الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سرة المرتضى) الجزء ٨

مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 352
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 352
الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليهالسلام )
(المرتضى من سيرة المرتضى)
الجزء الثامن
السيد جعفر مرتضى العاملي
هذا الكتاب
نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف
شبكة الإمامين الحسنين (عليهماالسلام ) للتراث والفكر الإسلامي
بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.
الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليهالسلام )
(المرتضى من سيرة المرتضى)
الجزء الثامن
السيد جعفر مرتضى العاملي
علم.. وقضاء..
قضاء علي.. وقضاء الشيخين:
روى جمع من العامة، عن مصعب بن سلام التميمي، ومن طرق الخاصة بسندهم عن الصادق (عليهالسلام ) وغيره، أنه قال: ثور قتل حماراً على عهد النبي (صلىاللهعليهوآله )، فرفع ذلك إليه، وهو في أناس من أصحابه، منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، فقال النبي (صلىاللهعليهوآله ): يا أبا بكر، إقض بينهما.
فقال: يا رسول الله، بهيمة قتلت بهيمة، ما عليها شيء.
فقال النبي (صلىاللهعليهوآله ) لعمر: اقض بينهما.
فقال كقول أبي بكر صاحبه.
فالتفت النبي (صلىاللهعليهوآله ) إلى علي (عليهالسلام ) وقال له: يا علي، اقض بينهما.
فقال: حباً وكرامة، إن كان الثور دخل على الحمار فقتله في مستراحه ضمن أصحاب الثور دية الحمار، وإن كان الحمار دخل على الثور في مستراحه فلا ضمان على صاحب الثور.
فرفع رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يده إلى السماء وقال: الحمد لله
الذي منَّ على العباد بمن يقضي قضاء النبيين(١) .
ونقول:
في هذه الرواية إشارات عديدة، نجملها في ما يلي:
١ ـ إنه (صلىاللهعليهوآله ) اكتفى بقضاء أبي بكر وعمر، ولم يطلب ذلك من عثمان، ربما لأنهما هما الأساس في الخلاف على أمير المؤمنين، فإذا ظهر حالهما في القضاء، وسقط اعتبارهما فيه، لم تصل النوبة إلى الآخرين.
٢ ـ يلاحظ: أنه (صلىاللهعليهوآله ) قد انتدب أبا بكر للقضاء أولاً، وسماه باسمه، ليظهر أنه هو المقصود في هذا الأمر، فلم يعد له مناص منه.
ثم نص على عمر، فكان الأمر كذلك.
____________
١- الأربعين لأبي الفوارس ص١٣ وينابيع المودة ص٧٦ وراجع الفصول المهمة ص٣٤ وإرشاد المفيد ص١٨٥ الفصل ٧٥ من الباب ٢، وكذا في مناقب آل أبي طالب ج٢ ص٢٥٤ وبحار الأنوار ج٤٠ ص٢٤٦ وشرح إحقاق الحق ج٨ ص٤٨ وراجع: الكافي ج٧ ص٣٥٢ وخصائص الأئمة ص٨١ وتهذيب الأحكام ج١٠ ص٢٢٩ و الفضائل لشاذان ص١٦٧ وعوالي اللآلي ج٣ ص٦٢٦ وجامع أحاديث الشيعة ج٢٦ ص٣٥٤ وعجائب أحكام أمير المؤمنين للسيد محسن الأمين ص٤٦ وغاية المرام ج٥ ص٢٥٥ وينابيع المودة ج١ ص٢٢٨ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج٢٩ ص٢٥٦ و (ط دار الإسلامية) ج١٩ ص١٩١ ومستدرك الوسائل ج١٨ ص٣٢١ والروضة في فضائل أمير المؤمنين لشاذان ص٢٠٨
ولم يطلب من الحاضرين أن يقضوا في القضية، بأن يقول: اقضوا في هذه القضية، فيتقدم كل واحد منهم فيدلي بدلوه، إذ قد لا يتقدم هذان الرجلان لذلك، ليصونا بذلك أنفسهما عن التعرض للمزالق..
٣ ـ يلاحظ: أنه (صلىاللهعليهوآله ) لم يعلق على قضاء أبي بكر ولا على قضاء عمر بنفي أو إثبات، إذ لو صوَّب أو خطَّأ قضاء أبي بكر، أو قضاء عمر، لاتخذ الذي يأتي بعد هذا أو ذاك منحى آخر، يفرضه عليه ما يقوله النبي (صلىاللهعليهوآله ). ولأجل ذلك أبقى (صلىاللهعليهوآله ) الأمر في دائرة الابهام والإحتمال.
٤ ـ والغريب في الأمر ذلك التعليل الذي انقدح في ذهن أبي بكر، فبنى عليه حكمه في المورد، حيث قال: (بهيمة قتلت بهيمة، ما عليها من شيء..) ثم وافقه عمر على ذلك.
وكأنهما ظنا: أن المطلوب هو مجازاة البهيمة القاتلة بالقتل، أو بالسجن، أو بتغريمها ثمن البهيمة المقتولة مع أن الكلام إنما هو في تغريم صاحب البهيمة القاتلة ثمن البهيمة المقتولة لصاحبها.
والنزاع لم يكن بين الثور وأقارب الحمار.. بل كان بين صاحب الثور وصاحب الحمار، الذي يطالبه بثمن حماره، أو تهيئة مثله له.
وكان على عمر وأبي بكر أن يفهما مرجع الضمير في قوله (صلىاللهعليهوآله ): اقض بينهما، وأنه يرجع إلى الرجلين، لا إلى الثور والحمار!!.
٥ ـ والأغرب من هذا وذاك هو هذه العفوية التي ساقها أبو بكر وعمر للتدليل على بداهة حكم المسألة، ووضوحه الذي لا يقاوم، والذي
يغني المتخاصمين عن الترافع، بل وعن التنازع.
٦ ـ وعلينا أن نتأمل كثيراً، ونتوقف طويلاً عند قول رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فإنه وإن كان قد أعرض عن الحديث عن قضاء عمر وأبي بكر, ولكنه ذكر قضاء علي (عليهالسلام ) بصورة اهتز لها الطامحون والطامعون والمناوئون له من الأعماق.. حيث إنه جعل قضاءه (عليهالسلام ) قضاء النبيين, ليدلل على أنه (عليهالسلام ) هو وارثهم, والأحق بمقامهم, والقادر على مواصلة نهجهم, وتحقيق أهدافهم.
٧ ـ إنه (صلىاللهعليهوآله ) جعل نفس وجود علي (عليهالسلام ) من منن الله تعالى على العباد التي لا بد أن يحمد عليها..
وهذا يشير إلى أن على العباد أن يتعاملوا مع علي (عليهالسلام ) بما يتوافق مع هذا العطاء الإلهي لهم..
وهو يعني: أن وجود علي (عليهالسلام ) له أعظم الأثر على العباد, وليس كوجود أي كان من الناس. فكيف ولماذا يقاس بغيره.
فأين الثريا من الثرى؟! وأين معاوية من علي؟!
٨ ـ ونعود إلى التذكير بأنه (صلىاللهعليهوآله ) قد جسد للناس عدم أهلية غير علي (عليهالسلام ) للمقامات التي يطمحون إليها، وأن وجودهم بالنسبة للعباد لا يختلف عن وجود غيرهم من سائر الناس, فقد يكون نافعاً لهم, وقد لا يكون, بل قد يكون بالغ الضرر لهم.
وجسد لهم أيضاً أهلية علي (عليهالسلام ) بصورة عملية في فعل علي (عليهالسلام ), وفي رفع يديه (صلىاللهعليهوآله ) لحمد الله, والثناء عليه.
وجسده أيضاً: بالكلمة القوية التي أطلقها في حق علي (عليهالسلام )، لتضمنها تصويب قضائه. والإرتفاع بهذا القضاء إلى مستوى قضاء النبيين, ثم اعتبار نفس وجود علي (عليهالسلام ) من المنن الإلهية التي لا بد أن يحمد على عليها.
القرعة لكل أمر مشكل:
عن حريز، عن أحدهما (عليهماالسلام ) قال: قضى أمير المؤمنين (عليهالسلام ) باليمن في قوم انهدمت عليهم دار لهم، فبقي صبيان: أحدهما مملوك، والآخر حر، فأسهم بينهما، فخرج السهم على أحدهما، فجعل المال له وأعتق الآخر(١) .
ونقول:
إن القرعة لكل أمر مشكل, وهي هنا وإن كانت قد حلت مشكلة المال، فصار لأحدهما دون الآخر. لكن موضوع الرقية والعبودية لا يستخرج بالقرعة, لأن الإنسان يمكن أن يُعطى المال وأن يؤخذ منه, وقد يعطيه الإنسان لغيره, وقد يحتفظ به لنفسه. لكن ليس لأحد الحق في أن
____________
١- قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام " ص١٦٣ عن الكافي، وتهذيب الأحكام، وعن الإرشاد للمفيد. والكافي ج٧ ص١٣٧ وتهذيب الأحكام ج٦ ص٢٣٩ وج٩ ص٣٦٢ و ٣٦٣ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج٢٦ ص٣١١ وج٢٧ ص٢٥٩ و (ط دار الإسلامية) ج١٧ ص٥٩٢ وج١٨ ص١٧٩ وجامع أحاديث الشيعة ج٢٥ ص٨٥.
يتنازل عن حريته, ويجعل نفسه مملوكاً,كما أنه ليس من حق أحد أن يستعبد من جعله الله حراً، لا بواسطة القرعة، ولا بغيرها.
وإعطاء المال لمن خرجت القرعة باسمه لا يجعله حراً، ولا الطفل الآخر عبداً. ولكن احتمال أن يكون الطرف الآخر عبداً يبقى قائماً. وقد يقوى في ذهن العوام، بل في ذهن الذي أخذ المال أن الشخص الآخر عبد.
وقد حصل التخلص من هذا المحذور كان بمبادرته (عليهالسلام ) إلى إعتاق الطفل الآخر لإزالة أي احتمال في حقه.
حدث في الجاهلية وقضاء في الإسلام:
عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليهالسلام )، قال: قضى علي (عليهالسلام ) في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، وذلك في الجاهلية قبل أن يظهر الإسلام، فأقرع بينهم، فجعل الولد لمن (للذي ـ ئل) قرع له، وجعل عليه ثلثي الدية للآخرين.
فضحك رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) حتى بدت نواجذه.
قال: وقال: ما أعلم فيها شيئاً إلا ما قضى علي (عليهالسلام )(١) .
____________
١- قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام " ص١٦٢ عن الشيخ، وعن المفيد، والكليني مع اختلاف. وعن مناقب آل أبي طالب عن أبي داود، وابن ماجة في سننهما، وابن بطة، وابن حنبل في فضائله، وابن مردويه بطرق كثيرة عن زيد بن أرقم. والحدائق الناضرة ج٢٥ ص٢٥ ورياض المسائل ج١٠ ص٤٩٩= = وعوائد الأيام ص٦٤٩ وجواهر الكلام ج٢٩ ص٢٦٢ ونيل الأوطار ج٧ ص٧٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج١٠ ص٢٦٦ وغاية المرام ج٥ ص٢٥٦ وسنن ابن ماجة ج٢ ص٧٨٦ وسنن أبي داود ج١ ص٥٠٦ وسنن النسائي ج٦ ص١٨٢ والمستدرك للحاكم ج٢ ص٢٠٧ وج٣ ص١٣٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج١٠ ص٢٦٧ والمصنف لابن أبي شيبة ج٧ ص٣٨٦ والسنن الكبرى للنسائي ج٣ ص٣٧٩ و ٤٩٦ وشرح معاني الآثار ج٤ ص٣٨٢ والمعجم الكبير للطبراني ج٥ ص١٧٣ ونصب الراية ج٤ ص٤٩ وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج٥ ص٨٤١ والدراية في تخريج أحاديث الهداية ج٢ ص٨٩ والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث) ج٥ ص١٢٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج٤ ص٢٠٨ و ٢٠٩ وينابيع المودة ج١ ص٢٢٧ وتخريج الأحاديث والآثار ج٣ ص١٥ ومعرفة السنن والآثار ج٧ ص٤٧٥ والإستبصار للطوسي ج٣ ص٣٦٨ وتهذيب الأحكام ج٨ ص١٦٩ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج٢١ ص١٧١ و (ط دار الإسلامية) ج١٤ ص٥٦٦ وجامع أحاديث الشيعة ج٢١ ص١١٦ وج٢٥ ص٩٠.
ونقول:
١ ـ إن القرعة قد عينت من يأخذ الولد, ويكون له.. ويبدو أن الثلاثة قد واقعوا جارية كان يملك كل منهم ثلثها.
فأعطاه (عليهالسلام ) الولد وأسقط عنه حصته وهي الثلث, وضمَّنه الثلثين لرفيقيه المشاركين له في ملكية الجارية, فإن لكل واحد منهما ثلثها
أيضاً.
٢ ـ لعله (عليهالسلام ) قد أسقط الحد عنهم, لأنهم إنما فعلوا ذلك, وحملت بالولد في أيام جاهليتهم وكفرهم, ثم ولدته بعد إسلامهم.. والإسلام يجب ما قبله، فلا يقام الحد بعد الإسلام على من زنى قبل الإسلام.
٣ ـ لقد ضحك رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) حتى بدت نواجذه، إعجاباً وفرحاً بقضاء علي (عليهالسلام ) المصيب للواقع..
القارصة والقامصة والواقصة:
روي: أن جارية حملت جارية أخرى على عاتقها عبثاً ولعباً، فجاءت جارية ثالثة، أخرى فقرصت الحاملة، فقفزت لقرصتها، فوقعت الراكبة، فاندقت عنقها وهلكت.
فقضى (عليهالسلام ) على القارصة بثلث الدية، وعلى القامصة بثلثها، وأسقط الثلث الباقي بقموص الراكبة لركوب الواقصة عبثاً القامصة.
وبلغ الخبر بذلك إلى النبي (صلىاللهعليهوآله )، فأمضاه وشهد له بالصواب به(١) .
____________
١- قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام " ص٣٧ والإرشاد للمفيد ص١٠٥ و (ط دار المفيد) ج١ ص١٩٦ والمقنعة ص١١٧ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج٢٩ ص٢٤٠ و٢٤١ و (ط دار الإسلامية) ج١٩ ص١٧٩ = = وجواهر الكلام ج٤٣ ص٧٥ وجامع المدارك ج٦ ص١٩٦ وبحار الأنوار ج٤٠ ص٢٤٥ وجامع أحاديث الشيعة ج٢٦ ص٣٦٠ وعجائب أحكام أمير المؤمنين للسيد محسن الأمين ص٤٠.
قال التستري:
وأما ما رواه الصدوق والشيخ عن الأصبغ قال: قضى أمير المؤمنين (عليهالسلام ) في جارية ركبت جارية، فنخستها جارية أخرى، فقمصت المركوبة، فصرعت الراكبة فماتت، فقضى بديتها نصفين بين الناخسة والمنخوسة(١) .. فمن روايات محمد بن أحمد بن يحيى عن أبي عبد الله، عن محمد بن عبد الله بن مهران، وقد استثنى ابن الوليد وابن بابويه وابن نوح روايته عنهما. وقررهم على ذلك الشيخ والنجاشي.
وفي طريقه أيضاً: أبو جميلة، وهو المفضل بن صالح، وحكم النجاشي بضعفه، وصرح ابن الغضائري بوضعه الحديث.
ورواية المفيد وإن كانت مرسلة إلا أن إرسال مثله معتبر، وقد ذكره في
____________
١- قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام " ص٣٧ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج٢٩ ص٢٤٠ و (ط دار الإسلامية) ج١٩ ص١٧٩ وتهذيب الأحكام ج١٠ ص٢٤١ ومن لا يحضره الفقيه ج٤ ص١٢٥ و (ط مركز النشر الإسلامي) ج٤ ص١٧٠ والنهاية للطوسي ص٧٦٣ والسرائر لابن إدريس ج٣ ص٣٧٣ ومختلف الشيعة ج٩ ص٣٣٧ ومستدرك الوسائل ج١٨ ص٣١٦ و ٣١٧.
الإرشاد والمقنعة.
فإن قيل: خبر التنصيف من روايات الخاصة، والأصل في التثليث العامة، بدليل أن صاحب المناقب رواه عن أبي عبيدة في غريب الحديث، وابن مهدي في نزهة الأبصار، عن الأصبغ هكذا: قضى (عليهالسلام ) في القارصة والقامصة والواقصة، وهن ثلاث جوار كن يلعبن، فركبت إحداهن صاحبتها، فقرصتها الثالثة، فقمصت المركوبة، فوقعت الراكبة فوقصت عنقها، فقضى بالدية أثلاثاً، وأسقط حصة الراكبة لما أعانت على نفسها، فبلغ ذلك النبي (صلىاللهعليهوآله )، فاستصوبه.
قلنا: على تسليم استناد المفيد إلى تلك الرواية، يكون هي أولى بموافقته للإعتبار الصحيح، مع ضعف سند الأول بمن تقدم، وبسعد بن طريف عند الأكثر(١) .
ملاحظة:
قرص لحمه: أخذه ولوى عليه بإصبعه فآلمه.
قمصت الدابة: أي وثبت ونفرت.
وقص عنقه: كسرها ودقها.
والمراد بالواقصة هنا: (التي هي اسم فاعل) معنى اسم المفعول.
____________
١- قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام )" ص٣٨.
الرسول (صلىاللهعليهوآله ) يمتحن أصحابه:
وروي: جابر وابن عباس: أن أبي بن كعب قرأ عند النبي:( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) (١) . فقال النبي (صلىاللهعليهوآله ) لقوم عنده، وفيهم: أبو بكر، وأبو عبيدة، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن: قولوا الآن: ما أول نعمة غرسكم الله بها، وبلاكم بها.
فخاضوا في المعاش والرياش، والذرية والأزواج، فلما أمسكوا قال: يا أبا الحسن، قل.
فقال (عليهالسلام ): إن الله خلقني ولم أك شيئاً مذكوراً، وأن أحسن بي فجعلني حياً لا مواتاً، وأن أنشأني ـ فله الحمد ـ في أحسن صورة، وأعدل تركيب، وأن جعلني متفكراً واعياً لا أبله ساهياً، وأن جعل لي شواعر أدرك بها ما ابتغيت، وجعل فيَّ سراجاً منيراً، وأن هداني لدينه، ولن يضلني عن سبيله، وأن جعل لي مراداً في حياة لا انقطاع لها، وأن جعلني ملكاً مالكاً لا مملوكاً، وأن سخر لي سمائه وأرضه وما فيهما وما بينهما من خلقه، وأن جعلنا ذكراناً قواماً على حلائلنا لا إناثاً.
وكان رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يقول في كل كلمة: صدقت.
ثم قال: فما بعد هذا؟!
فقال علي (عليهالسلام ):( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا ) (٢) .
____________
سورة لقمان.
٢- الآية ٢٠ من سورة لقمان.
فتبسم رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وقال: ليهنئك الحكمة، ليهنئك العلم يا أبا الحسن، أنت وارث علمي، والمبين لأمتي ما اختلفت فيه من بعدي، الخبر(١) .
ونقول:
لا بأس بالإشارة هنا إلى ما يلي:
قولوا الآن:
إنه (صلىاللهعليهوآله ) حين سأل القوم الذين عنده، حدَّد لهم وقتاً معيناً للإجابة، وزمناً خاصاً، فقال لهم: (قولوا الآن).
فلم يعطهم مهلة، يمكنهم فيها البحث عن إجابة لدى غيرهم. كما أنه ألزمهم بالبقاء في أمكنتهم.. لأن حصر زمان الإجابة بأن تكون (الآن) يجعل الإنتقال إلى مكان آخر، إما غير ذي جدوى، وإما غير مسموح به..
وارث علمي، والمبين لأمتي:
وقد أنتج هذا الإمتحان إعلان حقيقة: أن علم النبي (صلىاللهعليهوآله ) موجود عند علي (عليهالسلام ) أيضاً، وأن غيره ممن سوف يسعى لاستلاب مقامه (عليهالسلام ) فاقد لهذا العلم، الذي يحتاج إليه من يخلفه
____________
١- قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام " ص٩٨ و٩٩ ومناقب آل أبي طالب ج٢ ص١٧٧ و ١٧٨ وأعيان الشيعة ج١ ص٤١٥ وعجائب أحكام أمير المؤمنين ص١٧٣.
(صلىاللهعليهوآله ) في المرجعية للأمة، حين الإختلاف، وفي كل حين.. لا سيما حين تهجم عليها اللوابس..
ثم إنه (صلىاللهعليهوآله ) حصر المرجعية للأمة كلها بعلي (عليهالسلام ). في كل موارد الإختلاف.
وأعظم مورد اختلاف وخلاف حصل في الأمة هو مقام الخلافة بعده (صلىاللهعليهوآله ).. وهم ليس فقط لم يرجعوا إلى علي (عليهالسلام ) فيه، بل قهروه على التخلي عنه..
لماذا يمتحنهم؟!:
لا شك في أنه (صلىاللهعليهوآله ) كان عالماً بحال أصحابه، وبما عندهم من العلم، ولا يحتاج إلى أن يمتحنهم بهذا السؤال الذي وجهه إليهم، ويكلفهم الخوض في أمور لم يكن لهم أن يخوضوا فيها، لعدم أهليتهم لذلك.
ولكنه (صلىاللهعليهوآله ) أراد بامتحانهم هذا: أن يعرفوا هم، ويعرف الناس عنهم الأمور التالية:
١ ـ إن الذين خاضوا فيما خاضوا فيه بمحضر رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، إنما اقتحموا أموراً لم يكن ينبغي لهم أن يقتحموها. بل كان يجب عليهم الإقرار بعدم المعرفة، والتورع عن القول بغير علم، فإن الظن لا يغني من الحق شيئاً.. لا سيما وأن السؤال هو عن معنى آية قرآنية.. وقد نهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) عن تفسير القرآن بالرأي..
فمن لا يتورع أن يقول بغير علم بحضرة الرسول، وفي مورد صرح النبي (صلىاللهعليهوآله ) بالنهي عن القول فيه بغير علم.. لا بد أن يكون بعد رحيله (صلىاللهعليهوآله ) عن الدنيا أكثر جرأة على هذا الأمر، ولن يردعه رادع، ويمنعه مانع (إيماني أو وجداني) عن اقتحام جراثيم جهنم، إلا إن رأى أن أموره ستختل، وأن مصلحته الدنيوية تقضي عليه بالتريث أو الإنسحاب..
٢ ـ إن هذا الإمتحان قد هدف إلى كشف حال رواد التمرد على شرع الله، ونقض التدبير الإلهي والنبوي، حين اتلعوا أعناقهم إلى أخطر وأجل وأعظم مقام بعد رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، مدَّعين لأنفسهم الأهلية له، ويعدون العدة للإستيلاء عليه.
ولم يكن صاحب الحق قادراً على مواجهتهم بأكثر من الحجة والدليل، لأن في التعدي عن هذا الأسلوب تفريطاً بأمن الناس، وقد يفسح المجال لاختلال الأمور، وحصول الردة.
أما سائر الناس، فلعل الكثيرين منهم لا يملكون الحجة التي تفي بدفع ادعاءات أولئك الطامحين.. أو أنهم يخشون من مواجهتهم ـ ولو بالحجة ـ على مصالحهم أو أمنهم. ولعل بعضهم يغض الطرف عما يجري، لأنه يرى نفسه منتفعاً من هذا الجو الذي أثاروه وأوجدوه..
ليهنئك الحكمة والعلم:
وقد هنأ النبي (صلىاللهعليهوآله ) علياً (عليهالسلام ) بالحكمة أولاً، ثم بالعلم ثانياً. والحكمة تحتاج إلى توفيق وتعليم، وهي هبة إلهية، لا ينالها
إلا الأوحدي من الناس عن جدارة واستحقاق. وليست مجرد تقديرات وإدراكات عقلية، كما ربما يتوهمه المتوهمون.
ولذلك يقول تعالى:( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (1) .
ويقول:( وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ) (2) .
وقال:( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) (3) . والآيات المصرحة بتوقيفية الحكمة كثيرة.
وقدم النبي (صلىاللهعليهوآله ) التهنئة بالحكمة، لأنها محض عطاء إلهي..
أما العلم، فقد ينال البشر شيئاً منه مهما كان ضئيلاً بوسائلهم التي منحهم الله إياها مما اقتضته خلقتهم، مثل: العقل والفطرة، وغير ذلك..
ولعل التهنئة بالحكمة هنا يشير: إلى أن الإجابة على السؤال هنا مرهونة بالحكمة بالدرجة الأولى، ثم بالعلم.. وهذا ما لم يكن يملكه سوى أمير المؤمنين (عليهالسلام ). كما أظهرته هذه الواقعة وسواها..
____________
1- الآية 2 من سورة الجمعة.
2- الآية 12 من سورة لقمان.
3- الآية 269 من سورة البقرة.
بذل علي (عليهالسلام ) والإمامة..
ويؤثرون على أنفسهم:
1 ـ قال ابن شهرآشوب (رحمهالله ): تفسير أبي يوسف: يعقوب بن سفيان، وعلي بن حرب الطائي، ومجاهد بأسانيدهم، عن ابن عباس وأبي هريرة، وروى جماعة عن عاصم بن كليب عن أبيه ـ واللفظ له ـ عن أبي هريرة: أنه جاء رجل إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) إلى أزواجه، فقلن: ما عندنا إلا الماء.
فقال (صلىاللهعليهوآله ): من لهذا الرجل الليلة؟!
فقال أمير المؤمنين (عليهالسلام ): أنا يا رسول الله، فأتى فاطمة وسألها: ما عندك يا بنت رسول الله؟!
فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، لكنا نؤثر ضيفنا به.
فقال علي (عليهالسلام ): يا بنت محمد (صلىاللهعليهوآله )، نومي الصبية واطفئي المصباح. وجعلا يمضغان بألسنتهما.
فلما فرغ من الأكل أتت فاطمة بسراج، فوجد الجفنة مملوءة من فضل الله، فلما أصبح صلى مع النبي (صلىاللهعليهوآله ).
فلما سلم النبي (صلىاللهعليهوآله ) من صلاته نظر إلى أمير المؤمنين (عليهالسلام ). وبكى بكاء شديداً، وقال: يا أمير المؤمنين، لقد عجب
الرب من فعلكم البارحة، اقرأ:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) أي مجاعة.( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ) . يعني: علياً، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهمالسلام )( فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (1) )(2) .
قال الحميري:
قائل للنبي إني غريب جايع قد أتيتكم مستجيرا
فبكى المصطفى وقال: غريب لا يكن للغريب عندي ذكورا
من يضيف الغريب قال علي: أنا للضيف فانطلق مأجورا
ابنة العم هل من الزاد شيء فأجابت أراه شيئاً يسيرا
كف بر قال: اصنعيه فإن الله قد يجعل القليل كثيرا
ثم أطفي المصباح كي لا يراني فأخلي طعامه موفورا
جاهد يلمظ الأصابع والضيف يراه إلى الطعام مشيرا
عجبت منكم ملائكة الله وأرضيتم اللطيف الخبيرا
ولهم قال: يؤثرون على أنفسهم، قال: ذاك فضلاً كبيرا(3)
____________
1- الآية 9 من سورة الحشر.
2- بحار الأنوار ج41 ص28 وص 34 وج36 ص59 ومناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص87 والأمالي للطوسي ص116 وعن كنز جامع الفوائد، وشواهد التنزيل ج2 ص246 ومجمع البيان ج9 ص260.
3- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص87 و 88 و(ط المكتبة الحيدرية) ج 1 ص347 و 348.
2 ـ روت الخاصة والعامة، منهم: ابن شاهين المروي، وابن شيرويه الديلمي، عن الخدري وأبي هريرة: أن علياً أصبح ساغباً، فسأل فاطمة طعاماً.
فقالت: ما كانت إلا ما أطعمتك منذ يومين، آثرت به على نفسي، وعلى الحسن، والحسين.
فقال: ألا أعلمتني، فأتيتكم بشيء؟!
فقالت: يا أبا الحسين، إنى لأستحي من إلهي أن أكلفك ما لا تقدر عليه.
فخرج واستقرض من النبي ديناراً، فخرج يشتري به شيئاً.
فاستقبله المقداد قائلاً ما شاء الله.
فناوله علي الدينار، ثم دخل المسجد، فوضع رأسه، فنام، فخرج النبي، فإذا هو به، فحركه وقال: ما صنعت؟!
فأخبره، فقام وصلى معه فما قضى النبي صلاته، قال: يا أبا الحسن، هل عندك شيء نفطر عليه، فنميل معك؟!
فأطرق لا يجيب جواباً حياء منه. وكان الله أوحى إليه أن يتعشى تلك الليلة عند علي.
فانطلقا حتى دخلا على فاطمة، وهي في مصلاها، وخلفها جفنة تفور دخاناً، فأخرجت فاطمة الجفنة، فوضعتها بين أيديهما.
فسأل علي (عليهالسلام ): أنى لك هذا؟!
قالت: هو من فضل الله ورزقه، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
قال: فوضع النبي كفه المبارك بين كتفي علي، ثم قال: يا علي، هذا بدل دينارك. ثم استعبر النبي باكياً وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيت في ابنتي ما رأى زكريا لمريم.
وفي رواية الصادق (عليهالسلام ): أنه أنزل الله فيهم:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) (1) .
قال الحميري:
وحدثنا عن حادث الأعور الذي تصدقه في القول منه وما يروي
بأن رسول الله نفسي فداؤه وأهلي ومالي طاوي الحشا يطوي
لجوع أصاب المصطفى فاغتدى إلى كريمته والناس لاهون في سهو
فصادفها وابني علي وبعلها وقد أطرقوا من شدة الجوع كالنضو
فقال لها: يا فطم قومي تناولي ولم يك فيما قال ينطق بالهزو
هدية ربى إنه مترحم فقامت إلى ما قال تسرع بالخطو
فجاءت عليها الله صلى بجفنة مكرمة باللحم جزواً على جزو
فسموا وظلوا يطعمون جميعهم فَبَخْ بَخْ لهم نفسي الفداء وما أحوي
فقال لها: ذاك الطعام هدية من الله جبريل أتاني به يهوى
ولم يك منه طاعماً غير مرسل وغير وصي خصه الله بالصفـو
____________
1- الآية 9 من سورة الحشر.
3 ـ وفي رواية حذيفة: أن جعفراً أعطى النبي (صلىاللهعليهوآله ) الفرع من العالية، والقطيفة، فقال النبي: لأدفعن هذه القطيفة إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
وأعطاها علياً (عليهالسلام )، ففصل على القطيفة سلكاً، فباع بالذهب، فكان ألف مثقال، ففرقه في فقراء المهاجرين كلها.
فلقيه النبي ومعه حذيفة، وعمار، وسلمان، وأبو ذر، والمقداد، فسأله النبي الغداء.
فقال حياء منه: نعم.
فدخلوا عليه، فوجدوا الجفنة(1) .
4 ـ عن محمد بن العباس، عن محمد بن أحمد بن ثابت، عن القاسم بن إسماعيل، عن محمد بن سنان، عن سماعة بن مهران، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر (عليهالسلام ) قال:
أتي رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بمال وحلل وأصحابه حوله جلوس، فقسمه عليهم حتى لم تبق منه حلة ولا دينار، فلما فرغ منه جاء رجل من فقراء المهاجرين، وكان غائباً. فلما رآه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) قال: أيكم يعطي هذا نصيبه، ويؤثره على نفسه؟!
____________
1- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص190 و 191 و (ط المكتبة الحيدرية) ج 1 ص 350 وبحار الأنوار ج41 ص30 و 31 وراجع ج36 ص60 عن كنز جامع الفوائد، وتأويل الآيات الظاهرة.
فسمعه علي (عليهالسلام )، فقال: نصيبي.
فأعطاه إياه، فأخذه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وأعطاه الرجل، ثم قال: يا علي، إن الله جعلك سباقاً للخير، سخَّاء بنفسك عن المال. أنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة. والظلمة هم الذين يحسدونك، ويبغون عليك، ويمنعونك حقك بعدي(1) .
قالوا: الفرع: المال الطائل. والعالية: مكان بأعلى أراضي المدينة، ويبدو أن القطيفة كانت مطرزة بأسلاك الذهب(2) .
ونقول:
1 ـ إن الفقر ليس عيباً، إلا حين يكون سببه الكسل، والإتكال على جهد الآخرين، أو غير ذلك من أسباب تشير إلى خلل في المزايا الروحية والإنسانية.. ولم يكن النبي (صلىاللهعليهوآله ) ولا علي (عليهالسلام ) إلا القمة في الفضل والكمال، والأخلاق الفاضلة، والمزايا النبيلة..
والأسباب التي اقتضت نزول الآية المباركة مرة أو أكثر تبين أن هذا الفقر قد كشف لنا عن أفضل المزايا، وأعظم الفضائل في هؤلاء الذين نأوا بأنفسهم عن الدنيا وزخارفها، ولم يهتموا لها إلا بالمقدار الذي فرضه الله تعالى عليهم..
2 ـ إن النبي (صلىاللهعليهوآله ) حين أراد مساعدة ذلك الجائع لم
____________
1- بحار الأنوار ج36 ص60 عن كنز جامع الفوائد.
2- بحار الأنوار ج41 ص31 و 32.
يبادر إلى دق أبواب الأغنياء، وطلب المساعدة منهم، بل بدأ بنفسه، وببيوته..
3 ـ إنه (صلىاللهعليهوآله ) لم يذهب بنفسه إلى تلك البيوت لسؤال أزواجه عن شيء من الطعام، بل أرسل إليهن من يسألهن عن ذلك.. فلم يعد هناك أية فرصة لتوهم أي نوع من أنواع حب الإستئثار بشيء، مهما كان الدافع إلى ذلك معقولاً ومقبولاً، وكافياً لتبرير المنع..
4 ـ وبعد أن ظهر أن بيوت رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) خالية إلا من الماء، لم يخاطب النبي (صلىاللهعليهوآله ) في أمره للناس شخصاً بخصوصه، فلم يطلب من علي (عليهالسلام ) مثلاً أن يتولى سد حاجته، بل أطلق الخطاب لكل من حضر، وقال: من لهذا الرجل الليلة؟!
ولعل سبب ذلك: أنه (صلىاللهعليهوآله ) أراد أن ينيل علياً (عليهالسلام ) ثواب المبادرة والإختيار، وثواب البذل والعطاء، والإيثار، ولكي لا يتوهم أحد أنه (عليهالسلام ) قد رضي بما فرض عليه حياء، أو اتباعاً وطاعة. ولا يعلم إن كان وراءها حرص واندفاع، أو ليس وارءها شيء من ذلك.
5 ـ واللافت هنا: أن فاطمة الزهراء (عليهاالسلام ) هي التي اقترحت إيثار ذلك الجائع بقوت ولديها، مع أن الأم تكون عادة أحرص على طعام أبنائها وتوفيره لهم.
6 ـ ربما يسأل سائل عن أنه كيف جاز للزهراء وعلي (عليهماالسلام ) أن يجيعا ولديهما، ويتصرفا بحقهما تصرفاً يعرضهما للأذى أو الضرر. أو
يوقعهما في تعب ومشقة؟!
ويمكن أن يجاب:
أولاً: بأن الحسنين (عليهماالسلام ) كانا منسجمين مع تصرف أبويهما، ولا يرضيان بالإحتفاظ بالطعام لنفسيهما، وإبقاء ذلك الرجل جائعاً.
وصغر سنهما لا يعني أنهما يريان أنفسهما في منأى عن التكاليف الإلهية، فإن التكليف الذي هو منوط بالسن، إنما لوحظ السن فيه بالنسبة لنا نحن. أما الأنبياء وأوصيائهم، فلعل الأمر ليس منوطاً بالسن، بل بالقدرة والعلم والإدراك. وهذا متحقق فيهم (عليهمالسلام ) بأقصى الدرجات، كما يدل عليه قول عيسى (عليهالسلام ) حين ولادته:( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ) (1) ، كما تدل عليه أجوبتهم على أدق المسائل في حال صغرهم، بالإضافة إلى شواهد أخرى..
ولأجل ذلك تقول الرواية: إن الآية المباركة نزلت في الأربعة: علي وفاطمة والحسنين (عليهمالسلام )، فراجع..
ثانياً: إننا وإن لم نعرف الوجه في هذا التصرف، فلا نشك في صحة ومشروعية، فإننا إنما نأخذ التشريع منهم (عليهمالسلام )، وتكفينا عصمتهم الثابتة بنص القرآن للإجابة على على أي سؤال، وإزالة أية شبهة..
7 ـ إن تعدد الوقائع المروية في بيان شأن نزول قوله تعالى:( وَيُؤْثِرُونَ
____________
1- الآيتان 30 و 31 من سورة مريم.
عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) (1) في علي (عليهالسلام ) لا يوجب خللاً في الروايات، لإمكان صحة جميعها، وتكرر نزول الآية في هذه الواقعة وتلك.. وهذا معروف ومألوف..
فلا عجب إذا كانت آية الإيثار قد نزلت في قضية الرجل الجائع، وإيثارهم إياه بطعام الإمامين: الحسن والحسين (عليهماالسلام ).. ثم نزلت في مناسبة إيثار علي (عليهالسلام ) بالحلة التي كساه إياها الرسول (صلىاللهعليهوآله ) ذلك الذي جاءه يشكو عريه وعري أهل بيته..
ثم نزلت في إيثاره (عليهالسلام ) المقداد بالدنيار الذي استقرضه.
وهذا يفسر التعبير في الآية بالفعل المضارع الدال على الدوام والإستمرار، وأن هو خلقهم (عليهمالسلام ).
8 ـ وعن قول الراوي: إنهما جعلا يمضغان بألسنتهما نقول:
هل أرادا (عليهماالسلام ) الإيحاء لذلك الضيف بأنهما يأكلان ما يأكل؟!
ولماذا يريدان إفهامه ذلك؟! وهل كان هو مهتماً لهذا الأمر؟!
وإذا كان علي (عليهالسلام ) يريد أن يفهمه ذلك، فما شأن الزهراء (عليهاالسلام ) في هذا الأمر؟! وهل تجلس مع رجل غريب لتأكل معه، وتسمعه صوت مضغها للطعام؟!
وإن كان المقصود هو الإيحاء للصبية بذلك، فهو لا معنى له، لأن ذلك يزيد في رغبتهما بالطعام!!
____________
1- الآية 9 من سورة الحشر.
فالأنسب القول: بأن علياً وفاطمة (عليهماالسلام ) جعلا يفعلان ذلك من دون أن يكون الهدف إسماع الضيف، بل كان ذلك هو ما اقتضته شدة حاجتهما إلى الطعام.
أو يقال: إن الصبية ـ والمقصود هو الحسنان (عليهماالسلام ) ـ باتا يمضغان بألسنتهما، استجابة لدواعي الحاجة إلى الطعام..
ولكن أين كانت زينب وأم كلثوم عن هذه الحادثة؟! هل كان ذلك قبل ولادتهما؟!
أم أن الإيثار كان بخصوص طعام الحسن والحسين (عليهماالسلام )؟! لأنهما اللذان يمكنهما المبادرة الإختيارية إلى أمر من هذا القبيل، لخصوصية فيهما أشرنا إليها فيما قدمناه آنفاً برقم(6)
9 ـ وقد أظهر الله سبحانه الكرامة لهما حين وجدا الجفنة مملوءة طعاماً، ليعلم الناس أن التجارة مع الله رابحة دائماً..
10 ـ وحديث الدنيار الذي أعطاه (عليهالسلام ) للمقداد دل أن علياً (عليهالسلام ) أصبح ساغباً، ويبدو أنه كان قد مضى عليه يومان بلا طعام.. وأن الزهراء (عليهاالسلام ) آثرت بالطعام على نفسها وعلى الحسنين (عليهماالسلام )..
ومن المعلوم: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كان أيضاً يطوي بعض أيامه بلا طعام، وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع.. مع أن الكثيرين من الناس كانوا على استعداد لبذل أموالهم له، وكثير منهم يبذل نفسه في سبيله ومن أجله..
وكان علي والزهراء والحسنان (عليهمالسلام ) أقرب الناس إليه، وأحبهم إليه، ولكنهم جميعاً يعرضون عن هذه الدنيا، ويسوون أنفسهم بأضعف الناس فيها.. على قاعدة: (ولعل بالحجاز أو اليمامة، من لا عهد له بالشبع)، وعلى قاعدة: (ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن عيشه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد)(1) .
11 ـ وقد ذكرت الزهراء (عليهاالسلام ) لعلي (عليهالسلام ): أنها آثرت بالطعام غيرها على نفسها، وعلى ولديها، مصرحة باسمهما: (الحسن والحسين)، فهما اللذان يمكن التصرف بحصتهما، لخصوصيتهما في التكليف، والإدراك وسائر الكمالات، بملاحظة ما لهما من مقام في الإمامة للأمة.
وربما كان هذا التصرف بطلب منهما، كما أشرنا إليه حين الحديث عن سورة هل أتى.
____________
1- نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص70 ومختصر بصائر الدرجات ص154 ومستدرك الوسائل ج12 ص54 وج16 ص300 والخرائج والجرائح ج2 ص542 وبحار الأنوار ج33 ص474 وج40 ص318 و 340 وج67 ص320 وجامع أحاديث الشيعة ج14 ص34 وج23 ص272 ونهج السعادة ج4 ص32 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج16 ص205 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج2 ص139 وينابيع المودة ج1 ص439.
12 ـ وقد صرحت الزهراء (عليهاالسلام ): بأنها تستحي من الله أن تكلف علياً (عليهالسلام ) ما لايقدر عليه.. مع أن علياً (عليهالسلام ) ألمح إلى أنه كان قادراً على أن يأتيهم بشيء، حيث قال لها: (ألا أعلمتني، فأتيتكم بشيء)؟!
فهل علمت (عليهاالسلام ) ما لم يعلمه علي (صلوات الله عليه)؟! بمعنى أنها تحدثت عن علمها بالواقع، فأخبرته: أنه (عليهالسلام ) حتى لو سعى للحصول على شيء فإنه لن يحصل عليه..
أما علي (عليهالسلام ) فكلمها وفق الأحوال الظاهرة، والمتوقعة، بحسب العادة عند سائر الناس، بغض النظر عما ينكشف له بعلم الإمامة..
وبذلك تكون هذه الرواية قد تضمنت إشارة إلى أن لدى الزهراء (عليهاالسلام ) معرفة أرقى من المعرفة الظاهرية المتوفرة لدى سائر الناس. وذلك لبيان عظمتها، وتأكيد تميزها عن سائر النساء بهذا المقام الذي لا يناله إلا صفوة الخلق.. وعلى رأسهم أبوها (صلىاللهعليهوآله )، وزوجها (عليهالسلام ).
13 ـ وقد لفت نظرنا: أنه (عليهالسلام ) قد (استقرض) من النبي (صلىاللهعليهوآله ) ديناراً. مع أن الأمور كانت تجري بينهما على أساس أنهما عائلة واحدة.. والإستقراض معناه: أن ثمة قيوداً وحدوداً لم نعهدها!! فكيف نفسر ذلك؟!
ونجيب:
أولاً: لعل النبي (صلىاللهعليهوآله ) كان قد ادخر هذا الدينار
للإنفاق على أزواجه. ولم يكن يمكنه التفريط به، مع حاجة من تجب نفقته عليه..
ثانياً: لعل المقصود: هو أن ينال النبي (صلىاللهعليهوآله ) ثواب القرض بثمانية عشر، والصدقة بعشرة(1) . وأن ينال علي (عليهالسلام ) ثواب الكاد على عياله، فإنه كالمجاهد في سبيل الله(2) ، حيث لا بد أن يكد في تحصيل الدينار ليرده إلى صاحبه..
14 ـ وقد أعطى علي (عليهالسلام ) الدينار كله للمقداد، وكان بإمكانه أن يتقاسمه معه. فيكون قد نال ثواب الصدقة من جهة، وحل مشكلة العيال من جهة أخرى.
____________
1- الكافي ج4 ص34 وبحار الأنوار ج100 ص138 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج9 ص300 و (ط دار الإسلامية) ج6 ص209 ومستدرك الوسائل ج12 ص364 وجامع أحاديث الشيعة ج16 ص122 وج18 ص286 و 289 ومستدرك سفينة البحار ج8 ص501 وألف حديث في المؤمن للشيخ هادي النجفي ص107 وتفسير القمي ج2 ص159 و 350 وتفسير نور الثقلين ج4 ص190 وج5 ص239.
2- الكافي ج5 ص88 وراجع: تحف العقول ص445 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج17 ص67 و (ط دار الإسلامية) ج12 ص42 وبحار الأنوار ج75 ص339 وجامع أحاديث الشيعة ج17 ص12 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج7 ص381.
ولكنه (عليهالسلام ) أراد:
أولاً: أن ينال ثواب الإيثار على النفس حتى مع الخصاصة الظاهرة..
ثانياً: إذا نظرنا إلى مجموع الروايات وجمعنا بينها، فقد نستفيد: أنه (عليهالسلام ) أراد أن يعطى المقداد ما يغينه عن العودة إلى معاناة شدائد الحاجة في الجهات المختلفة، وربما كان منها كسوة عياله (رحمهالله ) أيضاً.
بل لعله رأى أن حاجة المقداد وعياله كانت غير قابلة للتجزئة، فقد كانوا بحاجة إلى الكسوة أكثر من أي شيء آخر. والكسوة قد تكون أكثر أهمية وحساسية حتى من معاناة الجوع. فأعطاه الحلة ليكتسي هو بها، ثم أعطاه الدينار ليكسو به عياله.
15 ـ ورغم أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) قد سأل علياً (عليهالسلام ) عما صنع، فأخبره. فإنه (صلىاللهعليهوآله ) طلب منه بعد انقضاء صلاته أن يتعشى عنده، لأن الله تعالى قد أوحى إلى نبيه (صلىاللهعليهوآله ) بذلك، ليظهر الكرامة الإلهية للزهراء وعلي (عليهماالسلام )، كما أظهرها لمريم (عليهاالسلام ) من قبل.
ولكن هناك فرق جوهري بينهما، وهو: أن علياً (عليهالسلام ) قد نام بعد تصدقه بالدينار، فكان نومه كيقظته عبادة يستحق معها الكرامة.
أما مريم (عليهاالسلام )، فإن استحقاقها لإظهار هذه الكرامة لها مرهون باشتغالها بالعبادة بالفعل، فأنالها الله تعالى تلك الكرامة نتيجة لذلك.
إذ لم يكن نومها مثل نوم علي (عليهالسلام ).
كما أن فاطمة (عليهاالسلام ) كانت حياتها كحياة علي (عليهالسلام ) كلها عبادة، وكان نومها ويقظتها وشغلها وفراغها على حد سواء في ذلك.. فهي تستحق الكرامة في كل حال، وعلى كل حال.
النبي (صلىاللهعليهوآله ) في ضيافة علي (عليهالسلام ):
عبد الله بن علي بن الحسين، يرفعه: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) أتى مع جماعة من أصحابه إلى علي (عليهالسلام )، فلم يجد علي شيئاً يقربه إليهم، فخرج ليحصل لهم شيئاً، فإذا هو بدينار على الأرض، فتناوله وعرَّف به، فلم يجد له طالباً، فقومه على نفسه، واشترى به طعاماً، وأتى به إليهم.
وأصاب [به] عوضه، وجعل ينشد صاحبه، فلم يجده، فأتى به النبي (صلىاللهعليهوآله ) وأخبره.
فقال: يا علي، إنه شيء أعطاكه الله لما اطلع على نيتك وما أردته، وليس هو شيء للناس، ودعا له بخير(1) .
ونقول:
لا نرى حاجة إلى التعليق على هذه الحادثة، غير أننا نعيد على مسامع القارئ الكريم ما صرحت به الرواية من أنه (عليهالسلام ):
____________
1- بحار الأنوار ج41 ص30 عن مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص89 و 90 و (ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص394 وشرح الأخبار ج2 ص183.