله ورسوله، والعمل على إطفاء نور الله تعالى..

ب: تكذيب الوحي الإلهي، والارتداد عن الإسلام من دون أن تحصل توبة أو تراجع.

ثانياً: لأن تركها يؤدي إلى إيصال الرسالة إلى الأعداء، وقد يترتب على ذلك متاعب كبرى، وخسائر بشرية بين المسلمين في حربهم، وربما يؤدي إلى العرقلة والتأخير في حسم الأمور مع الأعداء. بالإضافة إلى سلبيات أخرى، قد لا يمكن تحاشيها أو تلافيها.

ردها إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ):

وتذكر النصوص: أن علياً (عليه‌السلام ) لم يخل سبيلها، بل جاء بها إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. ولعله (عليه‌السلام ) أراد أن يؤخر مسيرها إلى مكة بعض الشيء، حتى يتمكن المسلمون من تحقيق الغرض.. لأن وصولها قبل ذلك يمكنها من إخبار قريش بأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

٢٤٥

بصدد المسير إليهم.. أو أنها تظن أو تحتمل ذلك..

فيكون مراده بإطلاق سراحها هو عدم المبادرة إلى قتلها، ثم يطلق سراحها في الوقت المناسب.

الذي جرأ علياً (عليه‌السلام ) على الدماء:

روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة عن حصين، عن فلان، قال:

تنازع أبو عبد الرحمن وحبان بن عطية، فقال أبو عبد الرحمن لحبان: لقد علمت الذي جرأ صاحبك على الدماء، يعني علياً.

قال: ما هو؟! لا أبا لك.

قال: شيء سمعته يقوله.

قال: ما هو؟!

قال: بعثني رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) والزبير، وأبا مرثد، وكلنا فارس.

قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ. فإن فيها امرأة معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فأتوني بها.

فانطلقنا على أفراسنا حتى أدركناها حيث قال لنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، تسير على بعير لها. ثم ذكرت الرواية أنهم سألوها عن الكتاب فأنكرته، قال:

فأنخنا بها بعيرها، فابتغينا في رحلها، فما وجدنا شيئاً، فقال صاحبي:

٢٤٦

ما نرى معها كتاباً.

فقلت: لقد علمنا ما كذب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ثم حلف علي: والذي يحلف به، لتخرجن الكتاب أو لأجردنك.

ثم ذكرت الرواية: إن المرأة أخرجت لهم الكتاب من حجزتها، فأتوا به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فقال عمر: يا رسول الله، قد خان الله، ورسوله، والمؤمنين، دعني فأضرب عنقه.

فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): يا حاطب، ما حملك على ما صنعت؟!

قال: يا رسول الله، ما لي أن لا أكون مؤمنـاً بالله ورسوله، ولكني أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع بها عن أهلي ومالي. وليس من أصحابك أحد إلا له هنالك من قومه من يدفع الله به عن أهله وماله.

قال: صدق. لا تقولوا إلا خيراً.

قال: فعاد عمر، فقال: يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، دعني فلأضرب عنقه.

قال: أوليس من أهل بدر؟! وما يدريك لعل الله اطَّلع عليهم، فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة؟!

فاغرورقت عيناه، فقال: الله ورسوله أعلم(1) .

____________

1- بحار الأنوار ج30 ص577 وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج8 ص55 وعمدة القاري ج24 ص93 وإمتاع الأسماع ج13 ص378.

٢٤٧

ونقول:

أولاً: إن علياً (عليه‌السلام ) لم يكن هو المبادر لحرب الجمل وصفين والنهروان، ليقال: إنه (عليه‌السلام ) تجرأ على الدماء، بل كانوا هم الذين بغوا عليه وقاتلوه..

ثانياً: إن أبا بكر قد حارب المسلمين الذين لم يبايعوه، ولم يعطوه زكاة أموالهم، وأصروا على تفريقها في فقرائهم(1) .

وقتل أيضاً: مالك بن نويرة بيد خالد بن الوليد، ووفر له أبو بكر الغطاء والحماية التامة، رغم أنه زنى بإمرأته في نفس الليلة التي تلت قتله، وستأتي هذه القضية مع مصادرها إن شاء الله.

فلماذا لا يقال: إن أبا بكر قد تجرأ على الدماء؟!

ثالثاً: إذا كان علي (عليه‌السلام ) قد تجرأ على الدماء، لمجرد تهديده لتلك المرأة بالقتل، فإن المتجرئ الحقيقي هو رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، لأنه هو الذي أمره بقتلها إن امتنعت عن إعطائهم الرسالة..

وإذا كان علي (عليه‌السلام ) متجرئاً، لأنه من أهل بدر، ولعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم، فإن ذلك لا يختص بعلي (عليه‌السلام )، بل يشمل كل من حضر بدراً. ومنهم: طلحة والزبير وعمر وأبو بكر فلماذا لا يقال: إن الجرأة على الدماء كانت منهم؟!

____________

1- المصنف للصنعاني ج4 ص43 وج6 ص67 وج10 ص172 ومسند أحمد ج1 ص35.

٢٤٨

رابعاً: إن عمر بن الخطاب هو الذي تجرأ على الدماء حين قال لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عن حاطب: مرني بقتله.. وقد طلب هذا الطلب من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مرات كثيرة في العديد من المناسبات.

خامساً: إن علياً (عليه‌السلام ) كان يدافع عن نفسه، ويدفع الناكثين والباغين عليه وعلى الدين وأهل الدين، فهم المتجرؤون على الدماء، وعلى معصية رب الأرض والسماء..

علي (عليه‌السلام ) وأبو سفيان بن الحارث:

ويقولون: إن أبا سفيان بن الحارث قدم على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فلقيه بالأبواء، أو بنبق العقاب وهو في طريقه لفتح مكة. وكان أخا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من الرضاعة، فإن حليمة أرضعته أياماً، فالتمس الدخول على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فأعرض عنه.

وقيل: إن علياً (عليه‌السلام ) قال لأبي سفيان هنا: ائت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف:( ..تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) ؛ فإنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لا يرضى بأن يكون أحد أحسن قولاً منه، ففعل.

فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ):( لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (1) .

____________

1- الآيتان 91 و 92 من سورة يوسف.

٢٤٩

وكان أبو سفيان قد عادى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) نحو عشرين سنة، يهجوه، ولم يتخلف عن قتاله(1) .

وثمة نص آخر يقول: إن علياً (عليه‌السلام ) رفض أن يتوسط له عند النبي، كما رفض العباس:

ونقول:

إن لنا هنا ملاحظات، هي التالية:

1 ـ إن توسط العباس لأبي سفيان بن الحارث موضع ريب، لأن ثمة رواية عن الإمام الباقر (عليه‌السلام ) تصرح: بأن العباس كان من الطلقاء(2) . وهي رواية صحيحة(3) ..

2 ـ إن ثمة تناقضاً في موضوع وساطة العباس لأبي سفيان بن الحارث

____________

1- السيرة الحلبية ج3 ص77 و (ط دار المعرفة) ص14 وإمتاع الأسماع ج1 ص356.

2- الكافي (مطبعة النجف سنة 1385 هـ) ج8 ص165 و (ط دار الكتب الإسلامية) ص189 الحديث رقم 216 وبحار الأنوار ج28 ص251 ومعجم رجال الحديث ج10 ص252 ومجمع النورين للمرندي ص89 وبيت الأحزان ص128 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) في الكتاب والسنة والتاريخ للريشهري ج3 ص65 وعقيل بن أبي طالب للأحمدي الميانجي ص78.

3- راجـع المصادر في الهامش السابق، وراجع: معجم رجال الحديث ج9 ص235.

٢٥٠

ففي بعضها أنه توسط له(1) .

وفي البعض الآخر: أنه رفض التوسط له(2) .

3 ـ إن أبا سفيان بن الحارث إن كان قد جاء ليسلم تائباً، فلماذا لا يقبل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) توبته؟! فالإسلام يَجُبُّ ما قبله، وقد قال تعالى:

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَـهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) (3) .

4 ـ هل صنع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بأبي سفيان بن حرب مثل ما صنع بأبي سفيان بن الحارث؟!

إلا إذا كان قد ظهر من حال هذا الرجل أنه راغب في حقن دم نفسه، وإصلاح علاقته بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كشخص، لا أنه يريد الدخول في هذا الدين..

وقد ظهر من كلامه: أنه إنما خرج إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) خوفاً من القتل، بعد أن أهدر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) دمه، وقد ضاقت عليه الدنيا ولم يعد يجد أحداً يصحبه، بعد أن ضرب الإسلام بجرانه(4) . فأظهر

____________

1- مناقب آل أبي طالب ج1 ص178 وإعلام الورى ج1 ص219 وبحار الأنوار ج21 ص127 و128 ومستدرك سفينة البحار ج8 ص101.

2- قاموس الرجال ج5 ص237 عن أنساب الأشراف وكتاب التوابين ص113 و114.

3- الآية 64 من سورة النساء.

4- راجع: قاموس الرجال ج5 ص237 وكتاب التوابين ص113 و114.

٢٥١

(صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أن العقدة لا تنحل باسترضاء شخص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، بل هي تنحل بالتخلي عن العناد والإستكبار والجحود والعودة إلى الله تبارك وتعالى، فإن المسألة ليست من المسائل الشخصية. بل هي مسألة الحق والباطل، والإيمان والكفر، والتسليم والجحود.

ويشهد لما نقول: أنه حين استشار علياً (عليه‌السلام )، فأشار عليه بأن يقول للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ):( تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) (1) ففعل، فاستجاب له النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وأنعم له بالرضا.

ونقول:

إن هذه المبادرة تعني أمرين:

أحدهما: الإعتراف منه بالخطأ في اختيار خط الشرك والكفر، لا الإعتراف بمجرد الخطأ في الممارسة تجاه شخصٍ بعينه..

الثاني: الإعتراف للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بالنبوة، وبأن الله قد آثره بها عليهم..

وهذا هو الذي يصلح ما أفسده، ويعيد الأمور إلى نصابها الصحيح..

____________

1- الآية 91 من سورة يوسف.

٢٥٢

الفصل الثاني:

فتح مكة وتحطيم الأصنام..

٢٥٣

٢٥٤

اللواء في فتح مكة:

ولا حاجة إلى التذكير بأن اللواء الأعظم والراية العظمى كانت في جميع المشاهد ومنها فتح مكة مع علي (عليه‌السلام )..

ولكنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أعطى رايات وألوية أخرى بعناوين مختلفة لكل بطن من بطون الأنصار، وغيرهم مع المهاجرين أيضاً، ومنهم سعد بن عبادة، فزعموا أن سعداً كانت معه راية رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

فلما رأى سعد أبا سفيان قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى (أو تستحل الحرمة).

فسمعها عمر، فأخبر بها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فقال لعلي (عليه‌السلام ): أدركه، وخذ الراية، وكن أنت الذي تدخل بها(1) .

وفي نص آخر: أنه أرسل إلى سعد، فنزع منه اللواء، وجعله إلى ابنه قيس(2) .

____________

1- تاريخ الخميس ج2 ص82.

2- السيرة الحلبية ج3 ص82 و (ط دار المعرفة) ج3 ص22 والمغازي للواقدي ج2 ص822 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج2 ص598 وكنز العمال ج10 ص513 وتاريخ مدينة = = دمشق ج23 ص454 وإمتاع الأسماع ج1 ص382 وعيون الأثر ج2 ص191 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص222 وراجع: تاريخ الخميس ج2 ص82 والغدير ج2 ص75 وفتح الباري ج8 ص7 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج17 ص272.

٢٥٥

وفي نص رابع يقول: إن أبا سفيان هو الذي أخبر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بما يقوله سعد، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لعلي (عليه‌السلام ): أدركه، فخذ الراية منه، وكن أنت الذي يدخل بها، وأدخلها إدخالاً رفيقاً.

فأخذها علي (عليه‌السلام )، وأدخلها كما أمر(1) .

زاد في نص آخر قوله: فذهب بها إلى مكة، فغرزها عند الركن(2) .

وروي: أن الزبير هو الذي أخذها من سعد(3) .

____________

1- مجمع البيان ج10 ص557 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج10 ص472 وبحار الأنوار ج21 ص105 و130 والإرشاد للمفيد ج1 ص135 ونور الثقلين ج5 ص696 وتفسير الميزان ج20 ص382.

2- المغازي للواقدي ج2 ص822 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص222 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج2 ص599 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج17 ص272.

3- راجع: فتح الباري ج8 ص7 وعمدة القاري ج17 ص280 والدرر لابن عبد البر ص218 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج4 ص338 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص559 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص222 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج3 ص1289 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج18 ص74 وخلاصة عبقات الأنوار ج8 ص330

٢٥٦

ونقول:

إننا نسجل ما يلي:

الراية واللواء:

لاحظنا آنفاً، وسيمر معنا أيضاً تعابير بكلمة (لواء) تارة و (راية) أخرى عن شيء واحد، وهذا يشير إلى عدم الفرق بين اللواء والراية..

ولكن بعض الروايات أشارت إلى أن أحدهما أكبر من الآخر. وقد تحدثنا عن هذا الأمر أكثر من مرة، فلا حاجة إلى التكرار.

الراية للزبير، أم لعلي (عليه‌السلام )؟!:

بالنسبة لقولهم: إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أخذ الراية من سعد، وأعطاها للزبير، نقول: إنها رواية زبيرية.. رواها الزبير نفسه، ليجر بها النار إلى قرصه، وروجها له الزبيريون أيضاً..

ونحن نستبعد أن يكون (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد كلف الزبير بمهمة أخذ الراية من سعد، فقد عرفنا أن الزبير لم يكن على يقين من صدق النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حين أخبر بحمل تلك المرأة رسالة حاطب بن أبي بلتعة إلى المكيين، وحكم ببراءتها، وطلب من علي (عليه‌السلام ) إطلاق سراحها كما تقدم، فكيف يكلفه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بأخذ الراية من سعد، وهي مهمة حساسة قد يؤدي أدنى سوء تصرف فيها إلى تعقيدات لم يكن من المصلحة ظهورها، خصوصاً في تلك اللحظات الحساسة؟!

فلا بد من تكليف رجل حكيم بصير، يحسن التصرف، ويطمئن (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

٢٥٧

إلى أنه يحل الإشكال، ولا يزيده تعقيداً، ولا يجتهد في اتخاذ قرارات تخالف أوامر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وتضيع أهدافه..

لماذا علي (عليه‌السلام )؟!:

وقد اختار رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) علياً (عليه‌السلام ) ليكون هو الذي يأخذ الراية من سعد.

أولاً: لأن علياً (عليه‌السلام ) هو الذي يمثل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ويبلغ عنه.. وينطق باسمه، وأقرب الناس إليه.. فلا مجال للشبهة وللشك فيما يؤديه عنه..

ولو أن أي إنسان آخر جاء إلى سعد، وهو سيد الخزرج، وطلب الراية منه، فربما تحمل الحمية، والحساسيات القبلية سعداً إلى تكذيب ذلك الشخص، ولا سيما إذا أحس سعد بأن ثمة درجة من التحدي له، أو الإستهانة به، والمساس بكبريائه في ذلك..

ولا يؤمن بعد هذا من تطور الأمور، وتعصب قوم سعد لسعد، وسيجد الآخر من قومه، أو من فريقه من يتعصب له.. وهذا ما لا يريده رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أصلاً، ولا سيما في هذا الظرف الحساس بالذات.

ثانياً: إن حكمة علي (عليه‌السلام ) وحسن تصرفه، يمنع الكثير من ردات الفعل المحتملة، ويجعلها بلا مبرر.. لأنه (عليه‌السلام ) لا بد أن يفهم سعداً أن الأمر ليس فيه إهانة ولا إذلال، وإنما هو مجرد تدبير اقتضته المصلحة العامة، ولأجل تسهيل الأمور، وبلوغ الأهداف، بمراعات

٢٥٨

توقعات قريش وبعض الإعتبارات التي ترتبط بموقع علي (عليه‌السلام ) منها. وبغير ذلك من أمور.

ثالثاً: إن الراية حين تؤخذ بواسطة من هو دون سعد في المقام، أو في الشجاعة والإقدام، فإن ذلك يثير الشكوك حول سعد، ويذكي احتمال أن يكون قد صدر من سعد ما يشين، أو وقع في خطيئة، أو رذيلة أوجبت عقوبته بهذه الطريقة..

أما إذا أخذ الراية من هو أعظم من سعد أثراً، وأشد خطراً على الأعداء، باعتراف الناس كلهم، فإن الجميع سيشعر أن ذلك تدبير حربي جاء وفق الحكمة، وأنه لا بد منه ولا محيد عنه، وهو يهدف إلى تخويف المشركين من سطوة علي (عليه‌السلام )، وهزيمتهم روحياً بذلك.. لأن المشركين لا يخشون غير علي (عليه‌السلام ) في ساحات النزال والقتال..

إدخال الراية برفق:

وقد ذكر النص المتقدم: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) طلب من علي (عليه‌السلام ) أن يدخل الراية إلى مكة إدخالاً رفيقاً.. أي أن المطلوب هو أن يكبت الله المشركين، ويكسر شوكتهم، ويسقط مقاومتهم، بأن يعرفوا أنها مقاومة لا فائدة منها.. ولكن من دون أن يشعروا: أن أبواب الحياة موصدة، وأن لا خيار أمامهم سوى الموت.

بل المطلوب هو فتح باب الأمل أمامهم، بإمكان العيش مع المسلمين، إذا تخلت قريش عن الحرب والمنابذة والجحود.. وأن معاملتهم لهم لن يكون فيها خشونة، ولا عنجهية، واستكبار، رغم كل ما ألحقه المشركون

٢٥٩

بهم من أذى.. فلماذا يختارون طريق المنابذة التي لا تجر عليهم سوى البلاء والبوار، والخراب والدمار؟!..

وها هم يلمسون هذا الرفق، لدى المسلمين منذ اللحظة الأولى، ممن ذاقوا طعم ذباب سيفه طيلة سنين..

والإنسان يميل بطبعه إلى الراحة، والسلامة.. فلماذا يصرون على ما فيه تعب وشقاء، وجهد وبلاء؟!..

فهذا الحزم والحسم إذا رافقه ذلك الرفق واللين، فهو رفق القوي، الحازم، الذي لم يكن رفقه قراراً فرضته الإستجابة لضرورات الضعف، والتغلب على المشكلات، بل هو رفق نابع من عمق ذاته، وهو مقتضى طبعه، وليس رفق المصلحة الذي يمكن أن يتحول إلى قسوة وشراسة، إذا اختلفت الظروف، وتبدلت المصالح..

إعطاء الراية لقيس بن سعد..:

وقد ذكرت النصوص: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد أخذ الراية من سعد، وأعطاها لولده قيس..

ونحن لا نرى في هذا ما يتناقض مع ما تقدم من إعطائها لعلي (عليه‌السلام ).. إذ يمكن أن تكون مهمة علي (عليه‌السلام ) تنتهي حين إيصاله الراية إلى الركن، وغرزها عنده.. ثم تكون بعد ذلك لقيس بن سعد بن عبادة، باعتبار أنها إذا اعطيت لابن سعد، فكأنها لم تخرج عن سعد نفسه، لأن ولده منه..

٢٦٠