إملاء مامن به الرحمن من وجوه الاعراب والقراءات في جميع القرآن الجزء ١

مؤلف: أبي البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري
تصنيف: القرءات وفنّ التجويد
الصفحات: 316
مؤلف: أبي البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري
تصنيف: القرءات وفنّ التجويد
الصفحات: 316
يقوم فيجدّد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلّي حتى يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام إنّ الفجر قد طلع؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل لي ).
وهكذا كان الإمام سيّد المتقين، وإمام المنيبين قد طبع على قلبه حب الله تعالى، وهام بعبادته وطاعته.
ولمّا رأى عبد الله الفضل للإمام حذّره من أن يستجيب لهارون باغتياله قائلاً له: ( اتق الله، ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة فقد تعلم أنّه لم يفعل أحد سوء إلاّ كانت نعمته زائلة ).
فانبرى الفضل يؤيّد ما قاله عبد الله.
( قد أرسلوا إليّ غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك )(1) .
لقد خاف الفضل من نقمة الله وعذابه في الدنيا والآخرة إن اغتال الإمام، أو تعرّض له بمكروه.
ونصب الإمام موسىعليهالسلام ولده الإمام الرضاعليهالسلام علماً لشيعته ومرجعاً لأمّته وقد خرجت من السجن عدّة ألواح كتب فيها ( عهدي إلى ولدي الأكبر )(2) .
وقد أهتم الإمام موسى بتعيين ولده إماماً من بعده، وعهد بذلك إلى جمهرة كبيرة من أعلام شيعته كان من بينهم ما يلي:
1 - محمد بن إسماعيل:
روى محمد بن إسماعيل الهاشمي قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر، وقد اشتكى شكاة شديدة فقلت له: ( أسأل الله أن لا يريناه - أي فقدك - فإلى مَن؟ ).
قالعليهالسلام :
____________________
(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 469 - 471.
(2) نفس المصدر.
( إلى ابني علي، فكتابه كتابي، وهو وصيي، وخليفتي من بعدي )(1) .
2 - علي بن يقطين:
روى علي بن يقطين، قال: كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفرعليهالسلام ، وعنده علي ابنه، فقال: يا علي هذا ابني سيد ولدي، وقد نحلته كنيتي، وكان في المجلس هشام بن سالم فضرب على جبهته، وقال: إنّا لله نعى والله إليك نفسه(2) .
3 - نعيم بن قابوس:
روى نعيم بن قابوس، قال: قال أبو الحسنعليهالسلام : علي ابني أكبر ولدي، واسمعهم لقولي: وأطوعهم لأمري، ينظر في كتاب الجفر والجامعة، ولا ينظر فيهما إلاّ نبي أو وصي نبي(3) .
4 - داود بن كثير:
روى داود بن كثير الرقي، قال: قلت لموسى الكاظم: جُعلت فداك، إنّي قد كبرت، وكبر سنّي، فخذ بيدي، وأنقذني من النار، مَن صاحبنا بعدك؟
فأشارعليهالسلام إلى ابنه أبي الحسن الرضا، وقال: هذا صاحبكم بعدي(4) .
5 - سليمان بن حفص:
روى سليمان بن حفص المروزي، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وأنا أريد أن أسأله عن الحجّة على الناس بعده، فلمّا نظر إليّ ابتداني، وقال: يا سليمان إنّ عليّاً ابني ووصيي، والحجّة على الناس بعدي، وهو أفضل ولدي، فإن بقيت بعدي فاشهد له بذلك عند شيعتي وأهل ولايتي، المستخبرين عن خليفتي بعدي(5) .
____________________
(1) كشف الغمّة 3 / 88.
(2) كشف الغمّة 3 / 88.
(3) كشف الغمّة 3 / 88.
(4) الفصول المهمّة (ص 225).
(5) عيون أخبار الرضا 1 / 26.
6 - عبد الله الهاشمي:
قال عبد الله الهاشمي: كنّا عند القبر - أي قبر النبي (ص) - نحو ستين رجلاً منا ومن موالينا، إذ أقبل أبو إبراهيم موسى بن جعفرعليهالسلام ويد علي ابنه في يده فقال: أتدرون من أنا!
قلنا: أنت سيدنا وكبيرنا، فقال: سمّوني وانسبوني، فقلنا: أنت موسى بن جعفر بن محمد، فقال: من هذا؟ - وأشار إلى ابنه - قلنا: هو علي بن موسى بن جعفر، قال: فاشهدوا أنّه وكيلي في حياتي، ووصيي بعد موتي(1).
7 - عبد الله بن مرحوم:
روى عبد الله بن مرحوم قال: خرجت من البصرة أريد المدينة، فلمّا صرت في بعض الطريق لقيت أبا إبراهيم، وهو يذهب به إلى البصرة، فأرسل إليّ فدخلت عليه فدفع إلي كتباً، وأمرني أن أوصلها إلى المدينة، فقلت: إلى مَن ادفعها جُعلت فداك؟ قال: إلى علي ابني، فإنّه وصيي، والقيّم بأمري، وخير بنيّ(2).
8 - عبد الله بن الحرث:
روى عبد الله بن الحرث، قال: بعث إلينا أبو إبراهيم فجمعنا ثم قال: أتدرون لم جمعتكم!
قلنا: لا، قال: اشهدوا أنّ عليّاً ابني هذا وصيي، والقيّم بأمري، وخليفتي من بعدي، مَن كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا، ومَن كانت له عندي عدّة فليستنجزها منه، ومَن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه(3)
9 - حيدر بن أيوب:
روى حيدر بن أيوب، قال: كنّا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا فيه محمد بن زيد بن علي، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه فقلنا له: جعلنا الله فداك ما حبسك؟ - أي ما أخّرك عن المجيء - قال: دعانا أبو إبراهيم اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمةعليهماالسلام ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته، وإنّ أمره جايز - أي نافذ - عليه، وله، ثم قال محمد: والله يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم، وليقولن الشيعة به من بعده، قلت:
____________________
(1) عيون أخبار الرضا 1 / 26 - 27.
(2) عيون أخبار الرضا.
(3) عيون أخبار الرضا.
بل يبقيه الله، وأي شيء هذا؟
يا حيدر إذا أوصى إليه فقد عقد له بالإمامة(1).
10 - الحسين بن بشير:
قال الحسين بن بشير: أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر ابنه عليّاً، كما أقام رسول الله (ص)، عليّاً يوم غدير خم، فقال: يا أهل المدينة أو قال: يا أهل المسجد هذا وصيي من بعدي(2) .
11 - جعفر بن خلف:
روى جعفر بن خلف قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر يقول: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفرعليهماالسلام يقول: سعد امرؤ لم يمت حتى يرى منه خلف، وقد أراني الله من ابني هذا خلفا وأشار إليه - يعني الرضا -(3).
12 - نصر بن قابوس:
روى نصر بن قابوس قال: قلت لأبي إبراهيم موسى بن جعفرعليهالسلام ، إنّي سألت أباك مَن الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنّك أنت هو، فلمّا توفّي أبو عبد الله ذهب الناس يميناً وشمالاً، وقلت: أنا وأصحابي بك، فأخبرني مَن الذي يكون بعدك؟ قال: ابني علي(4) .
13 - محمد بن سنان:
روى محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن قبل أن يحمل إلى العراق بسنة، وعلي ابنه بين يديه، فقال لي: يا محمد، فقلت: لبّيك، قال: إنّه سيكون في هذه السنة حركة، فلا تجزع منها، ثم أطرق، ونكت بيده في الأرض، ورفع رأسه إليّ وهو يقول: ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء، قلت: وما ذاك؟
قال: مَن ظلم ابني هذا حقّه، وجحد إمامته من بعدي، كان كمَن ظلم علي بن أبي طالبعليهالسلام حقّه، وجحد إمامته من بعد محمد (صلي الله عليه وآله). فعلمت أنّه قد نعى إلى نفسه، ودلّ على ابنه، فقلت:
____________________
(1) عيون أخبار الرضا.
(2) عيون أخبار الرضا.
(3) عيون أخبار الرضا 1 / 30.
(4) عيون أخبار الرضا 1 / 31.
والله لئن مدّ الله في عمري لأسلمن إليه حقه، ولأقرن له بالإمامة، وأشهد أنّه من بعدك حجّة الله تعالى على خلقه، والداعي إلى دينه، فقال لي: يا محمد يمد الله في عمرك، وتدعو إلى إمامته، وإمامة مَن يقوم مقامه من بعده، فقلت: مَن ذاك جُعلت فداك؟ قال: محمد ابنه، قال: قلت: فالرضا والتسليم، قال: نعم كذلك وجدتك في شيعتنا أبين من البرق في الليلة الظلماء، ثم قال: يا محمد إنّ المفضل كان أنسي ومستراحي، وأنت أنسهما ومستراحهما(1) حرام على النار أن تمسّك أبداً(2) .
هذه بعض النصوص التي أُثرت عن الإمام موسىعليهالسلام على إمامة ولده الإمام الرضاعليهالسلام ، وقد حفلت باهتمام الإمام موسى في هذا الموضوع، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى تفنيد القائلين بالوقف على إمامته، وإبطال شبههم، وتحذير المسلمين منهم.
وأقام الإمام موسىعليهالسلام ولده الرضا وصيّاً من بعده، وقد أوصاه بوصيّتين، وهما يتضمّنان ولايته على صدقاته، ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة، وإلزام أبنائه باتباعه، والانصياع لأوامره، كما عهد إلى السيدات من بناته أن يكون زواجهن بيد الإمام الرضا؛ لأنّه اعرف بالكفؤ من غيره، فينبغي أن لا يتزوجن إلاّ بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ومنزلتهن.
أمّا الوصية الثانية فقد ذكرناها في كتابنا حياة الإمام موسىعليهالسلام فلا حاجة لذكرها فإنّي لا أحب أن أذكر شيئاً قد كتبته.
وأمر الرشيد بسجن الإمام في سجن السندي بن شاهك وهو شرّير لم تدخل الرحمة إلى قلبه، وقد تنكّر لجميع القيم، لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لله وقاراً، فقابل الإمام بكل قسوة وجفاء فضيق عليه في مأكله ومشربه، وكبّله بالقيود، ويقول الرواة إنّه قيّده بثلاثين رطلاً من الحديد.
____________________
(1) الضمير يرجع إلى الإمام الرضا وابنه محمد الجواد.
(2) عيون أخبار الرضا 1 / 32 - 33.
وأقبل الإمام على عادته على العبادة فكان في أغلب أوقاته يصلّي لربّه، ويقرأ كتاب الله، ويمجّده ويحمده على أن فرّغه لعبادته.
وأرسل الإمام رسالة إلى هارون أعرب فيها عن نقمته عليه وهذا نصّها: ( إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعاً إلى يوم ليس فيه انقضاء، وهناك يخسر المبطلون )(1) .
وحكت هذه الرسالة ما ألمّ بالإمام من الجزع والأسى من السجن وأنّه سيحاكم الطاغية أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون.
وعهد الطاغية إلى السندي أو إلى غيره من رجال دولته باغتيال الإمام، فدسّ له سمّاً فاتكاً في رطب، وأجبره السندي على تناوله، فأكل منه رطبات يسيرة، فقال له السندي: ( زد على ذلك... )..
فرمقه الإمام بطرفه، وقال له: ( حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه... ).(2) .
وتفاعل السم في بدن الإمام، وأخذ يعاني الآلام القاسية وقد حفّت به الشرطة القساة، ولازمه السندي، فكان يسمعه مرّ الكلام وأقساه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليعجل له النهاية المحتومة.
لقد عانى الإمام في تلك الفترة الرهيبة أقسى ألوان المحن والخطوب، فقد تقطّعت أوصاله من السم، وكان أشق عليه ما يسمعه من انتهاك لحرمته وكرامته من السندي وجلاوزته.
وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الإمامعليهالسلام ، وأخذ يعاني أقسى ألوان الأوجاع والآلام، واستدعى الإمام السندي فلمّا مثل عنده أمره أن يحضر مولى
____________________
(1) البداية والنهاية 10 / 183.
(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 1 / 499 - 500.
له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولّى تجهيزه، وسأله السندي أن يأذن له في تجهيزه فأبى، وقال: إنّا أهل بيت مهور نسائنا، وحج صرورتنا، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفني(1) واحضر له السندي مولاه فعهد له بتجهيزه.
ولمّا ثقل حال الإمام، وأشرف على النهاية المحتومة استدعى المسيب بن زهرة، وقال له: ( إنّي على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجل فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ، واخضرّ، وأتلوّن ألواناً، فأخبر الطاغية بوفاتي... ).
قال المسيب: فلم أزل أراقب وعده، حتى دعاعليهالسلام بشربة فشربها، ثم استدعاني فقال: ( يا مسيب إنّ هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنّه يتولّى غسلي، ودفني، وهيهات، هيهات أن يكون ذلك أبداً فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به فإنّ كل تربة لنا محرّمة إلاّ تربة جدّي الحسين بن علي فإنّ الله عزّ وجل جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا... ).
قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه، وكان عهدي بسيّدي الرضاعليهالسلام وهو غلام فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى وقال: أليس قد نهيتك، ثم إنّه غاب ذلك الشخص، وجئت إلى الإمام فإذا به جثّة هامدة قد فارق الحياة، فانتهيت بالخبر إلى الرشيد(2) .
لقد سمت روح الإمام إلى خالقها العظيم تحفّها ملائكة الرحمن بطاقات من زهور الجنّة، وتستقبلها أرواح الأنبياء والأوصياء والمصطفين الأخيار.
سيّدي أبا الرضا: لقد مضيت إلى دار الخلود بعد أن أدّيت رسالتك، ورفعت كلمة الله عالية في الأرض، ونافحت عن حقوق المظلومين، والمضطهدين، وقاومت الطغيان والاستبداد، فما أعظم عائدتك على الإسلام والمسلمين.
سيّدي أبا الرضا:
____________________
(1) مقاتل الطالبيين (ص 504).
(2) حياة الإمام موسى 2 / 514 - 515.
لقد تجرّعت أنواع المحن والغصص والخطوب من طاغية زمانك فأودعك في سجونه، وضيّق عليك في كل شيء، وحال بينك وبين شيعتك وأبنائك وعائلتك؛ لأنّك لم تسايره ولم تبرّر منكره، فقد تزعّمت الجبهة المعارضة للظلم والطغيان، ورحت تندد بسياسته الهوجاء التي بنيت على سرقة أموال المسلمين، وإنفاقها في ملذّاته، ولياليه الحمراء، فسلام الله عليك غادية ورائحة، وسلام الله عليك يوم ولدت ويوم متّ ويوم تُبعث حيّاً.
وقامت الشرطة بدورها في التحقيق في سبب وفاة الإمام، وقد بذلت قصارى جهودها في أنّ الإمام مات حتف أنفه؛ لتبرئ ساحة الطاغية هارون، وقد قام بذلك السندي ابن شاهك، وكان ذلك في مواضع منها ما رواه عمرو بن واقد، قال: أرسل إليّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد فخشيت أن يكون لسوء يريده لي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ثم ركبت إليه، فلمّا رآني مقبلاً قال: ( يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأزعجناك؟... ).
( نعم )...
( ليس هنا إلاّ الخير... ).
( فرسول تبعثه إلى منزلي ليخبرهم خبري... ).
( نعم )... ولمّا هدأ روعه، وذهب عنه الخوف، قال له السندي: ( يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك؟... )..
( لا ).
( أتعرف موسى بن جعفر؟... ).
( أي والله أعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر... ).
هل ببغداد ممّن يقبل قوله تعرفه أنّه يعرفه؟... ).
( نعم ).
ثم إنّه سمّى له أشخاصاً ممّن يعرفون الإمام، فبعث خلفهم فقال لهم: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟
فسمّوا له قوماً فأحضرهم، وقد استوعب الليل فعله حتى انبلج نور الصبح، ولمّا كمل عنده من الشهود نيّف وخمسون رجلاً،
أمر بإحضار كاتبه، ويعرف اليوم بكاتب الضبط، فأخذ في تسجيل أسمائهم ومنازلهم وأعمالهم وصفاتهم وبعد انتهائه من الضبط أخبر السندي بذلك فخرج من محلّه، والتفت إلى عمرو فقال له: قم يا أبا حفص فاكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر، فكشف عمرو الثوب عن وجه الإمام، والتفت السندي إلى الجماعة، فقال لهم: انظروا إليه، فدنا واحد منهم بعد واحد، فنظروا إليه جميعاً، ثم قال لهم:
( تشهدون كلّكم أنّ هذا موسى بن جعفر؟... ).
( نعم ).
ثم أمر غلامه بتجريد الإمام من ملابسه، ففعل الغلام ذلك، ثم التفت إلى القوم فقال لهم: ( أترون به أثراً تنكرونه؟... ) فقالوا: ( لا ). ثم سجّل شهادتهم وانصرفوا(1) .
كما استدعى فقهاء بغداد ووجوهها، وفيهم الهيثم بن عدي فسجّل شهادتهم بإنّ الإمام مات حتف أنفه(2). وفعل هارون مثل ذلك من الإجراءات والسبب في ذلك تنزيهه من اقتراف الجريمة، ونفي المسؤولية عنه.
ووضع جثمان الإمام سليل النبوّة على جسر الرصافة ينظر إليه القريب والبعيد، وتتفرّج عليه المارّة، وقد احتفت به الشرطة، وكشفت وجهه للناس، وقد حاول الطاغية بذلك إذلال الشيعة والاستهانة بمقدّساتها وكان هذا الإجراء من أقسى ألوان المحن التي عانتها الشيعة؛ فقد كوى بذلك قلوبهم وعواطفهم، يقول الشيخ محمد ملة:
مَن مبلغ الإسلام أنّ زعيمه |
قد مات في سجن الرشيد سميما |
|
فالغيّ بات بموته طرب الحشا |
وغدا لمأتمه الرشاد مقيما |
|
ملقىً على جسر الرصافة نعشه |
فيه الملائك أحدقوا تعظيما |
وقال الخطيب المفوّه الشيخ محمد علي اليعقوبي:
مثل موسى يرمى على الجسر ميتاً |
لم يشيّعه للقبور موحّد |
|
حملوه وللحديد برجليه هزيج |
له الأهاضيب تنهد(3) |
____________________
(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.
(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.
(3) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 521.
يا لهول المصاب، يا لروعة الخطب، لقد انتهك السندي جميع حرمات الإسلام، فقد أمر الجلادين أن ينادوا على الجثمان المقدس بنداء مؤلم، فبدل أن ينادوا بالحضور لجنازة الطيب ابن الطيب أمرهم أن ينادوا بعكس ذلك، وانطلق العبيد والأنذال يجوبون في شوارع بغداد رافعين أصواتهم بذلك النداء القذر، وأمرهم ثانياً أن ينادوا بنداء آخر: ( هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت فانظروا إليه ميتاً... )(1) .
وكان سليمان مطلاًّ على نهر دجلة في قصره، فرأى الشرطة وقطعات من الجيش تجوب في الشوارع، والناس مضطربة، فزعة، فهاله ذلك، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلاً: ( ما الخبر؟ ).
فقالوا له: ( هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر... ).
وأخبروه بندائه الفظيع، فخاف سليمان من حدث الفتنة وانفجار الوضع بما لا تحمد عقباه، وصاح بولده:
( انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد - وهو لباس الشرطة والجيش - )(2) .
وانطلق أبناء سليمان مسرعين ومعهم غلمانهم وحرّاسهم إلى الشرطة، فأخذوا الجثمان المقدس من أيديهم، ولم تبد الشرطة أيّة مقاومة معهم، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الأسرة العباسية.
وحمل جثمان الإمام إلى سليمان فأمر أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي، وانطلق المنادون رافعين أصواتهم بهذا النداء:
( ألا مَن أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر ).
____________________
(1) حياة الإمام موسى بن جعفر.
(2) حياة الإمام موسى بن جعفر.
وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين والعابدين، وخرجت الشيعة وهي تلطم الصدور وتذرف الدموع وخرجت السيدات من نسائهم، وهن يندبن الإمام، ويرفعن أصواتهن بالنياحة عليه. وسارت مواكب التشييع وهي تجوب شوارع بغداد، وتردد أهازيج اللوعة والحزن، وأمام النعش المقدس مجامير العطور، وانتهى به إلى موضع في سوق سُمّي بعد ذلك بسوق الرياحين، كما بني على الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس لئلاّ تطأه الناس بأقدامهم تكريماً له(1) ، وانبرى شاعر ملهم فأبّن الإمام بهذه الأبيات الرائعة:
قد قلت للرجل المولّى غسله |
هلاّ أطعت وكنت من نصائحه |
|
جنبه ماءك ثم غسّله بما |
أذرت عيون المجد عند بكائه |
|
وأزل أفاويه الحنوط ونحّها |
عنه وحنّطه بطيب ثنائه |
|
ومر الملائكة الكرام بحمله |
كرماً ألست تراهم بإزائه |
|
لا توه أعناق الرجال بحمله |
يكفي الذي حملوه من نعمائه(2) |
وسارت المواكب متجهة إلى محلّة باب التبن، وقد ساد عليها الوجوم والحزن، حتى انتهت إلى مقابر قريش فحفر للجثمان العظيم قبر، وأنزله فيه سليمان بن أبي جعفر، وهو مذهول اللب، فواراه فيه، وارى فيه الحلم والكرم والعلم، والإباء.
وانصرف المشيعون، وهم يعددون فضائل الإمام، ويذكرون بمزيد من اللوعة الخسارة التي منّي بها المسلمون، فتحيّات من الله على تلك الروح العظيمة التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها ومآثرها.
وتقلّد الإمام الرضاعليهالسلام بعد وفاة أبيه الزعامة الدينية الكبرى، والمرجعية العامة للمسلمين، وقد احتف به العلماء والفقهاء وهم يسجلون آراءه في ميادين الآداب والحكمة، وما يفتي به من المسائل الشرعية وغير ذلك من صنوف المعارف والعلم.
____________________
(1) الأنوار البهية (ص 99).
(2) الإتحاف بحب الأشراف (ص 57).
وبعد وفاة الإمام الكاظمعليهالسلام سافر الإمام الرضاعليهالسلام إلى البصرة للتدليل على إمامته، وإبطال شبه المنحرفين عن الحق، وقد نزل ضيفاً في دار الحسن بن محمد العلوي، وقد عقد في داره مؤتمراً عاماً ضمّ جمعاً من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب، وهو من المنحرفين عن آل البيتعليهمالسلام والمعادين لهم، كما دعا فيه جاثليق النصارى، ورأس الجالوت، والتفت إليهم الإمام فقال لهم:
( إنّي إنّما جمعتكم لتسألوني عمّا شيءتم من آثار النبوة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت، فهلموا أسألكم... ).
وبادر عمرو بن هداب فقال له: ( إنّ محمد بن الفضل الهاشمي أخبرنا عنك أنك تعرف كل ما أنزله الله، وانك تعرف كل لسان ولغة... ).
وانبرى الإمامعليهالسلام فصدّق مقالة محمد بن الفضل في حقّه قائلاً: ( صدق محمد بن الفضل أنا أخبرته بذلك... ).
سارع عمرو قائلاً: ( إنّا نختبرك قبل كل شيء بالألسن، واللغات، هذا رومي، وهذا هندي، وهذا فارسي، وهذا تركي، قد أحضرناهم... ).
فقالعليهالسلام : ( فليتكلّموا بما أحبوا، أجب كل واحد منهم بلسانه إن شاء الله... ).
وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجابعليهالسلام عنها بلغته، وبهر القوم وعجبوا، والتفت الإمام إلى عمرو فقال له: ( إن أنا أخبرتك أنّك ستبتلي في هذه الأيام بدم ذي رحم لك هل كنت مصدقاً لي؟... ).
( لا، فإنّ الغيب لا يعلمه إلاّ الله تعالى... ).
وردّ الإمام عليه مقالته: ( أو ليس الله تعالى يقول:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ ) فرسول اللهصلىاللهعليهوآله عند الله مرتضى، ونحن ورثة ذلك
الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة. وإنّ الذي أخبرتك به يا بن هداب لكائن إلى خمسة أيام وإن لم يصح في هذه المدة فإنّي.. وإن صحّ فتعلم أنّك راد على الله ورسوله.
وأضاف الإمام قائلاً: ( أما إنّك ستصاب ببصرك، وتصير مكفوفاً، فلا تبصر سهلاً، ولا جبلاً وهذا كائن بعد أيام، ولك عندي دلالة أخرى، إنّك ستحلف يميناً كاذبة فتضرب بالبرص... ).
وأقسم محمد بن الفضل بالله بأنّ ما أخبر به الإمام قد تحقّق، وقيل لابن هداب: ( هل صدق الرضا بما أخبر به؟... ).
فقال: والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنّه كائن، ولكنّي كنت أتجلّد.
والتفت الإمام إلى الجاثليق فقال له: ( هل دلّ الإنجيل عل نبوّة محمدصلىاللهعليهوآله ؟ ).
وسارع الجاثليق قائلاً: ( لو دلّ الإنجيل على ذلك ما جحدناه... ).
ووجّه الإمام له السؤال التالي: ( اخبرني عن السكنة التي لكم في السفر الثالث؟... ). وأجاب الجاثليق: ( إنّها اسم من أسماء الله تعالى لا يجوز لنا أن نظهره... ).
وردّ عليه الإمام قائلاً: ( فان قربه ربّك أنّه اسم محمد، وأقر عيسى به، وأنّه بشر بني إسرائيل بمحمد لتقربه، ولا تنكره؟... ).
ولم يجد الجاثليق بُدّاً من الموافقة على ذلك قائلاً: ( إن فعلت أقررت، فإنّي لا أرد الإنجيل ولا أجحده... ).
وأخذ الإمام يقيم عليه الحجّة قائلاً: ( خذ على السفر الثالث الذي فيه ذكر محمدصلىاللهعليهوآله وبشارة عيسى
بمحمد؟... ).
وسارع الجاثليق قائلا: ( هات ما قلته... ).
فأخذ الإمامعليهالسلام يتلو عليه السفر من الإنجيل الذي فيه ذكر الرسول محمدصلىاللهعليهوآله ، وقال للجاثليق: ( من هذا الموصوف؟... ).
قال الجاثليق: ( صفه ).
وأخذ الإمامعليهالسلام في وصفه قائلاً: ( لا أصفه إلاّ بما وصفه الله، وهو صاحب الناقة، والعصا، والكساء، النبي الأمي، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم، يهدي إلى الطريق الأقصد، والمنهاج الأعدل، والصراط الأقوم. سألتك يا جاثليق بحق عيسى روح الله، وكلمته، هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبيصلىاللهعليهوآله ؟ ).
وأطرق الجاثليق مليّاً برأسه إلى الأرض، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فقد سدّ عليه الإمام كل نافذة يسلك منها، ولم يسعه أن يجحد الإنجيل، فأجاب الإمام قائلاً: نعم هذه الصفة من الإنجيل، وقد ذكر عيسى في الإنجيل هذا النبي ولم يصح عند النصارى أنّه صاحبكم ).
وانبرى الإمام يقيم عليه الحجّة، ويبطل أوهامه قائلاً: ( أما إذا لم تكفر بجحود الإنجيل، وأقررت بما فيه من صفة محمدصلىاللهعليهوآله ، فخذ على السفر الثاني، فإنّه قد ذكره وذكر وصيّه، وذكر ابنته فاطمة وذكر الحسن والحسين... ).
وقد استبان للجاثليق ورأس الجالوت أنّ الإمامعليهالسلام عالم بالتوراة والإنجيل، وأنّه واقف على جميع ما جاء فيهما، وفكّرا في التخلص من حجج الإمام فأبديا الشك في أن الذي بشر به موسى والسيد المسيح هو النبي محمدصلىاللهعليهوآله ، وطفقا قائلين:
( لقد بشر به موسى وعيسى جميعاً، ولكن لم يتقرّر عندنا أنّه محمد هذا، فأمّا كون اسمه محمد، فلا يجوز أن نقر لكم بنبوته، ونحن شاكون أنّه محمّدكم أو غيره... ).
وانبرى الإمام ففنّد شبهتهم قائلاً: ( احتججتم بالشك، فهل بعث الله قبل أو بعد من ولد آدم إلى يومنا هذا نبيّاً اسمه محمد أو تجدونه في شيء من الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء غير محمد؟... ).
وأحجما عن الجواب، ولم يجدا شبهة يتمسكان بها، وأصرّا على العناد والجحود قائلين: ( لا يجوز لنا أن نقر لك بأنّ محمّداً هو محمّدكم، فإنّا إن أقررنا لك بمحمد ووصيّه وابنته وابنيها على ما ذكرتم أدخلتمونا في الإسلام كرهاً... ).
وانبرى الإمام قائلاً: ( أنت يا جاثليق آمن في ذمّة الله، وذمّة رسوله أنّه لا يبدؤك منّا شيء تكرهه... ).
وسارع الجاثليق قائلاً: ( إذ قد آمنتني، فان هذا النبي الذي اسمه محمد، وهذا الوصي الذي اسمه علي، وهذه البنت التي اسمها فاطمة، وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور، وطفق الإمام قائلاً: ( هل هذا صدق وعدل؟... ).
( بل صدق وعدل... ).
وسكت الجاثليق، واعترف بالحق، والتفت الإمام إلى رأس الجالوت فقال له: ( اسمع يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود... ).
قال رأس الجالوت: ( بارك الله فيك وفيمَن ولدك: هات ما عندك... ).
وأخذ الإمام يتلو عليه السفر الأول من الزبور حتى انتهى إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن الحسين، ووجه الإمام له السؤال التالي: ( سألتك يا رأس الجالوت بحق الله هذا في زبور داود؟... ).
( نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم... ).
وانبرى الإمام قائلاً: ( بحق عشر الآيات التي أنزلها الله على موسى بن عمران في التوراة هل تجد صفة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل؟ ).
ولم يسع رأس الجالوت إلاّ الإقرار والاعتراف بذلك، وأخذ الإمام يتلو في سفر آخر من التوراة، وقد بهر رأس الجالوت من اطلاع الإمام ومن فصاحته وبلاغته، وتفسيره ما جاء في النبي وعلي وفاطمة والحسنين، فقال رأس الجالوت: ( والله يا بن محمد لولا الرياسة التي حصلت لي على جميع اليهود لآمنت بأحمد، واتبعت أمرك، فو الله الذي أنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، ما رأيت اقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منك، ولا رأيت أحسن تفسيراً وفصاحة لهذه الكتب منك ).
وقد استغرقت مناظرة الإمام معهم وقتاً كثيراً حتى صار وقت صلاة الظهر فقامعليهالسلام فصلّى بالناس صلاة الظهر، وانصرف إلى شؤونه الخاصة، وفي الغد عاد إلى مجلسه، وقد جاءوا بجارية رومية لامتحان الإمامعليهالسلام ، فكلّمها الإمام بلغتها، والجاثليق حاضر، وكان عارفاً بلغتها، فقال الإمام للجارية: ( أيّما أحب إليك محمد أم عيسى؟... ).
فقالت الجارية: ( كان فيما مضى عيسى أحب إليّ؛ لأنّي لم أكن أعرف محمداً، وبعد أن عرفت محمداً فهو أحب إليّ من عيسى... ).
والتفت لها الجاثليق فقال لها: ( إذا كنت دخلت في دين محمد فهل تبغضين عيسى؟... ).
وأنكرت الجارية كلامه فقالت: ( معاذ الله بل أحب عيسى، وأومن به، ولكن محمداً أحب إلي... ).
والتفت الإمام إلى الجاثليق فطلب منه أن يترجم للجماعة كلام الجارية، فترجمه لهم، وطلب الجاثليق من الإمام أن يحاجج مسيحيّاً من السند له معرفة بالمسيحية، وصاحب جدل، فحاججه الإمام بلغته، فآمن السندي بالإسلام، وأقرّ للإمامعليهالسلام بالإمامة، وطلبعليهالسلام من محمد بن الفضل أن يأخذه إلى الحمام ليغتسل، ويطهر بدنه من درن الشرك، فأخذه محمد إلى الحمّام، وكساه بثياب نظيفة، وأمر الإمام بحمله إلى يثرب ليتلقى من علومه، ثم ودّع الإمام أصحابه
ومضى إلى المدينة المنوّرة(1) .
وغادر الإمامعليهالسلام يثرب متوجّهاً إلى الكوفة، فلمّا انتهى إليها استقبل فيها استقبالاً حاشداً، وقد نزل ضيفاً في دار حفص بن عمير اليشكري، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل، وهو يجيبهم عنها، وقد عقد مؤتمراً عامّاً ضمّ بعض علماء النصارى واليهود، وجرت بينه وبينهم مناظرات أدت إلى انتصاره وعجزهم عن مجاراته، والتفت الإمامعليهالسلام إلى الحاضرين، فقال لهم: ( يا معاشر الناس، أليس أنصف الناس مَن حاجّ خصمه بملّته وبكتابه، وشريعته؟... ).
فقالوا جميعاً: ( نعم ).
فقالعليهالسلام : ( اعلموا أنّه ليس بإمام بعد محمدصلىاللهعليهوآله إلاّ مَن قام بما قام به محمدصلىاللهعليهوآله حين يفضي له الأمر، ولا يصلح للإمامة إلاّ مَن حاج الأمم بالبراهين للإمامة... ).
وانبرى عالم يهودي فقال له: ( ما الدليل على الإمام؟... )
( أن يكون عالماً بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن الحكيم فيحاج أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل القرآن بقرآنهم، وأن يكون عالماً بجميع اللغات حتى لا يخفي عليه لسان واحد، فيحاج كل قوم بلغتهم، ثم يكون مع هذه الخصال تقياً، نقياً من كل دنس، طاهراً من كل عيب، عادلاً، منصفاً، حكيماً، رؤوفاً، رحيماً، غفوراً، عطوفاً، صادقاً، مشفقاً، بارّاً، أميناً، مأموناً... )(2) .
وجرت بينه وبين بعض الحاضرين مناظرات أدّت إلى تمسّك الشيعة بالإمام
____________________
(1) البحار 12 / 21 - 23، بتصرف نقلنا الخبر.
(2) البحار 12 / 23، نقلنا الحديث بتصرف.
عليهالسلام ، وزيادة إيمانهم بقدراته العلمية الهائلة كما أدّت إلى إفحام القوى المعارضة للإمام، وعجزهم عن مجاراته وبهذا نطوي الحديث عن دور الإمام في ظلال أبيه، وبعد وفاته.
مناظراته واحتجاجاته
واتسم عصر الإمام الرضاعليهالسلام بشيوع المناظرات والاحتجاجات بين زعماء الأديان والمذاهب الإسلامية وغيرها، وقد احتدم الجدال بينهم في كثير من البحوث الكلامية خصوصاً فيما يتعلّق بأصول الدين، وقد حفلت الكتب الكلامية وغيرها بألوان من ذلك الصراع العقائدي مشفوعة بالأدلة التي أقامها المتكلمون على ما يذهبون إليه.
ومن بين المسائل التي عظم فيها النزاع، واحتدم فيها الجدال بين الشيعة والسنّة: ( الإمامة )، فالشيعة تصر على أنّ الإمامة كالنبوّة غير خاضعة لاختيار الأمّة وانتخابها، وإنّما أمرها بيد الله تعالى فهو الذي يختار لها مَن يشاء من صلحاء عباده ممّن امتحن قلوبهم للإيمان كما يشترطون في الإمام أن يكون معصوماً عن الخطأ، وأن يكون أعلم الأمّة، وأدراها لا في شؤون الشريعة الإسلامية فحسب وإنما في جميع علوم الحياة، وأنكر جمهور أهل السنّة ذلك جملةً وتفصيلاً، ومن الجدير بالذكر أنّ أروقة الملوك والوزراء في عصر الإمام قد عقدت فيها مجالس للمناظرة بين زعماء المذاهب الإسلامية فقد عقدت البرامكة مجالس ضمت المتكلمين من علماء السنة، فناظروا العالم الكبير هشام بن الحكم، وحاججوه في أمر الإمامة، فتغلّب عليهم ببالغ الحجّة، وقوّة البرهان، وممّا لا ريب فيه أنّ عقد البرامكة للخوض في هذه البحوث الحساسة لم تكن بواعثه علمية فقط، وإنّما كانت للاطلاع على ما تملكه الشيعة من الأدلة الحاسمة لإثبات معتقداتها في الإمامة.
ولمّا جعل المأمون ولاية العهد للإمام الرضاعليهالسلام التي لم تكن عن إخلاص، ولا عن إيمان بأنّ الإمام أحق وأولى بالخلافة منه، وإنّما كانت لأسباب سياسية سوف نتحدث عنها في غضون هذا الكتاب، وقد أوعز إلى ولاته في جميع
قوله تعالى :( إلا بشرى ) مفعول ثان لجعل ، ويجوز أن يكون مفعولا له ، ويكون جعل المتعدية إلى واحد ، والهاء في جعله تعود على إمداد أو على التسويم أو على النصر أو على التنزيل( ولتطمئن ) معطوف على بشرى إذا جعلتها مفعولا له تقديره : ليبشركم ولتطمئن ، ويجوز أن يتعلق بفعل محذوف تقديره : ولتطمئن قلوبكم بشركم .
قوله تعالى :( ليقطع طرفا ) اللام متعلقة بمحذوف تقديره : ليقطع طرفا أمدكم بالملائكة أو نصركم( أو يكبتهم ) قيل أو بمعنى الواو ، وقيل : هى للتفصيل أى كان القطع لبعضهم والكبت لبعضهم ، والتاء في يكبتهم أصل ، وقيل هى بدل من الدال ، وهو من كبدته أصبت كبده( فتنقلبوا ) معطوف على يقطع أو يكبتهم .
قوله تعالى :( ليس لك ) اسم ليس( شئ ) ولك الخبر ومن الامر حال من شئ ؛ لانها صفة مقدمة( أو يتوب ، أو يعذبهم ) معطوفان على يقطع ، وقيل أو بمعنى إلا أن .
قوله تعالى :( أضعافا ) مصدر في موضع الحال من الربا تقديره مضاعفا قوله تعالى :( وسارعوا ) يقرأ بالواو وحذفها ، فمن أثبتها عطفه على ماقبله من الاوامر ، ومن لم يثبتها استأنف ، ويجوز إمالة الالف هنا لكسرة الراء( عرضها السموات ) الجملة في موضع جر ، وفى الكلام حذف تقديره عرضها مثل عرض السموات( أعدت ) يجوز أن يكون في موضع جر صفة للجنة ، وأن يكون حالا منها ؛ لانها قد وصفت ، وأن يكون مستأنفا ، ولايجوز أن يكون حالا من المضاف إليه لثلاثة أشياء : أحدها : أنه لا عامل ، وماجاء من ذلك متأول على ضعفه .
والثانى : أن العرض هنا لايراد به المصدر الحقيقى ، بل يراد به المسافة والثالث : أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال وبين صاحب الحال بالخبر قوله تعالى :( الذين ينفقون ) يجوز أن يكون صفة للمتقين ، وأن يكون نصبا على إضمار أعنى ، وأن يكون رفعا على إضمارهم ، وأما( الكاظمين ) فعلى الجر والنصب .
قوله تعالى :( والذين إذا فعلوا ) يجوز أن يكون معطوفا على الذين ينفقون في أوجهه الثلاثة ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، ويكون أولئك مبتدأ ثانيا ، وجزاؤهم ثالثا ، ومغفرة خبر الثالث ، والجميع خبر الذين ، و( ذكروا ) جواب إذا( ومن ) مبتدأ ، و( يغفر ) خبره( إلا الله ) فاعل يغفر ، أو بدل من المضمر فيه وهو
الوجه ؛ لانك إذا جعلت الله فاعلا احتجت إلى تقدير ضمير : أى ومن يغفر الذنوب له غير الله( وهم يعلمون ) في موضع الحال من الضمير في يصروا ، أو من الضمير في استغفروا ، ومفعول يعلمون محذوف : أى يعلمون المؤاخذة بها أو عفوا الله عنها .
قوله تعالى :( ونعم أجر ) المخصوص بالمدح محذوف : أى ونعم الاجر الجنة قوله تعالى :( من قبلكم سنن ) يجوز أن يتعلق بخلت ، وأن يكون حالا من سنن ، ودخلت الفاء في( سيروا ) ؛ لان المعنى على الشرط : أى إن شككتم فسيروا( كيف ) خبر( كان ) و( عاقبة ) اسمها .
قوله تعالى :( ولاتهنوا ) الماضى وهن وحذفت الواو في المضارع لوقوعها بين ياء وكسرة و( الاعلون ) واحدها أعلى ، وحذفت منه الالف لالتقاء الساكنين وبقيت الفتحة تدل عليها .
قوله تعالى :( قرح ) يقرأ بفتح القاف وسكون الراء ، وهو مصدر قرحته إذا جرحته ، ويقرأ بضم القاف وسكون الراء ، وهو بمعنى الجرح أيضا وقال الفراء : بالضم ألم الجراح ، ويقرأ بضمها على الاتباع كاليسر واليسر ، والطنب والطنب ، ويقرأ بفتحها ، وهو مصدر قرح يقرح إذا صار له قرحة ، وهو بمعنى دمى( وتلك ) مبتدأ ، و( الايام ) خبره ، و( نداولها ) جملة في موضع الحال ، والعامل فيها معنى الاشارة ، ويجوز أن تكون الايام بدلا أو عطف بيان ، ونداولها الخبر ، ويقرأ يداولها بالياء ، والمعنى مفهوم ، و( بين الناس ) ظرف ، ويجوز أن يكون حالا من الهاء( وليعلم ) اللام متعلقة بمحذوف تقديره : وليعلم الله دوالها ، وقيل التقدير : ليتعظوا وليعلم الله ، وقيل الواو زائدة ، و( منكم ) يجوز أن يتعلق بيتخذ ، ويجوز أن يكون حالا من( شهداء ) ( وليمحص ) معطوف على وليعلم .
قوله تعالى :( أم حسبتم ) أم هنا منقطعة : أى بل أحسبتم ، و( أن تدخلوا ) أن والفعل يسد مسد المفعولين وقال الاخفش المفعول الثانى محذوف( ويعلم الصابرين ) يقرأ بكسر الميم عطفا على الاولى ، وبضمها على تقدير : وهو يعلم ، والاكثر في القراءة الفتح وفيه وجهان : أحدهما : أنه مجزوم أيضا لكن الميم لما حركت لالتقاء الساكنين حركت بالفتح إتباعا للفتحة قبلها ، والوجه الثانى : أنه منصوب على إضمار أن ، والواو هاهنا بمعنى الجمع كالتى في قولهم : لاتأكل السمك وتشرب اللبن
والتقدير : أظننتم أن تدخلوا الجنة قبل : أن يعلم الله المجاهدين وأن يعلم الصابرين ، ويقرب عليك هذا المعنى أنك لو قدرت الواو بمع صح المعنى والاعراب .
قوله تعالى :( من قبل أن تلقوه ) الجمهور على الجر بمن وإضافته إلى الجملة ، وقرئ بضم اللام والتقدير : ولقد كنتم تمنون الموت أن تلقوه من قبل ، فأن تلقوه بدل من الموت بدل الاشتمال والمراد لقاء أسباب الموت ؛ لانه قال( فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) وإذا رأى الموت لم تبق بعده حياة ويقرأ " تلاقوه " وهو من المفاعلة التى تكون بين اثنين ؛ لان مالقيك فقد لقيته ، ويجوز أن تكون من واحد مثل سافرت .
قوله تعالى :( قد خلت من قبله الرسل ) في موضع رفع صفة لرسول ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في رسول ، وقرأ ابن عباس" رسل " نكرة ، وهو قريب من معنى المعرفة ، ومن متعلقة بخلت ، ويجوز أن يكون حالا من الرسل( أفإن مات ) الهمزة عند سيبويه في موضعها ، والفاء تدل على تعلق الشرط بما قبله .
وقال يونس : الهمزة في مثل هذا حقها أن تدخل على جواب الشرط تقديره : أتنقلبون على أعقابكم إن مات ؛ لان الغرض التنبيه أو التوبيخ على هذا الفعل المشروط ومذهب سيبويه الحق لوجهين : احدهما : أنك لو قد مت الجواب لم يكن للفاء وجه ، إذ لايصح أن تقول أتزورنى فإن زرتك ، ومنه قوله : " أفإن مت فهم الخالدون " والثانى : أن الهمزة لها صدر الكلام ، وإن لها صدر الكلام وقد وقعا في موضعها ، والمعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط ، والجواب ؛ لانهما كالشئ الواحد( على أعقابكم ) حال : أى راجعين .
قوله تعالى :( وماكان لنفس أن تموت ) أى تموت اسم كان ، و( إلا بإذن الله ) الخبر واللام للتبيين متعلقة بكان ، وقيل هى متعلقة بمحذوف تقديره : الموت لنفس ، وأن تموت تبيين للمحذوف ، ولايجوز أن تتعلق اللام بتموت لما فيه من تقديم الصلة على الموصول ، قال الزجاج التقدير : وما كان نفس لتموت ، ثم قدمت اللام( كتابا ) مصدر : أى كتب ذلك كتابا( ومن يرد ثواب الدنيا ) بالاظهار على الاصل وبالادغام لتقاربهما( نؤته منها ) مثل " يؤده إليك " ( وسنجزى ) بالنون والياء ، والمعنى مفهوم .
قوله تعالى :( وكأين ) الاصل فيه أى التى هى بعض من كل أدخلت عليها كاف التشبيه ، وصارا في معنى كم التى للتكثير ، كما جعلت الكاف مع ذا في قولهم كذا لمعنى
لم يكن لكل واحد منهما ، وكما أن معنى لولا بعد التركيب لم يكن لهما قبله ، وفيها خمسة أوجه كلها قد قرئ به ،فالمشهور " كأين " بهمزة بعدها ياء مشددة وهو الاصل .
والثانى : " كائن " بألف بعدها همزة مكسورة من غير ياء ، وفيه وجهان : أحدهما : هو فاعل من كان يكون حكى عن المبرد ، وهو بعيد الصحة ؛ لانه لو كان ذلك لكان معربا ولم يكن فيه معنى التكثير .
والثانى : أن أصله كأين ، قدمت الياء المشددة على الهمزة فصار كيئن ، فوزنه الآن كعلف ؛ لانك قدمت العين واللام ، ثم حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف كما قالوا في أيها أيهما ، ثم أبدلت الياء الساكنة ألفا كما أبدلت في آية وطائى ، وقيل : حذفت الياء الساكنة وقدمت المتحركة فانقلبت ألفا ، وقيل لم يحذف منه شئ ولكن قدمت المتحركة وبقيت الاخرى ساكنة وحذفت بالتنوين مثل قاض .
والوجه الثالث :" كأن " على وزن كعن ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه حذف إحدى الياءين على ما تقدم ، ثم حذفت الاخرى لاجل التنوين والثانى : أنه حذف الياءين دفعة واحدة ، واحتمل ذلك لما امتزج الحرفان .
والوجه الرابع :" كأى " بياء خفيفة بعد الهمزة ، ووجهه أنه حذف الياء الثانية وسكن الهمزة لاختلاط الكلمتين وجعلهما كالكلمة الواحدة كما سكنوا الهاء في لهو وفهو ، وحرك الياء لسكون ماقبلها .
والخامس :" كيئن " بياء ساكنة قبل الهمزة ، وهو الاصل في كائن ، وقد ذكر ، فأما التنوين فأبقى في الكلمة على مايجب لها في الاصل ، فمنهم من يحذفه في الوقف ؛ لانه تنوين ، ومنهم من يثبته فيه ؛ لان الحكم تغير بامتزاج الكلمتين ، وأما أى فقال ابن جنى هى مصدر أوى يأوى : إذا انضم واجتمع ، وأصله أوى فاجتمعت الواو والياء وسبقت الاولى بالسكون فقلبت وأدغمت مثل جئ وشئ ، وأما موضع كأين فرفع بالابتداء ، ولا تكاد تستعمل إلا وبعدها من .
وفى الخبر ثلاثة أوجه : أحدها :( قتل ) وفى قتل الضمير للنبى ، وهو عائد على كأين ؛ لان كأين في معنى نبى ، والجيد أن يعود الضمير على لفظ كأين كما تقول : مائة نبى قتل ، والضمير للمائة إذ هى المبتدأ .
فإن قلت : لو كان كذلك لانثت فقلت قتلت ، قيل : هذا محمول على المعنى ؛ لان التقدير كثير من الرجال قتل ، فعلى هذا يكون( معه ربيون ) في موضع الحال من الضمير في قتل .
والثانى : أن يكون قتل في موضع جر صفة لنبى ، ومعه ربيون الخبر كقولك : كم من رجل صالح معه مال .
والوجه الثالث : أن يكون الخبر محذوفا : أى في الدنيا أو صائر ونحو تلك ، فعلى هذا يجوز أن يكون قتل صفة لنبى ، ومعه ربيون حال على ماتقدم ، ويجوز أن يكون قتل مسندا لربيين فلا ضمير فيه على هذا ، والجملة صفة نبى ، ويجوز أن يكون خبرا فيصير في الخبر أربعة أوجه ، ويجوز أن يكون صفة لنبى والخبر محذوف على ماذكرنا ،ويقرأ " قاتل " فعلى هذا يجوز أن يكون الفاعل مضمرا ومابعده حال ، وأن يكون الفاعل ربيون ، ويقرأ " قتل "بالتشديد ، فعلى هذا لا ضمير في الفعل لاجل التكثير ، والواحد لا تكثير فيه كذا ذكر ابن جنى ، ولا يمتنع فيه أن يكون فيه ضمير الاول ؛ لانه في معنى الجماعة ، وربيون بكسر الراء منسوب إلى الربة وهى الجماعة ، ويجوز ضم الراء في الربة أيضا ، وعليه قرئ ربيون بالضم ، وقيل : من كسر أتبع ، والفتح هو الاصل وهو منسوب إلى الرب ، وقد قرئ به( فما وهنوا ) الجمهور على فتح الهاء ، وقرئ بكسرها وهى لغة ، والفتح أشهر ، وقرئ بإسكانها على تخفيف المكسور و( استكانوا ) استفعلوا من الكون وهو الذل ، وحكى عن الفراء أن أصلها استكنوا أشبعت الفتحة فنشأت الالف وهذا خطأ ؛ لان الكلمة في جميع تصاريفها ثبتت عينها تقول : استكان يستكين استكانة فهو مستكين ومستكان له ، والاشباع لا يكون على هذا الحد .
قوله تعالى :( وماكان قولهم ) الجمهور على فتح اللام على أن اسم كان مابعد( إلا ) وهو أقوى من أن يجعل خبرا .
والاول اسم لوجهين : أحدها : أن( أن قالوا ) يشبه المضمر في أنه لايضمر فهو أعرف والثانى : أن مابعد إلا مثبت ، والمعنى : كان قولهم ربنا اغفر لنا دأبهم في الدعاء ، ويقرأ برفع الاول على أنه اسم كان ، ومابعد إلا الخبر( في أمرنا ) يتعلق بالمصدر وهو إسرافنا ، ويجوز أن يكون حالا منه : أى إسرافا واقعا في أمرنا .
قوله تعالى :( بل الله مولاكم ) مبتدأ وخبر ، وأجاز الفراء النصب وهى قراءة والتقدير : بل أطيعوا الله قوله تعالى :( الرعب ) يقرأ بسكون العين وضمها وهما لغتان( بما أشركوا ) الباء تتعلق بنلقى ، ولا يمنع ذلك لتعلق " في " به أيضا ؛ لان في ظرف والباء بمعنى السبب فهما مختلفان ، ومامصدرية والثانية نكرة موصوفة ، أو بمعنى الذى وليست مصدرية( وبئس مثوى الظالمين ) أى النار، فالمخصوص بالذم محذوف ، والمثوى مفعل من ثويت ولامه ياء .
قوله تعالى :( صدقكم الله وعده ) صدق يتعدى إلى مفعولين في مثل هذا النحو ، وقد يتعدى إلى الثانى بحرف الجر فيقال : صدقت زيدا في الحديث( إذ ) ظرف لصدق ، ويجوز أن يكون ظرفا للوعد( حتى ) يتعلق بفعل محذوف تقديره : دام ذلك إلى وقت فشلكم والصحيح أنها لاتتعلق في مثل هذا بشئ ، وأنها ليست حرف جر بل هى حرف تدخل على الجملة بمعنى الغاية كما تدخل الفاء والواو على الجمل ، وجواب( إذا ) محذوف تقديره : بأن أمركم ونحو ذلك ودل على المحذوف .
قوله تعالى :( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم ) معطوف على الفعل المحذوف .
قوله تعالى :( تصعدون ) تقديره : اذكروا إذ ، ويجوز أن يكون ظرفا لعصيتم أو تنازعتم أو فشلتم( ولا تلوون ) الجمهور على فتح التاء ، وقد ذكرناه في قوله :" يلوون ألسنتهم " ويقرأ بضم التاء وماضيه ألوى وهى لغة ، ويقرأ( على أحد ) بضمتين وهو الجبل .
قوله تعالى :( والرسول يدعوكم ) جملة في موضع الحال( بغم ) التقدير بعد غم ، فعلى هذا يكون في موضع نصب صفة لغم ، وقيل المعنى : بسبب الغم ، فيكون مفعولا به ، وقيل التقدير : بدل غم ، فيكون صفة لغم أيضا( لكيلا تحزنوا ) قيل" لا " زائدة ؛ لان المعنى أنه غمهم ليحزنهم عقوبة لهم على تركهم مواقفهم ، وقيل ليست زائدة ، والمعنى على نفى الحزن عنهم بالتوبة ، وكى هاهنا هى العاملة بنفسها لاجل اللام قبلها .
قوله تعالى :( أمنة ) المشهور في القراءة فتح الميم وهو اسم للامن ويقرأ بسكونها وهو مصدر مثل الامر ، و( نعاسا ) بدل ، ويجوز أن يكون عطف بيان ، ويجوز أن يكون نعاسا هو المفعول وأمنه حال منه ، والاصل أنزل عليكم نعاسا ذا أمنة ؛ لان النعاس ليس هو الامن بل هوالذى حصل الامن به ، ويجوز أن يكون أمنة مفعولا( يغشى ) يقرأ بالياء على أنه النعاس ، وبالتاء للامنة ، وهو في موضع نصب صفة لما قبله ، و( طائفة ) مبتدأ ، و( قد أهمتهم ) خبره( يظنون) حال من الضمير في أهمتهم ، ويجوز أن يكون أهمتهم صفة ، ويظنون الخبر ، والجملة حال ، والعامل يغشى : وتسمى هذه الواو واو الحال ، وقيل الواو بمعنى إذ وليس بشئ ، و( غير الحق ) المفعول الاول : أى أمرا غير الحق ، وبالله الثانى ، و( ظن الجاهلية ) مصدر تقديره : ظنا مثل ظن الجاهلية( من شئ ) من زائدة ، وموضعه رفع بالابتداء ، وفى الخبر وجهان : أحدهما : لنا، فمن الامر على هذا حال ، إذ الاصل هل شئ من الامر .
والثانى : أن يكون من الامر هو الخبر ولنا تبيين وتتم الفائدة كقوله : " ولم يكن له كفوا أحد "( كله لله ) يقرأ بالنصب على التوكيد أو البدل ولله الخبر ، وبالرفع على الابتداء ولله الخبر ، والجملة خبر إن( يقولون ) حال من الضمير في يخفون ، و( شئ ) اسم كان والخبر لنا أو من الامر مثل " هل لنا " ( لبرز الذين ) بالفتح والتخفيف ، ويقرأ بالتشديد على مالم يسم فاعله : أى أخرجوا بأمر الله .
قوله تعالى :( إذا ضربوا في الارض ) يجوز أن تكون إذا هنا تحكى بها حالهم ، فلا يراد بها المستقبل لا محالة ، فعلى هذا يجوز أن يعمل فيها قالوا وهو للماضى ، ويجوز أن يكون كفروا وقالوا ماضيين ، ويراد بها المستقبل المحكى به الحال ، فعلى هذا يكون التقدير : يكفرون ويقولون لاخوانهم( أو كانوا غزى ) الجمهور على تشديد الزاى وهو جمع غاز ، والقياس غزاة كقاض وقضاة ، لكنه جاء على فعل حملا على الصحيح نحو شاهد وشهد وصائم وصوم ويقرأ بتخفيف الزاى وفيه وجهان : أحدهما : أن أصله غزاة ، فحذفت الهاء تخفيفا ؛ لان التاء دليل الجمع ، وقد حصل ذلك من نفس الصفة
والثانى : أنه أراد قراءة الجماعة ، فحذف إحدى الزايين كراهية التضعيف( ليجعل الله ) اللام تتعلق بمحذوف : أى ندمهم أو أوقع في قلوبهم ذلك ليجعله حسرة ، وجعل هنا بمعنى صير ، وقيل اللام هنا لام العاقبة : أى صار أمرهم إلى ذلك كقوله : " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا " .
قوله تعالى :( أو متم ) الجمهور على ضم الميم وهو الاصل ؛ لان الفعل منه يموت، ويقرأ بالكسر وهو لغة ، يقال مات يمات مثل خاف يخاف ، فكما تقول خفت تقول مت( لمغفرة ) مبتدأ ، و( من الله ) صفته( ورحمة ) معطوف عليه ، والتقدير : ورحمة لهم ، و ( خير ) الخبر ، ومابمعنى الذى ، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف ، ويجوزأن تكون مصدرية ويكون المفعول محذوفا : أى من جمعهم المال .
قوله تعالى :( لالى الله ) اللام جواب قسم محذوف ، ولدخولها على حرف الجر جاز أن يأتى( يحشرون ) غير مؤكد بالنون ، والاصل لتحشرون إلى الله قوله تعالى :( فبما رحمة ) ما زائدة ، وقال الاخفش وغيره : يجوز أن تكون نكرة بمعنى شئ ، ورحمة بدل منه ، والباء تتعلق بلنت( وشاورهم في الامر ) الامر هنا جنس ، وهو عام يراد به الخاص ؛ لانه لم يؤمر بمشاورتهم في الفرائض ، ولذلك قرأ ابن عباس" في بعض الامر " ( فإذا عزمت ) الجمهور على فتح الزاى : أى إذا تخيرت أمرا بالمشاورة وعزمت على فعله( فتوكل على الله ) ويقرأ بضم التاء : أى إذا أمرتك بفعل شئ فتوكل على فوضع الظاهر موضع المضمر .
قوله تعالى :( فمن ذا الذى ) هو مثل" من ذا الذى يقرض " وقد ذكر( من بعده ) أى من بعد خذلانه فحذف المضاف ، ويجوز أن تكون الهاء ضمير الخذلان : أى بعد الخذلان .
قوله تعالى :( أن يغل ) يقرأ بفتح الياء وضم الغين على نسبة الفعل إلى النبى : أى ذلك غير جائز عليه ، ويدل على ذلك قوله :( يأت بما غل ) ومفعول يغل محذوف : أى يغل الغنيمة أو المال ، ويقرأ بضم الياء وفتح الغين على مالم يسم فاعله ، وفى المعنى ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون ماضيه أغللته : أى نسبته إلى الغلول ، كما تقول : أكذبته إذا نسبته إلى الكذب : أى لا يقال عنه إنه يغل : أى يخون الثانى : هو من أغللته
إذا وجدته غالا كقولك : أحمدت الرجل إذا أصبته محمودا والثالث : معناه أن يغله غيره : أى ماكان لنبى أن يخان( ومن يغلل ) مستأنفة ، ويجوز أن تكون حالا ويكون التقدير : في حال علم الغال بعقوبة الغلول هو تعالى( أفمن اتبع ) من بمعنى الذى في موضع رفع بالابتداء ، و( كمن ) الخبر ، ولا يكون شرطا ؛ لان كمن لا يصلح أن يكون جوابا ، و( بسخط ) حال قوله تعالى :( هم درجات ) مبتدأ وخبر ، والتقدير : ذو درجات فحذف المضاف ، و( عند الله ) ظرف لمعنى درجات كأنه قال هم متفاضلون عند الله ، ويجوز أن يكون صفة لدرجات .
قوله تعالى :( من أنفسهم ) في موضع نصب صفة لرسول ، ويجوز أن يتعلق ببعث ، ومافى هذه الآية قد ذكر مثله في قوله :" وابعث فيهم رسولا منهم " قوله تعالى :( قد أصبتهم مثليها ) في موضع رفع صفة لمصيبة قوله تعالى :( وما أصابكم ) ما بمعنى الذى وهو مبتدأ ، والخبر( فبإذن الله ) أى واقع بإذن الله( وليعلم ) اللام متعلقة بمحذوف : أى وليعلم الله أصابكم هذا ، ويجوز أن يكون معطوفا على معنى فبإذن الله تقديره : فبإذن الله ولان يعلم الله( تعالوا قاتلوا ) إنما لم يأت بحرف العطف ؛ لانه أراد أن يجعل كل واحدة من الجملتين مقصودة بنفسها ، ويجوز أن يقال : إن المقصود هو الامر بالقتال ، وتعالوا ذكر مالو سكت عنه لكان في الكلام دليل عليه ، وقيل الامر الثانى حال( هم للكفر ) اللام في قوله للكفر و ( للايمان ) متعلقة بأقرب ، وجاز أن يعمل أقرب فيهما ؛ لانهما يشبهان الظرف ، وكما عمل أطيب في قولهم هذا بسرا أطيب منه رطبا في الظرفين المقدرين ؛ لان أفعل يدل على معنيين على أصل الفعل وزيادته فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الآخر ، فتقديره : تزيد قربهم إلى الكفر على قربهم على الايمان ، واللام هنا على بابها ، وقيل هى بمعنى إلى( يقولون ) مستأنف ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في أقرب : أى قربوا إلى الكفر قائلين .
قوله تعالى :( الذين قاتلوا ) يجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار أعنى ، أو صفة للذين نافقوا أو بدلا منه ، وفى موضع جر بدلا من المجرور في أفواههم أو قلوبهم ، ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر " قل فادرءوا " والتقدير : قل لهم( وقعدوا ) ويجوز أن يكون معطوفا على الصلة معترضا بين قالوا ومعمولها وهو( لو أطاعونا ) وأن يكون حالا ، وقد مرادة .
قوله تعالى :( بل أحياء ) أى بل هم أحياء ، ويقرأ بالنصب عطفا على أمواتا كما تقول : ظننت زيدا قائما بل قاعدا ، وقيل أضمر الفعل تقديره : بل أحسبوهم أحياء ، وحذف ذلك لتقدم مايدل عليه ، و( عند ربهم ) صفة لاحياء ، ويجوز أن يكون ظرفا لاحياء ؛ لان المعنى يحيون عند الله ، ويجوز أن يكون ظرفا ل( يرزقون ) ويرزقون صفة لاحياء ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في أحياء : أى يحيون مرزوقين ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في الظرف إذا جعلته صفة .
قوله تعالى :( فرحين ) يجوز أن يكون حالا من الضمير في يرزقون ، ويجوز أن يكون صفة لاحياء إذا نصب ، ويجوز أن ينتصب على المدح ، ويجوز أن يكون من الضمير في أحياء أو من الضمير في الظرف( من فضله ) حال من العائد المحذوف في الظرف تقديره : بما آتاهموه كائنا من فضله( ويستبشرون ) معطوف على فرحين ؛ لان اسم الفاعل هنا يشبه الفعل المضارع ، ويجوز أن يكون التقدير : وهم يستبشرون فتكون الجملة حالا من الضمير في فرحين ، أو من ضمير المفعول في آتاهم( من خلفهم ) متعلق بيلحقوا ، ويجوز أن يكون حالا تقديره : متخلفين عنهم( ألا خوف عليهم ) أى بأن لاخوف عليهم ، فأن مصدرية ، وموضع الجملة بدل من الذين بدل الاشتمال : أى ويستبشرون بسلامة الذين لم يلحقوا بهم ، ويجوز أن يكون التقدير : لانهم لاخوف عليهم فيكون مفعولا من أجله قوله تعالى :( يستبشرون ) ه و مستأنف مكرر التوكيد( وأن الله ) بالفتح عطفا على بنعمة من الله : أى وبأن الله ، وبالكسر على الاستئناف .
قوله تعالى :( الذين استجابوا ) في موضع جر صفة للمؤمنين أو نصب على إضمار أعنى ، أو رفع على إضمارهم ، أو مبتدأ وخبره( للذين أحسنوا منهم واتقوا ) ومنهم حال من الضمير في أحسنوا ، و( الذين قال لهم الناس ) بدل من الذين استجابوا أوصفة .
قوله تعالى :( فزادهم إيمانا ) الفاعل مضمر تقديره : زادهم القول( حسبنا الله ) مبتدأ وخبر ، وحسب مصدر في موضع اسم الفاعل تقديره : فحسبنا الله : أى كافينا ، يقال : أحسبنى الشئ أى كفانى .
قوله تعالى :( بنعمة من الله ) في موضع الحال ، ويجوز أن يكون مفعولا به( لم يمسسهم ) حال أيضا من الضمير في انقلبوا ، ويجوز أن يكون العامل فيها بنعمة ، وصاحب الحال الضمير في الحال تقديره : فانقلبوا منعمين بريئين من سوء( واتبعوا ) معطوف على انقلبوا ، ويجوز أن يكون حالا : أى وقد اتبعوا .
قوله تعالى :( ذلكم ) مبتدأ ، والشيطان) خبره ، و( يخوف ) يجوز أن يكون حالا من الشيطان ، والعامل الاشارة ، ويجوز أن يكون الشيطان بدلا أو عطف بيان ، ويخوف الخبر ، والتقدير : يخوفكم بأوليائه ، وقرئ في الشذوذ" يخوفكم أولياؤه " وقيل : لا حذف فيه ، والمعنى يخوف من يتبعه ، فأما من توكل على الله فلا يخافه( فلا تخافوهم) إنما جمع الضمير ؛ لان الشيطان جنس ، ويجوز أن يكون الضمير للاولياء .
قوله تعالى :( لايحزنك ) الجمهور على فتح الياء وضم الزاى والماضى حزنه ، ويقرأ بضم الياء وكسر الزاى والماضى أحزن وهى لغة قليلة ، وقيل حزن حدث له الحزن ، وحزنته أحدثت له الحزن ، وأحزنته عرضته للحزن( يسارعون ) يقرأ بالامالة والتفخيم ، ويقرأ يسرعون بغير ألف من أسرع( شيئا ) في موضع المصدر أى ضررا .
قوله تعالى :( ولايحسبن الذين كفروا ) يقرأ بالياء ، وفاعله الذين كفروا ، وأما المفعولان فالقائم مقامهما قوله :( إنما نملى لهم خير لانفسهم ) فإن وما عملت فيه تسد مسد المفعولين عند سيبويه ، وعند الاخفش المفعول الثانى محذوف تقديره : نافعا أو نحو ذلك ،وفى " ما " وجهان : أحدهما : هى بمعنى الذى ، والثانى مصدرية ، ولا يجوز أن تكون كافة ولا زائدة ، إذ لو كان كذلك لانتصب خير بنملى ، واحتاجت أن إلى خبر إذا كانت ما زائدة أو قدر الفعل يليها ، وكلاهما ممتنع وقد قرئ شاذا بالنصب على أن يكون لانفسهم خبر إن ، ولهم تبيين أو حال من خير ، وقد قرئ في الشاذ بكسر إن وهو جواب قسم محذوف ، والقسم وجوابه يسدان مسد المفعولين ، وقرأحمزة " تحسبن " بالتاء على الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم الذين كفروا المفعول الاول ، وفي المفعول الثانى وجهان : أحدهما : الجملة من أن وما عملت فيه ، والثانى : أن المفعول الاول محذوف أقيم المضاف إليه مقامه ، والتقدير : ولا تحسبن إملاء الذين كفروا ، وقوله : " أنما نملى لهم " بدل من المضاف المحذوف ، والجملة سدت مسد المفعولين ، والتقدير : ولا
تحسبن أن إملاء الذين كفروا خير لانفسهم ، ويجوز أن تجعل أن وما عملت فيه بدلا من الذين كفروا بدل الاشتمال ، والجملة سدت مسد المفعولين ( أنما نملى لهم ليزدادوا ) مستأنف وقيل أنما نملى لهم تكرير للاول ، وليزدادوا هو المفعول الثانى لتحسب على قراءة التاء ، والتقدير : ولا تحسبن يا محمد إملاء الذين كفروا خيرا ليزدادوا إيمانا بل ليزدادوا إثما ، ويروى عن بعض الصحابة أنه قرأه كذلك .
قوله تعالى :( ماكان الله ليذر ) خبر كان محذوف تقديره ما كان الله مريدا ؛ لان يذر ، ولا يجوز أن يكون الخبر ليذر ؛ لان الفعل بعد اللام ينتصب بأن فيصير التقدير : ماكان الله ليترك المؤمنين على ماأنتم عليه ، وخبر كان هو اسمها في المعنى ، وليس الترك هو الله تعالى ، وقال الكوفيون اللام زائدة والخبر هو الفعل وهذا ضعيف ؛ لان مابعدها قد انتصب ، فإن كان النصب باللام نفسها فليست زائدة ، وإن كان النصب بأن فسد لما ذكرنا ، وأصل يذر يوذر ، فحذفت الواو تشبيها لها بيدع ؛ لانها في معناها ، وليس لحذف الواو في يذر علة إذا لم تقع بين ياء وكسرة ولا ماهو في تقديره الكسرة ، بخلاف يدع فإن الاصل يودع ، فحذفت الواو لوقوعها بين الياء وبين ماهو في تقدير الكسرة ، إذ الاصل يودع مثل يوعد ، وإنما فتحت الدال من يدع ؛ لان لامه حرف حلقى فيفتح له ماقبله ، ومثله يسع ويطأ ويقع ونحو ذلك ، ولم يستعمل من يذر ماضيا اكتفاء بترك( يميز ) يقرأ بسكون الياء وماضيه ماز ، وبتشديدها وماضيه ميز ، وهما بمعنى واحد ، وليس التشديد لتعدى الفعل مثل فرح وفرحته ؛ لان ماز وميز يتعديان إلى مفعول واحد .
قوله تعالى :( ولا يحسبن ) يقرأ بالياء على الغيبة ، و( الذين يبخلون ) الفاعل ، وفى المفعول الاول وجهان : أحدهما :( هو ) وهو ضمير البخل الذى دل عليه يبخلون والثانى : هو محذوف تقديره البخل ، وهو على هذا فصل ، ويقرأ " تحسبن " بالتاء على الخطاب ، والتقدير : ولا حسبن يا محمد بخل الذين يبخلون ، فحذف المضاف وهو ضعيف ؛ لان فيه إضمار البخل قبل ذكر مايدل عليه ، وهو على هذا فصل أو توكيد ، والاصل في( ميراث ) موراث فقلبت الواو ياء لانكسار ماقبلها والميراث مصدر كالميعاد .
قوله تعالى :( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ) العامل في موضع إن وما عملت فيه ، قالوا وهى المحكية به ، ويجوز أن يكون معمولا لقول المضاف ؛ لانه مصدر ، وهذا يخرج على قول الكوفيين في إعمال الاول وهو أصل ضعيف ، ويزداد هنا ضعفا ؛ لان الثانى فعل والاول مصدر ، وإعمال الفعل أقوى( سنكتب ما قالوا ) يقرأ بالنون ، وما قالوا منصوب به( وقتلهم ) معطوف عليه ، وما مصدرية أو بمعنى الذى ، ويقرأ بالياء وتسمية الفاعل ، ويقرأ بالياء على مالم يسم فاعله ، وقتلهم بالرفع وهو ظاهر( ونقول ) بالنون والياء قوله تعالى :( ذلك ) مبتدأ( بما ) خبره ، والتقدير : مستحق بما قدمت و( ظلام ) فعال من الظلم فإن قيل : بناء فعال للتكثير ، ولايلزم من نفى الظلم الكثير نفى الظلم القليل ، فلو قال بظالم لكان أدل على نفى الظلم قليله وكثيره فالجواب عنه من ثلاثة أوجه : أحدها أن فعالا قد جاء لا يراد به الكثرة كقول طرفة :
ولست بحلال التلاع مخافة |
ولكن متى يسترفد القوم أرفد |
لا يريد هاهنا أنه قد يحل التلاع قليلا ؛ لان ذلك يدفعه قوله : متى يسترفد القوم أرفد ، وهذا يدل على نفى البخل في كل حال ، ولان تمام المدح لا يحصل بإرادته الكثرة والثانى : أن ظلام هنا للكثرة ؛ لانه مقابل للعباد وفى العباد كثرة ، وإذا قوبل بهم الظلم كان كثيرا والثالث : أنه إذا نفى الظلم الكثير انتفى الظلم القليل ضرورة ؛ لان الذى يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر كان للظلم القليل المنفعة أترك ، وفيه وجه رابع ، وهو أن يكون على النسب : أى لا ينسب إلى الظلم فيكون من بزاز وعطار .
قوله تعالى :( الذين قالوا ) هو في موضع جر بدلا من قوله : " الذين قالوا " ويجوز أن يكون نصبا بإضمار أعنى ورفعا على إضمارهم( ألا نؤمن ) يجوز أن يكون في موضع جر على تقدير : بأن لانؤمن ؛ لان معنى عهد وصى ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير حرف الجر وإفضاء الفعل إليه ، ويجوز أن ينتصب بنفسى عهد ؛ لانك تقول : عهدت إليه عهدا ، لا على أنه مصدر ؛ لانه معناه ألزمته ، ويجوز أن تكتب أن
مفصولة وموصولة ، ومنهم من يحذفها في الخط اكتفاء بالتشديد( حتى يأتينا بقربان ) في حذف مضاف تقديره : بتقريب قربان : أى يشرع لنا ذلك قوله تعالى :( والزبر ) يقرأ بغير باء اكتفاء بحرف العطف ، وبالباء على إعادة الجار ، والزبر جمع زبور مثل رسول ورسل( والكتاب ) جنس قوله تعالى :( كل نفس ) مبتدأ ، وجاز ذلك وإن كان نكرة لنا فيه من العموم و( ذائقة الموت ) الخبر وأنث على معنى كل ؛ لان كل نفس نفوس ، ولو ذكر على لفظ كل جاز ، وإضافة ذائقة غير محضة ؛ لانها نكرة يحكى بها الحال ، وقرئ شاذا" ذائقة الموت " بالتنوين والاعمال ، ويقرأ شاذا أيضا" ذائقه الموت " على جعل الهاء ضمير كل على اللفظ ، وهو مبتدأ وخبر( وإنما ) " ما " هاهنا كافة فلذلك نصب( أجوركم ) بالفعل ، ولو كانت بمعنى الذى أو مصدرية لرفع أجوركم .
قوله تعالى :( لتبلون ) الواو فيه ليست لام الكلمة ، بل واو الجمع حركت لالتقاء الساكنين وضمة الواو دليل على المحذوف ، ولم تقلب الواو ألفا مع تحركها وانفتاح ما قبلها ؛ لان ذلك عارض ، ولذلك لا يجوز همزها مع انضمامها ، ولو كانت لازمة لجاز ذلك قوله تعالى :( لتبيننه، ولا تكتمونه ) يقرآن بالياء على الغيبة ؛ لان الراجع إليه الضمير اسم ظاهر ، وكل ظاهر يكنى عنه بضمير الغيبة ، ويقرآن بالتاء على الخطاب وتقديره : وقلنا لهم لتبيننه ، ولما كان أخذ الميثاق في معنى القسم جاء باللام والنون في الفعل ، ولم يأت بها في يكتمون اكتفاء بالتوكيد في الفعل الاول ؛ لان تكتمونه توكيد قوله تعالى :( لايحسبن الذين يفرحون ) يقرأ بالياء على الغيبة ، وكذلك( فلا يحسبنهم ) بالياء وضم الباء ، وفاعل الاول الذين يفرحون ، وأما مفعولاه فمحذوفان اكتفاء بمفعولى يحسبانهم ؛ لان الفاعل فيهما واحد ، فالفعل الثانى تكرير للاول وحسن لما طال الكلام المتصل بالاول ، والفاء زائدة فليست للعطف ولا للجواب .
وقال بعضهم( بمفازة ) هو مفعول حسب الاول ، ومفعوله الثانى محذوف دل عليه مفعول حسب الثانى ؛ لان التقدير : لا يحسبن الذين يفرحون أنفسهم بمفازة وهم في فلا يحسبنهم هو أنفسهم : أى فلا يحسبن أنفسهم ، وأغنى بمفازة الذى هو مفعول الاول عن ذكره ثانيا لحسب الثانى ، وهذا وجه ضعيف متعسف عنه مندوحة بما ذكرنا في الوجه الاول ويقرأ بالتاء فيهما على الخطاب ، وبفتح الباء منهما والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم ، والقول فيه أن الذين يفرحون هو المفعول الاول ، والثانى محذوف لدلالة مفعول حسب الثانى عليه ، وقيل التقدير : لاتحسبن الذين يفرحون بمفازة ، وأغنى المفعول الثانى هنا عن ذكره لحسب الثانى .
وحسب الثانى مكرر أو بدل لما ذكرنا في القراءة بالياء فيهما ؛ لان الفاعل فيهما واحد أيضا وهو النبى صلى الله عليه وسلم ، ويقرأ بالياء في الاول ، وبالتاء في الثانى ، ثم في التاء في الفعل الثانى وجهان : أحدهما : الفتح على أنه خطاب لواحد ، والضم على أنه لجماعة ، وعلى هذا يكون مفعولا الفعل الاول محذوفين لدلالة مفعولى الثانى عليهما ، والفاء زائدة أيضا ، والفعل الثانى ليس ببدل ولا مكرر ؛ لان فاعله غير فاعل الاول والمفازة مفعلة من الفوز ، و( من العذاب ) متعلق بمحذوف ؛ لانه صفة للمفازة، ؛ لان المفازة مكان والمكان لا يعمل ، ويجوز أن تكون المفازة مصدرا فتتعلق من به ، ويكون التقدير : فلا تحسبنهم فائزين ، فالمصدر في موضع اسم الفاعل قوله تعالى :( الذين يذكرون الله ) في موضع جر نعتا لاولى ، أو في موضع نصب بإضمار أعنى أو رفع على إضمارهم ، ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره : يقولون ربنا( قياما وقعودا ) حالان من ضمير الفاعل في يذكرون( وعلى جنوبهم ) حال أيضا ، وحرف الجر يتعلق بمحذوف هو الحال في الاصل تقديره : ومضطجعين على جنوبهم( ويتفكرون ) معطوف على يذكرون ، ويجوز أن يكون حالا أيضا : أى يذكرون الله متفكرين( باطلا ) مفعول من أجله ، والباطل هنا فاعل بمعنى المصدر مثل العاقبة والعافية ، والمعنى ما خلقتهما عبثا ، ويجوز أن يكون حالا تقديره ماخلقت هذا خاليا عن حكمة ، ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف : أى خلقا باطلا .
فإن قيل : كيف قال هذا والسابق ذكر السموات والارض والاشارة إليها بهذه ؟ ففى ذلك ثلاثة أوجه : أحدها : أن الاشارة إلى الخلق المذكور في قوله :" خلق السموات " وعلى هذا يجوز أن يكون الخلق مصدرا ، وأن يكون بمعنى المخلوق ، ويكون من إضافة الشئ إلى ماهو هو في المعنى والثانى : أن السموات والارض بمعنى الجمع ، فعادت الاشارة إليه والثالث : أن يكون المعنى ماخلقت هذا المذكور أو المخلوق( فقنا ) دخلت الفاء لمعنى الجزاء فالتقدير إذا نزهناك أو وحدناك فقنا( من تدخل النار ) في موضع نصب بتدخل ، وأجاز قوم أن يكون منصوبا بفعل دل عليه جواب الشرط ، وهو( فقد أخزيته ) وأجاز قوم أن يكون من مبتدأ والشرط وجوابه الخبر ، وعلى جميع الاوجه الكلام كله في موضع رفع خبر إن قوله تعالى :( ينادى ) صفة لمناديا أو حال من الضمير في مناديا فإن قيل : ما الفائدة في ذكر الفعل مع دلالة الاسم الذى هو مناد عليه؟ قيل: فيه ثلاثة أوجه : أحدها : هو توكيد كما تقول قم قائما ، والثانى : أنه وصل به ماحسن التكرير ، وهو قوله :( للايمان ) والثالث : أنه لو اقتصر على الاسم لجاز أن يكون سمع معروفا بالنداء يذكر ماليس بنداء ، فلما قال ينادى ثبت أنهم سمعوا نداءه في تلك الحال ، ومفعول ينادى محذوف : أى ينادى الناس( أن آمنوا ) أن هنا بمعنى أى، فيكون النداء قوله آمنوا، ويجوز أن تكون أن المصدرية وصلت بالامر فيكون التقدير : على هذا ينادى للايمان بأن آمنوا( مع الابرار ) صفة للمفعول المحذوف تقديره : أبرارا مع الابرار ، وأبرارا على هذا حال ، والابرار جمع بر وأصله برر ككتف وأكتاف ، ويجوز الامالة في الابرار تغليبا لكسرة الراء الثانية .
قوله تعالى :( على رسلك ) أى على ألسنة رسلك ، وعلى متعلقة بوعدتنا ، ويجوز أن يكون بآتنا و( الميعاد ) مصدر بمعنى الوعد قوله تعالى :( عامل منكم ) منكم صفة لعامل و( من ذكر أو أنثى ) بدل من منكم ، وهو بدل الشئ من الشئ وهما لعين واحدة ، ويجوز أن يكون من ذكر أو أنثى صفة أخرى لعامل يقصد بها الايضاح ، ويجوز أن يكون من ذكر حالا من الضمير في منكم تقديره : استقر منكم كائنا من ذكر أو أنثى ، و( بعضكم من بعض ) مستأنف ، ويجوز أن يكون حالا أو صفة( فالذين هاجروا ) مبتدأ ، و( لاكفرن ) وما اتصل به الخبر وهو جواب قسم محذوف( ثوابا ) مصدر ، وفعله دل عليه الكلام المتقدم ؛ لان تكفير السيئات إثابة فكأنه قال : لاثيبنكم
ثوابا ، وقيل هو حال ، وقيل تمييز ، وكلا القولين كوفى ، والثواب بمعنى الاثابة ، وقد يقع بمعنى الشئ المثاب به كقولك : هذا الدرهم ثوابك ، فعلى هذا يجوز أن يكون حالا من الجنات : أى مثابا بها أو حالا من ضمير المفعول في لادخلنهم أى مثابين ، ويجوز أن يكون مفعولا به ؛ لان معنى أدخلنهم أعطينهم ، فيكون على هذا بدلا من جنات ، ويجوز أن يكون مستأنفا: أى يعطيهم ثوابا قوله تعالى :( متاع قليل ) أى تقلبهم متاع فالمبتدأ محذوف .
قوله تعالى :( لكن الذين اتقوا ) الجمهور على تخفيف النون وقرئ بتشديدها والاعراب ظاهر( خالدين فيها ) حال من الضمير في لهم ، والعامل معنى الاستقرار ، وارتفاع جنات بالابتداء وبالجار( نزلا ) مصدر ، وانتصابه بالمعنى ؛ لان معنى لهم جنات : أى ننزلهم ، وعند الكوفيين هو حال أو تمييز ، ويجوز أن يكون جمع نازل كما قال الاعشى :
أو ينزلون فإنا معشر نزل |
وقد ذكر ذلك أبوعلي في التذكرة |
فعلى هذا يجوز أن يكون حالا من الضمير في خالدين ، ويجوز إذا جعلته مصدرا أن يكون بمعنى المفعول ، فيكون حالا من الضمير المجرور في فيها أى منزولة( من عند الله ) إن جعلت نزلا مصدرا كان من عند الله صفة له ، وإن جعلته جمعا ففيه وجهان : أحدهما : هو حال من المفعول المحذوف ؛ لان التقدير : نزلا إياها والثانى : أن يكون خبر مبتدأ محذوف أى ذلك من عند الله : أى بفضله( وما عند الله ) مابمعنى الذى ، وهو مبتدأ ، وفى الخبر وجهان : أحدهما : هو( خير ) و( للابرار ) نعت لخير والثانى : أن يكون الخبر للابرار ، والنية به التقديم : أى والذى عند الله مستقر للابرار ، وخير على هذا خبر ثان .
وقال بعضهم للابرار حال من الضمير في الظرف ، وخبر خير المبتدإ ، وهذا بعيد ؛ لان فيه الفصل بين المبتدإ والخبر بحال لغيره ، والفصل بين الحال وصاحب الحال بخير المبتدإ وذلك لايجوز في الاختيار .
قوله تعالى :( لمن يؤمن ) من في موضع نصب اسم إن ، ومن نكرة موصوفة أو موصولة ، و( خاشعين ) حال من الضمير في يؤمن ، وجاء جمعا على معنى من ، ويجوز أن يكون حالا من الهاء والميم في إليهم ، فيكون العامل أنزل ، و ( لله ) متعلق بخاشعين ، وقيل هو متعلق بقوله : ( لا يشترون ) وهو في نية التأخير : أى لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا لاجل الله( أولئك ) مبتدأ ، و( لهم أجرهم ) فيه أوجه : أحدها : أن قوله لهم خبر أجر ، وبالجملة خبر الاول ، و( عند ربهم ) ظرف للاجر ؛ لان التقدير : لهم أن يؤجروا عند ربهم ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في لهم وهو ضمير الاجر والآخر أن يكون الاجر مرتفعا بالظرف ارتفاع الفاعل بفعله ، فعلى هذا يجوز أن يكون عند ظرفا للاجر وحالا منه والوجه الثالث : أن يكون أجرهم مبتدأ ، وعند ربهم خبره ، ويكون لهم يتعلق بما دل عليه الكلام من الاستقرار والثبوت ؛ لانه في حكم الظرف .
سورة النساء
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قد مضى القول في قوله تعالى :( ياأيها الناس ) في أوائل البقرة( من نفس واحدة ) في موضع نصب بخلقكم ومن لابتداء الغاية ، وكذلك( منها زوجها ) و( منهما رجالا كثيرا ) نعت لرجال ، ولم يؤنثه ؛ لانه حمله على المعنى ؛ لان رجالا بمعنى عدد أو جنس أو جمع كما ذكر الفعل المسند إلى جماعة المؤنث كقوله : وقال نسوة ، وقيل كثيرا نعت لمصدر محذوف : أى بثا كثيرا( تساءلون ) يقرأ بتشديد السين ، والاصل تتساءلون فأبدلت التاء الثانية سينا فرارا من تكرير المثل ، والتاء تشبه السين في الهمس ، ويقرأ بالتخفيف على حذف التاء الثانية ؛ لان الباقية تدل عليها ودخل حرف الجر في المفعول ؛ لان المعنى تتحالفون به( والارحام ) يقرأ بالنصب ، وفيه وجهان : أحدهما : معطوف على اسم الله : أى واتقوا الارحام أن تقطعوها ، والثانى : هو محمول على موضع الجار والمجرور كما تقول مررت بزيد وعمرا ، والتقدير الذى تعظمونه والارحام ؛ لان الحلف به تعظيم له ويقرأ بالجر قيل هو معطوف على المجرور ، وهذا لايجوز عند
البصريين ، وإنما جاء في الشعر على قبحه ، وأجازه الكوفيون على ضعف ، وقيل الجر على القسم ، وهو ضعيف أيضا ؛ لان الاخبار وردت بالنهى عن الحلف بالآباء ، ولان التقدير في القسم : وبرب الارحام ، هذا قد أغنى عنه ما قبله ، وقد قرئ شاذا بالرفع وهو مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره : والارحام محترمة أو واجب حرمتها .
قوله تعالى :( بالطيب ) هو المفعول الثانى لتتبدلوا( إلى أموالكم ) إلى متعلقة بمحذوف وهو في موضع الحال : أى مضافة إلى أموالكم ، وقيل : هو مفعول به على المعنى ؛ لان معنى لا تأكلوا أموالهم : لاتضيعوها( إنه ) الهاء ضمير المصدر الذى دل عليه تأكلوا : أى أن الاكل والاخذ والجمهور على ضم الحاء من( حوبا ) وهو اسم للمصدر ، وقيل مصدر ، ويقرأ بفتحها وهو مصدر حاب يحوب : إذا أثم .
قوله تعالى :( وإن خفتم ) في جواب هذا الشرط وجهان : أحدهما : هو قوله :" فانكحوا ماطاب لكم " وإنما جعل جوابا ؛ لانهم كانوا يتحرجون من الولاية في أموال اليتامى ، ولا يتحرجون من الاستكثار من النساء ، مع أن الجور يقع بينهن إذا كثرن ، فكأنه قال : إذا تحرجتم من هذا فتحرجوا من ذاك .
والوجه الثانى : أن جواب الشرط قوله :" فواحدة " ؛ لان المعنى إن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح اليتامى فانكحوا منهن واحدة ، ثم أعاد هذا المعنى في قوله :" فإن خفتم أن لا تعدلوا " لما طال الفصل بين الاول وجوابه ، ذكر هذا الوجه أبوعلي( أن لا تقسطوا ) الجمهور على ضم التاء وهو من أقسط إذا عدل ، وقرئ شاذا بفتحها وهو من قسط إذا جار ، وتكون لا زائدة( ماطاب ) " ما " هنا بمعنى من ، ولها نظائر في القرآن ستمر بك إن شاء الله تعالى ، وقيل : " ما " تكون لصفات من يعقل ، وهى هنا كذلك ؛ لان ماطاب يدل على الطيب منهن ، وقيل هى نكرة موصوفة تقديره : فانكحوا جنسا طيبا لكم ، أو عددا يطيب لكم ، وقيل هى مصدرية والمصدر المقدر بها وبالفعل مقدر باسم الفاعل : أى انكحوا الطيب( من النساء ) حال من ضمير الفاعل في طاب( مثنى وثلاث ورباع ) نكرات لا تنصرف للعدل والوصف ، وهى بدل من ما ، وقيل : هى حال من النساء ، ويقرأ شاذا " وربع " بغير ألف ، ووجهها أنه حذف الالف كما حذفت في خيم والاصل خيام ، وكما حذفت في قولهم أم والله ، والواو في " وثلاث
ورباع " ليست للعطف الموجب للجمع في زمن واحد ؛ لانه لو كان كذلك لكان عبثا ، إذ من أدرك الكلام يفصل التسعة هذا التفصيل ، ولان المعنى غير صحيح أيضا ؛ لان مثنى ليس عبارة عن ثنتين فقط ، بل عن ثنتين ثنتين وثلاث عن ثلاث ثلاث وهذا المعنى يدل على أن المراد التخيير لا الجمع( فواحدة ) أن فانكحوا واحدة ، ويقرأ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أى فالمنكوحة واحدة ويجوز أن يكون التقدير : فواحدة تكفى( أو ما ملكت ) أو للتخيير على بابها ، ويجوز أن تكون للاباحة ، و" ما " هنا بمنزلة ما في قوله : ماطاب( أن لا تعولوا ) أى إلى أن لا تعولوا ، وقد ذكرنا مثله في آية الدين .
قوله تعالى : ( نحلة ) ؛ لان معنى آتوهن أنحلوهن ، وقيل هو مصدر في موضع الحال ، فعلى هذا يجوز أن يكون حالا من الفاعلين : أى ناحلين ، وأن يكون من الصدقات ، وأن يكون من النساء : أى منحولات ( نفسا ) تمييز ، والعامل فيه طبن ، والمفرد هنا في موضع الجمع ؛ لان المعنى مفهوم ، وحسن ذلك أن نفسا هنا في معنى الجنس ، فصار كدرهما في قولك : عندى عشرون درهما( فكلوه ) الهاء تعود على شئ ، والهاء منه تعود على المال ؛ لان الصدقات مال( هنيئا ) مصدر جاء على فعيل ، وهو نعت لمصدر محذوف : أى أكلا هنيئا ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال من الهاء ، والتقدير : مهنأ أو طيبا و ( مريئا ) مثله والمرئ فعيل بمعنى مفعل ؛ لانك تقول : أمرأنى الشئ إذا لم تستعمله مع هنانى فإن قلت هنانى ومرانى لم تأت بالهمزة في مرانى لتكون تابعة لهنانى .
قوله تعالى :( أموالكم التى ) الجمهور على إفراد التى ؛ لان الواحد من الاموال مذكر ، فلو قال اللواتى لكان جمعا كما أن الاموال جمع ، والصفة إذا جمعت من أجل أن الموصوف جمع كان واحدها كواحد الموصوف في التذكير والتأنيث ، وقرئ في الشاذ اللواتى جمعا اعتبارا بلفظ الاموال( جعل الله ) أى صيرها فهو متعد إلى مفعولين والاول محذوف وهو العائد ، ويجوز أن يكون بمعنى خلق فيكون قياما حالا( قياما ) يقرأ بالياء والالف ، وهو مصدر قام والياء بدل من الواو ، وأبدلت منها لما أعلت في الفعل وكانت قبلها كسرة ، والتقدير : التى جعل الله لكم سبب قيام أبدانكم : أى بقائها ويقرأ قيما بغير ألف وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه مصدر مثل الحول والعوض ، وكان القياس أن تثبت الواو لتحصنها بتوسطها كما صحت في الحول والعوض ، ولكن أبدلوها ياء حملا على قيام على اعتلالها في الفعل .