كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 350

كتاب شرح نهج البلاغة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف: الصفحات: 350
المشاهدات: 85979
تحميل: 6272


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 350 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85979 / تحميل: 6272
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

القبيح فصار الإتيان بها مع اعتبار دعاء إبليس إلى خلافها خارجا عن الحد المذكور و داخلا في حيز التمكن الذي لو فرضنا ارتفاعه لما صح من المكلف الإتيان بالفعل، و نحن قلنا في الحد مع تمكن المكلف من الإتيان بالفعل في الحالين. و منها أن يقال كيف جاز للحكيم سبحانه أن يقول لإبليس: (إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ) إلى يوم القيامة و هذا إغراء بالقبيح و أنتم تمنعون أن يقول الحكيم لزيد أنت لا تموت إلى سنة بل إلى شهر أو يوم واحد لما فيه من الإغراء بالقبيح، و العزم على التوبة قبل انقضاء الأمد. و الجواب: أن أصحابنا قالوا إن البارئ تعالى لم يقل لإبليس إني منظرك إلى يوم القيامة، و إنما قال: (إِلى‏ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ) و هو عبارة عن وقت موته و اخترامه و كل مكلف من الإنس و الجن منظر إلى يوم الوقت المعلوم على هذا التفسير، و إذا(1) كان كذلك لم يكن إبليس عالما أنه يبقى لا محالة فلم يكن في ذلك إغراء له(2) بالقبيح. فإن قلت فما معنى قوله (عليه‌السلام ) و إنجازا للعدة أليس معنى ذلك أنه قد كان وعده أن يبقيه إلى يوم القيامة. قلت إنما وعده الإنظار و يمكن أن يكون إلى يوم القيامة و إلى غيره من الأوقات، و لم يبين له فهو تعالى أنجز له وعده في الإنظار المطلق و ما من وقت إلا و يجوز فيه أن يخترم إبليس(3) ، فلا يحصل الإغراء بالقبيح و هذا الكلام عندنا ضعيف و لنا فيه نظر مذكور في كتبنا الكلامية

____________________

(1) ا: (فإذا (.

(2) كلمة (له (ساقطة من ا.

(3) كلمة (إبليس (ساقطه من ب.

١٠١

(ثُمَّ أَسْكَنَ آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِيهَا عِيشَتَهُ عَيْشَهُ وَ آمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ وَ حَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَ عَدَاوَتَهُ فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ اَلْمُقَامِ وَ مُرَافَقَةِ اَلْأَبْرَارِ فَبَاعَ اَلْيَقِينَ بِشَكِّهِ وَ اَلْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ وَ اِسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلاً وَ بِالاِعْتِزَازِ بِالاِغْتِرَارِ نَدَماً ثُمَّ بَسَطَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي تَوْبَتِهِ وَ لَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ وَ وَعَدَهُ اَلْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ فَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ اَلْبَلِيَّةِ وَ تَنَاسُلِ اَلذُّرِّيَّةِ) أما الألفاظ فظاهرة و المعاني أظهر و فيها ما يسأل عنه. فمنها أن يقال الفاء في قوله (عليه‌السلام ) فأهبطه تقتضي أن تكون التوبة على آدم قبل هبوطه من الجنة. و الجواب: أن ذلك أحد قولي المفسرين و يعضده قوله تعالى:( وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏ ثُمَّ اِجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى‏ قالَ اِهْبِطا مِنْها ) (1) فجعل الهبوط بعد قبول التوبة. و منها أن يقال إذا كان تعالى قد طرد إبليس من(2) الجنة لما أبى السجود فكيف توصل إلى آدم و هو في الجنة حتى استنزله عنها بتحسين أكل الشجرة له. الجواب أنه يجوز أن يكون إنما منع من دخول الجنة على وجه التقريب و الإكرام،

____________________

(1) سورة طه 121 - 123.

(2) كذا فى ج، وفى ا، ب:"عن الجنتة ".

١٠٢

كدخول الملائكة و لم يمنع من دخولها على غير ذلك الوجه، و قيل إنه دخل في جوف الحية كما ورد في التفسير. و منها أن يقال كيف اشتبه على آدم الحال في الشجرة المنهي عنها فخالف النهي. الجواب أنه قيل له لا تقربا هذه الشجرة و أريد بذلك نوع الشجرة فحمل آدم النهي على الشخص و أكل من شجرة أخرى من نوعها. و منها أن يقال هذا الكلام من أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) تصريح بوقوع المعصية من آدم (عليه‌السلام ) و هو قوله فباع اليقين بشكه و العزيمة بوهنه فما قولكم في ذلك. الجواب: أما أصحابنا فإنهم لا يمتنعون من إطلاق العصيان عليه و يقولون إنها كانت صغيرة و عندهم أن الصغائر جائزة على الأنبياء (عليه‌السلام )، و أما الإمامية فيقولون إن النهي كان نهي تنزيه لا نهي تحريم؛ لأنهم لا يجيزون على الأنبياء الغلط و الخطأ لا كبيرا و لا صغيرا و ظواهر هذه الألفاظ تشهد بخلاف قولهم.

اختلاف الأقوال في ابتداء خلق البشر

و اعلم أن الناس اختلفوا في ابتداء خلق البشر كيف كان فذهب أهل الملل من المسلمين و اليهود و النصارى إلى أن مبدأ البشر هو آدم الأب الأول (عليه‌السلام ) و أكثر ما في القرآن العزيز من قصة آدم مطابق لما في التوراة. و ذهب طوائف من الناس إلى غير ذلك أما الفلاسفة فإنهم زعموا أنه لا أول لنوع البشر و لا لغيرهم من الأنواع. و أما الهند فمن كان منهم على رأي الفلاسفة، فقوله ما ذكرناه و من لم يكن منهم

١٠٣

على رأي الفلاسفة، و يقول بحدوث الأجسام لا يثبت آدم و يقول إن الله تعالى خلق الأفلاك و خلق فيها طباعا محركة لها بذاتها فلما تحركت و حشوها أجسام لاستحالة الخلاء كانت تلك الأجسام على طبيعة واحدة، فاختلفت طباؤعها بالحركة الفلكية فكان القريب من الفلك المتحرك أسخن و ألطف و البعيد أبرد و أكثف، ثم اختلطت العناصر و تكونت منها المركبات و منها تكون نوع البشر كما يتكون الدود في الفاكهة و اللحم و البق في البطائح و المواضع العفنة، ثم تكون بعض البشر من بعض بالتوالد و صار ذلك قانونا مستمرا و نسي التخليق الأول الذي كان بالتولد(1) ، و من الممكن أن يكون بعض البشر في بعض الأراضي القاصية مخلوقا بالتولد(1) و إنما انقطع التولد؛ لأن الطبيعة إذا وجدت للتكون طريقا استغنت به عن طريق ثان. و أما المجوس فلا يعرفون آدم، و لا نوحا، و لا ساما، و لا حاما، و لا يافث، و أول متكون عندهم من البشر البشري(2) المسمى كيومرث، و لقبه كوشاه، أي: ملك الجبل؛ لأن كو هو الجبل بالفهلوية و كان هذا البشر في الجبال، و منهم من يسميه كلشاه، أي: ملك الطين و كل اسم الطين؛ لأنه لم يكن حينئذ بشر ليملكهم. و قيل: تفسير كيومرث حي ناطق ميت قالوا، و كان قد رزق من الحسن ما لا يقع عليه بصر حيوان إلا و بهت و أغمي عليه، و يزعمون أن مبدأ تكونه و حدوثه أن يزدان و هو الصانع الأول، عندهم أفكر(3) في أمر أهرمن، و هو الشيطان، عندهم فكرة أوجبت أن عرق جبينه فمسح العرق و رمى به فصار منه كيومرث، و لهم خبط طويل في كيفية تكون أهرمن من فكرة يزدان أو من إعجابه بنفسه أو من توحشه، و بينهم خلاف في قدم أهرمن و حدوثه لا يليق شرحه بهذا الموضع(4)

____________________

(1) كذا فى ج، وفي باقي الأصول:"التوالد".

(2) ب: " البشر ".

(3) أفكر وفكر بالتشديد، بمعنى.

(4) انظر الشاهنامة 14.

١٠٤

ثم اختلفوا في مدة بقاء كيومرث في الوجود، فقال الأكثرون ثلاثون سنة. و قال الأقلون أربعون سنة. و قال قوم منهم: إن كيومرث مكث في الجنة التي في السماء ثلاثة آلاف سنة و هي ألف الحمل، و ألف الثور، و ألف الجوزاء، ثم أهبط إلى الأرض فكان بها آمنا مطمئنا ثلاثة آلاف سنة أخرى، و هي ألف السرطان، و ألف الأسد و ألف السنبلة. ثم مكث بعد ذلك ثلاثين أو أربعين سنة في حرب و خصام بينه و بين أهرمن حتى هلك(1) . و اختلفوا في كيفية هلاكه مع اتفاقهم على أنه هلك قتلا، فالأكثرون قالوا: إنه قتل ابنا لأهرمن يسمى خزورة فاستغاث أهرمن منه إلى يزدان فلم يجد بدا من أن يقاصه به حفظا للعهود التي بينه و بين أهرمن فقتله بابن أهرمن. و قال قوم: بل قتله أهرمن في صراع كان بينهما قهره فيه أهرمن و علاه و أكله(1) . و ذكروا في كيفية ذلك الصراع، أن كيومرث كان هو القاهر لأهرمن في بادئ الحال، و أنه ركبه و جعل يطوف به في العالم إلى أن سأله أهرمن، أي: الأشياء أخوف له و أهولها عنده فقال له باب جهنم فلما بلغ به أهرمن إليها جمح به حتى سقط من فوقه و لم يستمسك فعلاه، و سأله عن أي الجهات يبتدئ به في الأكل؟ فقال: من جهة الرجل لأكون ناظرا إلى حسن العالم مدة ما فابتدأه أهرمن فأكله من عند رأسه، فبلغ إلى موضع الخصي و أوعية المني من الصلب، فقطر من كيومرث قطرتا نطفة على الأرض، فنبت منهما ريباستان(2) في جبل بإصطخر يعرف بجبل دام داذ، ثم ظهرت على تينك الريباستين الأعضاء البشرية في أول الشهر التاسع، و تمت في آخره فتصور منهما بشران ذكر و أنثى، و هما ميشى و ميشانه، و هما بمنزلة آدم و حواء عند المليين، و يقال لهما أيضا: ملهى و ملهيانه، و يسميهما مجوس خوارزم، مرد و مردانه،

____________________

(1) انظر الشاهنامه 14.

(2) الريباس، بالكسر: نبت له عساليج غضه خضراء، عراض الورق، طعمها حامض مع قبض، ينبت في الجبال ذات الثلوج والبلاد الباردة من غير زرع. المعتمد 123

١٠٥

و زعموا أنهما مكثا خمسين سنة مستغنين عن الطعام و الشراب متنعمين غير متأذيين بشي‏ء إلى أن ظهر لهما أهرمن في صورة شيخ كبير، فحملهما على التناول من فواكه الأشجار و أكل منها و هما يبصرانه شيخا فعاد شابا فأكلا منها حينئذ فوقعا في البلايا و الشرور، و ظهر فيهما الحرص حتى تزاوجا و ولد لهما ولد فأكلاه حرصا، ثم ألقى الله تعالى في قلوبهما رأفة فولد لهما بعد ذلك ستة أبطن كل بطن ذكر و أنثى، و أسماؤهم في كتاب أپستا، و هو الكتاب الذي جاء به زرادشت معروفة، ثم كان في البطن السابع سيامك و فرواك، فتزاوجا فولد لهما الملك المشهور الذي لم يعرف قبله ملك، و هو أوشهنج، و هو الذي خلف جده كيومرث و عقد له التاج و جلس على السرير و بنى مدينتي بابل و السوس. فهذا ما يذكره المجوس في مبدأ الخلق.

تصويب الزنادقة إبليس لامتناعه عن السجود لآدم

و كان في المسلمين ممن يرمى بالزندقة من يذهب إلى تصويب إبليس في الامتناع من السجود و يفضله على آدم، و هو بشار بن برد المرعث(1) و من الشعر المنسوب إليه:

النار مشرقة و الأرض مظلمة

و النار معبودة مذ كانت النار(2)

____________________

(1) في اللسان: " سمى بذلك لرعاث كانت له في صغره في أذنه ". والرعاث جمع رعثة، وهي ما علق في الاذن من قرط ونحره. وروى صاحب الأغاني: وإنما سمى المرعث بقوله:

قلت ريم مرعث

ساحر الطرف والنظر

لست والله نائلي

قلت أو يغلب القدر

أنت إن رمت وصلنا

فانج، هل تدرك القمر!

(2) الأغاني 3

١٠٦

و كان أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي الواعظ(1) أخو أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الفقيه الشافعي قاصا لطيفا و واعظا مفوها، و هو من خراسان من مدينة طوس، و قدم إلى بغداد و وعظ بها و سلك في وعظه مسلكا منكرا؛ لأنه كان يتعصب لإبليس، و يقول: إنه سيد الموحدين. و قال يوما على المنبر: من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق. أمر أن يسجد لغير سيده فأبى:

و لست بضارع إلا إليكم

و أما غيركم حاشا و كلا

و قال مرة أخرى لما قال له موسى: أرني، فقال: لن(2) . قال: هذا شغلك(3) تصطفي آدم ثم تسود وجهه و تخرجه من الجنة و تدعوني إلى الطور ثم تشمت بي الأعداء، هذا عملك بالأحباب(4) فكيف تصنع بالأعداء(5) . و قال مرة أخرى و قد ذكر إبليس على المنبر لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت، و أن قسي القدر إذا رمت أصمت، ثم قال: لسان حال آدم ينشد في قصته و قصة إبليس:

و كنت و ليلى في صعود من الهوى

فلما توافينا ثبت و زلت

و قال مرة أخرى التقى موسى و إبليس عند عقبة الطور، فقال موسى: يا إبليس، لم لم تسجد لآدم؟ فقال: كلا ما كنت لأسجد لبشر كيف أوحده ثم ألتفت إلى غيره و لكنك أنت يا موسى، سألت رؤيته ثم نظرت إلى الجبل فأنا أصدق منك في التوحيد.

____________________

(1) ذكره ابن الجوزي في الجزء التاسع من المنتظم ص 260، ضمن وفيات سنة 520، وقال عنه: " الغالب على كلامه التخليط ورواية الأحاديث الموضوعة والحكايات الفارغة والمعاني الفاسدة، وقد علق عنه كثير من ذلك ". وذكره أيضا ابن حجر في لسان الميزان 293:1.

(2) يشير إلى قوله تعالى في قصة موسى من سورة الأعراف 341:( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال ربى أرني أنظر إليك قال لن تراني... ) .

(3) المنتظم: " شأنك ".

(4) المنتظم: " الأخيار ".

(5) المنتظم 9: 261.

١٠٧

و كان هذا النمط في كلامه ينفق على أهل بغداد، و صار له بينهم صيت مشهور و اسم كبير، و حكى عنه أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ أنه قال على المنبر: معاشر الناس، إني كنت دائما أدعوكم إلى الله و أنا اليوم أحذركم منه، و الله ما شدت الزنانير إلا في حبه، و لا أديت الجزية إلا في عشقه. و قال أيضا: إن رجلا يهوديا أدخل عليه ليسلم على يده، فقال له: لا تسلم. فقال له الناس: كيف تمنعه من الإسلام. فقال: احملوه إلى أبي حامد يعني أخاه ليعلمه لا(1) لا المنافقين، ثم قال: ويحكم أتظنون أن قوله لا إله إلا الله منشور ولايته ذا منشور عزله(2) ، و هذا نوع تعرفه الصوفية بالغلو و الشطح. و يروى عن أبي يزيد البسطامي(3) منه كثير. و مما يتعلق بما نحن فيه ما رووه عنه من قوله:

فمن آدم في البين

و من إبليس لولاكا

فتنت الكل و الكل

مع الفتنة يهواكا

و يقال: ول من قاس إبليس فأخطأ في القياس و هلك بخطئه، و يقال: إن أول حمية و عصبية ظهرت عصبية إبليس و حميته.

اختلاف الأقوال في خلق الجنة و النار

فإن قيل فما قول شيوخكم في الجنة و النار، فإن المشهور عنهم أنهما لم يخلقا و سيخلقان

____________________

(1) في المنتظم: " يعنى: لا إله إلا الله ".

(2) عبارة المنتظم: " أفنسوا عزله! ". قال ابن الجوزي بعد أن أورد هذه الحكايات: " لقد أدهشني نفاق هذا الهذيان في بغداد وهي دار العلم، ولقد حضر مجلسه يوسف الهمذاني، فقال: مدد كلام هذا شيطاني، لا رباني، ذهب دينه والدنيا لا تبقى له ".

(3) هو أبو يزيد طيفور بن عيسى، توفى سنة 261. طبقات الصوفية للسلمي 67

١٠٨

عند قيام الأجسام. و قد دل القرآن العزيز و نطق كلام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في هذا الفصل بأن آدم كان في الجنة و أخرج منها. قيل قد اختلف شيوخنا رحمهم الله في هذه المسألة، فمن ذهب منهم إلى أنهما غير مخلوقتين الآن. يقول قد ثبت بدليل السمع أن سائر الأجسام تعدم و لا يبقى في الوجود إلا ذات الله تعالى، بدليل قوله:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (1) و قوله( هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ ) (2) فلما كان أولا بمعنى: أنه لا جسم في الوجود معه في الأزل، وجب أن يكون آخرا بمعنى: أنه لا يبقى في الوجود جسم من الأجسام معه فيما لا يزال و بآيات كثيرة أخرى، و إذا كان لا بد من عدم سائر الأجسام لم يكن في خلق الجنة و النار قبل أوقات الجزاء فائدة؛ لأنه لا بد أن يفنيهما مع الأجسام التي تفنى يوم القيامة فلا يبقى مع خلقهما من قبل معنى، و يحملون الآيات التي دلت على كون آدم (عليه‌السلام ) كان في الجنة و أخرج منها على بستان من بساتين الدنيا. قالوا: و الهبوط لا يدل على كونهما في السماء لجواز أن يكون في الأرض إلا أنهما في موضع مرتفع عن سائر الأرض. و أما غير هؤلاء من شيوخنا فقالوا: إنهما مخلوقتان الآن و اعترفوا بأن آدم كان في جنة الجزاء و الثواب، و قالوا لا يبعد أن يكون في إخبار المكلفين بوجود الجنة و النار لطف لهم في التكليف و إنما يحسن الإخبار بذلك إذا كان صدقا، و إنما يكون صدقا إذا كان خبره على ما هو عليه.

القول في آدم و الملائكة أيهما أفضل

فإن قيل فما الذي يقوله شيوخكم في آدم و الملائكة أيهما أفضل. قيل: لا خلاف بين شيوخنا رحمهم الله أن الملائكة أفضل من آدم و من جميع الأنبياء

____________________

(1) سورة القصص 88.

(2) سورة الحديد 3.

١٠٩

(عليه‌السلام ) و لو لم يدل على ذلك إلا قوله تعالى في هذه القصة:( إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ اَلْخالِدِينَ ) (1) لكفى. و قد احتج أصحابنا أيضا بقوله تعالى:( لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ ) (2) و هذا كما تقول لا يستنكف الوزير أن يعظمني و يرفع من منزلتي و لا الملك أيضا، فإن هذا يقتضي كون الملك أرفع منزلة من الوزير، و كذلك قوله:( وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ ) يقتضي كونهم أرفع منزلة من عيسى. و مما احتجوا به قولهم إنه تعالى لما ذكر جبريل و محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) في معرض المدح مدح جبريل (عليه‌السلام ) بأعظم مما مدح به محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) فقال:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَ مَا صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ اَلْمُبِينِ وَ ما هُوَ عَلَى اَلْغَيْبِ بِضَنِينٍ ) (3) ، فالمديح الأول لجبريل و الثاني لمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) و لا يخفى تفاوت ما بين المدحين. فإن قيل فهل كان إبليس من الملائكة أم من نوع آخر قيل قد اختلف في ذلك فمن قال إنه من الملائكة احتج بالاستثناء في قوله:( فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ ) (4) ، و قال إن الاستثناء من غير الجنس خلاف الأصل، و من قال إنه لم يكن منهم احتج بقوله تعالى:( إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) (5) . و أجاب الأولون عن هذا فقالوا إن الملائكة يطلق عليهم لفظ الجن لاجتنانهم و استتارهم عن الأعين و قالوا قد ورد ذلك في القرآن أيضا في قوله تعالى:( وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ

____________________

(1) سورة الأعراف 20.

(2) سورة النساء 172

(3) سورة التكوير 19-24.

(4) سورة الحجر 30، 29.

(5) سورة الكهف 50

١١٠

وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً ) (1) و الجنة هاهنا هم الملائكة؛ لأنهم قالوا إن الملائكة بنات الله بدليل قوله:( أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ إِناثاً ) (2) و كتب التفسير تشتمل من هذا على ما لا نرى الإطالة بذكره. فأما القطب الراوندي فقال في هذين الفصلين في تفسير ألفاظهما اللغوية العذب من الأرض ما ينبت و السبخ ما لا ينبت و هذا غير صحيح؛ لأن السبخ ينبت النخل فيلزم أن يكون عذبا على تفسيره. و قال فجبل منها صورة، أي: خلق خلقا عظيما و لفظة جبل في اللغة تدل على خلق سواء كان المخلوق عظيما أو غير عظيم. و قال: الوصول جمع وصل، و هو العضو و كل شي‏ء اتصل بشي‏ء فما بينهما وصلة، و الفصول جمع فصل، و هو الشي‏ء المنفصل، و ما عرفنا في كتب اللغة أن الوصل هو العضو و لا قيل هذا. و قوله بعد ذلك و كل شي‏ء اتصل بشي‏ء فما بينهما وصلة لا معنى لذكره بعد ذلك التفسير، و الصحيح أن مراده (عليه‌السلام ) أظهر من أن يتكلف له هذا التكلف و مراده (عليه‌السلام ) أن تلك الصورة ذات أعضاء متصلة كعظم الساق أو عظم الساعد، و ذات أعضاء منفصلة في الحقيقة و إن كانت متصلة بروابط خارجة عن ذواتها، كاتصال الساعد بالمرفق و اتصال الساق بالفخذ. ثم قال يقال استخدمته لنفسي و لغيري و اختدمته لنفسي خاصة و هذا مما لم أعرفه و لعله نقله من كتاب.

____________________

(1) سورة الصافات 158

(2) سورة الإسراء40

١١١

ثم قال و الإذعان الانقياد و الخنوع الخضوع، و إنما كرر الخنوع بعد الإذعان؛ لأن الأول يفيد أنهم أمروا بالخضوع له في السجود و الثاني يفيد ثباتهم على الخضوع لتكرمته أبدا. و لقائل أن يقول: إنه لم يكرر لفظة الخنوع و إنما ذكر أولا الإذعان، و هو الانقياد و الطاعة، و معناه: أنهم سجدوا، ثم ذكر الخنوع الذي معناه الخضوع، و هو يعطي معنى غير المعنى الأول،(1) لأنه ليس كل ساجد خاضعا بقلبه فقد يكون ساجدا بظاهره دون باطنه. و قول الراوندي أفاد بالثاني ثباتهم على الخضوع له لتكرمته أبدا تفسير لا يدل عليه اللفظ و لا معنى الكلام. ثم قال قبيل إبليس نسله قال تعالى:( إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ ) (2) و كل جيل من الإنس و الجن قبيل و الصحيح أن قبيله نوعه كما أن البشر قبيل كل بشري سواء كانوا من ولده أو لم يكونوا و قد قيل أيضا كل جماعة قبيل، و إن اختلفوا نحو أن يكون بعضهم روما و بعضهم زنجا و بعضهم عربا، و قوله تعالى:( إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ ) لا يدل على أنهم نسله. و قوله بعد و كل جيل من الإنس و الجن قبيل ينقض دعواه أن قبيله لا يكون إلا نسله. ثم تكلم في المعاني فقال: إن القياس الذي قاسه إبليس كان باطلا؛ لأنه ادعى أن النار أشرف من الأرض و الأمر بالعكس؛ لأن كل ما يدخل إلى النار ينقص و كل ما يدخل التراب يزيد و هذا عجيب فإنا نرى الحيوانات الميتة إذا دفنت في الأرض تنقص أجسامها و كذلك الأشجار المدفونة في الأرض على أن التحقيق أن المحترق بالنار و البالي بالتراب لم تعدم أجزاؤه و لا بعضها و إنما استحالت إلى صور أخرى.

____________________

(1) ا: (فإنه)

(2) سورة الأعراف 27

١١٢

ثم قال و لما علمنا أن تقديم المفضول على الفاضل قبيح علمنا أن آدم كان أفضل من الملائكة في ذلك الوقت و فيما بعده. و لقائل أن يقول أليس قد سجد يعقوب ليوسف (عليه‌السلام ) أفيدل ذلك على أن يوسف أفضل من يعقوب و لا يقال إن قوله تعالى:( وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) (1) لا يدل على سجود الوالدين، فلعل الضمير يرجع إلى الإخوة خاصة؛ لأنا نقول هذا الاحتمال مدفوع بقوله:( وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) (2) و هو كناية عن الوالدين. و أيضا قد بينا أن السجود إنما كان لله سبحانه و أن آدم كان قبلة و القبلة لا تكون أفضل من الساجد إليها أ لا ترى أن الكعبة ليست أفضل من النبي (عليه‌السلام ) : (وَ اِصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى اَلْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ وَ عَلَى تَبْلِيغِ اَلرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ [ إِيمَانَهُمْ ] لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اَللَّهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اِتَّخَذُوا اَلْأَنْدَادَ مَعَهُ وَ اِجْتَالَتْهُمُ اَلشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَ اِقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِيهِمْ(3) رُسُلَهُ وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ اَلْعُقُولِ وَ يُرُوهُمْ آيَاتِ اَلْمَقْدِرَةِ مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ وَ مَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِيهِمْ وَ أَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ وَ أَحْدَاثٍ تَتَتَابَعُ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ وَ لَمْ يُخْلِ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لاَزِمَةٍ

____________________

(1) سورة يوسف 100.

(2) سورة يوسف 4

(3) مخطوطة النهج: (إليهم).

١١٣

أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ رُسُلٌ لاَ تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ وَ لاَ كَثْرَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ اجتالتهم الشياطين أدارتهم)، تقول: اجتال فلان فلانا و اجتاله عن كذا و على كذا، أي: أداره عليه كأنه يصرفه تارة هكذا و تارة هكذا يحسن له فعله و يغريه به. و قال الراوندي اجتالتهم عدلت بهم و ليس بشي‏ء. و قوله (عليه‌السلام ) : (واتر إليهم أنبياءه)، أي: بعثهم و بين كل نبيين فترة و هذا مما تغلط فيه العامة فتظنه كما ظن الراوندي أن المراد به المرادفة، و المتابعة، و الأوصاب الأمراض، و الغابر الباقي. و يسأل في هذا الفصل عن أشياء منها عن قوله (عليه‌السلام ) : (أخذ على الوحي ميثاقهم). و الجواب أن المراد أخذ على أداء الوحي ميثاقهم و ذلك أن كل رسول أرسل فمأخوذ عليه أداء الرسالة كقوله تعالى:( يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) (1) . و منها أن يقال ما معنى قوله (عليه‌السلام ) : (ليستأدوهم ميثاق فطرته) هل هذا

____________________

(1) سورة المائدة 67

١١٤

إشارة إلى ما يقوله أهل الحديث في تفسير قوله تعالى:( وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (1) ؟ و الجواب: أنه لا حاجة في تفسير هذه اللفظة إلى تصحيح ذلك الخبر، و مراده (عليه‌السلام ) بهذا اللفظ أنه لما كانت المعرفة به تعالى و أدلة التوحيد و العدل مركوزة في العقول أرسل سبحانه الأنبياء أو بعضهم ليؤكدوا(2) ذلك المركوز في العقول، و هذه هي الفطرة المشار إليها بقوله (عليه‌السلام ) : (كل مولود يولد على الفطرة). و منها أن يقال إلى ما ذا يشير بقوله أو حجة لازمة هل هو إشارة إلى ما يقوله الإمامية من أنه لا بد في كل زمان من وجود إمام معصوم؟ الجواب: أنهم يفسرون هذه اللفظة بذلك و يمكن أن يكون المراد بها حجة العقل. و أما القطب الراوندي فقال في قوله (عليه‌السلام ) : (و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء)، الولد يقال: على الواحد و الجمع؛ لأنه مصدر في الأصل و ليس بصحيح؛ لأن الماضي فعل بالفتح و المفتوح لا يأتي مصدره بالفتح، و لكن فعلا مصدر فعل بالكسر، كقولك ولهت عليه ولها و وحمت المرأة وحما. ثم قال إن الله تعالى بعث يونس قبل نوح و هذا خلاف إجماع المفسرين و أصحاب السير. ثم قال: و كل واحد من الرسل و الأئمة كان يقوم بالأمر و لا يردعه عن ذلك قلة عدد أوليائه و لا كثرة عدد أعدائه، فيقال له: هذا خلاف قولك في الأئمة المعصومين، فإنك تجيز عليهم التقية و ترك القيام بالأمر إذا كثرت أعداؤهم. و قال في تفسير قوله (عليه‌السلام ) : من سابق سمي له من بعده أو غابر عرفه

____________________

(1) سورة اعراف172.

(2) ا: " ليؤكد ذلك المركوز".

١١٥

من قبله كان من ألطاف الأنبياء المتقدمين و أوصيائهم أن يعرفوا الأنبياء المتأخرين و أوصياءهم، فعرفهم الله تعالى ذلك، و كان من اللطف بالمتأخرين و أوصيائهم أن يعرفوا أحوال المتقدمين من الأنبياء و الأوصياء، فعرفهم الله تعالى ذلك أيضا، فتم اللطف لجميعهم. و لقائل أن يقول لو كان (عليه‌السلام ) قال أو غابر عرف من قبله لكان هذا التفسير مطابقا، و لكنه (عليه‌السلام ) لم يقل ذلك و إنما قال عرفه من قبله و ليس هذا التفسير مطابقا لقوله عرفه و الصحيح أن المراد به من نبي سابق عرف من يأتي بعده من الأنبياء، أي: عرفه الله تعالى ذلك أو نبي غابر نص عليه من قبله و بشر به كبشارة الأنبياء بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) : (عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ [ ذَهَبَتِ ] اَلْقُرُونُ وَ مَضَتِ اَلدُّهُورُ وَ سَلَفَتِ اَلآْبَاءُ وَ خَلَفَتِ اَلْأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) رَسُولَ اَللَّهِ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ(1) نُبُوَّتِهِ مَأْخُوذاً عَلَى اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلاَدُهُ وَ أَهْلُ اَلْأَرْضِ [ اَلْأَرَضِينَ ] يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَ طَرَائِقُ [ طَوَائِفُ ] مُتَشَتِّتَةٌ بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اِسْمِهِ أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ اَلضَّلاَلَةِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ اَلْجَهَالَةِ ثُمَّ اِخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) لِقَاءَهُ وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَكْرَمَهُ(2) عَنْ دَارِ اَلدُّنْيَا وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ [ مُقَارَنَةِ مَقَارِّ ] اَلْبَلْوَى فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ اَلْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ

____________________

(1) مخطوطة النهج: " وتمام ".

(2) مخطوطة النهج: " فأكرمه ".

١١٦

وَ لاَ عَلَمٍ قَائِمٍ كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً(1) حَلاَلَهُ وَ حَرَامَهُ وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ [ مُتَسَابِقَهُ ] مُفَسِّراً جُمَلَهُ مُجْمَلَهُ [ جُمَلَهُ ] وَ مُبَيِّناً غَوَامِضَهُ بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى اَلْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِي اَلْكِتَابِ فَرْضُهُ وَ مَعْلُومٍ فِي اَلسُّنَّةِ نَسْخُهُ وَ وَاجِبٍ فِي اَلسُّنَّةِ أَخْذُهُ وَ مُرَخَّصٍ فِي اَلْكِتَابِ تَرْكُهُ وَ بَيْنَ وَاجِبٍ لِوَقْتِهِ بِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَ مُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ وَ مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ) قوله (عليه‌السلام ) نسلت القرون ولدت و الهاء في قوله: لإنجاز عدته، راجعة إلى البارئ سبحانه، و الهاء في قوله: و إتمام نبوته، راجعة إلى محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) و قوله: مأخوذ على النبيين ميثاقه، قيل: لم يكن نبي قط إلا و بشر بمبعث محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) و أخذ عليه تعظيمه و إن كان بعد لم يوجد. فأما قوله: و أهل الأرض يومئذ ملل متفرقة فإن العلماء يذكرون أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) بعث و الناس أصناف شتى في أديانهم يهود، و نصارى، و مجوس، و صائبون، و عبده أصنام، و فلاسفة، و زنادقة.

القول في أديان العرب في الجاهلية

فأما الأمة التي بعث محمد ص فيها فهم العرب و كانوا أصنافا شتى،

____________________

(1) ب: " فيكم ".

١١٧

فمنهم معطلة و منهم غير معطلة، فأما المعطلة منهم فبعضهم أنكر الخالق و البعث و الإعادة، و قالوا ما قال القرآن العزيز عنهم( ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ اَلدَّهْرُ ) (1) فجعلوا الجامع لهم الطبع و المهلك لهم الدهر، و بعضهم اعترف بالخالق سبحانه، و أنكر البعث، و هم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله:( قالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ) (2) و منهم من أقر بالخالق و نوع من الإعادة، و أنكروا الرسل و عبدوا الأصنام و زعموا أنها شفعاء عند الله في الآخرة و حجوا لها و نحروا لها الهدي و قربوا لها القربان، و حللوا و حرموا و هم جمهور العرب، و هم الذين قال الله تعالى عنهم:( وَ قالُوا ما لِهذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْواقِ ) (3) . فممن نطق شعره بإنكار البعث بعضهم يرثي قتلى بدر(4) :

فما ذا بالقليب قليب بدر

من الفتيان و القوم الكرام(5)

و ما ذا بالقليب قليب بدر

من الشيزى تكلل بالسنام(6)

أيخبرنا ابن كبشة أن سنحيا

و كيف حياة أصداء وهام

إذا ما الرأس زال بمنكبيه

فقد شبع الأنيس من الطعام

أيقتلني إذا ما كنت حيا

و يحييني إذ رمت عظامي

____________________

(1) سورة الجاثية 24.

(2) سورة الفرقان 78.

(3) سورة الفرقان 7

(4) سيرة ابن هشام 2: 311 مع اختلاف في الرواية وترتيب الأبيات وعددها، ونسبها إلى شداد ابن الأسود.

(5) ابن هشام: * من القينات والشرب الكرام * والقليب: البئر.

(6) البيت في اللسان 7: 230، ورواه: " يزين بالسنام "، وقال في شرحه: الشيزى: شجر يتخذ منه الجفان، وأراد بالجفان أربابها الذين كانوا يطمعون فيها وقتلوا ببدر وألقوا في القليب، فهو يرثيهم، وسمى الجفان شيزى بأسم أصلها ".

١١٨

و كان من العرب من يعتقد التناسخ و تنقل الأرواح في الأجساد، و من هؤلاء أرباب الهامة التي قال (عليه‌السلام ) عنهم: (لا عدوى و لا هامة و لا صفر)(1) و قال ذو الإصبع:

يا عمرو إلا تدع شتمي و منقصتي

أضربك حيث تقول الهامة اسقوني(2)

و قالوا: إن ليلى الأخيلية لما سلمت على قبر توبة بن الحمير خرج إليها هامة من القبر صائحة أفزعت ناقتها فوقصت(3) بها فماتت، و كان ذلك تصديق قوله:

و لو أن ليلى الأخيلية سلمت

علي و دوني جندل و صفائح(4)

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا

إليها صدى من جانب القبر صائح

و كان توبة و ليلى في أيام بني أمية. و كانوا في عبادة الأصنام مختلفين، فمنهم من يجعلها مشاركة للبارئ تعالى و يطلق عليها لفظة الشريك و من ذلك قولهم في التلبية لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك، و منهم من لا يطلق عليها لفظ الشريك و يجعلها وسائل و ذرائع إلى الخالق سبحانه، و هم الذين قالوا:( ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اَللَّهِ زُلْفى) (5) . و كان في العرب مشبهة و مجسمة منهم أمية بن أبي الصلت و هو القائل:

من فوق عرش جالس قد حط

رجليه إلى كرسيه المنصوب

و كان جمهورهم عبدة الأصنام فكان ود لكلب بدومة الجندل و سواع لهذيل

____________________

(1) كانت العرب تزعم أن في البطن حية يقال لها الصفر، تصيب الانسان إذا جاع وتؤذيه. نهاية ابن الأثير 226:2.

(2) من قصيدة مفضلية، المفضليات 163.

(3) وقصت بها، أي سقطت عنها فماتت.

(4) ديوان الحماسة لأبي تمام بشرح التبريزي 267:3. والصفائح: الحجارة العراض تكون على القبور

(5) سورة الزمر 3.

١١٩

و نسر لحمير و يغوث لهمدان و اللات لثقيف بالطائف و العزى لكنانة و قريش و بعض بني سليم و مناة لغسان و الأوس و الخزرج و كان هبل لقريش خاصة على ظهر الكعبة و أساف(1) و نائلة على الصفا و المروة، و كان في العرب من يميل إلى اليهودية منهم جماعة من التبابعة و ملوك اليمن، و منهم نصارى كبني تغلب و العباديين رهط عدي بن زيد و نصارى نجران، و منهم من كان يميل إلى الصابئة و يقول بالنجوم و الأنواء. فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب فالقليل منهم و هم المتألهون أصحاب الورع(2) و التحرج عن القبائح كعبد الله و عبد المطلب و ابنه أبي طالب، و زيد بن عمرو بن نفيل، و قس بن ساعدة الإيادي، و عامر بن الظرب العدواني، و جماعة غير هؤلاء. و غرضنا من هذا الفصل بيان قوله (عليه‌السلام ) : بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه إلى غير ذلك، و قد ظهر بما شرحناه. ثم ذكر (عليه‌السلام ) : أن محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) خلف في الأمة بعده كتاب الله تعالى طريقا واضحا، و علما قائما، و العلم المنار يهتدى به. ثم قسم ما بينه (عليه‌السلام ) في الكتاب أقساما: فمنها حلاله و حرامه، فالحلال كالنكاح، و الحرام كالزنا. و منها فضائله و فرائضه، فالفضائل النوافل، أي: هي فضلة غير واجبة كركعتي الصبح و غيرهما، و الفرائض كفريضة الصبح. و قال الراوندي: الفضائل هاهنا، جمع فضيلة، و هي الدرجة الرفيعة و ليس بصحيح ألا تراه كيف جعل الفرائض في مقابلتها و قسيما لها، فدل ذلك على أنه أراد النوافل.

____________________

(1) أساف وإساف، كسحاب وكتاب.

(2) ا: " التورع ".

١٢٠