• البداية
  • السابق
  • 352 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20115 / تحميل: 4945
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سرة المرتضى) الجزء 8

مؤلف:
العربية

غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (1) )(2) .

ونقول:

1 ـ إن انقضاض كوكب من السماء، وسقوطه في موضع بعينه ليس من الأمور التي تخضع لإرادات الناس العاديين، بل هو حدث كوني لا يرى الناس أن لهم فيه حيلة، ولا إلى بلوغه وسيلة..

كما لا سبيل لهم إلى تحديد موقع سقوط الكوكب، إذا لم يقع على مرأى مباشر منهم. فقول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لهم: من انقضَّ في داره فهو الخليفة من بعدي، لا يمكن إلا أن يكون بوحي من الله تبارك وتعالى.. إذ لا يعقل أن تجعل الإمامة والخلافة، وقيادة الأمة وهدايتها معلقة على الصدفة المحضة، فلعل الكوكب قد وقع في الصحراء، أو في إحدى ساحات أو طرقات وأزقة المدينة، ولم يقع في دار أحد. أو وقع في داركافر، أو منافق أو جاحد، أو امرأة أو مجنون. أو جاهل أو ما إلى ذلك.. فهل يمكن أن تسلم الأمة لأمثال هؤلاء؟!

2 ـ إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان قد بين لبني هاشم،

____________

1- الآيات 1 ـ 4 من سورة النجم.

2- در بحر المناقب (مخطوط) لابن حسنويه الموصلي الحنفي ص19 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج4 ص86 وغاية المرام ج4 ص235 والروضة في فضائل أمير المؤمنين ص172 وراجع: شرح الأخبار ج1 ص243 ومدينة المعاجز ج3 ص161.

٢٦١

ولغيرهم في مناسبات كثيرة من هو الإمام والخليفة من بعده، ومن ذلك حديث إنذار العشيرة الأقربين.

ولكن النفوس تأبى، والأهواء تمنع من الإستسلام والرضا.. فكانوا ينسبون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى الهوى والعصبية في ذلك.

فكأن الله تعالى أراد أن يخرج هذا الأمر عن دائرة اختيار رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ليفهمهم أن الأمر قرار إلهي، لا حيلة للنبي، ولا لغيره فيه. فما عليهم إلا الرضا به، والبخوع له. والكف عن إثارة الهواجس الباطلة بالطريقة التي لا يرضاها الله تبارك وتعالى..

3 ـ ما ذكرته الرواية الأخيرة، من أن أحد المنافقين خرج، وهو يتهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بالعمل بالهوى، وبأنه قد ركبته الغواية في علي (عليه‌السلام )، ربما كان قبل انقضاض الكوكب، وبعد إخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بانقضاضه.. ثم لما حصل ما حصل نزلت الآيات المباركة.

فإن هذا هو المسار الطبيعي للحدث، إذ لا معنى لأن يتهم ذلك المنافق النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بالعمل بالهوى والغواية، بعد ظهور هذه المعجزة العظيمة، التي كان قد أخبرهم بها قبل وقوعها.

أولئك هم خير البرية:

وروي عن جابر بن عبد الله، قال: كنا عند النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فأقبل علي بن أبي طالب (عليه‌السلام )، فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): قد أتاكم أخي.

٢٦٢

ثم التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثم قال: والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة.

ثم قال: إنه أولكم إيماناً معي، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله مزية.

قال: فنزلت( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (1) .

قال: وكان أصحاب محمد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إذا أقبل علي (عليه‌السلام ) قالوا: قد جاء خير البرية(2) .

ونقول:

نلاحظ هنا ما يلي:

____________

1- الآية 9 من سورة الحشر.

2- ترجمة الإمام علي (عليه‌السلام ) من تاريخ دمشق (تحقيق المحمودي) ج2 ص442 وتاريخ مدينة دمشق (تحقيق الشيري) ج42 ص371 وفضائل أمير المؤمنين لابن عقدة الكوفي ص219 وبشارة المصطفى ص196 و 296 والمناقب للخوارزمي ص111 وكشف الغمة ج1 ص151 وج2 ص23 وينابيع المودة ج1 ص196 والأمالي للطوسي ص251 والمحتضر للحلي ص168 وحلية الأبرار ج2 ص407 وبحار الأنوار ج38 ص5 وغاية المرام ج3 ص299 و 302 وج5 ص5 و 186 وج6 ص55 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج4 ص217 وج14 ص258.

٢٦٣

1 ـ صرحت الرواية: بأن هذا الذي جرى كان بجوار الكعبة، فدل ذلك على أن هذه القضية قد حصلت إما في عمرة القضاء، أو في فتح مكة، أو في حجة الوداع.

2 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول لأصحابه حين أقبل علي (عليه‌السلام ): (قد أتاكم أخي..) مع أن الحاضرين قد رأوا علياً (عليه‌السلام ) مقبلاً، كما رآه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). مما يعني: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد اتخذ من إقبال علي (عليه‌السلام ) ذريعة للحديث عن علي (عليه‌السلام )، وإبلاغهم أمراً يرى (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أن إبلاغهم له لازم وضروري..

وهذا الأمر إما للتأكيد على أمر سبق بيانه، أو هو تأسيس لأمر جديد، أو هما معاً، وهذا هو الظاهر كما بينته المضامين التي صدرت عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله )..

3 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد ذكر في هذه الرواية ما يلي:

ألف: ما هو بمثابة التذكير بأمر سابق، يريد للناس أن لا ينظروا إليه على أنه حدث عابر، بل هو أمر له أهميته البالغة، ويراد التأسيس والبناء عليه، ألا وهو موضوع أخوة علي (عليه‌السلام ) لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، التي تجلت في عملية المؤاخاة في مطلع الهجرة وقبلها.

ب: تقرير أمور هامة وأساسية لصيانتها عن التلاعب، وإفشال محاولات إنكارها، ألا وهي كونه (عليه‌السلام ) أولهم إيماناً، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله.

٢٦٤

4 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بين أمرين:

أولهما: أفضلية علي (عليه‌السلام ) على جميع الصحابة في ذاته، وشخصيته الإسلامية، فهو أولهم في الإيمان، وأولهم في العمل والممارسة، فإنه أوفاهم بعهد الله.

ثانيهما: إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فضل علياً (عليه‌السلام ) عليهم بأمور ترتبط بالحكومة والسلطة، وهي: كونه أقومهم بأمر الله، وأعدلهم في الرعية، وأقسمهم بالسوية، والأقوم بأمر الله، فقد أخرجهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عن عمومه بذكر الرعية والقسمة.. ليدل بصورة واضحة على أنه يريد أن يسد أمامهم باب منافسته (عليه‌السلام ) في أمر الحكومة والولاية.

5 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد وجه خطابه إلى الصحابة بصورة مباشرة، فقال: أولكم، أوفاكم، أقومكم، أعدلكم، أقسمكم، أعظمكم. وإنما لم يقل: أول الناس مثلاً، لكي يمنع من ظهور أي تأويل، أو توهُّم يريد أن يدعي: أنه يتحدث عن سائر الناس، ولم يقصد الحاضرين عنده، أو الصحابة.. أو كبارهم.. أو نحو ذلك..

6 ـ وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): أعظمكم عند الله مزية يشير إلى أن هذا الأمر قد ترك آثاره في مجال أسمى وأعظم من أن يمكنهم التصرف أو الإخلال فيه، لأنه أصبح قراراً إلهياً ماضياً..

وقد نزلت فيه آية مباركة تحسم كل جدل، ولا ينالها خطأ ولا خطل، ألا وهي قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ

٢٦٥

الْبَرِيَّةِ ) (1) .

7 ـ إن الطريقة التي اتبعها الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في بيان ما يريد، جاءت فريدة ورائعة، حيث أرفق الحدث بحركة غير متوقعة، وهو: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) التفت إلى الكعبة وضربها بيده، ليدلهم على أن ثمة أمراً اقتضى هذا التصرف الخارج عن المألوف.. لا بد أن يتلمسه المتأمل حين ينتهي الحدث، ليكتشف مبرارته، ثم يبقى يعيش في ذهنه، ويتمكن من استحضاره من خلال تذكره لهذه الحركة التي تشده، فتستخرجه من أعماق الذاكرة، وتحضره أمامه، ليتبصَّره وهو على درجة عالية من التألق والوضوح.

أما لو أورد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كلامه بعفوية وترسُّل، لكان على الذاكرة أن تبذل جهداً كبيراً للعثور عليه بين ذلك الركام الهائل من الصور المتناثرة.. وربما لا توفق للعثور عليه أصلاً..

8 ـ وقد ترك هذا الحدث أثره الظاهر في نفوس الناس، إلى حد أنهم كانوا إذا أقبل علي (عليه‌السلام ) قالوا: (قد جاء خير البرية).

9 ـ وبذلك يكون (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد أقام الحجة عليهم، وأكد حضورها في عقولهم وقلوبهم، حين ربطها بهذا الحدث، الذي أصبح يتبادر إلى أذهانهم بصورة عفوية، فتجذره في عمق الوجدان، وتمازج مع المشاعر، التي تنطلق لتعبر عن نفسها بعفوية ظاهرة.

10 ـ إن ضرب الكعبة بيده، ربما أريد به لفت النظر إلى أن ما يريد أن

____________

1- الآية 9 من سورة الحشر.

٢٦٦

يقرره له مساس بالكعبة وحفظها.. وتأكيد موقعها ومكانتها في النفوس..

كما أنه مرتبط بالتوحيد الذي تمثله الكعبة، وهي الرمز الأعظم والثابت له على مدى العصور والدهور.

فلا بد من الإنقياد والطاعة لله الواحد تبارك وتعالى، والقبول بأن الأمر له.. وأن على الناس أن لا ينقادوا لأهوائهم، وأن لا يستجيبوا لطموحاتهم في أقدس الأمور، وأشدها حساسية.

11 ـ وبعد.. فإن هذه الروايات قد وردت في مصادر لا تمت إلى الشيعة بصلة.. وقد دونها أناس لا يقولون بالإمامة، أو فقل: لا ينسجمون في مذاهبهم الإعتقادية مع نظام الإمامة، وما يترتب على الإعتقاد به من واجبات ومسؤوليات.

وربما يمكن استفادة أمور أخرى من النص المتقدم، وقد يكون بعضها أدق وأعمق، وأوضح وأصرح مما ذكرناه، غير أننا نكل أمر البحث عنها وبلورتها إلى القارئ إن شاء.

ألف حديث في جلسة واحدة:

عن أم سلمة زوجة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قالت: قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في مرضه الذي توفي فيه: ادعوا لي خليلي.

فأرسلت عائشة إلى أبيها، فلما جاء غطى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وجهه، وقال: ادعوا لي خليلي.

فرجع أبو بكر، وبعثت حفصة إلى أبيها، فلما جاء غطى رسول الله

٢٦٧

(صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وجهه، وقال: ادعوا لي خليلي.

فرجع عمر، وأرسلت فاطمة (عليها‌السلام ) إلى علي، فلما جاء قام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فدخل، ثم جلل علياً (عليه‌السلام ) بثوبه.

قال علي (عليه‌السلام ): فحدثني بألف حديث، يفتح كل حديث ألف حديث، حتى عرقت وعرق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فسال عليَّ عرقه، وسال عليه عرقي(1) .

وهذا الحديث بهذا المضمون عن بشير الدهقان، عن أبي عبد الله (عليه‌السلام )، وعن غيره كثير(2) .

ونقول:

أوردنا هذا الحديث، لنشير: إلى أنه لا مجال للإشكال عليه بأنه كيف يحدث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بألف حديث في مثل هذه العجالة؟! فإن هذا مما لا يمكن حدوثه في العادة.

____________

1- الخصال للصدوق ج2 ص642 وبحار الأنوار ج22 ص461 وبصائر الدرجات ص333 والإختصاص للمفيد ص285 وينابيع المعاجز ص148 وغاية المرام ج5 ص223.

2- بحار الأنوار ج22 ص463 و 461 وج26 ص29 وج40 ص130 والخصال للصدوق ج2 ص643 و 645 والإختصاص للمفيد ص283 والفصول المهمة للحر العاملي ج1 ص562 وينابيع المعاجز ص147 ونهج السعادة ج7 ص465 وتفسير نور الثقلين ج4 ص444 وغاية المرام ج5 ص222.

٢٦٨

ونجيب:

أولاً: من الذي قال: إن هذا التعليم كان بالوسائل العادية.. وباللغة والألفاظ المتعارفة والمألوفة. فلعل ثمة طريقة أو لغة أخرى يمكن اختزال الألفاظ فيها إلى أقل القليل، وبنحو لا يخدش في دلالاتها؟!

ومن الذي قال: إن هذه المناجات لم تستمر ساعة أو ساعتين أو أكثر، ولا سيما مع تصريح الرواية بعرق النبي والوصي (صلى الله عليهما وآلهما) حتى سال عرق كل منهما على الآخر.

ثانياً: إن العلم نور يقذفه الله في القلب(1) ، فلعل الله تعالى قد تصرف في النبي وفي علي (صلى الله عليهما وآلهما) حتى أمكن نقل هذا النور منه إليه، فحمل عنه ألف حديث يفتح له من كل حديث ألف حديث.

وفي الروايات ما يشير إلى انتقال علم الإمامة أو أسرارها بطرق غير عادية، لحظة اجتماع الإمام السابق باللاحق، قبيل وفاة السابق(2) .

____________

1- فيض القدير ج4 ص510 وتفسير ابن أبي حاتم ج10 ص3180 والدر المنثور ج5 ص250.

2- راجع على سبيل المثال: الأمالي للصدوق ص759 ـ 762 وبحار الأنوار ج49 ص300 ـ 303 وعيون أخبار الرضا ج2 ص242 و 244 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج1 ص271 ـ 274 وروضة الواعظين ص229 ـ 232 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص482 و 483 ومدينة المعاجز ج7 ص158 ـ 164 و 329 ـ 332 ومسند الإمـام الرضـا ج1 ص193ـ 196 وموسوعـة الإمام الجـواد = = للقزويني ج1 ص219 ـ 224 وإعلام الورى ج2 ص81 ـ 85 وكشف الغمة ج3 ص120 ـ 123.

٢٦٩

أم سلمة تشهد لعلي (عليه‌السلام ):

عن علي بن محمد بن المنكدر، عن أم سلمة زوجة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وكانت من ألطف نسائه، وأشدهن له حباً بعد زوجته خديجه (عليها‌السلام )، قال: وكان لها مولى يحضنها ورباها، وكان لا يصلي صلاة إلا سب علياً وشتمه.

فقالت: يا أبة، ما حملك على سب علي؟!

قال: لأنه قتل عثمان وشرك في دمه.

قالت له: لولا أنك مولاي وربيتني، وأنك عندي بمنزلة والدي ما حدثتك بسر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ولكن اجلس حتى أحدثك عن علي وما رأيته في حقه.

قالت: أقبل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وكان يومي، وإنما كان يصيبني في تسعة أيام يوم واحد، فدخل النبي وهو يخلل أصابعه في أصابع علي (عليه‌السلام ) واضعاً يده عليه، فقال: يا أم سلمة، أخرجي من البيت، وأخليه لنا.

فخرجت وأقبلا يتناجيان، وأسمع الكلام، ولا أدري ما يقولان، حتى إذا قلت: قد انتصف النهار، وأقبلت فقلت: السلام عليك يا رسول الله، ألج؟!

٢٧٠

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): لا تلجي، وارجعي مكانك.

ثم تناجيا طويلاً حتى قام عمود الظهر، فقلت: ذهب يومي، وشغله علي، فأقبلت أمشي حتى وقفت على الباب، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، ألج؟!

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): لا تلجي.

فرجعت، فجلست مكاني، حتى إذا قلت: قد زالت الشمس، الآن يخرج إلى الصلاة فيذهب يومي، ولم أر قط يوماً أطول منه، فأقبلت أمشي حتى وقفت فقلت: السلام عليك يا رسول الله، ألج؟!

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): نعم تلجي.

فدخلت وعلي واضع يده على ركبتي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، قد أدنى فاه من أذن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وفم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على أذن علي يتساران، وعلي يقول: أفأمضي وأفعل؟!

والنبي يقول: نعم.

فدخلت، وعلي معرض وجهه حتى دخلت، وخرج.

فأخذني النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأقعدني في حجره، فأصاب مني ما يصيب الرجل من أهله من اللطف والإعتذار، ثم قال: يا أم سلمة، لا تلوميني، فإن جبرئيل أتاني من الله بما هو كائن بعدي، وأمرني أن أوصي به علياً من بعدي، وكنت جالساً بين جبرئيل وعلي، وجبرئيل عن يميني وعلي عن شمالي، فأمرني جبرئيل أن آمر علياً بما هو كائن بعدي إلى يوم القيامة، فاعذريني ولا تلوميني، إن الله عز وجل اختار من كل أمة نبياً، واختار لكل

٢٧١

نبي وصياً، فأنا نبي هذه الأمة، وعلي وصيي في عترتي، وأهل بيتي، وأمتي من بعدي(1) .

ونقول:

نحتاج إلى التذكير هنا بالعديد من الأمور، نذكر منها:

1 ـ إن مكانة علي (عليه‌السلام ) لدى أم سلمة لا تعدلها مكانة أحد بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. وإذا كانت (رضوان الله تعالى عليها) أشد نساء النبي حباً له (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فلا بد أن تكون أشدهن حباً لمن يحبه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )..ولا سيما بملاحظة أقوال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فيه، وعظيم ثناء الله تعالى عليه..

وبذلك يتأكد: أن قداسة ومكانة علي عندها، وموقعه في منظومتها الإعتقادية يجعلها في غاية التوتر، والنفور ممن ينحرف عنه ويميل إلى غيره،

____________

1- الطرائف لابن طاووس ص8 و(ط مطبعة الخيام) ص24 والمناقب للخوارزمي ص88 وفرائد السمطين باب 52 حديث 222 وبشارة المصطفى ص70 بسند آخر (نقلاً عن هامش تاريخ مدينة دمشق ترجمة الإمام علي ج3 ص9)، والعقد النضيد والدر الفريد للقمي ص182 والصراط المستقيم ج2 ص29 وكتاب الأربعين للشيرازي ص48 وبحار الأنوار ج38 ص309 وكتاب الأربعين للماحوزي ص117 ومناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه الأصفهاني ص105 وكشف الغمـة ج1 ص301 ونهج الإيـمان لابن جبر ص200 وغايـة المــرام ج6 ص34 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج4 ص76 وج15 ص171.

٢٧٢

فكيف بمن يناوئه ويعاديه، أو يسبه ويشتمه؟!

فإذا كان الذي رباها يسب علياً (عليه‌السلام )، ويشتمه عند كل صلاة، فالمتوقع أن ترفضه، وتنفر منه، وتقف منه موقفاً في غاية السلبية، لأنه يمس أقدس شخصية عندها بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )..

ولكن الملاحظ هنا: أنها ليس فقط لم تفعل شيئاً من ذلك، وإنما عاملته معاملة هي غاية، في الرفق، واللطف به، والأدب معه، وضبط النفس.

وقد تصرفت معه بطريقة فتحت بها باب فهمه، وأيقظت وجدانه، وأطلقت بصيرته من عقال التعصب الأعمى على آفاق مفعمة بالصفاء والنقاء، والتأمل الواعي والهادي.. وأخذت بيده إلى سبيل الرشاد والسداد، فتاب وأناب، وشملته ألطاف الرب الرحيم التواب، الغفور، والوهاب..

وقدمت أم سلمة النموذج الأمثل للمرأة العاقلة، التي تعي مسؤولياتها، فتبادر إلى القيام بها على أكمل وجه، وأتمه.

2 ـ إنها (رحمها الله) قد مهدت لما تريد بإفهامها إياه أنها لا تتعامل معه بانفعالاتها وتعصبها الذي يريد أن يفرض خياره وقراره على الآخرين، بل تتعامل معه من موقع الحرص عليه، وابتغاء الخير له، والعرفان بالجميل والوفاء لحقه، من حيث أنه هو البادئ بالتفضل عليها بالتربية والرعاية لها. ثم من موقع الإحترام والإكبار، لا من الإستهانة به والإستهتار بمقامه، فأخبرته بأنها تنظر إليه على أنه بمنزلة والدها..

3 ـ ثم إنها (رضوان الله تعالى عليها) اعتبرته موضعاً لثقتها، وأهلاً لإيثارها إياه بسر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وميزته بذلك عن غيره،

٢٧٣

وهذا يزيده رضاً بنصحها، واطمئناناً إلى صدق نيتها ولهجتها تجاهه، وابتغائها المصلحة له..

4 ـ إن هذه الرواية بينت: أن علياً (عليه‌السلام ) قد علم بما هو كائن بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، من الرسول نفسه، الذي كان يتلقى ذلك من جبرئيل (عليه‌السلام ) في نفس اللحظة.. وجبرئيل إنما يخبر عن الله سبحانه..

ثم تلقى من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الأوامر والتوجيهات الإلهية بطريقة تعامله مع تلك الحوادث. وكان جبرئيل هو الذي يأمره بإبلاغ علي (عليه‌السلام ) بتلك التوجيهات..

فدل ذلك على أن علياً (عليه‌السلام ) لا يتعامل مع الأمور بانفعالاته، واجتهاداته الشخصية، وإنما وفق خطة إلهية مرسومة ومبينة. فلا مجال للطعن في أي موقف يتخذه (عليه‌السلام )، ولا يمكن نسبة التقصير أو الخطأ فيه إليه بأي حال من الأحوال.

5 ـ يلاحظ: أن الأمر لم يقتصر على إخبار علي (عليه‌السلام ) بما يكون بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في خصوص حياة علي (عليه‌السلام )، بل أخبره (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بما هو كائن بعده إلى يوم القيامة، وأعطاه توجيهاته وأمره فيه.. فدل ذلك: على أن لعلي (عليه‌السلام ) نوعاً من الحضور والتعاطي بنحو من الأنحاء مع تلك الأحداث المستمرة إلى يوم القيامة، وإن لم ندرك نحن بصورة تفصيلية كيفية، وآفاق ومدى هذا الحضور، وذلك التعامل وحدود ذلك التأثير.

٢٧٤

الفصل العاشر:

أحقاد.. وآثار..

٢٧٥

٢٧٦

الحديقة.. تذكِّر بالضغائن:

1 ـ عن أنس وأبي برزة وأبي رافع، وعن ابن بطة من ثلاثة طرق: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) خرج يمشي إلى قبا، فمر بحديقة، فقال علي: ما أحسن هذه الحديقة!!

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): حديقتك يا علي في الجنة أحسن منها. حتى مر بسبع حدائق على ذلك.

ثم أهوى إليه فاعتنقه، فبكى (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وبكى علي (عليه‌السلام ).

ثم قال علي (عليه‌السلام ): ما الذي أبكاك يا رسول الله؟!

قال: أبكي لضغائن في صدور قوم لن تبدو لك إلا من بعدي.

قال: يا رسول الله، كيف أصنع؟!

قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): تصبر، فإن لم تصبر تلق جهداً وشدة.

قال: يا رسول الله، أتخاف فيها هلاك ديني؟!

قال: بل فيها حياة دينك(1) .

____________

1- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضـواء) ج2 ص121 و (ط المكتبة الحيدريـة) = = ج1 ص386 عن مسند أبي يعلى، واعتقاد الأشنهي، ومجموع أبي العلاء الهمداني، وعن الإبانة لابن بطة، وبحار الأنوار ج41 ص4 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص323 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج31 ص11.

٢٧٧

2 ـ وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في خبر: يا علي، اتق الضغائن التي لك في صدر من لا يظهرها إلا بعد موتي،( أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) (1) . ثم بكى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فقيل: مم بكاؤك، يا رسول الله؟!

قال: أخبرني جبرئيل (عليه‌السلام ): أنهم يظلمونه ويمنعونه حقه، ويقاتلونه ويقتلون ولده، ويظلمونهم بعده(2) .

3 ـ قال الحميري:

وقد كان في يوم الحدايق عبرة وقول رسول الله والعين تدمع

____________

1- الآية 159 من سورة البقرة.

2- المناقب للخوارزمي ص62 والأمالي للطوسي ص351 وبحار الأنوار ج28 ص45 وج37 ص192 وكشف الغمة ج2 ص25 وكشف اليقين ص467 ومستدرك سفينة البحار ج7 ص28 والعقد النضيد والدر الفريد ص77 والصراط المستقيم ج2 ص87 وكتاب الأربعين للشيرازي ص266 والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص705 وينابيع المودة ج3 ص279 وغاية المرام ج1 ص123 وج2 ص85 وج3 ص191 و 202 وج4 ص77 وج6 ص31 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج5 ص54.

٢٧٨

فقال علي مم تبكي؟ فقال: من ضغاين قوم شرهم أتوقع

عليك، وقد يبدونها بعد ميتتي فماذا هديت الله في ذاك يصنع(1)

ونقول:

ما أحسن هذه الحديقة!!:

ذكرت الرواية: أن حسن الحديقة لفت نظر علي (عليه‌السلام )، فعبر عن إعجابه بحسنها لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. ثم أعجبته الثانية، والثالثة إلى السابعة، فكان في كل ذلك يظهر (عليه‌السلام ) إعجابه بما يراه من حسن تلك الحدائق..

وهذه الشهادة من علي (عليه‌السلام ) وموافقة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) له تدلنا على أن إنشاء الحدائق في المدينة، قد قطع أشواطاً واسعة في الرقي والإزدهار، ولعلنا لا نجد له مثيلاً في أيامنا هذه..

وذلك، لأن الحسن إنما هو نتيجة تناسق دقيق لأمور يراد لها أن تتخذ أوضاعاً مختلفة لتكوِّن صورة مختارة للتعبير عن معنى يختزنه ذلك التناسق، ويراد الإيحاء به في المرئيات، أو المسموعات، أو في أي شيء آخر.

ومن غير علي (عليه‌السلام ) بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أرهف حساً، وأصفى قريحة، وأعلى ذوقاً، وأدق نظراً، وأوفى شعوراً بالحسن

____________

1- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص121 و(ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص387 وأعيان الشيعة ج3 ص425.

٢٧٩

وبالجمال، وبقيمته وبمزاياه؟!

فإذا شهد (عليه‌السلام ) بالحسن في مورد، فإن أحداً لن يساوره شك في واقعية هذه الشهادة، لأن علياً (عليه‌السلام ) يمثل القمة في كل شيء، ومنه تبدأ الدقائق والحقائق وإليه تنتهي..

الحسن من نعيم الجنة:

وبديهي: أن الحسن إذا كان من مفردات نعيم الجنة، سواء في ذلك حسن حدائقها، أو حسن حورها، أو حسن ولدانها المخلدين. فلا بد من أن يكون المؤمنون قادرين على إدراك هذا الحسن، والتمتع به.

وسيكون إدراكهم قوياً وراقياً ودقيقاً، وإحساسهم مرهفاً بمقدار ما أهلتهم له أعمالهم، واكتسبوه بجهدهم وجهادهم، وتضحياتهم في الحياة الدنيا.

ومن يمكن أن يدعي أنه يملك من ذلك ما يضارع أو يداني ما لدى خير الأنبياء، وسيد الأوصياء (عليهما وعلى آلهما الصلاة والسلام)؟!

ما الذي أبكاك يا رسول الله؟!:

وحين يحزن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لأمر، إلى حد أنه يبكي له، فإن علياً (عليه‌السلام )، لا بد أن يحزن لحزنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، لأنه نفسه، وحبيبه، وأخوه.

وإذا كان الإمام الصادق (عليه‌السلام ) يقول عن الشيعة (رضوان الله تعالى عليهم): رحم الله شيعتنا، خلقوا من فاضل طينتنا، يفرحون لفرحنا،

٢٨٠