• البداية
  • السابق
  • 352 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19862 / تحميل: 4784
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سرة المرتضى) الجزء 8

مؤلف:
العربية

الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه‌السلام )

(المرتضى من سيرة المرتضى)

الجزء الثامن

السيد جعفر مرتضى العاملي

١

٢

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما‌السلام ) للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٣

الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه‌السلام )

(المرتضى من سيرة المرتضى)

الجزء الثامن

السيد جعفر مرتضى العاملي

٤

الفصل الثاني:

علم.. وقضاء..

٥

٦

قضاء علي.. وقضاء الشيخين:

روى جمع من العامة، عن مصعب بن سلام التميمي، ومن طرق الخاصة بسندهم عن الصادق (عليه‌السلام ) وغيره، أنه قال: ثور قتل حماراً على عهد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فرفع ذلك إليه، وهو في أناس من أصحابه، منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): يا أبا بكر، إقض بينهما.

فقال: يا رسول الله، بهيمة قتلت بهيمة، ما عليها شيء.

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لعمر: اقض بينهما.

فقال كقول أبي بكر صاحبه.

فالتفت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى علي (عليه‌السلام ) وقال له: يا علي، اقض بينهما.

فقال: حباً وكرامة، إن كان الثور دخل على الحمار فقتله في مستراحه ضمن أصحاب الثور دية الحمار، وإن كان الحمار دخل على الثور في مستراحه فلا ضمان على صاحب الثور.

فرفع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يده إلى السماء وقال: الحمد لله

٧

الذي منَّ على العباد بمن يقضي قضاء النبيين(1) .

ونقول:

في هذه الرواية إشارات عديدة، نجملها في ما يلي:

1 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) اكتفى بقضاء أبي بكر وعمر، ولم يطلب ذلك من عثمان، ربما لأنهما هما الأساس في الخلاف على أمير المؤمنين، فإذا ظهر حالهما في القضاء، وسقط اعتبارهما فيه، لم تصل النوبة إلى الآخرين.

2 ـ يلاحظ: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد انتدب أبا بكر للقضاء أولاً، وسماه باسمه، ليظهر أنه هو المقصود في هذا الأمر، فلم يعد له مناص منه.

ثم نص على عمر، فكان الأمر كذلك.

____________

1- الأربعين لأبي الفوارس ص13 وينابيع المودة ص76 وراجع الفصول المهمة ص34 وإرشاد المفيد ص185 الفصل 75 من الباب 2، وكذا في مناقب آل أبي طالب ج2 ص254 وبحار الأنوار ج40 ص246 وشرح إحقاق الحق ج8 ص48 وراجع: الكافي ج7 ص352 وخصائص الأئمة ص81 وتهذيب الأحكام ج10 ص229 و الفضائل لشاذان ص167 وعوالي اللآلي ج3 ص626 وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص354 وعجائب أحكام أمير المؤمنين للسيد محسن الأمين ص46 وغاية المرام ج5 ص255 وينابيع المودة ج1 ص228 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج29 ص256 و (ط دار الإسلامية) ج19 ص191 ومستدرك الوسائل ج18 ص321 والروضة في فضائل أمير المؤمنين لشاذان ص208

٨

ولم يطلب من الحاضرين أن يقضوا في القضية، بأن يقول: اقضوا في هذه القضية، فيتقدم كل واحد منهم فيدلي بدلوه، إذ قد لا يتقدم هذان الرجلان لذلك، ليصونا بذلك أنفسهما عن التعرض للمزالق..

3 ـ يلاحظ: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يعلق على قضاء أبي بكر ولا على قضاء عمر بنفي أو إثبات، إذ لو صوَّب أو خطَّأ قضاء أبي بكر، أو قضاء عمر، لاتخذ الذي يأتي بعد هذا أو ذاك منحى آخر، يفرضه عليه ما يقوله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). ولأجل ذلك أبقى (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الأمر في دائرة الابهام والإحتمال.

4 ـ والغريب في الأمر ذلك التعليل الذي انقدح في ذهن أبي بكر، فبنى عليه حكمه في المورد، حيث قال: (بهيمة قتلت بهيمة، ما عليها من شيء..) ثم وافقه عمر على ذلك.

وكأنهما ظنا: أن المطلوب هو مجازاة البهيمة القاتلة بالقتل، أو بالسجن، أو بتغريمها ثمن البهيمة المقتولة مع أن الكلام إنما هو في تغريم صاحب البهيمة القاتلة ثمن البهيمة المقتولة لصاحبها.

والنزاع لم يكن بين الثور وأقارب الحمار.. بل كان بين صاحب الثور وصاحب الحمار، الذي يطالبه بثمن حماره، أو تهيئة مثله له.

وكان على عمر وأبي بكر أن يفهما مرجع الضمير في قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): اقض بينهما، وأنه يرجع إلى الرجلين، لا إلى الثور والحمار!!.

5 ـ والأغرب من هذا وذاك هو هذه العفوية التي ساقها أبو بكر وعمر للتدليل على بداهة حكم المسألة، ووضوحه الذي لا يقاوم، والذي

٩

يغني المتخاصمين عن الترافع، بل وعن التنازع.

6 ـ وعلينا أن نتأمل كثيراً، ونتوقف طويلاً عند قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فإنه وإن كان قد أعرض عن الحديث عن قضاء عمر وأبي بكر, ولكنه ذكر قضاء علي (عليه‌السلام ) بصورة اهتز لها الطامحون والطامعون والمناوئون له من الأعماق.. حيث إنه جعل قضاءه (عليه‌السلام ) قضاء النبيين, ليدلل على أنه (عليه‌السلام ) هو وارثهم, والأحق بمقامهم, والقادر على مواصلة نهجهم, وتحقيق أهدافهم.

7 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) جعل نفس وجود علي (عليه‌السلام ) من منن الله تعالى على العباد التي لا بد أن يحمد عليها..

وهذا يشير إلى أن على العباد أن يتعاملوا مع علي (عليه‌السلام ) بما يتوافق مع هذا العطاء الإلهي لهم..

وهو يعني: أن وجود علي (عليه‌السلام ) له أعظم الأثر على العباد, وليس كوجود أي كان من الناس. فكيف ولماذا يقاس بغيره.

فأين الثريا من الثرى؟! وأين معاوية من علي؟!

8 ـ ونعود إلى التذكير بأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد جسد للناس عدم أهلية غير علي (عليه‌السلام ) للمقامات التي يطمحون إليها، وأن وجودهم بالنسبة للعباد لا يختلف عن وجود غيرهم من سائر الناس, فقد يكون نافعاً لهم, وقد لا يكون, بل قد يكون بالغ الضرر لهم.

وجسد لهم أيضاً أهلية علي (عليه‌السلام ) بصورة عملية في فعل علي (عليه‌السلام ), وفي رفع يديه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لحمد الله, والثناء عليه.

١٠

وجسده أيضاً: بالكلمة القوية التي أطلقها في حق علي (عليه‌السلام )، لتضمنها تصويب قضائه. والإرتفاع بهذا القضاء إلى مستوى قضاء النبيين, ثم اعتبار نفس وجود علي (عليه‌السلام ) من المنن الإلهية التي لا بد أن يحمد على عليها.

القرعة لكل أمر مشكل:

عن حريز، عن أحدهما (عليهما‌السلام ) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) باليمن في قوم انهدمت عليهم دار لهم، فبقي صبيان: أحدهما مملوك، والآخر حر، فأسهم بينهما، فخرج السهم على أحدهما، فجعل المال له وأعتق الآخر(1) .

ونقول:

إن القرعة لكل أمر مشكل, وهي هنا وإن كانت قد حلت مشكلة المال، فصار لأحدهما دون الآخر. لكن موضوع الرقية والعبودية لا يستخرج بالقرعة, لأن الإنسان يمكن أن يُعطى المال وأن يؤخذ منه, وقد يعطيه الإنسان لغيره, وقد يحتفظ به لنفسه. لكن ليس لأحد الحق في أن

____________

1- قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام " ص163 عن الكافي، وتهذيب الأحكام، وعن الإرشاد للمفيد. والكافي ج7 ص137 وتهذيب الأحكام ج6 ص239 وج9 ص362 و 363 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج26 ص311 وج27 ص259 و (ط دار الإسلامية) ج17 ص592 وج18 ص179 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص85.

١١

يتنازل عن حريته, ويجعل نفسه مملوكاً,كما أنه ليس من حق أحد أن يستعبد من جعله الله حراً، لا بواسطة القرعة، ولا بغيرها.

وإعطاء المال لمن خرجت القرعة باسمه لا يجعله حراً، ولا الطفل الآخر عبداً. ولكن احتمال أن يكون الطرف الآخر عبداً يبقى قائماً. وقد يقوى في ذهن العوام، بل في ذهن الذي أخذ المال أن الشخص الآخر عبد.

وقد حصل التخلص من هذا المحذور كان بمبادرته (عليه‌السلام ) إلى إعتاق الطفل الآخر لإزالة أي احتمال في حقه.

حدث في الجاهلية وقضاء في الإسلام:

عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه‌السلام )، قال: قضى علي (عليه‌السلام ) في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، وذلك في الجاهلية قبل أن يظهر الإسلام، فأقرع بينهم، فجعل الولد لمن (للذي ـ ئل) قرع له، وجعل عليه ثلثي الدية للآخرين.

فضحك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حتى بدت نواجذه.

قال: وقال: ما أعلم فيها شيئاً إلا ما قضى علي (عليه‌السلام )(1) .

____________

1- قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام " ص162 عن الشيخ، وعن المفيد، والكليني مع اختلاف. وعن مناقب آل أبي طالب عن أبي داود، وابن ماجة في سننهما، وابن بطة، وابن حنبل في فضائله، وابن مردويه بطرق كثيرة عن زيد بن أرقم. والحدائق الناضرة ج25 ص25 ورياض المسائل ج10 ص499= = وعوائد الأيام ص649 وجواهر الكلام ج29 ص262 ونيل الأوطار ج7 ص78 والسنن الكبرى للبيهقي ج10 ص266 وغاية المرام ج5 ص256 وسنن ابن ماجة ج2 ص786 وسنن أبي داود ج1 ص506 وسنن النسائي ج6 ص182 والمستدرك للحاكم ج2 ص207 وج3 ص135 والسنن الكبرى للبيهقي ج10 ص267 والمصنف لابن أبي شيبة ج7 ص386 والسنن الكبرى للنسائي ج3 ص379 و 496 وشرح معاني الآثار ج4 ص382 والمعجم الكبير للطبراني ج5 ص173 ونصب الراية ج4 ص49 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج5 ص841 والدراية في تخريج أحاديث الهداية ج2 ص89 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث) ج5 ص124 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص208 و 209 وينابيع المودة ج1 ص227 وتخريج الأحاديث والآثار ج3 ص15 ومعرفة السنن والآثار ج7 ص475 والإستبصار للطوسي ج3 ص368 وتهذيب الأحكام ج8 ص169 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج21 ص171 و (ط دار الإسلامية) ج14 ص566 وجامع أحاديث الشيعة ج21 ص116 وج25 ص90.

١٢

ونقول:

1 ـ إن القرعة قد عينت من يأخذ الولد, ويكون له.. ويبدو أن الثلاثة قد واقعوا جارية كان يملك كل منهم ثلثها.

فأعطاه (عليه‌السلام ) الولد وأسقط عنه حصته وهي الثلث, وضمَّنه الثلثين لرفيقيه المشاركين له في ملكية الجارية, فإن لكل واحد منهما ثلثها

١٣

أيضاً.

2 ـ لعله (عليه‌السلام ) قد أسقط الحد عنهم, لأنهم إنما فعلوا ذلك, وحملت بالولد في أيام جاهليتهم وكفرهم, ثم ولدته بعد إسلامهم.. والإسلام يجب ما قبله، فلا يقام الحد بعد الإسلام على من زنى قبل الإسلام.

3 ـ لقد ضحك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حتى بدت نواجذه، إعجاباً وفرحاً بقضاء علي (عليه‌السلام ) المصيب للواقع..

القارصة والقامصة والواقصة:

روي: أن جارية حملت جارية أخرى على عاتقها عبثاً ولعباً، فجاءت جارية ثالثة، أخرى فقرصت الحاملة، فقفزت لقرصتها، فوقعت الراكبة، فاندقت عنقها وهلكت.

فقضى (عليه‌السلام ) على القارصة بثلث الدية، وعلى القامصة بثلثها، وأسقط الثلث الباقي بقموص الراكبة لركوب الواقصة عبثاً القامصة.

وبلغ الخبر بذلك إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فأمضاه وشهد له بالصواب به(1) .

____________

1- قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام " ص37 والإرشاد للمفيد ص105 و (ط دار المفيد) ج1 ص196 والمقنعة ص117 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج29 ص240 و241 و (ط دار الإسلامية) ج19 ص179 = = وجواهر الكلام ج43 ص75 وجامع المدارك ج6 ص196 وبحار الأنوار ج40 ص245 وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص360 وعجائب أحكام أمير المؤمنين للسيد محسن الأمين ص40.

١٤

قال التستري:

وأما ما رواه الصدوق والشيخ عن الأصبغ قال: قضى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في جارية ركبت جارية، فنخستها جارية أخرى، فقمصت المركوبة، فصرعت الراكبة فماتت، فقضى بديتها نصفين بين الناخسة والمنخوسة(1) .. فمن روايات محمد بن أحمد بن يحيى عن أبي عبد الله، عن محمد بن عبد الله بن مهران، وقد استثنى ابن الوليد وابن بابويه وابن نوح روايته عنهما. وقررهم على ذلك الشيخ والنجاشي.

وفي طريقه أيضاً: أبو جميلة، وهو المفضل بن صالح، وحكم النجاشي بضعفه، وصرح ابن الغضائري بوضعه الحديث.

ورواية المفيد وإن كانت مرسلة إلا أن إرسال مثله معتبر، وقد ذكره في

____________

1- قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام " ص37 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج29 ص240 و (ط دار الإسلامية) ج19 ص179 وتهذيب الأحكام ج10 ص241 ومن لا يحضره الفقيه ج4 ص125 و (ط مركز النشر الإسلامي) ج4 ص170 والنهاية للطوسي ص763 والسرائر لابن إدريس ج3 ص373 ومختلف الشيعة ج9 ص337 ومستدرك الوسائل ج18 ص316 و 317.

١٥

الإرشاد والمقنعة.

فإن قيل: خبر التنصيف من روايات الخاصة، والأصل في التثليث العامة، بدليل أن صاحب المناقب رواه عن أبي عبيدة في غريب الحديث، وابن مهدي في نزهة الأبصار، عن الأصبغ هكذا: قضى (عليه‌السلام ) في القارصة والقامصة والواقصة، وهن ثلاث جوار كن يلعبن، فركبت إحداهن صاحبتها، فقرصتها الثالثة، فقمصت المركوبة، فوقعت الراكبة فوقصت عنقها، فقضى بالدية أثلاثاً، وأسقط حصة الراكبة لما أعانت على نفسها، فبلغ ذلك النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فاستصوبه.

قلنا: على تسليم استناد المفيد إلى تلك الرواية، يكون هي أولى بموافقته للإعتبار الصحيح، مع ضعف سند الأول بمن تقدم، وبسعد بن طريف عند الأكثر(1) .

ملاحظة:

قرص لحمه: أخذه ولوى عليه بإصبعه فآلمه.

قمصت الدابة: أي وثبت ونفرت.

وقص عنقه: كسرها ودقها.

والمراد بالواقصة هنا: (التي هي اسم فاعل) معنى اسم المفعول.

____________

1- قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام )" ص38.

١٦

الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يمتحن أصحابه:

وروي: جابر وابن عباس: أن أبي بن كعب قرأ عند النبي:( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) (1) . فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لقوم عنده، وفيهم: أبو بكر، وأبو عبيدة، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن: قولوا الآن: ما أول نعمة غرسكم الله بها، وبلاكم بها.

فخاضوا في المعاش والرياش، والذرية والأزواج، فلما أمسكوا قال: يا أبا الحسن، قل.

فقال (عليه‌السلام ): إن الله خلقني ولم أك شيئاً مذكوراً، وأن أحسن بي فجعلني حياً لا مواتاً، وأن أنشأني ـ فله الحمد ـ في أحسن صورة، وأعدل تركيب، وأن جعلني متفكراً واعياً لا أبله ساهياً، وأن جعل لي شواعر أدرك بها ما ابتغيت، وجعل فيَّ سراجاً منيراً، وأن هداني لدينه، ولن يضلني عن سبيله، وأن جعل لي مراداً في حياة لا انقطاع لها، وأن جعلني ملكاً مالكاً لا مملوكاً، وأن سخر لي سمائه وأرضه وما فيهما وما بينهما من خلقه، وأن جعلنا ذكراناً قواماً على حلائلنا لا إناثاً.

وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول في كل كلمة: صدقت.

ثم قال: فما بعد هذا؟!

فقال علي (عليه‌السلام ):( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا ) (2) .

____________

سورة لقمان.

2- الآية 20 من سورة لقمان.

١٧

فتبسم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وقال: ليهنئك الحكمة، ليهنئك العلم يا أبا الحسن، أنت وارث علمي، والمبين لأمتي ما اختلفت فيه من بعدي، الخبر(1) .

ونقول:

لا بأس بالإشارة هنا إلى ما يلي:

قولوا الآن:

إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حين سأل القوم الذين عنده، حدَّد لهم وقتاً معيناً للإجابة، وزمناً خاصاً، فقال لهم: (قولوا الآن).

فلم يعطهم مهلة، يمكنهم فيها البحث عن إجابة لدى غيرهم. كما أنه ألزمهم بالبقاء في أمكنتهم.. لأن حصر زمان الإجابة بأن تكون (الآن) يجعل الإنتقال إلى مكان آخر، إما غير ذي جدوى، وإما غير مسموح به..

وارث علمي، والمبين لأمتي:

وقد أنتج هذا الإمتحان إعلان حقيقة: أن علم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) موجود عند علي (عليه‌السلام ) أيضاً، وأن غيره ممن سوف يسعى لاستلاب مقامه (عليه‌السلام ) فاقد لهذا العلم، الذي يحتاج إليه من يخلفه

____________

1- قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام " ص98 و99 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص177 و 178 وأعيان الشيعة ج1 ص415 وعجائب أحكام أمير المؤمنين ص173.

١٨

(صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في المرجعية للأمة، حين الإختلاف، وفي كل حين.. لا سيما حين تهجم عليها اللوابس..

ثم إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حصر المرجعية للأمة كلها بعلي (عليه‌السلام ). في كل موارد الإختلاف.

وأعظم مورد اختلاف وخلاف حصل في الأمة هو مقام الخلافة بعده (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. وهم ليس فقط لم يرجعوا إلى علي (عليه‌السلام ) فيه، بل قهروه على التخلي عنه..

لماذا يمتحنهم؟!:

لا شك في أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان عالماً بحال أصحابه، وبما عندهم من العلم، ولا يحتاج إلى أن يمتحنهم بهذا السؤال الذي وجهه إليهم، ويكلفهم الخوض في أمور لم يكن لهم أن يخوضوا فيها، لعدم أهليتهم لذلك.

ولكنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أراد بامتحانهم هذا: أن يعرفوا هم، ويعرف الناس عنهم الأمور التالية:

1 ـ إن الذين خاضوا فيما خاضوا فيه بمحضر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، إنما اقتحموا أموراً لم يكن ينبغي لهم أن يقتحموها. بل كان يجب عليهم الإقرار بعدم المعرفة، والتورع عن القول بغير علم، فإن الظن لا يغني من الحق شيئاً.. لا سيما وأن السؤال هو عن معنى آية قرآنية.. وقد نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عن تفسير القرآن بالرأي..

١٩

فمن لا يتورع أن يقول بغير علم بحضرة الرسول، وفي مورد صرح النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بالنهي عن القول فيه بغير علم.. لا بد أن يكون بعد رحيله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عن الدنيا أكثر جرأة على هذا الأمر، ولن يردعه رادع، ويمنعه مانع (إيماني أو وجداني) عن اقتحام جراثيم جهنم، إلا إن رأى أن أموره ستختل، وأن مصلحته الدنيوية تقضي عليه بالتريث أو الإنسحاب..

2 ـ إن هذا الإمتحان قد هدف إلى كشف حال رواد التمرد على شرع الله، ونقض التدبير الإلهي والنبوي، حين اتلعوا أعناقهم إلى أخطر وأجل وأعظم مقام بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، مدَّعين لأنفسهم الأهلية له، ويعدون العدة للإستيلاء عليه.

ولم يكن صاحب الحق قادراً على مواجهتهم بأكثر من الحجة والدليل، لأن في التعدي عن هذا الأسلوب تفريطاً بأمن الناس، وقد يفسح المجال لاختلال الأمور، وحصول الردة.

أما سائر الناس، فلعل الكثيرين منهم لا يملكون الحجة التي تفي بدفع ادعاءات أولئك الطامحين.. أو أنهم يخشون من مواجهتهم ـ ولو بالحجة ـ على مصالحهم أو أمنهم. ولعل بعضهم يغض الطرف عما يجري، لأنه يرى نفسه منتفعاً من هذا الجو الذي أثاروه وأوجدوه..

ليهنئك الحكمة والعلم:

وقد هنأ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) علياً (عليه‌السلام ) بالحكمة أولاً، ثم بالعلم ثانياً. والحكمة تحتاج إلى توفيق وتعليم، وهي هبة إلهية، لا ينالها

٢٠