الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)0%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر مرتضى الحسيني العاملي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 176129
تحميل: 5871

توضيحات:

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 176129 / تحميل: 5871
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

١

بسم الله الرحمن الرحيم

الإهداء

إليك يا أعز من في الوجود عليّ.. يا من تعيش لأجلي، وتشعر بآلامي، وتحس بمشاكلي.. دون أن أراك، ودون أن أعرف مكانك، بل وحتى دون أن أفطن في كثير من الأحيان لوجودك.

إليك يا أملي الحي، الذي يمدني بالقوة، ويجدد في العزيمة ويا قبس الهدى والنور، الذي لولاه لكنت أعيش في الظلام، ظلم الوحدة، والحيرة، والضياع.

إليك يا من تملأ الأرض قسطاً، وعدلاً، بعدما ملئت ظلماً، وجوراً.

إليك يا سيدي، ومولاي، يا صاحب الزمان. أرفع كتابي هذا راجياً منك القبول.

جعفر

٢

مقدمة الطبعة الثانية:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعز المرسلين، محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد..

فهذه هي الطبعة الثانية لهذا الكتاب، نخرجها إلى القراء الكرام، بعد حوالي ثلاث سنوات من ظهور طبعته الأولى، التي نفدت نسخها بسرعة.

وإنني إذ أعتز بإقبال القراء على هذا الكتاب، لا يسعني إلاّ أن أقف موقف التقدير والإكبار لهذه الرغبة الصادقة منهم في الاطلاع والمعرفة، وهو أمر يبعث على الأمل، ويبشر بمستقبل مشرق إن شاء الله تعالى..

هذا الكتاب:

لقد جاء التفكير في هذا الكتاب في نفس الوقت الذي نشرت فيه مجلة لبنانية مقالاً لبعض السطحيين، من طالبي الشهرة والمال!! يتهجم فيه على ساحة قدس الإمامين العظيمين: الحسن المجتبىعليه‌السلام ؛ لصلحه مع معاوية.. والإمام الرضاعليه‌السلام ؛ لقبوله بولاية العهد، من قبل المأمون العباسي..

٣

فأما قضية الصلح فقد كان قد بحثها الباحثون، واهتم بها العلماء والمؤرخون، وكشفوا عن جانب كبير من ظروفها وملابساتها، ومن هنا فقد انصب اهتمامي آنئذ على بحث قضية ولاية العهد، والتي كان البحث فيها شاقاً وصعباً للغاية، لأسباب لا يجهلها من له أدنى اطلاع على واقع الكتب التاريخية، ومؤلفيها، وظروف تأليفها..

ولعل ذلك المقال نفسه أيضاً، قد كان هو الحافز لسماحة العلامة البارع، السيد محمد جواد فضل اللهرحمه‌الله ، ليكتب كتابه الشيق، الذي أسماه: (حياة الإمام الرضاعليه‌السلام )، وعقد فيه فصلاً للحديث عن ولاية العهد أيضاً؛ فشكر الله سعيه، وتغمده برحمته، وجزاه خير جزاء المحسنين..

الجديد في الكتاب:

وأود أن أشير هنا، إلى أنه.. إما لسوء حظي، أو لحسن حظ القارئ!! لم تتهيأ لي الفرصة لإعادة النظر في الكتاب من جديد، بشكل يسمح لي بالتعديل والتطوير فيه؛ ولذا فقد اكتفيت بإصلاح كثير من الأخطاء المطبعية، مع زيادات طفيفة، لا تكاد تذكر.

تنبيه وختام:

وبعد هذا.. فإنني أود أن أنبه: على أن كلمة (التشيع) الواردة في هذا الكتاب لا يراد بها المعنى الخاص إلاّ نادراً.. كما أن المقصود من كلمة: (علوي) و(علويين) هو كل من يتصل نسبه بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه وعلى أبنائه الطيبين الطاهرين..

وفي الختام.. فإنني أعود فأكرر رجائي الأكيد من كل القراء الكرام أن يكتبوا إلي بملاحظاتهم، ووجهات نظرهم، وأنا لهم من الشاكرين.

والحمد لله، وله المنة، وبه الحول، وعليه التكلان.

٢٣/١/١٤٠٠ ه‍ ق

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

٤

تقديم:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين:

وبعد:

فقد كان هذا الكتاب نتيجة دراسة استمرت ثلاث سنوات ما بين مد وجزر. وهو يبحث في ظروف وأسباب حدث تاريخي هام في التاريخ الإسلامي.. إلاّ وهو: (أخذ البيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد للمأمون).

ورغم الأهمية البالغة لهذا الحدث، وكونه جديراً بالدراسة، والبحث، والتمحيص. فإننا رأينا المؤرخين الباحثين ـ ولأسباب مختلفة ـ يضربون عنه صفحا، ويحاولون تجاهله، والتقليل من أهميته.

وعلى كل حال.. ومهما كانت الحقائق التي أوردتها في هذا الكتاب موافقة لهوى قوم، ومثيرة لحنق آخرين.. فإن ما أريد أن أؤكد عليه هو:

إنني لثقتي من نفسي بأنني ما ادخرت وسعاً، ولم آل جهداً في تمحيص الحقائق، وإبراز المعالم الأصيلة للصورة، التي أريد ـ لسبب أو لآخر ـ طمسها، وتشويه معالمها، وأيضاً لحسن ظني بالقارئ، وثقتي بنزاهته، ونظرته الواعية.

من أجل ذلك أقول ـ وبكل رضاً، وارتياح، واطمئنان ـ: إنني لا أريد أن أفرض ما في هذا الكتاب من آراء، واستنتاجات على أحد.. بل سوف أترك الحكم في ذلك للقارئ نفسه، الذي يمتلك كامل الحرية في أن يقبل، أو أن يرفض، إذا اقتضى الأمر أياً من الرفض، أو القبول.

والله ولينا. وهو الهادي إلى سواء السبيل.

جعفر مرتضى الحسيني

٥

تمهيد

صلة الماضي بالحاضر والمستقبل:

.. بديهي أن بعض الأحداث التاريخية، التي تمر بالأمة، تؤثر تأثيراً مباشراً، أو غير مباشر في واقعها، إن حاضراً، وإن مستقبلاً. بل وقد تؤثر في روح الأمة، وعقلها، وتفكيرها.. ومن ثم على مبادئها العامة، التي قامت عليها قوانينها ونظمها، التي تنظم لها مسيرتها، وتهيمن على سلوكها.. فقد تقوي من دعائمها، وتؤكد وجودها، واستمرارها، وقد تنسفها من أسسها، إن كانت تلك المبادئ على درجة كبيرة من الضعف والوهن في ضمير الأمة ووجدانها. وعلى صعيد العمل في المجال العملي العام. فمثلاً.. نلاحظ أن الاكتشافات الحديثة، والتقدم التقني قد أثر أثراً لا ينكر حتى في عاطفة الإنسان، التي يفرضها، واقع التعايش. وحتى في مواهبه وملكاته، فضلاً عن سلوكه، وأسلوب حياته. وحيث إن المبادئ الاجتماعية لم تكن على درجة من الرسوخ والقوة في ضمير الإنسان ووجد أنه، ولم تخرج عن المستوى الشكلي في حياته العملية ـ وإن انغرست في أعماق بعض أفراده أحياناً في دورات تاريخية قصيرة ـ نرى أنها بدورها قد تأثرت بذلك، ونسفت أو كادت من واقع هذه الأمة، وعدمت أو كادت من دائرة حياتها. وليكون البديل ـ من ثم ـ عنها لدى هذا الكائن هو (الذاتية) الكافرة بكل العواطف الاجتماعية، والعوض عنها في نفسه هو المادة الجافة، التي لا ترحم ولا ترثي، ولا تلين، لا يجد لذة العاطفة، ولا حلاوة الرحمة، وليعود الإنسان ـ بعد لأي ـ متشائما حاقدا، لا يثق بمستقبله، ولا يأمن من يحيط به، ولا يطمئن إلى أقرب الناس إليه.وبطبيعة الحال، سوف يتأثر النشء الجديد بذلك، ثم ينتقل ذلك إلى الجيل الذي يليه. وهكذا.. وهكذا.. فإن الحدث التاريخي الذي كان قبل ألف سنة مثلاً، أو أكثر قد نجد له آثارا بارزة، حتى في واقع حياتنا التي نعيشها اليوم وإذن.. فنستطيع أن نستخلص من هذا: أن الأحداث التاريخية مهما بعدت، ومن أي نوع كانت تؤثر في وضع الأمة، وفي تصرفاتها،وفي حياتها، وسلوكها على المدى الطويل. وتتحكم ـ إلى حد ما ـ في مستقبلها،

٦

وإن العالم التاريخي له أثر كبير في فرض المستوى الذي يعيشه المجتمع بالفعل، سواء في ذلك الأدبي منه. أو العلمي، أو الديني، أو السياسي، أو الاقتصادي، أو غير ذلك.وغني عن القول هنا. أن التأثر بالأحداث يختلف من أمة لأخرى، ومن عصر لآخر.

لماذا كان تدوين التاريخ:

ومن هنا تبرز أهمية التاريخ. ونعرف أنه يلعب دوراً كبيراً في حياة الأمم، مما يجعلنا لا نجد كثير عناء في الإجابة على سؤال: لماذا عنيت الأمم على اختلافها بالتاريخ. تدويناً. ودرساً، وبحثاً، وتمحيصاً؟! فإن ذلك لم يكن إلاّ لأنها تريد أن تستفيد منه، لتتعرف على واقعها الذي تعيشه، لتستفيد من ذلك لمستقبلها الذي تقدم عليه.. ولتكتشف منه عوامل رقيها. وانحطاطها، ولتنطلق من ثم لبناء نفسها على أسس متينة وسليمة.. فمهمة التاريخ إذن ـ تاريخ الأمة المدون ـ هي: أن يعكس بأمانة ودقة ما تمر به الأمة من أحوال وأوضاع، وأزمات فكرية، واقتصادية، وظروف سياسية: واجتماعية، وغير ذلك.

ونحن. هل نملك تاريخاً!!

ونحن أمة.. لكننا لا نملك تاريخاً ـ وأقصد بذلك كتب التاريخ ـ نستطيع أن نستفيد منه الكثير في هذا المضمار، لأن أكثر ما كتب لنا منه تتحكم فيه النظرة الضيقة، والهوى المذهبي، والتزلف للحكام، وأقصد بـ‍ (النظرة الضيقة) عملية ملاحظة الحدث منفصلاً عن جذوره وأسبابه التي تلقي الضوء الكاشف على حقيقته وواقعه.

نعم.. إننا بمرارة ـ لا نملك تاريخاً نستطيع أن نستفيد منه الكثير، لأن المسيرة قد انحرفت، والأهواء قد لعبت لعبتها(١) وأثرت أثرها المقيت

____________

(١) ومن أراد أن يعرف المزيد عن ذلك، فليراجع: النصائح الكافية لمن يتولى معاوية من ص ٧٢ إلى ص ٧٩ والغدير ج ٥ ص ٢٠٨ إلى ص ٣٧٨، و ج ١١ من ص ٧١، إلى ص ١٠٣، و ج ٩ من ص ٢١٨ إلى آخر المجلد، وغير ذلك من مجلدات هذا الكتاب وصفحاته والاحتجاج للطبرسي، وخمسون ومئة صحابي مختلق للعسكري، وغير ذلك كثير..

٧

البغيض، حتى في تدوين التاريخ نفسه. وإنه لما يدمي قلوبنا، ويملأ نفوسنا أسى وألما، أن نكون قد فقدنا تاريخنا، ودفناه تحت ركام من الأنانيات. والعصبيات، والأطماع الرخيصة، حتى لم يبق منه سوى الرسوم الشوهاء، والذكريات الشجية.

ومرة أخرى أقول: إن كل ما لدينا هو ـ فقط ـ تاريخ الحكام والسلاطين، الذين تعاقبوا على كراسي الحكم، وحتى تاريخ الحكام هذا، رأيناه مشوهاً، وممسوخاً، حيث لم يستطع أن يعكس بأمانة وحيدة الصورة الحقيقية لحياة أولئك الحكام، وأعمالهم وتصرفاتهم. وما ذلك إلاّ لأن المؤرخين لم يكونوا أحراراً في كتابتهم للتاريخ، بل كانوا يؤرخون ويكتبون حسب ما يريده الحكام أنفسهم، ويخدم مصالحهم.

إما رهبة من هؤلاء الحكام، أو رغبة، أو تعصباً لمذهب، أو لغيره. ومن هنا.. فليس من الغريب جداً أن نرى المؤرخ يعتني بأمور تافهة وحقيرة، فيسهب القول في وصف مجلس شراب، أو منادمة، حتى لا يفوته شيء منه، أو يختلق ويفتعل أحداثاً لم يكن لها وجود إلاّ في عالم الخيالات والأوهام، أو يتكلم عن أشخاص لم يكن لهم شأن يذكر، بل قد لا يكون لهم وجود أصلاً.. بينما نراه في نفس الوقت يهمل بالكلية شخصيات لها مكانتها، وخطرها في التاريخ، أو يحاول تجاهل الدور الذي لعبته فيه.. ويهمل أو يشوه أحداثاً ذات أهمية كبرى.

صدرت من الحاكم نفسه، أو من غيره. ومن بينها ما كان له دور هام في حياة الأمة، ومستقبلها، وأثر كبير في تغيير مسيرة التاريخ، أو يحيطها ـ لسبب أو لآخر ـ بستار من الكتمان، والإبهام.

ومن تلك الأحداث..

وفي طليعة تلك الأحداث التي كان نصيبها ذلك: (البيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد) من قبل الخليفة العباسي عبد الله المأمون!.

هذا الحدث الذي لم يكن عاديا، وطبيعيا، كسائر ما يجري وما يحدث، والذي كان نصيبه من المؤرخين أن يتجاهلوه، ويقللوا ما أمكنهم من أهميته، وخطره، وأن يحيطوا أسبابه ودوافعه، وظروفه بستائر من الكتمان. وعندما كانت تواجههم الأسئلة حوله تراهم يرددون تلك التفسيرات التي أراد الحكام أن يفهموها للناس، دون أن يكون من بينها ما يقنع، أو ما يجدي..

إلا أننا مع ذلك، لم نعدم في هذا الذي يسمى، ب‍ـ (التاريخ) بعض الفلتات والشذرات المتفرقة هنا وهناك، التي تلقي لنا ضوءاً ، وتبعث فينا الرجاء والأمل بالوصول إلى الحقائق التي خشيها الحكام، فقضوا عليها ـ بكل قسوة وشراسة ـ بالعدم، والاندثار..

٨

ولو فرض: أنه كان للمؤرخين القدامى العذر ـ إلى حد ما ـ في تجاهل هذا الحدث، والتقليل من أهميته، لظروف سياسية، واجتماعية، ومذهبية معينة.. فإن من الغريب حقاً أن نرى الباحثين اليوم ـ مع أنهم لا يعيشون تلك الظروف، وينعمون بالحرية بمفهومها الواسع. ـ يحاولون بدورهم تجاهل هذا الحدث، والتقليل من أهميته، عن قصد أحياناً، وعن غير قصد أخرى، وإن كنا نستبعد هذا الشق الأخير، إذ أننا نشك كثيراً في أن لا يسترعي حدث غريب كهذا انتباههم، ويلفت أنظارهم.

وأياً ما كان السبب في ذلك، فإن النتيجة لا تختلف، ولا تتفاوت، إذ أنها كانت في الواقع الخارجي سلبية على كل حال.

وبدافع من الشعور بالواجب

ومن هنا.. وبدافع من الشعور بالمسؤولية، رأيت أن أقوم بدراسة لهذا الحدث بالذات، للتعرف على حقيقة دوافعه وأسبابه، وواقع ظروفه وملابساته.

وكانت نتيجة تلك الدراسة، التي استمرت ثلاث سنوات ما بين مد وجزر هي: هذا الكتاب الذي بين يديك..

ولا أدعي: أن كل ما في هذا الكتاب من آراء واستنتاجات، لا تعدو الحقيقة، ولا تشذ عن الصواب.

ولا أدعي أيضاً: أنني استطعت أن أضع يدي على كل خيوط القضية، وأن أنفذ إلى جميع جذورها العميقة والرئيسة، فإن ذلك ليس من الأمور السهلة بالنسبة لأي حدث تاريخي مضى عليه العشرات والمئات من السنين، فكيف إذا كان إلى جانب ذلك مما قد أريد له ـ كما قلنا ـ أن تبقى دوافعه وأسبابه طي السرية والكتمان، وظروفه وملابساته رهن الإبهام والغموض..

لا.. لا أدعي هذا، ولا ذاك. وإنما أقول: إن هذا الكتاب قادر ـ ولا شك ـ على أن يرسم علامة استفهام كبيرة حول (طبيعية) هذا الحدث، وحول المأمون، ونواياه، وتصرفاته المشبوهة. وإنه ـ على الأقل يمكن أن يعتبر خطوة على طريق الكشف الكامل عن جميع الحقائق، والتعرف على كافة العوامل والظروف، التي اكتنفت هذا الحدث التاريخي الهام.

٩

تقسيم الكتاب.. باختصار..

ومن أجل استيفاء البحث من جميع جوانبه، كما لا بد لنا من تقسيم الكتاب إلى أقسام أربعة:

الأول:

يتناول قيام الدولة العباسية، وأساليب دعوتها، ويعطي لمحة عن موقف العلويين، والعباسيين، كل منهما من الآخر، وردود الفعل لذلك، وغير ذلك من أمور..

الثاني:

يبحث حول ظروف البيعة، وأسبابها، ونتائجها.

الثالث:

يتكفل بإلقاء أضواء كاشفة عن المواقف، سواء بالنسبة إلى المأمون، أو بالنسبة إلى الإمامعليه‌السلام ..

الرابع:

نعرض فيه لبعض الأحداث التي تلقي لنا ضوءاً على حقيقة نوايا المأمون، وتكشف لنا عن بعض مخططاته.. وغير ذلك مما يتصل بذلك، ويرتبط به، بنحو من الارتباط والاتصال..

هذا:

وقد وضعنا في آخر الكتاب بعض الوثائق التاريخية الهامة، التي آثرنا أن يطلع القارئ بنفسه على نصها الكامل..

ونسأل الله أن يوفقنا جميعاً. ويهدينا سبيل الرشاد..

القسم الأول

ممهدات..

١ ـ قيام الدولة العباسية.

٢ ـ مصدر الخطر على العباسيين.

٣ ـ سياسة العباسيين ضد العلويين.

٤ ـ سياسة العباسيين مع الرعية..

٥ ـ فشل سياسة العباسيين ضد العلويين.

١٠

قيام الدولة العباسية

العلويون في الماضي البعيد..

بعد أن أمعن الأمويون في الانحراف عن الخط الإسلامي القويم، وأصبح واضحاً لدى كل أحد، أن هدفهم ليس إلاّ الحكم والسيطرة، والتحكم بمقدرات الأمة وإمكاناتها.. وأن كل همهم كان مصروفا إلى الملذات والشهوات، أينما كانت، وحيثما وجدت.. وليس لمصلحة الأمة، وسعادتهما، ورفاهها عندهم أي اعتبار..

وبعد أن لجوا في عدائهم لأهل البيتعليهم‌السلام ، وبلغوا الغاية فيهم، قتلاً، وعسفاً، وتشريداً، وخصوصاً ما كان منهم في وقعة كربلاء التي لم يعرف التاريخ أبشع، ولا أفظع منها.. وجعلهم لعن عليعليه‌السلام سنة لهم. يشب عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير.. ثم ملاحقتهم لولده، ولكل من يتشيع لهم. تحت كل حجر ومدر، وفي كل سهل وجبل، ليعفوا منهم الآثار، ويخلو منهم الديار.

بعد كل هذا.. وبفضل جهاد أهل البيت المتواصل، في سبيل توعية الأمة، وتعريفها بأحقيتهم، وبحقيقة، وواقع تلك الطغمة الفاسدة.. كان من الطبيعي أن ينمو تعاطف الناس مع أهل البيت

ويزيد، كلما ازداد نفورهم من الأمويين، ونقمتهم عليهم، وذلك تبعاً لتزايد وعيهم. وتكشف الحقائق لهم، ولأنهم أدركوا من واقع الأحداث التي مرت بهم: أن أهل البيتعليهم‌السلام هم: الركن الوثيق، الذي لا نجاة لهم إلاّ بالالتجاء إليه، وذلك الأمل الحي، الذي تحيا به الأمة، وتحلو معه الحياة..

العرش الأموي في مهب الريح

ولهذا نجد: أن الثورات والفتن ضد الحكم الأموي كانت تظهر من كل جانب ومكان. طيلة فترة حكمهم، حتى أنهكت قواهم، وأضعفتهم إلى حد كبير، وفنوا وأفنوا، حتى لم يعد باستطاعتهم ضبط البلاد، ولا السيطرة على العباد..

١١

وكانت تلك الثورات تتخذ الطابع الديني على العموم، مثل: ثورة أهل المدينة المعروفة بـ‍ (وقعة الحرة) وثورة قراء الكوفة والعراق، المعروفة بـ‍ (دير الجماجم) سنة ٨٣ ه‍.. وقبلها ثورة المختار والتوابين سنة ٦٧ ه‍. وأيضاً ثورة يزيد بن الوليد مع المعتزلة على الوليد بن يزيد، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سنة ١٢٦ ه‍. وكذلك ثورة عبد الله بن الزبير، الذي تغلب على البلاد ما عدا دمشق، وما والاها مدة من الزمن.. ثم الثورة التي قامت ضد هشام في إفريقيا.

وثورة الخوارج بقيادة المتسمي بـ‍ (طالب الحق) سنة ١٢٨ ه‍. وأيضاً ثورة الحارث بن سريح في خراسان، داعياً إلى كتاب الله، وسنة رسوله سنة ١١٦ ه‍. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه واستقصائه..

وأما ما كان منها بدافع غير ديني، بل من أجل الحكم، والسلطان، فنذكر منها على سبيل المثال: ثورة آل المهلب سنة ١٠٢ ه‍. وثورة مطرف بن المغيرة..

وأما في زمن مروان

وفي زمن مروان بن محمد الجعدي، المعروف بمروان الحمار، كان الوضع في السوء والتدهور قد بلغ الغاية، وأوفى على النهاية، حيث بلغ من انشغال مروان بالثورات والفتن، التي كانت قد شملت أكثر الأقطار: أنه لم يستطع أن يصغي إلى شكوى عامله في خراسان نصر بن سيار، الذي كان بدوره يواجه الثورات والفتن، ومن جملتها دعوة بني العباس، التي كانت تزداد قوة يوماً بعد يوم. بقيادة أبي مسلم الخراساني.

١٢

من خلال الأحداث.

كل ذلك يكشف عن مدى تبرم الناس بحكم بني أمية، وبسلطانهم، الذي كان قائماً على أساس من الظلم والجور، والابتزاز، والتحكم بمقدرات الأمة، وإمكاناتها.. ويتضح لنا ذلك جليا إذا لاحظنا: أن ما كان يتقاضاه الولاة لا يمكن أن يخطر على قلب بشر، ويكفي مثالاً على ذلك أن نشير إلى أن خالداً القسري، كان يتقاضى راتباً سنوياً قدره (٢٠ ) مليون درهم، بينما ما كان يختلسه كان يتجاوز الـ (‍١٠٠) مليون(١) ، وإذا كان هذا حال الولاة، فكيف ترى كان حال الخلفاء، الذين كانوا يحقدون على كل القيم، والمثل، والكمالات الإنسانية،.. والذين وصف الكميت رأيهم في الناس، فقال:

رأيــه فـيهم كـرأي ذوي

الثلة في الثائجات جنح الظلام

جز ذي الصوف وانتقاء لذي

المخة، نعقاً ودعدعاً بالبهام(٢)

نعم.. لقد كانت الأمة قد اقتنعت اقتناعاً كاملاً ونهائياً: بأن بني أمية ليس لهم بعد حق في أن يفرضوا أنفسهم قادة للأمة، ولا روادا لمسيرتها، لأن نتيجة ذلك ستكون ـ حتما ـ هي جر الأمة إلى الهاوية. حيث الدمار والفناء، فلفظتهم، وانقلبت عليهم، تأخذ منهم بعض الحقوق التي لها عندهم، إلى أن تمكنت أخيراً من أن تخلي منهم الديار، وتعفي منهم الآثار..

وكان نجاح العباسيين طبيعياً..

ومن هنا نعرف: أن نجاح العباسيين في الاستيلاء على مقاليد الحكم ـ

____________

(١) السيادة العربية ص ٣٢، ترجمة الدكتور حسن إبراهيم حسن، ومحمد زكي إبراهيم. وفي البداية والنهاية ج ٩ ص ٣٢٥: أن دخل خالد القسري كان في كل سنة ( ١٣) مليون دينار، ودخل ولده يزيد بن خالد كان (١٠) ملايين دينار سنويا، ولا بأس بمطالعة كتاب السيادة العربية، ليعرف ما أصاب، وخصوصاً العراقيين والخراسانيين في عهد الأمويين.

(٢) الهاشميات ص ٢٦، ٢٧. والثلة: القطعة الكثيرة من الضان. والثائجات: الصائحات. وانتقاء: اختيار، وأراد بذي المخة: السمينة، ونعقاً: أي صياحاً. والدغدغة: زجر البهائم.

يقول: رأي الواحد من هؤلاء الخلفاء في رعيته، ومعاملته لها كرأي أصحاب الغنم في غنمهم، فلا يراعون العدل، ولا الإنصاف فيهم..

١٣

في ذلك الحين ـ لم يكن ذلك الأمر المعجزة، والخارق للعادة. بل كان أمراً طبيعياً للغاية، إذا ما أخذت الحالة الاجتماعية، والظروف والملابسات آنئذٍ بنظر الاعتبار، فإن الأمة كانت مهيأة نفسيا لقبول التغيير، أي تغيير. بل كانت تراه أمراً ضرورياً، لا بد منه، ولا غنى عنه، إذا كانت تريد لنفسها الحياة الفاضلة، والعيش الكريم.

ولهذا.. فليس من الغريب أن نقول: إنه كان بإمكان أية ثورة أن تنجح، لو أنها تهيأت لها نفس الظروف، وسارت على نفس الخط، واتبعت نفس الأساليب، التي اتبعها العباسيون في دعوتهم، وثورتهم. ونستطيع أن نتبين أساليب العباسيين تلك في ثلاثة خطوط عريضة وواضحة.

الخط الأول:

(كانوا يصورون أنفسهم على أنهم ما جاءوا إلاّ لينقذوا الأمة من شرور بني أمية، وظلمهم، وعسفهم، الذي لم يكن يقف عند حدود. وكانت دعوتهم تتخذ اتجاه التبشير بالخلاص، وأنهم سوف يقيمون حكماً مبدؤه العدل، والمساواة، والأمن والسلام. وقد كانت وعودهم هذه كسائر الوعود الانتخابية، التي ألفناها من ساسة العصر الحديث.. بل لقد كانت الأماني التي خلقتها الدعوة العباسية في الجماهير مسئولة إلى حد كبير عن ردود الفعل العنيفة، التي حدثت ضد الحكم العباسي بعد ذلك، حيث كان حكمهم قائماً على الطغيان المتعطش إلى سفك الدماء)(١) .

____________

(١) راجع: إمبراطورية العرب، للجنرال جلوب، ترجمة: خيري حماد.

١٤

الخط الثاني:

إنهم لم يعتمدوا كثيراً على العرب، الذين كانوا يعانون من الانقسامات الداخلية الحادة، وإنما استعانوا بغير العرب، الذين كانوا في عهد بني أمية محتقرين، ومنبوذين، ومضطهدين، ومحرومين من أبسط الحقوق المشروعة، التي منحهم إياها الإسلام. حتى لقد أمر الحجاج أن لا يؤم في الكوفة إلاّ عربي.. وقال لرجل من أهل الكوفة: لا يصلح للقضاء إلاّ عربي(١) .. كما طرد غير العرب من البصرة، والبلاد المجاورة لها، واجتمعوا يندبون: وا محمدا وا أحمدا. ولا يعرفون أين يذهبون، ولا عجب أن نرى أهل البصرة يلحقون بهم، ويشتركون معهم في نعي ما نزل بهم من حيف وظلم(٢) بل لقد قالوا: (لا يقطع الصلاة إلا: حمار، أو كلب، أو مولى..)(٣) وقد أراد معاوية أن يقتل شطراً من الموالي، عندما رآهم كثروا، فنهاه الأحنف عن ذلك(٤) . وتزوج رجل من الموالي بنتا من أعراب بني سليم، فركب محمد بن بشير الخارجي إلى المدينة، وواليها يومئذ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل،

____________

(١) ضحى الإسلام ج ١ ص ٢٤، والعقد الفريد ج ١ ص ٢٠٧، ومجلة الهادي، السنة الثانية العدد الأول ص ٨٩، وتاريخ التمدن الإسلامي المجلد ٢ جزء ٤ ص ٣٤٣.

(٢) السيادة العربية ص ٥٦، ٥٧، ولا بأس بمراجعة: تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الأول ج ٢ ص ٢٧٤.

(٣) العقد الفريد طبع مصر سنة ١٩٣٥ ج ٢ ص ٢٧٠، وتاريخ التمدن الإسلامي جزء ٤ ص ٣٤١.

(٤) المصدران السابقان...

١٥

فشكا إليه ذلك، فأرسل الوالي إلى المولى، ففرق بينه وبين زوجته، وضربه مأتي سوط، وحلق رأسه، وحاجبه، ولحيته. فقال محمد ابن بشير في جملة أبيات له:

قضيت بسنة وحكمت عدلاً

ولم ترث الخلافة من بعيد(١)

ولم تفشل ثورة المختار، إلاّ لأنه استعان فيها بغير العرب، فتفرق العرب عنه لذلك(٢) ويقول أبو الفرج الأصفهاني: (.. كان العرب إلى أن جاءت الدولة العباسية، إذا جاء العربي من السوق، ومعه شيء، ورأى مولى، دفعه إليه، فلا يمتنع)(٣) .

بل كان لا يلي الخلافة أحد من أبناء المولدين، الذين ولدوا من أمهات أعجميات(٤) .

وأخيراً.. فإن البعض يقول: إن قتل الحسين كان: (الكبيرة، التي هونت على الأمويين أن يقاوموا اندفاع الإيرانيين؟ إلى الدخول في الإسلام)(٥) .

وبعد هذا.. فإن من الطبيعي أن يبذل الموالي أرواحهم، ودماءهم وكل غال ونفيس في سبيل التخلص من حكم يعاملهم هذه المعاملة، وله فيهم هذه النظرة، فاعتماد الدعوة العباسية على هؤلاء كان منتظراً

____________

(١) الأغاني ج ١٤ ص ١٥٠، وضحى الإسلام ج ١ ص ٢٣، ٢٤.

(٢) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص ٤٠، ولا بأس أيضاً بمراجعة: تاريخ التمدن الإسلامي، والمجلد الأول، الجزء الثاني ص ٢٨٢، ٢٨٣.

(٣) ضحى الإسلام ج ١ ص ٢٥.

(٤) ضحى الإسلام ج ١ ص ٢٥، والعقد الفريد ج ٦ ص ١٣٠، ١٣١، طبعة ثالثة، ومجلة الهادي، السنة الثانية، العدد الأول ص ٨٩.

(٥) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٩٥.

١٦

ومتوقعاً، كما أن اندفاع هؤلاء في نصرة الدعوة العباسية كان متوقعاً، ومنتظراً أيضاً.

الخط الثالث:

إنهم ـ أعني العباسيين ـ قد حاولوا في بادئ الأمر أن يربطوا دعوتهم وثورتهم بأهل البيتعليهم‌السلام . وطبيعة البحث تفرض علينا أن نتوسع في بيان هذه النقطة بالذات وذلك لما لها من الأهمية البالغة، بالنظر لما تركته من آثار بارزة على مدى التاريخ، ولأنها كانت الناحية التي اعتمد العباسيون عليها اعتماداً كلياً، وتعتبر السبب الرئيس في وصول العباسيين إلى السلطة، وحصولهم على مقاليد الحكم.. ولهذا. فنحن نقول:

دولة بني العباس في صحيفة ابن الحنفية:

قد نقل ابن أبي الحديد(١) عن أبي جعفر الإسكافي: أنه قد صحت الرواية عندهم عن أسلافهم، وعن غيرهم من أرباب الحديث، أنه: لما مات علي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، طلب محمد بن الحنفية من أخويه: الحسن، والحسين ميراثه من العلم، فدفعا إليه صحيفة، لو أطلعاه على غيرها لهلك، وكان في هذه الصحيفة ذكر لدولة بني العباس. فصرح ابن الحنفية لعبد الله بن العباس بالأمر، وفصله له.

والظاهر أن تلك الصحيفة انتقلت منه لولده أبي هاشم، وعن طريقه وصلت إلى بني العباس. ويقال: إنها قد ضاعت منهم أثناء

____________

(١) شرح نهج البلاغة ج ٧ ص ١٤٩، ١٥٠.

١٧

حربهم مع مروان بن محمد الجعدي(١) ، آخر خلفاء الأمويين. وقد ذكرت هذه الصحيفة في كلام بني العباس، وخلفائهم كثيراً، وسيأتي لها ذكر في رسالة المأمون للعباسيين، التي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

متى بدأ العباسيون دعوتهم، وكيف؟

وبعد هذا.. فإن الشيء المهم هنا هو تحديد الزمن الذي بدأ به العباسيون دعوتهم، وكيف؟

ونستطيع أن نبادر هنا إلى القول:

إن الذين بدءوا بالدعوة أولاً هم العلويون، وبالتحديد من قبل أبي هاشم، عبد الله بن محمد الحنفية، وهو الذي نظم الدعاة، ورتبهم، وقد انضم تحت لوائه: محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ومعاوية ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، و عبد الله بن الحارث بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب، وغيرهم.. وهؤلاء الثلاثة هم الذين حضروه حين وفاته، وأطلعهم على أمر دعاته.

وقد قرأ محمد بن علي، ومعاوية بن عبد الله تلك الصحيفة، المشار إليها آنفاً، ووجد كل منهما ذكراً للجهة التي هو فيها.

ولهذا نلاحظ: أن كلاً من محمد بن علي، ومعاوية بن عبد الله، قد ادعى الوصاية من أبي هاشم، مما يدل دلالة واضحة على أنه لم يخصص أياً منهما بالوصية، وإنما عرفهما دعاته فقط.

____________

(١) شرح نهج البلاغة ج ٧ ص ١٤٩.

١٨

هذا. وبعد موت معاوية بن عبد الله، قام ابنه عبد الله يدعي الوصاية من أبيه. من أبي هاشم.. وكان له في ذلك شيعة، يقولون بإمامته سراً حتى قتل. وأما محمد بن علي فقد كان بمنتهى الحنكة والدهاء، وقد تعرف ـ كما قلنا ـ من أبي هاشم على الدعاة، واستطاع بما لديه من قوة الشخصية، وحسن الدهاء أن يسيطر عليهم، ويستقل بهم(١) ، ويبعدهم عن معاوية بن عبد الله، وعن ولده، و يبعدهما عنهم. واستمر محمد بن علي يعمل بمنتهى الحذر والسرية. وكان عليه أن:

١ ـ يحذر العلويين، الذين كانوا أقوى منه حجة، وأبعد صيتاً. بل عليه أن يستغل نفوذهم ـ إن استطاع ـ لصالحه، وصالح دعوته. ولقد فعل ذلك هو وولده كما سيتضح.

٢ ـ وكان عليه أيضاً أن يتحاشى مختلف الفئات السياسية، التي لن يكون تعامله معها في صالحه، وفي صالح دعوته.

٣ ـ والأهم من ذلك أن يصرف أنظار الحكام الأمويين عنه، وعن نشاطاته، ويضللهم، ويعمي عليهم السبل.

ولذا فقد اختار خراسان، فأرسل دعاته إليها. وأوصاهم بوصيته

____________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٠.

١٩

المشهورة، التي يقسم فيها البلاد والأمصار: هذا علوي، وذاك عثماني، وذلك غلب عليه أبو بكر وعمر، والآخر سفياني. إلى آخر ما سيأتي(١) .

وأمرهم ـ أعني الدعاة بالتحاشي عن الفاطميين، لكنه ظل هو شخصياً، ومن معه من العباسيين، الذين استنوا بسنته، وساروا من بعده بسيرته ـ ظلوا ـ يتظاهرون للعلويين بأنهم معهم، وأن دعوتهم لهم، ولم يكن إلا القليلون يعرفون بأنه: كان يدبر الأمر للعباسيين. وقد أعطى دعاته شعارات مبهمة، لا تعين أحداً، وصالحة للانطباق على كل فريق، كشعار: (الرضا من آل محمد) و(أهل البيت). ونحو ذلك.

____________

(١) ولقد بذل محمد بن علي جهداً جباراً في إنجاح الدعوة، وكانت أكثر نشاطاته في حياة والده، علي بن عبد الله، الذي يبدو أنه لم يكن له في هذا الأمر دور يذكر. وتوفي والده على ما يظهر في سنة ١١٨ ه‍. وكان قد بدأ نشاطاته، حسب ما بأيدينا من الدلائل التاريخية من سنة ١٠٠ ه‍. أي بعد وفاة أبي هاشم بسنتين. إذ في: سنة ١٠٠ ه‍. وجه محمد بن علي بن أرض الشراة ميسرة إلى العراق ووجه محمد بن خنيس، وأباً عكرمة السراج، وهو أبو محمد الصادق، وحيان العطار إلى خراسان. وفيها أيضاً جعل اثني عشر نقيباً، وأمر دعاته بالدعوة إليه، وإلى أهل بيته.

وفي سنة ١٠٢ ه‍. وجه ميسرة رسله إلى خراسان، وظهر أمر الدعوة بها وبلغ ذلك سعيد خذينة، عامل خراسان، فأرسل، وأتى بهم، واستنطقهم، ثم أخذ منهم ضمناء وأطلقهم.

وفي سنة ١٠٤ ه‍. دخل أبو محمد الصادق، وعدة من أصحابه، من أهل خراسان إلى محمد بن علي، فأراهم السفاح في خرقة، وكان قد ولد قبل خمسة عشر يوما، وقال لهم (والله، ليتمن هذا الأمر، حتى تدركوا ثأركم من عدوكم).

وفي سنة ١٠٥ ه‍. دخل بكير بن ماهان في دعوة بني هاشم. وفيها مات ميسرة، فجعل محمد بن علي بكيراً هذا مكانه في العراق..

وفي سنة ١٠٧، أو ١٠٨ ه‍ وجه بكير بن ماهان عدة من الدعاة إلى خراسان، فظفر بهم عامل خراسان، فقتلهم، ونجا منهم عمارة، فكان هو الذي أخبر محمد ابن علي بذلك. وفي سنة ١١٣ ه‍. صار جماعة من دعاة بني العباس إلى خراسان، فأخذ الجنيد بن عبد الرحمان رجلاً منهم، فقتله، وقال: (من أصيب منهم فدمه هدر).

وفي سنة ١١٧ ه‍. أخذ عامل خراسان أسد بن عبد الله وجوه دعاة بني العباس، وفيهم النقباء، ومنهم سليمان بن كثير، فقتل بعضهم، ومثل ببعضهم، وحبس آخرين. وفي سنة ١١٨ وجه بكير بن ماهان عمار بن يزيد ـ وهو خداش ـ والياً على شيعة بني العباس، فنزل مروا، ودعا إلى محمد بن علي ؛ ثم غلا..

وفي سنة ١٢٠ ه‍. وجهت شيعة بني العباس سليمان بن كثير إلى محمد بن علي في أمر خداش. وفي سنة ١٢٤ ه‍. قدم جماعة من شيعة بني العباس الكوفة يريدون مكة. وفيها أيضاً اشترى بكير بن ماهان أبا مسلم. راجع في ذلك كله: تاريخ الطبري مطبعة الاستقامة ج ٥ ص: ٣١٦، ٣٥٨، ٣٦٨، ٣٨٧، ٣٨٩، ٤٢٥، ٤٣٩، ٤٤٠، ٤٦٧، ٥١٢، وغير ذلك من كتب التاريخ.

٢٠