• البداية
  • السابق
  • 350 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 17481 / تحميل: 4831
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء 9

مؤلف:
العربية

الفصل الثالث:

طلب النصرة

٢٨١

٢٨٢

بيعة بني هاشم:

قد يرجح البعض أن الأمور جرت وفق ما ذكرته الرواية التالية:

إنه بعد فراغ أصحاب السقيفة من سقيفتهم، وبعد أن جرى ما جرى على فاطمة (عليها‌السلام ) من ضرب وإهانة، بعد دفن أبيها مباشرة..

(جلس (علي (عليه‌السلام )) في المسجد، فاجتمع عليه بنو هاشم، ومعهم الزبير بن العوام. واجتمعت بنو أمية إلى عثمان بن عفان. وبنو زهرة إلى عبد الرحمن بن عوف. فكانوا في المسجد كلهم مجتمعين، إذ أقبل أبو بكر، ومعه عمر، وأبو عبيدة بن الجراح، فقالوا: ما لنا نراكم حلقاً شتى! قوموا فبايعوا أبا بكر، فقد بايعته الأنصار والناس.

فقام عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، ومن معهما فبايعوا، وانصرف علي وبنو هاشم إلى منزل علي (عليه‌السلام ) ومعهم الزبير.

قال: فذهب إليهم عمر في جماعة ممن بايع، فيهم: أسيد بن حضير، وسلمة بن سلامة، فألفوهم مجتمعين، فقالوا لهم: بايعوا أبا بكر فقد بايعه الناس.

فوثب الزبير إلى سيفه، فقال [لهم] عمر: عليكم بالكلب العقور، فاكفونا شره.

٢٨٣

فبادر سلمة بن سلامة فانتزع السيف من يده، فأخذه عمر فضرب به الأرض فكسره، وأحدقوا بمن كان هناك من بني هاشم، ومضوا بجماعتهم إلى أبي بكر، فلما حضروا قالوا: بايعوا أبا بكر فقد بايعه الناس، وأيم الله لئن أبيتم ذلك لنحاكمنكم بالسيف.

فلما رأى ذلك بنو هاشم أقبل رجل رجل، فجعل يبايع حتى لم يبق ممن حضر إلا علي بن أبي طالب، فقالوا له: بايع أبا بكر.

فقال علي (عليه‌السلام ):

أنا أحق بهذا الأمر منه، وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من الرسول، وتأخذونه منا أهل البيت غصباً، ألستم زعمتم للأنصار إنكم أولى بهذا الأمر منهم، لمكانكم من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فأعطوكم المقادة، وسلموا لكم الإمارة؟!

وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار.

أنا أولى برسول الله حياً وميتاً، وأنا وصيه، ووزيره، ومستودع سره وعلمه، وأنا الصديق الأكبر، والفاروق الأعظم، أول من آمن به وصدقه، وأحسنكم بلاءً في جهاد المشركين، وأعرفكم بالكتاب والسنة، وأفقهكم في الدين، وأعلمكم بعواقب الأمور، وأذربكم لساناً، وأثبتكم جناناً.

فعلام تنازعونا هذا الأمر؟!

أنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا الأمر مثل ما عرفته لكم الأنصار، وإلا فبوؤا بالظلم والعدوان وأنتم تعلمون.

٢٨٤

فقال عمر: يا علي أما لك بأهل بيتك أسوة؟!

فقال علي (عليه‌السلام ): سلوهم عن ذلك.

فابتدر القوم الذين بايعوا من بني هاشم، فقالوا: والله، ما بيعتنا لكم بحجة على علي، ومعاذ الله أن نقول: إنا نوازيه في الهجرة، وحسن الجهاد، والمحل من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

فقال عمر: إنك لست متروكاً حتى تبايع طوعاً أو كرهاً.

فقال علي (عليه‌السلام ): احلب حلباً لك شطره، اشدد له اليوم ليرد عليك غداً، إذاً والله لا أقبل قولك، ولا أحفل بمقامك، ولا أبايع.

فقال أبو بكر: مهلاً يا أبا الحسن، ما نشدد عليك، ولا نكرهك.

فقام أبو عبيدة إلى علي (عليه‌السلام )، فقال:

يا ابن عم، لسنا ندفع قرابتك، ولا سابقتك، ولا علمك، ولا نصرتك، ولكنك حدث السن ـ وكان لعلي (عليه‌السلام ) يومئذ ثلاث وثلاثون سنة ـ وأبو بكر شيخ من مشايخ قومك، وهو أحمل لثقل هذا الأمر، وقد مضى الأمر بما فيه، فسلم له، فإن عمَّرك الله يسلموا هذا الأمر إليك، ولا يختلف فيك اثنان بعد هذا، إلا وأنت به خليق وله حقيق، ولا تبعث الفتنة في غير أوانها، فقد عرفت ما في قلوب العرب وغيرهم عليك.

فقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام ):

يا معاشر المهاجرين والأنصار، الله الله لا تنسوا عهد نبيكم إليكم في أمري، ولا تخرجوا سلطان محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن حقه ومقامه في الناس.

٢٨٥

فوالله يا معاشر الجمع، إن الله قضى وحكم، ونبيه أعلم، وأنتم تعلمون: أنا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم، أما كان القارئ منكم لكتاب الله، الفقيه في دين الله، المضطلع بأمر الرعية؟!

والله إنه لفينا لا فيكم، فلا تتبعوا الهوى، فتزدادوا من الحق بعداً، وتفسدوا قديمكم بشر من حديثكم.

فقال بشير بن سعد الأنصاري، الذي وطأ الأمر لأبي بكر، وقالت جماعة من الأنصار: يا أبا الحسن لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف فيك اثنان.

فقال علي (عليه‌السلام ): يا هؤلاء، أكنت أدع رسول الله مسجى لا أواريه، وأخرج أنازع في سلطانه؟! والله ما خفت أحداً يسمو له، وينازعنا أهل البيت فيه، ويستحل ما استحللتموه. ولا علمت أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ترك يوم غدير خم لأحد حجة، ولا لقائل مقالاً، فأنشد الله رجلاً سمع النبي يوم غدير خم يقول:

(من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله) أن يشهد الآن بما سمع!!

قال زيد بن أرقم: فشهد اثنا عشر رجلاً بدرياً بذلك، وكنت ممن سمع القول من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فكتمت الشهادة يومئذ، فدعا عليٌّ عليَّ، فذهب بصري.

قال: وكثر الكلام في هذا المعنى، وارتفع الصوت، وخشي عمر أن يصغي الناس إلى قول علي (عليه‌السلام )، ففسخ المجلس، وقال: إن الله

٢٨٦

يقلب القلوب، ولا تزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة، فانصرفوا يومهم ذلك(1) .

____________

1- الإحتجاج للطبرسي ج1 ص181 ـ 185 و (ط دار النعمان سنة 1386هـ) ج1 ص94 ـ 97، وقال المعلق (على النسخة الأولى) في الهامش: هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بين الخاصة والعامة.

نقله أصحاب السير والتواريخ مع اختلاف يسير، فمن أراد الإطلاع عليه، فليرجع إلى مظانه، وإليك بعضها: الإمامة والسياسة (ط مصر) ج1 ص12 ـ 14 وأنساب الأشراف ج1 ص579 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص455 وكنز العمال ج5 ص649 والغدير ج1 ص159 انتهى. وراجع: الإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص17 و (تحقيق الشيري) ج1 ص28 وكتاب الأربعين للشيرازي ص153 وبحار الأنوار ج28 ص347 و175 وج29 ص626 عن ابن قتيبة، ومناقب أهل البيت (عليهم‌السلام ) للشيرواني ص400 والغدير ج5 ص371 ونهج السعادة ج1 ص44 والسقيفة وفدك للجوهري ص62 وبيت الأحزان ص81 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج2 ص134 و 251 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) في الكتاب والسنة والتاريخ ج2 ص319 والمسترشد لابن رستم الطبري ص375 وغاية المرام ج5 ص304 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج2 ص351 وج25 ص544 وشرح نهج البلاغـة للمعتزلي ج6 ص11 وراجع الجـزء الأخـير من الروايـة في: العمدة لابن البطريق ص106 عن المناقب لابن المغـازلي ص33 ومجمـع = = الزوائد ج9 ص106 والمعجم الكبير للطبراني ج5 ص171 و 175 وغاية المرام ج1 ص279 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص318 وج8 ص745 وج16 ص567 و 579.

٢٨٧

ونقول:

تحسن الإشارة إلى الأمور التالية:

كسر سيف الزبير:

وقد اختلفت كلماتهم في كيفية التغلب على الزبير، ومن أخذ سيفه منه، ومن الذي كسره، هل هو عمر، أو سلمة بن أسلم(1) ، أو أن الزبير عثر

____________

1- في الرواية المتقدمة سلمة بن سلامة. وراجع: المسترشد ص379 وبحار الأنوار ج28 ص184 وبيت الأحزان ص79.

وسلمة بن أسلم: في كتاب الأربعين للشيرازي ص153 وبحار الأنوار ج28 ص348 ونهج السعادة ج1 ص44 والسقيفة وفدك للجوهري ص62 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص11 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص18 و (تحقيق الشيري) ج1 ص28 وغاية المرام ج5 ص305.

وعمر: في السقيفة وفدك للجوهري ص53 و 73 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص21 و 57 وغاية المرام ج5 ص325 و 338 وكتاب الأربعين للشيرازي ص151 وراجع: الإختصاص للمفيد ص186 وبحار الأنوار ج28 ص229 و 310 والغدير ج5 ص369 والوضاعون وأحاديثهم للأميني ص488 وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص327. =

= ورجل من الأنصار وزياد بن لبيد: في كتاب الأربعين للشيرازي ص151 و 155 وبحار الأنوار ج28 ص315 و 321 ومناقب أهل البيت (عليهم‌السلام ) للشيرواني ص403 والسقيفة وفدك للجوهري ص53 و 73 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص56 وج6 ص48 والدرجات الرفيعة ص196 ومستدركات علم رجال الحديث ج3 ص451 وأعيان الشيعة ج4 ص188 وبناء المقالة الفاطمية لابن طاووس ص402 وغاية المرام ج5 ص324

٢٨٨

فسقط السيف من يده، فأخذوه(1) . أو أن جماعة أخذوه منه كما في الرواية الأخرى(2) .

وهو اختلاف تفوح منه رائحة حب التباهي بهذا الأمر، والإستفادة منه في بث الرعب في نفوس الضعفاء، وحملهم على الهروب من ساحات

____________

1- راجع: تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة 11 والرياض النضرة ص167 وتاريخ الخميس ج1 ص188 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص122 و 133 و 134 و 58 و 59 وج6 ص2 والطرائف لابن طاووس ص238 والغدير للأميني ج7 ص86 وأعيان الشيعة ج1 ص33 و 431 وبحار الأنوار ج28 ص231 وغاية المرام ج5 ص334.

2- الإحتجاج ج1 ص209 و (ط دار النعمان سنة 1386هـ) ج1 ص110 وكتاب سليم بن قيس ص158 وبحار الأنوار ج28 ص276 والأنوار العلوية ص289 ومجمع النورين للمرندي ص100 وغاية المرام ج5 ص319 و 326 ونفس الرحمن للطبرسي ص488.

٢٨٩

المواجهة مع المناوئيين، وإعطاء جرعة شجاعة لمناوئي علي (عليه‌السلام )، الذين كانت حالهم في الضعف والهروب من ساحات القتال في حياة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لا يحسدهم عليها أحد.

ولا يهمنا تحقيق ما جرى لهم مع الزبير ومعرفة من أخذ سيفه منه، ومن كسر ذلك السيف، لقلة جدوى هذا البحث إلا في تأكيد إصرارهم على التحوير والتزوير لأغراض رخيصة وتافهة، حسبما ألمحنا إليه..

غير أن لنا ملاحظة هامة جداً حول الزبير نفسه، وسياستهم الناجحة معه.. فإن هذا الرجل الذي لم يكن له شأن في حياة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وبعده. بل كان تابعاً لعلي (عليه‌السلام )، ومنضوياً تحت لوائه، وينتظر أوامره، ويتحرك بحركته، قد استطاع الطرف الآخر الذي كان يعرف نقاط ضعف الزبير، أن يجره إليه، وأن يرفع من شأنه، ويؤهله نفسياً لأن يتجرأ على منافسة علي (عليه‌السلام )، وعلى الوقوف في وجهه، ثم ينتهي به الأمر إلى جمع الجيوش لمحاربته، حسداً وانتقاماً لنفسه، حيث لم يوله العمل الذي طلبه منه..

والأدهى من ذلك، أن يجعل نفسه تحت راية بنت الخليفة الذي رفض الإعتراف بشرعية خلافته، وحمل السيف في وجه المنتصرين له، ثم أخذ منه ذلك السيف وكسر..

كسر سيف علي (عليه‌السلام ):

وتدعي بعض الروايات: أنه لما هاجم عمر بيت الزهراء (عليها‌السلام ) خرج علي (عليه‌السلام ) ومعه السيف، فلقيه عمر، فصارعه عمر

٢٩٠

فصرعه وكسر سيفه(1) .

ونقول:

إن ذلك غير صحيح..

أولاً: لما تقدم: من أن الذي أُخذ سيفه منه وكسر هو الزبير، لا علي (عليه‌السلام ).

ثانياً: إن عمر لا يجرؤ على مواجهة علي (عليه‌السلام )، وقد ذكرت بعض الروايات لنا كيف أنه بعد أن هدد من في بيت الزهراء (عليها‌السلام ) إن لم يخرجوا لبيعة أبي بكر رجع فقعد عند أبي بكر، وهو يخاف أن يخرج عليه علي (عليه‌السلام ) بسيفه لما عرف من بأسه وشدته.

كما أن روايات أخرى ذكرت: أن علياً (عليه‌السلام ) أخذ بمجامع ثوبه، فأسقط في يده(2) .

وفي أخرى: أن علياً (عليه‌السلام ) أخذ بتلابيب عمر، ثم هزه فصرعه، ووجأ أنفه ورقبته، وهمَّ بقتله.. فأرسل يستغيث(3) .

____________

1- تاريخ اليعقوبي (ط دار صادر) ج2 ص126.

2- كتاب سليم بن قيس ص390 والبحار ج28 ص301 والأنوار العلوية ص289.

3- تفسير الآلوسي ج3 ص124 وكتاب سليم بن قيس (بتحقيق الأنصاري) ج2 ص862 ـ 868 و (ط أخرى) ص387 وبحار الأنوار ج28 ص297 ـ 299 وج43 ص197 واللمعة البيضاء ص870 والأنوار العلوية ص287 ومجمع النورين للمرندي ص81 وبيت الأحزان ص115 وراجع: العوالم ج11 ص400 ـ 404.

٢٩١

ثالثاً: إن من يهرب من مرحب لا يثبت أمام قاتله، ومن يجبن أمام عمرو بن عبد ود لا يشجع أمام قاتل عمرو. ومن يهرب من خيبر لا يواجه فاتح خيبر، وقالع بابها..

إلا إذا أمن من ردة فعله، لسبب أو لآخر. ولا نظنه يجرؤ على بلوغ الحد الذي يعرف أن علياً (عليه‌السلام ) يأباه، ولن يسكت عليه..

إستدلال علي (عليه‌السلام ):

والمتأمل في ما استدل به أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) على القوم هنا يجد: أنه تضمن نقضاً لأدلتهم على الأنصار، والتأكيد على غاصبيتهم لمقام هو لأهل البيت (عليه‌السلام )..

وظهور فساد استدلالهم لا بد أن يستتبع سقوط كل ما رتبوه على ذلك الدليل الفاسد من آثار.

ثم بدأ (عليه‌السلام ) يبين: أن هذا الإستدلال على الأنصار كما يسقط دعواهم بأي حق لهم في الخلافة، فإنه يثبت: أن الحق لعلي (عليه‌السلام ) دون سواه.

وهذا من المفارقات العجيبة، التي يندر حدوثها، وهو: أن يكون الدليل الذي يقيمه طرف بعينه على أحقيته بأمرٍ مّا هو نفسه يحمل في داخله ما يبطله.. بل يحمل في داخله ما يثبت الحق للطرف الآخر المقابل له..

ثم إنه (عليه‌السلام ) لم يقتصر على هذا، بل تجاوزه إلى بيان عناصر بيّن أكثرها الإثنا عشر رجلاً الذين احتجوا على أبي بكر.. وكان أهل المدينة

٢٩٢

أعرف الناس بها؛ وسيكون إنكار ابي بكر لها، بل التشكيك فيها مجازفة خطيرة، تعرّض من يفعل ذلك إلى وهن كبير، وإلى سقوط مريع أمام الناس ـ كل الناس. ولن ينفع بعد ذلك الترقيع، ولا تمحل الأعذار..

غير أن اللافت في كل ما احتج به علي (عليه‌السلام ): أنه لم يذكر أي قول لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ولا أشار إلى أية آية من كتاب الله، ربما لأن هذه المواجهة كانت تقضي بالسكوت عن هذا الأمر مرحلياً، من حيث إنه (عليه‌السلام ) لم يرد أن يثير مناوئيه للمبادرة إلى التشكيك في النصوص ولو بصورة عشوائية، حيث إنهم يعلمون: أنه إذا تقرر كون الإمامة والخلافة بالنص، وسلم الناس بهذا الأمر وقبلوه، فإن عليهم وعلى الأمويين وكل الناس أن يشيعوا أحلامهم بالحكم إلى مثواها الأخير..

فلا بد لهم من إنكار النص بأي ثمن كان؛ لأنه يبطل تأثير سقيفتهم التي كرست أن أمر الخلافة يقرره الناس، ولا يحتاج إلى نص. ولأن النص كرس الخلافة في بني هاشم دون سواهم.

فكان أن اكتفى (عليه‌السلام ) بالأمور التي بلغت درجة البداهة في عقول الناس وفي وجدانهم. الأمر الذي أنتجته مجموعة كبيرة جداً من النصوص التي صدرت من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، أو سجلها القرآن الكريم.. ولم يكن لأي كان أي سبيل لإنكارها.

فاختيار أي نص منها من دون انضمامه إلى النصوص الأخرى التي أنشأت تلك الضرورة والبداهة. أو من دون عرض التفاصيل التي جاء النص القرآني والنبوي ليتعامل معها.. سوف يعطي المتربصين بالنص

٢٩٣

الفرصة لإثارة الشبهة فيه وحوله..

ومما يدل على أن هذا التعاطي كان مرحلياً، أنه (عليه‌السلام ) عاد فاستدل بالنص، حينما استخرج من بيته، وجيء به للبيعة، وهدد بالقتل..

موقف عمر من استدلال علي (عليه‌السلام ):

والغريب في الأمر: أن السلطة وأنصارها لم يمكنهم طرح أية مفردة، تفيدهم في مواجهة صاحب الحق الشرعي، ولم يتمكنوا من تصحيح استدلالهم أو ترميمه، ليصبح صالحاً لإثبات ولو شبهة حق لهم في هذا الأمر!! كما أنهم عجزوا عن إثارة أية شبهة فيما استدل به (عليه‌السلام ) على أن الحق له في هذا الأمر دونهم!!

بل لم يتمكنوا حتى من إنكار أن يكونوا ظالمين ومعتدين في ما أقدموا عليه. بل غاية جهدهم تمثلت فيما طلبه عمر من علي (عليه‌السلام ) إليه أن يتأسى ببني هاشم، الذين بايعوا مكرهين..

فبين له علي (عليه‌السلام ) بالدليل الحسي: أن ما طلبه منه يعدّ قلباً فاضحاً للمعايير، وسفهاً من القول والفعل؛ لأنه يجعل المأموم إماماً، والإمام مأموماً.. وهو أمر ترفضه الفطرة، ولا يجيزه العقل، وتأباه الحكمة والتدبير..

ويلاحظ: أنه (عليه‌السلام ) أحال عمر على نفس أولئك الذين افترضهم عمر أسوة لعلي، وإذ بهم يرفضون ذلك، ويستدلون لرفضهم هذا بأنه هو صاحب القرار والأسوة، وهذا لا مجال للنقاش فيه..

٢٩٤

فلجأ عمر إلى استعمال القوة، والقهر بالسلطان..

اعتراف أبي عبيدة وتبريراته:

وبعد أن استوعب أبو بكر أجواء الحدة، جاء دور شريكه أبي عبيدة، ليسجل اعترافاً صريحاً بصحة أقوال أمير المؤمنين كلها، توطئة للإستدلال علىه (عليه‌السلام ) بأمرين:

أولهما: ميزة لم يجد سواها في أبي بكر ترجحه ـ بنظره ـ على علي (عليه‌السلام ). وهي: أن علياً كان على حد تعبيره: (حدث السن)، وأبو بكر شيخ من مشايخ قومه، وهو أحمل لثقل هذا الأمر.

الثاني: أن خلافة أبي بكر قد أصبحت أمراً واقعاً، فلم يعد له فيها خيار سوى التسليم..

ثم أطلق تهديده القوي له، بأنه إن لم يبايع، فسيكون سبباً في بعث الفتنة في غير أوانها، فقد عرف ما في قلوب العرب وغيرهم عليه..

ونقول:

إن ما ذكره أبو عبيدة لا قيمة له، ولا يبرر اغتصاب الحق من أهله..

فأولاً: إن السن ليس هو المعيار في استحقاق هذا المقام.. بل المعيار هو ما ذكره علي (عليه‌السلام ) في احتجاجه، لاسيما بملاحظة خطورة هذا المقام، من: العلم، والشجاعة، والعصمة، والسابقة. وغير ذلك..

ثانياً: لو صح الإستدلال بالسن؛ لكان أبو قحافة أحق بهذا المقام من ابنه أبي بكر، بالإضافة إلى عشرات أو مئات أو آلاف من الناس كانوا في

٢٩٥

الأمة أسن من أبي بكر..

ثالثاً: إن اختيار الخليفة ليس للناس.

ولو فرض أن للناس في ذلك أدنى حق، فبعد أن اختار الله ورسوله لهم، يسقط حقهم هذا، ولا يجوز لهم تجاهل من اختاره الله لهم، واللجوء إلى آرائهم وأهوائهم..

رابعاً: إن الشيخوخة لا تعني: أن الشيخ أحمل لهذا الأمر من غيره، فإن درجات التحمل تختلف وتتفاوت، وقد يكون الأصغر سناً أحمل من غيره، والوقائع هي التي تثبت ذلك، وقد أثبتت بالفعل: أن الأحدث سناً هو الأحمل لثقل هذا الأمر.

ولم ينس أحد مبيت علي (عليه‌السلام ) على فراش الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ليلة الغار، وحزن أبي بكر، مع أنه كان في موضع الأمن والسلام. كما أن أحداً لم ينس ما جرى في حرب بدر، وأحد، وخيبر، وحنين، وغير ذلك.

خامساً: إن السبب الذي يراد التقديم على أساسه، وهو علو السنّ، إنما تكونت الزيادة فيه في أيام الجاهلية، حيث كان يمارس عبادة الأصنام، والأعمال التي لا تنتج إلا تراكمات تحمل معها المزيد من الإبتعاد عن الصلاحية لهذا الأمر كما لا يخفى..

أما علي (عليه‌السلام ) فقد عاش عمره كله في كنف الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وفي حضن الإيمان والتقوى، ولا شيء غير ذلك، فزيادة السّن لا تنتج مجداً، ولا تعطي امتيازاً، بل هي على ضد ذلك أدل بسبب ما

٢٩٦

تفرزه من تراكمات للصوارف والمبعدات عن الله، لتصبح ظلمات بعضها فوق بعض، فلا تقاس بالعمر الذي يقضيه صاحبه في ظل التربية الإلهية على قاعدة:( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) (1) . كما هو الحال بالنسبة لعلي (عليه‌السلام ).

سادساً: إن الأمر الواقع لا يجعل خلافة أبي بكر شرعية، إذا كان أساسها العدوان والظلم، إذ لو سرق إنسان مال غيره، فهذا أمر واقع، لكنه لا يجعل المال للسارق، مهما طال الزمن، ولو قتل أحدهم مؤمناً عدواناً، فهذا الأمر واقع؛ ولكنه لا يعفي القاتل من الإقتصاص منه. وإذا احتل أحدهم بيت غيره، فذلك لا يوجب على الغير أن يعطيه المفتاح، وأن يترك البيت له..

سابعاً: بالنسبة للفتنة، فإن من أطلق الفتنة ليس هو صاحب الحق الذي يجب عليه أن يطالب بحقه المغتصب، بل هو من اغتصب الحق، ويريد أن يقاتل صاحبه عليه، ويحرك غرائز الناس، ويضرب على الوتر العشائري والمصلحي؛ ليحتفظ بما ليس له..

الزهراء وعلي (عليهما‌السلام ) في طلب النصرة:

قال سلمان الفارسي (رحمه‌الله ): فلما كان الليل حمل علي (عليه‌السلام ) فاطمة (عليها‌السلام ) على حمار، وأخذ بيد ابنه الحسن والحسين (عليهما‌السلام )، فلم يدع أحداً من أهل بدر [وبيعة الرضوان]، من المهاجرين ولا

____________

1- الآية 39 من سورة طه.

٢٩٧

من الأنصار إلا أتاه في منزله، وذكر له حقّه، ودعاه إلى نصرته.

فما استجاب له من جميعهم إلا أربعة وأربعون رجلاً، فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلِّقين رؤوسهم، معهم سلاحهم، وقد بايعوه على الموت.

قال: فأصبح ولم يوافه منهم أحد غير أربعة.

قلت لسلمان: من الأربعة؟!

قال: أنا، وأبو ذر، والمقداد، والزبير بن العوام.

[قال:] ثم أتاهم من الليلة الثانية فناشدهم [الله].

فقالوا: نصبحك بكرة، فما منهم أحد وفى غيرنا.

ثم أتاهم في الليلة الثالثة، فما وفى أحد غيرنا(1) .

وفي نص آخر: إنهم كانوا يقولون: قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر، ما عدلنا به.

فقال علي (عليه‌السلام ): أفكنت أدع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

____________

1- الإحتجاج ج1 ص206 و 207 و (ط دار النعمان ص1386هـ) ج1 ص107 و 108 وكتاب سليم ج2 ص580 و 581 و (طبعة أخرى) ص148 وبحار الأنوار ج22 ص328 وج28 ص267 والأنوار العلوية ص285 ومجمع النورين للمرندي ص97 وغاية المرام ج5 ص315 و 316 وج6 ص26 ونفس الرحمن للنوري ص482 و بيت الأحزان ص108 والأسرار الفاطمية للمسعودي ص115.

٢٩٨

ميتاً في بيته، لم أجهزه، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه؟!

فقالت الزهراء (عليها‌السلام ): ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، وقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه(1) .

وقد كتب معاوية إلى علي (عليه‌السلام ) يذكر ذلك، فقال له: (وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار، ويداك في يدي ابنيك: الحسن والحسين يوم بويع الخ..)(2) .

ونقول:

إن المتأمل في حديث حمل علي (عليه‌السلام ) فاطمة الزهراء، والحسنين

____________

1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص13 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص19 و (تحقيق الشيري) ج1 ص30 والسقيفة وفدك للجوهري ص64 وبحار الأنوار ج28 ص352 و 355 ومناقب أهل البيت (عليهم‌السلام ) للشيرواني ص404 والغدير ج5 ص372 وج7 ص81 و الإمام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) للهمداني ص708 والوضاعون وأحاديثهم ص494 وقاموس الرجال للتستري ج12 ص325 وغاية المرام ج6 ص18 وبيت الأحزان ص82 و 100 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج10 ص295 وج33 ص364 و 366 و 367.

2- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص47 وسفينة النجاة للتنكابني ص345 وغاية المرام ج6 ص18 وكتاب الأربعين للشيرازي ص166 وبيت الأحزان ص100 وبحار الأنوار ج28 ص313 ومستدرك سفينة البحار ج7 ص505.

٢٩٩

(عليهم‌السلام ) إلى بيوت أعيان الصحابة يجد فيه بعض ما يحتاج إلى التوضيح أو التصحيح، فلاحظ ما يلي

من هم المستجيبون؟!:

ذكر الحديث المتقدم: أن الذين استجابوا لطلب الزهراء (عليها‌السلام ) النصرة هم: سلمان وأبو ذر، والمقداد، والزبير..

وفي هذا نظر وذلك لما يلي:

1 ـ إن سائر الروايات لا تذكر الزبير في جملتهم، بل تذكر عماراً عوضاً عنه(1) .

2 ـ وفي نص آخر: (فما أعانها أحد، ولا أجابها، ولا نصرها)(2) .

____________

1- الإحتجاج ج1 ص188 و (ط دار النعمان سنة 1386هـ) ج1 ص98 و 281 و الصراط المستقيم ج2 ص80 ومجمع النورين للمرندي ص74 وبحار الأنوار ج22 ص328 وج28 ص191 وج29 ص419 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص43 ونهج الإيمان لابن جبر ص579 ونفس الرحمن في فضائل سلمان للطبرسي ص579 ومستدرك الوسائل ج11 ص74 والعقد النضيد للقمي ص150 وكتاب الأربعين للشيرازي ص238

2- الإختصاص للمفيد ص183 ـ 185 وبحار الأنوار ج29 ص189 ـ 193وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج8 ص422 ـ 424 والعوالم ج11 ص647 ح2 واللمعة البيضاء ص309 ـ 312 ومجمع النورين للمرندي ص121 ـ 124.

الصفحة 301

٣٠٠