الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)0%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر مرتضى الحسيني العاملي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 177165
تحميل: 5941

توضيحات:

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177165 / تحميل: 5941
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هي قضية مصير:

وبأوضح بيان نقول: إنه لم يكن امتناع الإمامعليه‌السلام عن قبول ولاية العهد بالذي يثني المأمون عما كان قد عقد العزم عليه، لأن الأسباب التي كانت تدعوه لذلك لم تكن تسمح له أبداً بالإصغاء لهذا الرفض، فهي تحتم عليه أن يفعل ذلك، مهما كلفه الأمر، ومهما كانت النتائج، ولم يكن لديه مانع من تنفيذ تهديداته، ولو علم أنه لا سبيل إلى تنفيذ ما يصبو إليه، والحصول على ما يريد الحصول عليه، والقضية بالنسبة إليه هو المتعطش إلى الحكم والسلطة قضية مصير ومستقبل، لا يمكن المساومة معها، ولا مجال لغض النظر والتساهل فيها..

وإذا كان قد قتل أخاه من أجل الملك وفي سبيله، فأي مانع يمنعه من قتل الرضاعليه‌السلام من أجل الملك أيضاً، وفي سبيله.. أم يعقل أن يكون الرضا أعز عليه من أخيه، وسائر من قتل من وزرائه هو، وقواده، وأشياعه؟!؟.

ولسوف لا نستغرب على المأمون ـ بعد قتله أخاه ـ الإقدام على أي تصرف في سبيل الملك، حتى الإقدام على قتل الرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان أبوه الرشيد قد أملى عليه درس، (الملك عقيم)، وقال له: (والله، لو نازعتني أنت هذا الأمر، لأخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم..)(١) .

____________

(١) شرح ميمية أبي فراس ص ٧٣، والبحار ج ٤٨ ص ١٣١، وقاموس الرجال ج ١٠ صرح ٣٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٩١، وينابيع المودة ص ٣٨٣، مع بعض تحريف لها، وغير ذلك..

٢٦١

ولم يكن ليخفى عليه أيضاً قول موسى بن عيسى، عندما رأى عبادة الحسين بن علي وأصحابه، في وقعة فخ: (.. هم والله، أكرم عند الله، وأحق بما في أيدينا منا، ولكن الملك عقيم. ولو أن صاحب هذا القبر ـ يعني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ، نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف.)(١) .

والمنصور أيضاً قد قرر هذه القاعدة بالذات حينما اعترض عليه سليمان بن مهران، وهذا الدرس قد أخذه الكل عن عبد الملك بن مروان، فإنه عندما قتل مصعب بن الزبير بكى، وقال: (لقد كان أحب الناس إلي، وأشدهم مودة لي، ولكن الملك عقيم، ليس أحد يريده من ولد ولا والد إلا كان السيف)(٢) .

بل وحتى نفس أخيه الأمين، عندما لم يعد له نجاة من براثن أخيه المأمون، نراه يتذكر هذه القاعدة، فيقول: (هيهات، الملك عقيم، لا رحم له..)(٣) .

ولقد عمل المأمون بهذه القاعدة، فقتل أخاه، وأعطى الذي جاءه برأسه مليون درهم. بعد أن سجد شكراً لله، ونصب الرأس على خشبة ليلعنه الناس، إلى آخر ما مر تفصيله..

وإذا كانت القضية بالنسبة إلى المأمون قضية مصير ومستقبل وقضية ملك وسلطان، فطبيعي إذن أن نراه يخاطر بالخلافة (وإن كنا قدمنا أن ذلك كان منه سياسة ودهاء من أجل التمهيد لفرض ولاية العهد)، وأقدم على التخلي عن ولاية العهد، مع أن العباس ابنه وسائر ولده كانوا أحب إلى قلبه، وأجلى في عينه من كل أحد، على حد تعبيره في رسالته للعباسيين.

ولقد قدمنا الشرح الكافي والوافي لحقيقة الظروف والأسباب، التي دعت المأمون إلى ذلك، والتي هي دون شك كافية لأن تجعل المأمون يقدم على أي عمل ـ ولو كان انتحاريا ـ من أجل إنقاذ نفسه وخلافته، والعباسيين.. حتى ولو كان ذلك الشيء هو قتل الإمامعليه‌السلام .. ولقد أخبر الإمام كرات، ومرات: أنه لم يقبل إلا بعد أن أشرف من المأمون على الهلاك.

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٤٥٣، وثمرات الأعواد ١٩٩، ٢٠٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ٧٤.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٣ ص ٢٩٦، وطبقات ابن سعد ج ٥ ص ١٦٨، والبداية والنهاية ج ٨ ص ٣١٦.

(٣) تتمة المنتهى ص ١٨٥.

٢٦٢

مبررات قبول الإمام لولاية العهد:

ولقد قبل الإمامعليه‌السلام ولاية العهد. ولكن.. بعد أن عرف أن ثمن رفضه لها لن يكون غير نفسه التي بين جنبيه. هذا عدا عما سوف يتبع ذلك من تعرض العلويين، وكل من يتشيع لهم إلى أخطار هم في غنى عنها.. ولو فرض أنه كان له هوعليه‌السلام الحق ـ في مثل هذه الظروف ـ في أن يعرض نفسه للهلاك، فلن يكون له حق أبداً في أن يعرض غيره من شيعته ومحبيه، والعلويين أجمع إلى الهلاك أيضاً..

هذا.. عدا عن أنهعليه‌السلام كان عليه أن يحتفظ بحياته، وحياة شيعته ومحبيه، لأن الأمة كانت بأمس الحاجة إلى وعيهم وإدراكهم، ليكونوا لها قدوة ومناراً، تهتدي، وتقتدي به، في حالكات المشاكل، وظلم الشبهات.

نعم.. لقد كانت الأمة بأمس الحاجة إلى الإمامعليه‌السلام ، وإلى من رباهم الإمام، حيث كان قد غزاها في ذلك الوقت تيار فكري، وثقافي غريب، من الزندقة والإلحاد، وشاعت فيها الفلسفات والتشكيكات بالمبادئ الإلهية الحقة، فكان على الإمامعليه‌السلام أن يقف. ويقوم بواجبه، وينقذ الأمة، ولقد كان ذلك منه بالفعل، فلقد قام بواجبه، وأدى ما عليه، على أكمل وجه، رغم قصر المدة التي عاشها بعد البيعة نسبياً، ولهذا نقرأ في الزيارة الجوادية،((.. السلام على من كسرت له وسادة والده أمير المؤمنين، حتى خصم أهل الكتب، وثبت قواعد الدين..)) (١) .

والمراد بذلك: الإمام الرضاعليه‌السلام .

ولو أنهعليه‌السلام رفض ولاية العهد، وعرض نفسه، وشيعته، ومحبيه للهلاك فلسوف لا يكون لموته، وموتهم أدنى أثر في هذا السبيل، بل كان الأثر عكسياً، وخطيراً جداً..

أضف إلى ذلك: أن قبول الإمام بولاية العهد، معناه اعتراف من العباسيين عملاً، مضافاً إلى القول: بأن العلويين لهم حق في هذا الأمر، بل إنهم هم الأحق فيه، وأن الناس قد ظلموهم حقهم هذا. وأن ظلم الناس لهم ليس معناه عدم ثبوت ذلك الحق لهم.

____________

(١) البحار ج ١٠٢ ص ٥٣.

٢٦٣

وقد رأينا ابن المعتز يهتم في الاستدلال على أن جعل المأمون الرضا ولياً للعهد، لا يعني أن الحق في الخلافة كان للرضا والعلويين، دون المأمون والعباسيين. وأنه إنما أعطاهم عن طريق التقوى والورع، وليثبت لهم أن الخلافة التي ثاروا من أجل الوصول إليها وقتلوا أنفسهم في سبيلها لا تساوي عنده جناح بعوضه، فهو يقول:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـذي قـد حرصتم

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غير مكثر

كما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

فمات الرضا من بعد ما قد علمتم

ولاذت بنا من بعده مرة أخرى(١)

وأيضاً.. حتى لا يتناساهم الناس، ويقطعوا آمالهم بهم، وحتى لا يصدق الناس ما يشاع عنهم من أنهم مجرد علماء فقهاء، لا يهمهم العمل لما فيه خير الأمة، ولا يفكرون في الخروج إلى المجتمع بصفتهم رواد صلاح وإصلاح ولعل إلى ذلك كله، يشير الإمامعليه‌السلام في قوله لمحمد ابن عرفة، عندما سأله عن قبوله بولاية العهد، فقال له: (يا ابن رسول الله، ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟!).. فأجابه الإمامعليه‌السلام :((ما حمل جدي على الدخول في الشورى..)) (٢) .

هذا بالإضافة إلى أنه يكون في فترة ولاية العهد قد أظهر المأمون على حقيقته أمام الملأ، وعرفهم بواقع وأهداف كل ما أقدم عليه، وأزال كل شبهة ولبس في ذلك. كما قد حدث ذلك بالفعل.

هل الإمام راغب في هذا الأمر:

ولكن هذا كله وسواه، لا يعني أن الإمامعليه‌السلام كان راغباً في أي من الخلافة، أو ولاية العهد، فإن ما ذكرناه لا يبرر ذلك، حيث إنه لا يعدو عن أن يكون من الفوائد التي كان لا يمكن الحصول على بعضها

____________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٦٥، وديوان ابن المعتز ص ٢٢ ـ ٢٣ وإن اهتمام ابن المعتز الواضح بقضية الرضا مع المأمون، كما يظهر من شعره هنا، والذي قدمناه مع التعليق عليه في فصل: ظروف البيعة.. يدلنا على أن هذه القضية كان لها في الأمة صدي واسعاً، وآثاراً هامة، لم يكن بوسع ابن المعتز التغاضي عنها، والسكوت عليها.

(٢) راجع: مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٤، ومعادن الحكمة ص ١٩٢، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٤٠ ١٤١.

٢٦٤

من دون الدخول في هذا الأمر. والبعض الآخر لا يساوي في أهميته وخطره، ما سوف يجره الدخول في هذا الأمر من مآس ومشاكل، وما سوف يترتب عليه من آثار سيئة وخطيرة.

وقد قدمنا في الفصل السابق البيان الكافي والوافي، لما سوف يعترض طريق الإمامعليه‌السلام من عقبات في الحكم، لو أنه كان قبل عرض الخلافة، وكيف ستكون النهاية له، ولنظام حكمه..

وهو يوضح لنا أيضاً حقيقة حاله، ونظام حكمه لو أنه قبل ولاية العهد، إذ أنهعليه‌السلام كان يعلم: أن وصوله للخلافة، وتسلمه لازمة الحكم والسلطان تعترضه عقبات صعبة، وأهوال عظيمة، لن يكون من اليسير التغلب عليها، وتجاوزها.

فلقد كان يعلم ـ كما أظهرت الأحداث والوقائع بعد ذلك ـ أنه لن يسلم من دسائس المأمون وأشياعه، بحيث يبقى محتفظا بحياته، أو على الأقل بمركزه، إلى ما بعد وفاة المأمون، ولم يكن يشك في أن المأمون سوف يقدم على كل غريبة، من أجل التخلص منه، وتصفيته، إن جسدياً، وإن معنوياً..

بل.. وحتى لو أن المأمون لم يقدم على أي عمل، فإن آماله بالبقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون، وهو بهذه السن المتقدمة، بالنسبة لسن المأمون.. كانت ضعيفة جداً، لا تبرر له الإقدام على قبول مثل هذا الأمر، إلا إذا كان يريد أن يعطي الناس انطباعاً عن نفسه، بأنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت، كما كان يريد المأمون!!

ومع غض النظر عن كل ذلك.. فإنه لو قدر له البقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون، فلسوف يصطدم بتلك العناصر القوية ذات النفوذ، والتي لن ترضى عن سلوكه في الحكم بصورة عامة، وفوق ذلك كله، لسوف يصطدم بمؤامرات العباسيين، وأشياعهم، والذين كانوا على استعداد لأن يعملوا المستحيل للحيلولة بينه وبين ذلك، ولو تمكن من ذلك، فلسوف لا يدخرون وسعا، ويجندون كل ما لديهم من طاقة وقوة وحول، من أجل زعزعة حكمه، وتقويض سلطانه، وخلق المشاكل الكثيرة له، لتضاف إلى ذلك الركام الهائل من المشاكل التي كانت تواجه الحكم.

إنهم سوف لا يمكنونه من قيادة الأمة قيادة صالحة، وسليمة وحكيمة، وليمنى ـ من ثم ـ بالفشل الذريع، والخيبة، القاتلة.

ولسوف يجدون هناك مرتعا خصبا لمؤامراتهم، ودسائسهم في تلك الدولة المترامية الأطراف، الطافحة بالمشاكل، وذلك عندما يجدون أن الإمامعليه‌السلام لن يرضى إلا أن يحكم بحكم جديه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليعليه‌السلام .

٢٦٥

وأن الناس بمختلف فئاتهم وطبقاتهم سوف لا يكونون مستعدين لتقبل حكم كهذا. ولا أن ينقادوا لحاكم يريد منهم ذلك، ويخضعوا لإرادته، بعد أن كانوا قد اعتادوا على حياة الخلفاء الأمويين، والعباسيين، المليئة بالانحرافات والموبقات.

اللهم إلا أن يقوم الإمامعليه‌السلام في فترة ولاية العهد، أو بداية حكمه بإعداد مسبق، وتعبئة عامة وشاملة، على جميع المستويات، وفي مختلف المجالات.. وإلا.. فلسوف لا يكون قادراً على مواجهة ذلك الركام الهائل من المشاكل، ولا على النجاح والاستمرار في الحكم.. ولن يفسح العباسيون، والمأمون، وأشياعهم له المجال للقيام بذلك الإعداد، وتلك التعبئة، مهما كلفهم ذلك من تضحيات.

فالسلبية إذن هي الموقف الصحيح:

وبعد كل ما تقدم: فإن من الطبيعي أن لا يفكر الإمامعليه‌السلام في الوصول إلى الحكم عن مثل هذا الطريق الملتوي، والمحفوف بالأخطار، والذي لم يحقق له أي هدف من أهدافه. بل على العكس: سوف يكون موجباً للقضاء عليه، وعلى كل آماله، وكل العلويين، والمتشيعين لهم، ويحقق فقط آمال الآخرين، وأهدافهم.. ولسوف يكون إقدامه على عمل من هذا النوع عملاً انتحارياً، لا مبرر له، ولا منطق يساعده.

لا بد من خطة لمواجهة الموقف:

وأخيراً.. وإذا كان لم يكن الرضاعليه‌السلام خيار في قبول ولاية العهد.. وإذا كان لا يمكن أن يقبل بأن يجعل وسيلة لتحقيق أهداف، وآلة يتوصل بها إلى مآرب يمقتها، ويكرهها كل الكره، لعلمه بما سوف يكون لها من آثار سيئة وخطيرة، على حاضر الأمة، ومستقبلها، وعلى مستقبل هذا الدين، وكذلك لا يمكنه أن يسكت، ويظهر بمظهر الموافق، والمؤيد، والمساعد.

فإن كل ما يمكن له أن يفعله ـ بعد هذا ـ هو أن يضع خطة، يستطيع بها مواجهة مؤامرات المأمون، وإحباط مخططاته، حتى لا يزداد الوضع سوءا، والطين بلة..

فإلى الحديث عن خطته هذه في الفصل التالي.

٢٦٦

خطة الإمامعليه‌السلام

انحراف الحكام:

إن أدنى مراجعة لتاريخ الحكام آنذاك ـ العباسيين والأمويين على حد سواء ـ لكفيلة بأن تظهر بجلاء مدى منافاة تصرفات أولئك الحكام، وسلوكهم، وحياتهم لمبادئ الإسلام وتعاليمه.. الإسلام، الذي كانوا يستطيلون على الناس به، ويحكمون الأمة ـ حسب ما يدعون ـ باسمه، وفي ظله. حتى لقد أصبح الناس، والناس على دين ملوكهم، يتأثرون بذلك، ويفهمون خطأ: أن الإسلام لا يبتعد كثيراً عما يرون، ويشاهدون، مما كان من نتائجه شيوع الانحراف عن الخط الإسلامي القويم. بنحو واسع النطاق، ليس من السهل بعد السيطرة عليه، أو الوقوف في وجهه.

العلماء المزيفون وعقيدة الجبر:

ولقد ساعد على ذلك، وزاد الطين بلة، فريق من أولئك الذين اشتريت ضمائرهم، ممن يتسمون، أو بالأحرى سماهم الحكام بـ‍ (العلماء) حيث إنهم قاموا يتلاعبون بمفاهيم الإسلام، وتعاليمه، لتوافق هوى، وتخدم مصالح أولئك الحكام المنحرفين، الذين أغدقوا عليهم المال، وغمروهم بالنعمة.

حتى إن أولئك المأجورين قد جعلوا عقيدة الجبر ـ الواضح لكل أحد زيفها وسخفها ـ من العقائد الدينية الإسلامية!.، من أجل أن يسهلوا على أولئك الحكام استغلال الناس، ولكي يوفروا لهم حماية لتصرفاتهم تلك. التي يندى لها جبين الإنسان الحر ألماً وخجلاً، إذ أنهم يكونون بذلك قد جعلوا كل ما يصدر منهم هو بقضاء من الله وقدره، ولذا فليس لأحد الحق في أن ينكر عليهم أي تصرف من تصرفاتهم، أو أي جناية من جناياتهم.

وكان قد مضى على ترويجهم هذه العقيدة المبتدعة ـ حتى زمان المأمون ـ أكثر من قرن ونصفاً، أي من أول خلافة معاوية، بل وحتى قبل ذلك أيضاً. بزمان طويل!

عقيدة الخروج على سلاطين الجور:

كما أنهم ـ أعني هؤلاء العلماء ـ قد جعلوا الخروج على سلاطين الجور والفساد موبقة من الموبقات، وعظيمة من العظائم..

٢٦٧

وقد جرحوا بذلك عدد من كبار العلماء: مثل الإمام أبي حنيفة وغيره، بحجة أنه: (يرى السيف في أمة محمد)(١) .

بل لقد جعلوا عدم جواز الخروج هذا من جملة العقائد الدينية، كما يظهر من تتبع كلماتهم(٢) .

وأما عقائد التشبيه، وقضية خلق القرآن، فلعلها أشهر من أن تذكر، أو تحتاج إلى بيان.

والذي زاد الطين بلة:

يضاف إلى ذلك كله غرور الحكام، الذي لا مبرر له، وكذلك من لف لفهم، الذين كانوا يحكمون الأمة باسم الدين.

وكذلك غفلة الناس، وعدم إدراكهم لحقيقة ما يجري وما يحدث، وللواقع المزري، الذي كان قائماً آنذاك.

وأيضاً.. وهو الأهم من كل ذلك ـ ابتعادهم، بسعي من الهيئات الحاكمة، عن أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة.

____________

(١) راجع: نظرية الإمامة، للدكتور أحمد محمود صبحي وغيره.

وفي تاريخ بغداد ج ٥ ص ٢٧٤،: أنه قيل لأبي مسهر: كيف لم تكتب عن محمد بن راشد؟! قال: (كان يرى الخروج على الأئمة).. وفي طبقات الحنابلة لأبي يعلى ج ٣ ص ٥٨، في مقام ترجيح سفيان على حسن بن حي، كان من جملة ما جرحه به أنه: (كان يرى السيف) ومثل ذلك كثير لا نرى حاجة لاستقصائه.

(٢) حسبما صرح به أحمد بن حنبل في رسالة (السنة) وهي عقايد أهل الحديث، والسنة. وقد أوردها أبو يعلى في طبقات الحنابلة ج ١ ص ٢٦. وصرح بذلك أيضاً الأشعري في مقالات الإسلاميين ج ١ ص ٣٢٣، وفي الإبانة ص ٩. وقد علل ذلك في نظرية الإمامة ص ٤١٧بقوله : (.. ذلك أنها: إن كانت بلوى من الله عقابا لهم، فما ثورتهم برادة عقاب الله. وإن كانت محنة للمسلمين، فما هم برادي قضاء الله)!. وفي كتاب السنة قبل التدوين ص ٤٦٧، نقل عن ابن خزيمة، في وصفه الطاعنين على أبي هريرة، قوله: إنهم إما معطل جهمي.. (وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد، أو قدري، اعتزل الإسلام، وأهله الخ.).

٢٦٨

كل ذلك.. قد أدى بالفعل إلى انحلال الدولة داخليا، وتمزيق أوصالها.. كما وأنه قد أسهم إسهاماً كبيراً في إبعاد الناس عن تعاليم السماء، وشريعة الله.. الأمر الذي لم يكن يعني إلا نهاية الحكم الإسلامي، وردة الناس إلى الجاهلية الجهلاء.. الأمر الذي لم يكن يرهب الحكام كثيراً، لأن الإسلام الذي يريدون، والدين الذي ينشدون، هو ذلك الذي يستطيعون أن يتسلطوا على الأمة، ويستأثروا بقدراتها وإمكاناتها في ظله. ويمهد لهم السبيل لاستمرارهم في فرض نفوذهم وسيطرتهم، ولو كان ذلك على حساب جميع الشرائع السماوية، وكل المفاهيم الإنسانية.

إن أولئك الحكام. ما كانوا يفكرون إلا في وسائل بقائهم واستمرارهم في الحكم، وإلا في شؤونهم ومصالحهم الخاصة بهم. أما الأمة المسلمة، وأما الإسلام، فلم يكن لهما لديهم أية قيمة، أو شأن يذكر، إلا في حدود ما يستطيعون الإفادة منهما في بقائهم ووجودهم في الحكم والسلطة.

الأئمة في مواجهة مسؤولياتهم:

وفي هذا الوسط الغريب: من غفلة الناس، ومن سيرة الحكام، والمتسمين بالعلماء وسلوكهم.. كان الأئمةعليهم‌السلام يؤدون واجبهم في نشر تعاليم السماء، ويكافحون، وينافحون عنها، بقدر ما كانت تسمح لهم ظروفهم، التي كانت في ظل سلطان أولئك المنحرفين قاسية إلى حد بعيد.

وأما عن الإمام الرضا بالذات:

وقد سنحت للإمام الرضاعليه‌السلام فرصة لفترة وجيزة، كان الحكام منشغلين فيها بأمور تهمهم.. للقيام بواجبه في توعية الأمة، وتعريفها بتعاليم الإسلام. وذلك في الفترة التي تلت وفاة الرشيد، وحتى قتل الأمين. بل نستطيع أن نقول: إنها امتدت ـ ولو بشكل محدود ـ حتى وفاة الإمامعليه‌السلام في سنة (٢٠٣). الأمر الذي كان من نتيجته ازدياد

نفوذهعليه‌السلام ، واتساع قاعدته الشعبية، حتى لقد كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان هو الأرضى في الخاصة والعامة، حسبما ألمحنا إليه من قبل.

الخطة الحكيمة:

وعندما أراد المأمون أن ينفذ خطته في البيعة له بولاية العهد، وعرف الرضا: أن لا مناص له من قبول ذلك، كان من الطبيعي أن يعدعليه‌السلام العدة، ويضع خطة لمواجهة خطط المأمون، وإحباط أهدافه الشريرة، والتي كان أهونها القضاء على سمعة الإمامعليه‌السلام ، وتحطيمه معنوياً واجتماعياً.

٢٦٩

ولقد كانت خطة الإمام هذه في منتهى الدقة والإحكام، وقد نجحت أيما نجاح في إفشال المؤامرة وتضييع كثير من أهدافها، وجعل الأمور في صالح الإمامعليه‌السلام ، وفي ضرر المأمون.. حتى لقد ضاع رشد المأمون (بل ورشد أشياعه أيضاً)، وهو أفعى الدهاء والسياسة، ولم يعد يدري ما يصنع، ولا كيف يتصرف..

مواقف لم يكن يتوقعها المأمون:

ولعلنا نستطيع أن نسجل هنا بعض المواقف للإمامعليه‌السلام ، التي لم يكن المأمون قد حسب لها حسابا، والتي كانت ضمن خطة الإمامعليه‌السلام في مواجهة مؤامرات المأمون..

الموقف الأول:

إننا نلاحظ أن الإمامعليه‌السلام قد رفض دعوة المأمون، وهو في المدينة

ولم يقبل إلا بعد أن علم أنه لا يكف عنه.. بل إن بعض النصوص تشير إلى أنه قد حمل إلى مرو بالرغم عنه، لا باختياره..

وما ذلك إلا ليعلم المأمون: أن حيلته لم تكن لتجوز عليه، وأنهعليه‌السلام على علم تام بأبعاد مؤامرته وأهدافها.. كما أنه بذلك يثير شكوك الناس وظنونهم حول طبيعة هذا الحدث، وسلامة النوايا فيه.

الموقف الثاني:

إنه رغم أن المأمون كان قد طلب من الإمامعليه‌السلام ـ وهو في المدينة ـ أن يصطحب معه من أحب من أهل بيته في سفره إلى مرو.

إنه رغم ذلك.. نلاحظ: أنهعليه‌السلام لم يصطحب معه حتى ولده الوحيد الإمام الجوادعليه‌السلام ، مع علمه بطول المدة، التي سوف يقضيها في هذا السفر، الذي سوف يتقلد فيه زعامة الأمة الإسلامية، حسب ما يقوله المأمون.. بل مع علمه بأنه سوف لن يعود من سفره ذاك، كما تؤكد عليه كثير من النصوص التاريخية.

شكوك لها مبرراتها:

ونرى أننا مضطرون للشك في نوايا المأمون وأهدافه من وراء طلبه هذا (أن يصطحب الإمامعليه‌السلام من شاء من أهل بيته إلى مرو).

٢٧٠

بعد أن رأينا: أنه لم يرجع أحد ممن ذهب مع محمد بن جعفر إلى مرو، ولا رجع محمد بن جعفر نفسه، ولا رجع محمد بن محمد بن زيد، ولا غير هؤلاء، كما سيأتي بيانه في الفصل التالي وغيره..

فلعل الإمامعليه‌السلام بل إن ذلك هو المؤكد، الذي تدل عليه تصريحاته وتصرفاته حيث تأهب للسفر ـ لعله ـ قد ظن لنوايا المأمون هذه، فضيع الفرصة عليه، وأعاد كيده إليه..

الموقف الثالث:

سلوكه في الطريق، كما وصفه رجاء بن أبي الضحاك(١) ، حتى اضطر المأمون لأن يظهر على حقيقته، ويطلب من رجاء هذا: أن لا يذكر ما شاهده منه لأحد، بحجة أنه لا يريد أن يظهر فضله إلا على لسانه(٢) ، ولكننا لم نره يظهر فضله هذا، حتى ولو مرة واحدة، فلم يدع أحد أنه سمع شيئاً من المأمون عن سلوك الإمامعليه‌السلام ، وهو في طريقه إلى مرو. وأما رجاء، فلعله لم يحدث بذلك إلا بعد أن لم يعد في ذلك ضرر على المأمون، وبعد أن ارتفعت الموانع، وقضي الأمر.

الموقف الرابع:

موقفه في نيشابور، الذي لم يكن أبداً من المصادفة. كما لم يكن ذكره للسلسلة التي يروي عنها من المصادفة أيضاً، حيث أبلغ الناس في ذلك الموقف، الذي كانت تزدحم فيه أقدام عشرات بل مئات الألوف(٣) ـ أبلغهم ـ:((كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل

____________

(١) راجع: البحار ج ٤٩ من ص ٩١ حتى ٩٥، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨١ فما بعدها: وهو كلام معروف لا نرى أننا بحاجة لتكثير مصادره هنا.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ٩٥، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٣.

(٣) وذلك يدل على مدى تعاطف الناس مع أهل البيت، ومحبتهم لهم. الأمر الذي كان يرعب المأمون ويخيفه. حتى لقد كان يحاول كبت عواطف الناس هذه، وهذا هو السبب في منع الإمام من المرور عن طريق الكوفة وقم، كما سيأتي.

٢٧١

حصني أمن من عذابي)) (١) .

هذه الكلمة.. التي عد أهل المحابر والدوي، الذين كانوا يكتبونها، فأنافوا على العشرين ألفاً.. هذا على قلة من كانوا يعرفون القراءة والكتابة آنذاك، وعدا عمن سواهم ممن شهد ذلك الموقف العظيم..

(.. ونلاحظ: أنهعليه‌السلام ـ في هذا الظرف ـ لم يحدثهم عن مسألة فرعية، ترتبط ببعض مجالات الحياة: كالصوم، والصلاة، وما شاكل. ولم يلق عليهم موعظة تزهدهم في الدنيا، وترغبهم في الآخرة، كما كان شأن العلماء آنذاك.

كما أنه لم يحاول أن يستغل الموقف لأهداف شخصية، أو سياسية، كما جرت عادة الآخرين في مثل هذه المواقف.. مع أنه يتوجه إلى مرو، ليواجه أخطر محنة تحدد وجوده، وتهدد العلويين، ومن ثم الأمة بأسرها.

وإنما كلم الناس باعتباره القائد الحقيقي، الذي يفترض فيه: أن يوجه الناس ـ في ذلك الظرف بالذات ـ إلى أهم مسألة ترتبط بحياتهم، ووجودهم، إن حاضراً، وإن مستقبلاً، ألا وهي مسألة:

التوحيد.. التوحيد: الذي هو في الواقع الأساس للحياة الفضلى، بمختلف جوانبها، وإليه تنتهي، وعلى وبه تقوم..

التوحيد: الذي ينجي كل الأمم من كل عناء وشقاء وبلاء. والذي إذا فقده الإنسان، فإنه يفقد كل شيء في الحياة حتى نفسه..

مدى ارتباط مسألة الولاية بمسألة التوحيد:

هذا.. ولأنه قد يكون الكثيرون ممن شهدوا ذلك الموقف لم يتهيأ لهم سماع كلمة الإمامعليه‌السلام ، لانشغالهم مع بعضهم بأحاديث خاصة، أو لتوجههم لأمور جانبية أخرى، كما يحدث ذلك كثيراً في مناسبات كهذه..

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه القضية في فصل: (شخصية الإمام الرضا) فمن أراد فليراجع.

٢٧٢

نرى الإمامعليه‌السلام يتصرف بنحو آخر، حيث إنه عندما سارت به الناقة، وفي حين كانت أنظار الناس كلهم. وقلوبهم مشدودة إليها.. نراه يخرج رأسه من العمارية، فيسترعي ذلك انتباه الناس، الذين لم يكونوا يترقبون ذلك منه. ثم يملي عليهم ـ وهم يلتقطون أنفاسهم، ليستمعوا إلى ما يقول ـ كلمته الخالدة الأخرى:((بشروطها، وأنا من شروطها)) .

لقد أملى الإمامعليه‌السلام كلمته هذه عليهم، وهو مفارق لهم، لتبقى الذكرى الغالية، التي لا بد وأن يبقى لها عميق الأثر في نفوسهم(١) .

لقد أبلغهمعليه‌السلام مسألة أساسية أخرى، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتوحيد، ألا وهي مسألة: (الولاية).

وهي مسألة بالغة الأهمية، بالنسبة لأمة تريد أن تحيا الحياة الفضلى، وتنعم بالعيش الكريم، إذ ما دامت مسألة القيادة الحكيمة. والعادلة، والواعية لكل ظروف الحياة. وشؤونها، ومشاكلها ـ ما دامت هذه

____________

(١) ويلاحظ: أن هذه الكلمة قد صيغت بنحو لا بد معه من الرجوع إلى الكلمة الأولى، ومعرفتها.

وبعد.. فما أشبه موقفهعليه‌السلام هنا بموقف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غدير خم، حيث إنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أيضاً قد أبلغ المسلمين مسألة الولاية، في ذلك الموقف الحاشد، وفي المكان الذي لا بد فيه من تفرق الناس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذهاب كل منهم إلى بلده، ولعل إرجاع المتقدمين، وحبس المتأخرين يشبهها إخراج الإمامعليه‌السلام رأسه من العمارية..

يضاف إلى ذلك: أن موقفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان آخر مواقفه العامة في حياته إلى آخر ما هنالك من وجوه الشبه بين الواقعتين.

ولعلنا نجد تشابهاً بين هذه الواقعة، وبين قضية إرجاع أبي بكر عن تبليغ آيات سورة براءة، ثم إرسال علي مكانه..

٢٧٣

المسألة ـ لم تحل، فلسوف لا يمكن إلا أن يبقى العالم يرزح تحت حكم الظلمة والطواغيت، والذين يجعلون لأنفسهم صلاحيات التقنين والتشريع الخاصة بالله، ويحكمون بغير ما أنزل الله، وليبقى العالم ـ من ثم ـ يعني الشقاء والبلاء، ويعيش في متاهات الجهل، والحيرة، والضياع..(١) .

وإننا إذا ما أدركنا بعمق مدى ارتباط مسألة: (الولاية) بمسألة (التوحيد) فلسوف نعرف: أن قولهعليه‌السلام :((وأنا من شروطها)) لم تمله عليه مصلحته الخاصة، ولا قضاياه الشخصية..

ولسوف ندرك أيضاً: الهدف الذي من أجله ذكر الإمامعليه‌السلام سلسلة سند الرواية، الأمر الذي ما عهدناه، ولا ألفناه منهمعليهم‌السلام . إلا في حالات نادرة، فإنهعليه‌السلام قد أراد أن ينبه بذلك على مدى ارتباط مسألة القيادة للأمة بالمبدأ الأعلى..

الإمام ولي الأمر من قبل الله، لا من قبل المأمون:

وعدا عن ذلك كله.. فإننا نجد أن الإمامعليه‌السلام ، حتى في هذا الموقف، قد اهتبل الفرصة، وأبلغ ذلك الحشد الذي يضم عشرات بل مئات الألوف: أنه الإمام للمسلمين جميعاً، والمفترض الطاعة عليهم، على حد تعبير القندوزي الحنفي، وغيره وذلك عندما قال لهم:((وأنا من شروطها)) .

وبذلك يكون قد ضيع على المأمون أعظم هدف كان يرمي إليه من استقدام الإمامعليه‌السلام إلى مرو. ألا وهو: الحصول على اعتراف بشرعية خلافته، وخلافة بني أبيه العباسيين.

إذ أنه قد بين للملأ بقوله:((وأنا من شروطها)) أنه هو بنفسه من شروط كلمة التوحيد، لا من جهة أنه ولي الأمر من قبل المأمون، أو سيكون ولي الأمر أو العهد من قبله، وإنما لأن الله تعالى جعله من شروطها.

____________

(١) قد استرشدنا في بعض ما ذكرناه بما ذكره الأستاذ علي غفوري، في كتابه: (ياد بود هشتمين إمام) (فارسي).

٢٧٤

وقد أكدعليه‌السلام على هذا المعنى كثيراً، وفي مناسبات مختلفة، حتى للمأمون نفسه في وثيقة العهد كما سيأتي، وأيضاً في الكتاب الجامع لأصول الإسلام والأحكام، الذي طلبه منه المأمون، حيث كتب فيه أسماء الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ، مع أن عدداً منهم لم يكونوا قد ولدوا بعد، كما أنه ذكر أسماءهم في احتجاجه على العلماء والمأمون في بعض مجالسهم العلمية، وفي غير ذلك من مواقفه الكثيرةعليه‌السلام .

الإمام يبلغ عقيدته لجميع الفئات:

وأخيراً.. لا بد لنا في نهاية حديثنا عن هذا الموقف التاريخي من الإشارة إلى أنه كان من الطبيعي أن يضم ذلك الحشد العظيم، الذي يقدر بعشرات. بل بمئات الألوف:

١ ـ حشداً من أهل الحديث وأتباعهم، الذين جعلوا صلحاً جديداً بين الخلفاء الثلاثة، وبين عليعليه‌السلام في معتقداتهم، بشرط أن يكون هو الرابع في الخلافة والفضل. ولفقوا من الأحاديث في ذلك ما شاءت لهم قرائحهم، حتى جعلوه إذا سمع ذكراً لأبي بكر يبكي حباً، ويمسح عينيه ببرده(١) .

وجعلوه أيضاً ضراباً للحدود بين يدي الثلاثة: أبي بكر، وعمر،

____________

(١) تاريخ الخلفاء ص ١٢٠، وغيره.

٢٧٥

وعثمان(١) ، كما تنبأ هو نفسهعليه‌السلام بذلك(٢) . إلى غير ذلك مما لا يكاد يخفى على الناظر البصير، والناقد الخبير..

٢ ـ وحشداً من أهل الإرجاء، الذين ما كانوا يقيمون وزناً لعلي، وعثمان. بل كانت المرجئة الأولى لا يشهدون لهما بإيمان، ولا بكفر..

٣ ـ وأيضاً.. أن يضم حشداً من أهل الاعتزال، الذين أحاطوا بالمأمون، بل ويعد هو منهم، والذين تدرجوا في القول بفضل عليعليه‌السلام حسبما اقتضته مذاهبهم ومشاربهم، فقد كان مؤسسا نحلة الاعتزال: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، لا يحكمان بتصويبه في وقعة الجمل مثلاً، ولكن أتباعهما تدرجوا على مر الزمان في القول بفضله، فقد شكك أبو الهذيل العلاف في أفضليته على أبي بكر، أو القول بتساويهما في الفضل.

ولكن رئيس معتزلة بغداد: بشر بن المعتمر، قد جزم بأفضليته على الخلفاء الثلاثة، ولكنه قال بصحة خلافتهم.. وقد تبعه جميع معتزلة بغداد، وكثير من البصريين.

وإذا كان ذلك الحشد الهائل يضم كل هؤلاء. وغيرهم ممن لم نذكرهم.. فمن الطبيعي أن تكون كلمة الإمام هذه:((وأنا من شروطها)) ضربة موفقة ودامغة لكل هؤلاء، وإقامة للحجة عليهم جميعا. على اختلاف أهوائهم، ومذاهبهم..

ويكون قد بلغ بهذه الكلمة:((وأنا..)) صريح عقيدته، وعقيدة آبائه الطاهرين عليهم‌السلام في أعظم مسألة دينية، تفرقت لأجلها الفرق في الإسلام، وسلت من أجلها السيوف.

____________

(١) تاريخ الخلفاء ص ١١٩، ١٢٠، والمحاسن والمساوي ج ١ ص ٧٩ طبع مصر. والفتوحات الإسلامية لدحلان ط مصطفى محمد ج ٢ ص ٣٦٨.

(٢) فقد قال بعد أن ضرب الوليد بن عقبة الحد، لشربه الخمر: (لتدعوني قريش بعد هذا جلادها». الغدير ج ٨ ص ١٢١. وقد صدقت نبوءته، صلوات الله وسلامه عليه، فقد جعلوه ـ كما ترى ـ ضرابا للحدود بين يدي الثلاثة!!.

٢٧٦

بل لقد قال الشهرستاني: (.. وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة في كل زمان.)(١) .

وبعد كل ما قدمناه.. لا يبقى مجال للقول: إن قوله هذا:((وأنا..)) لا ينسجم مع ما عرف عنه عليه‌السلام من التواضع البالغ، وخفض الجناح، إذ ليس ثمة من شك في أن للتواضع وخفض الجناح موضع آخر. وأنه كان لا بد للإمام في ذلك المقام، من بيان الحق الذي يصلح به الناس أولاً وآخراً، ويفتح عيونهم وقلوبهم على كل ما فيه الخير والمصلحة لهم، إن حاضرا، وإن مستقبلا، وإن جزع من ذلك قوم. وحنق آخرون.

تعقيب هام وضروري:

ومما هو جدير بالملاحظة هنا، هو أن أئمة الهدىعليهم‌السلام كانوا يستعملون التقية في كل شيء إلا في مسألة أنهمعليهم‌السلام الأحق بقيادة الأمة، وخلافة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . مع أنها لا شيء أخطر منها عليهم. كما تشير إليه عبارة الشهرستاني الآنفة، وغيرها.

وذلك يدل على مدى ثقتهم بأنفسهم، وبأحقيتهم بهذا الأمر.

____________

(١) الملل والنحل، ج ١ ص ٢٤، وقال الخضري في محاضراته ج ١ ص ١٦٧: (.. والخلاصة: أن مسألة الخلافة الإسلامية والاستخلاف، لم تسر مع الزمن في طريق يؤمن فيه العثار. بل كان تركها على ما هي عليه، من غير محل محدد ترضاه الأمة، وتدفع عنه سبباً لأكثر الحوادث التي أصابت المسلمين، وأوجدت ما سيرد عليكم من أنواع الشقاق والحروب المتواصلة، التي قلما يخلو منها زمن، سواء كان ذلك بين بيتين، أو بين شخصين.) انتهى.

وأقول: إذن. كيف جاز للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يترك الأمة هكذا هملا، ثم لا يضع حلاً لأعظم مشكلة تواجهه، مع أن شريعته كاملة وشاملة، وقد بين فيها كل ما تحتاجه الأمة، حتى أرش الخدش.

٢٧٧

فنرى الإمام موسىعليه‌السلام يواجه ذلك الطاغية الجبار هارون بهذه الحقيقة، ويصارحه بها، أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة(١) . بل لقد رأينا الرشيد نفسه يعترف بأحقيتهم تلك في عدد من المناسبات على ما في كتب السير والتاريخ.

ولقد نقل غير واحد(٢) أنه: عندما وقف الرشيد على قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال مفتخرا: السلام عليك يا ابن عم. جاء الإمام موسىعليه‌السلام ، وقال:((السلام عليك يا أبة)) . فلم يزل ذلك في نفس الرشيد إلى أن قبض عليه: وعندما قال له الرشيد: أنت الذي تبايعك الناس سراً؟!

أجابه الإمامعليه‌السلام :((أنا إمام القلوب، وأنت إمام الجسوم)) (٣) . وأما الحسن، والحسين، وأبوهما، فحالهما في ذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان.

بل إن أعظم شاهد على مدى ثقتهم بأحقية دعواهم الإمامة ما قاله الإمام الرضاعليه‌السلام للقائل له: إنك قد شهرت نفسك بهذا الأمر، وجلست مجلس أبيك، وسيف هارون يقطر الدم؟!.

____________

(١) راجع: الصواعق المحرقة، وينابيع المودة، ووفيات الأعيان، والبحار، وقاموس الرجال، وغير ذلك.

(٢) البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٨٣، والكامل لابن الأثير ج ٦، ص ١٦٤ ط صادر، والصواعق المحرقة ص ١٢٢، والإتحاف بحب الأشراف ص ٥٥، ومرآة الجنان ج ١ وأعيان الشيعة، وينابيع المودة، وغير ذلك.

(٣) الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٥، والصواعق المحرقة ص ١٢٢.

٢٧٨

فأجابه الإمامعليه‌السلام :((جرأني على هذا ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة، فأشهد أني لست بنبي.. وأنا أقول لكم: إن أخذ هارون من رأسي شعرة، فاشهدوا أني لست بإمام.)) (١) .

وفي هذا المعنى روايات عديدة(٢) .

ولكنهمعليهم‌السلام قد انصرفوا بعد الحسينعليه‌السلام عن طلب هذا الأمر بالسيف. إلى تربية الأمة، وحماية الشريعة من الانحرافات التي كانت تتعرض لها باستمرار، ولأنهم كانوا يعلمون: أن طلب هذا الأمر من دون أن يكون له قاعدة شعبية قوية وثابتة، وواعية، لن يؤدي إلى نتيجة، ولن يقدر له النجاح، الذي يريدونه هم، ويريده الله. ولكنهم ـ كما قلنا ـ ظلواعليهم‌السلام يجاهرون بأحقيتهم بهذا الأمر، حتى مع خلفاء وقتهم، كما يظهر لكل من راجع مواقفهم وأقوالهم في المناسبات المختلفة.

الموقف الخامس:

رفضه الشديد لكلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، وإصراره على هذا الرفض الذي استمر أشهراً، وهو في مرو نفسها، حتى لقد هدده المأمون أكثر من مرة بالقتل.

وبذلك يكون قد مهد الطريق ليواجه المأمون بالحقيقة، حيث قال له: إنه يريد أن يقول للناس: إن علي بن موسى لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه، وليكون بذلك قد أفهم المأمون أن

____________

(١) المناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٣٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢١٣.

(٢) راجع: البحار ج ٤٩، وروضة الكافي: وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وغير ذلك.

٢٧٩

حيلته لم تكن لتجوز، وأن زيفه لا ينطلي عليه، وأن عليه أن يكف في المستقبل عن كل مؤامراته ومخططاته. وليكون المأمون بعد هذا غير مطمئن لأي عمل يقدم عليه، وضعيف الثقة بكل الحيل والمؤامرات التي يحوكها. هذا بالإضافة إلى أن الناس سوف يشكون في طبيعية هذا الأمر، وسلامة نوايا المأمون فيه.

الموقف السادس:

ولم يكتف الإمامعليه‌السلام بذلك كله.. بل كان لا يدع فرصة تمر إلا يؤكد فيها على أن المأمون قد أكرهه على هذا الأمر، وأجبره عليه، وهدده بالقتل إن لم يقبل.

يضاف إلى ذلك.. أنه كان يخبر الناس في مختلف المناسبات: أن المأمون سوف ينكث العهد، ويغدر به.. حتى لقد قال في نفس مجلس البيعة للمستبشر:((لا تستبشر، فإنه شيء لا يتم)) بل لقد كتب في نفس وثيقة العهد ما يدل على ذلك دلالة واضحة، كما سيأتي بيانه في الموقف الثامن.

هذا عدا عن أنه كان يصرح بأنه لا يقتله إلا المأمون، ولا يسمه إلا هو، حتى لقد واجه نفس المأمون بهذا الأمر.

بل إنه لم يكن يكتفي بمجرد القول، وإنما كانت حالته على وجه العموم في فترة ولاية العهد تشير إلى عدم رضاه بهذا الأمر، وإلى أنه مكره مجبر عليه.

٢٨٠