كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 350

كتاب شرح نهج البلاغة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف: الصفحات: 350
المشاهدات: 85996
تحميل: 6275


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 350 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85996 / تحميل: 6275
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و أما قوله: (أحال الأشياء لأوقاتها)، فمن رواها أحل الأشياء لأوقاتها، فمعناه جعل محل كل شي‏ء و وقته كمحل الدين، و من رواها أحال فهو من قولك حال في متن فرسه، أي وثب و أحاله غيره أي أوثبه على متن الفرس عداه بالهمزة، و كأنه لما أقر الأشياء في أحيانها و أوقاتها صار كمن أحال غيره على فرسه. و قوله: (و لائم بين مختلفاتها)، أي: جعل المختلفات ملتئمات(1) كما قرن النفس الروحانية بالجسد الترابي جلت عظمته، و قوله: (و غرز غرائزها) المروي بالتشديد، و الغريزة الطبيعة و جمعها غرائز، و قوله: (غرزها) أي جعلها غرائز كما قيل سبحان من ضوأ الأضواء، و يجوز أن يكون من غرزت الإبرة بمعنى غرست، و قد رأيناه في بعض النسخ بالتخفيف. و قوله: (و ألزمها أشباحها)، الضمير المنصوب في ألزمها عائد إلى الغرائز، أي: ألزم الغرائز أشباحها، أي: أشخاصها جمع شبح و هذا حق؛ لأن كلا مطبوع على غريزة لازمة فالشجاع لا يكون جبانا و البخيل لا يكون جوادا، و كذلك كل الغرائز لازمة لا تنتقل. و قوله: (عالما بها قبل ابتدائها)، إشارة إلى أنه عالم بالأشياء فيما لم يزل، و قوله: (محيطا بحدودها و انتهائها)، أي بأطرافها و نهاياتها. و قوله: (عارفا بقرائنها و أحنائها)، القرائن جمع قرونة(2) و هي النفس و الأحناء الجوانب جمع حنو، يقول: إنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز التي ألزمها أشباحها، عارف بجهاتها و سائر أحوالها المتعلقة بها و الصادرة عنها.

____________________

(1) ب: " ملتئمة "، وما أثبته عن ا.

(2) ومنه قول أوس بن حجر:

فلاقي امرأ من ميدعان وأسمحت

قرونته باليأس منها فعجلا

أي طابت نفسه بتركها.

٨١

فأما القطب الراوندي، فإنه قال: معنى قوله (عليه‌السلام ) : (كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم، أنه لم يزل موجودا و لا يزال موجودا فهو باق أبدا كما كان موجودا أولا)، و هذا ليس بجيد؛ لأن اللفظ لا يدل على ذلك و لا فيه تعرض بالبقاء فيما لا يزال. و قال: أيضا قوله: (عليه‌السلام ) لا يستوحش كلام مستأنف و لقائل أن يقول كيف يكون كلاما مستأنفا و الهاء في فقده ترجع إلى السكن المذكور أولا. و قال أيضا: (يقال ما له في الأمر همة و لا همامة) أي لا يهم به و الهمامة التردد كالعزم و لقائل أن يقول العزم هو إرادة جازمة حصلت بعد التردد فبطل قوله أن الهمامة هي نفس التردد كالعزم، و أيضا فقد بينا مراده (عليه‌السلام ) بالهمامة، حكى زرقان(1) في كتاب المقالات و أبو عيسى الوراق(2) و الحسن بن موسى(3) ، و ذكره شيخنا أبو القاسم البلخي(4) في كتابه في المقالات أيضا عن الثنوية أن النور الأعظم اضطربت عزائمه و إرادته في غزو الظلمة و الإغارة عليها، فخرجت من ذاته قطعة و هي الهمامة المضطربة في نفسه فخالطت الظلمة غازية لها فاقتطعتها الظلمة عن النور الأعظم و حالت بينها و بينه، و خرجت همامة الظلمة غازية للنور الأعظم فاقتطعها النور الأعظم عن الظلمة و مزجها بأجزائه و امتزجت همامة النور بأجزاء الظلمة أيضا، ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان

____________________

(1) هو زرقان المتكلم، تلميذ إبراهيم بن سيار النظام، وقد حكى زرقان عن النظام أقوالا في الفرق 50 - 51، وذكره المسعودي في التنبيه والاشراف 342.

(2) هو أبو عيسى محمد بن هارون الوراق، كان من نظاري المعتزلة، وله تصانيف على مذهبهم. توفي سنة 247. لسان الميزان 5: 412.

(3) هو أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي، من متكلمي الإمامية، وذكره الطوسي في طبقاتهم، عاش في القرن الثالث. لسان الميزان 2: 258، روضات الجنات 13، تنقيح المقال 1: 312.

(4) هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي، شيخ المعتزلة، وكان على رأس طائفة منهم يقال لهم الكعبية، توفي سنة 319. ابن خلكان 1: 252.

٨٢

و تتدانيان، و هما ممتزجتان بأجزاء هذا و هذا حتى انبنى منهما هذا العالم المحسوس و لهم في الهمامة كلام مشهور و هي لفظة اصطلحوا عليها، و اللغة العربية ما عرفنا فيها استعمال الهمامة بمعنى الهمة، و الذي عرفناه الهمة بالكسر و الفتح و المهمة و تقول لا همام لي بهذا الأمر مبني على الكسر كقطام و لكنها لفظة اصطلاحية مشهورة عند أهلها: (ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ اَلْأَجْوَاءِ وَ شَقَّ اَلْأَرْجَاءِ وَ سَكَائِكَ اَلْهَوَاءِ فَأَجْرَى(1) [ أَجَازَ ] فِيهَا مَاءً مُتَلاَطِماً تَيَّارُهُ مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ اَلرِّيحِ اَلْعَاصِفَةِ وَ اَلزَّعْزَعِ اَلْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ وَ سَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَ قَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ اَلْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ وَ اَلْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اِعْتَقَمَ مَهَبَّهَا وَ أَدَامَ مُرَبَّهَا وَ أَعْصَفَ مَجْرَاهَا وَ أَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ اَلْمَاءِ اَلزَّخَّارِ وَ إِثَارَةِ مَوْجِ اَلْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ اَلسِّقَاءِ وَ عَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى إِلَى آخِرِهِ وَ سَاجِيَهُ [ سَاكِنَهُ ] عَلَى(2) إِلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ وَ رَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَ جَوٍّ مُنْفَهِقٍ فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً وَ عُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ سَمْكاً مَرْفُوعاً بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَ لاَ دِسَارٍ يَنْظِمُهَا(3) ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ اَلْكَوَاكِبِ وَ ضِيَاءِ اَلثَّوَاقِبِ وَ أَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَ قَمَراً مُنِيراً فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَ سَقْفٍ سَائِرٍ وَ رَقِيمٍ مَائِرٍ)

____________________

(1) أ: " فأجاز "، وكذلك في مخطوطة النهج.

(2) أ، ج" إلى "، وكذلك في مخطوطة النهج.

(3) ج: " ينتظمها ".

٨٣

لسائل أن يسأل فيقول: ظاهر هذا الكلام أنه سبحانه خلق الفضاء و السموات بعد خلق كل شي‏ء؛ لأنه قد قال: (قبل فطر الخلائق و نشر الرياح و وتد الأرض بالجبال)، ثم عاد فقال: (أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء) و هو الآن يقول: (ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء) و لفظة ثم للتراخي. فالجواب: أن قوله(1) : (ثم هو تعقيب و تراخ) لا في مخلوقات البارئ سبحانه بل في كلامه (عليه‌السلام )، كأنه يقول ثم أقول الآن بعد قولي المتقدم إنه تعالى أنشأ فتق الأجواء و يمكن أن يقال إن لفظة ثم هاهنا تعطي معنى الجمع المطلق كالواو، و مثل ذلك قوله تعالى:( وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى) (2) . و اعلم أن كلام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في هذا الفصل يشتمل على مباحث منها أن ظاهر لفظه أن الفضاء الذي هو الفراغ الذي يحصل فيه الأجسام خلقه الله تعالى، و لم يكن من قبل، و هذا يقتضي كون الفضاء شيئا؛ لأن المخلوق لا يكون عدما محضا، و ليس ذلك ببعيد فقد ذهب إليه قوم من أهل النظر و جعلوه جسما لطيفا خارجا عن مشابهة هذه الأجسام و منهم من جعله مجردا. فإن قيل: هذا الكلام يشعر بأن خلق الأجسام في العدم المحض قبل خلق الفضاء ليس بممكن و هذا ينافي العقل. قيل: بل هذا هو محض مذهب الحكماء، فإنهم يقولون إنه لا يمكن وجود جسم

____________________

(1) كذا في أ، وفي ب: " فالجواب قوله ".

(2) سورة طه 82.

٨٤

و لا حركة جسم خارج الفلك الأقصى و ليس ذلك إلا لاستحالة وجود الأجسام و حركتها إلا في الفضاء. و منها أن البارئ سبحانه خلق في الفضاء الذي أوجده ماء جعله على متن الريح فاستقل عليها و ثبت و صارت مكانا له، ثم خلق فوق ذلك الماء ريحا أخرى سلطها عليه فموجته تمويجا شديدا حتى ارتفع، فخلق منه السموات و هذا أيضا قد قاله قوم من الحكماء و من جملتهم تاليس الإسكندراني، و زعم أن الماء أصل كل(1) العناصر؛ لأنه إذا انجمد صار أرضا، و إذا لطف صار هواء، و الهواء يستحيل نارا؛ لأن النار صفوة الهواء. و يقال: إن في التوراة في أول السفر الأول كلاما يناسب هذا، و هو أن الله تعالى خلق جوهرا فنظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء، ثم ارتفع من ذلك الماء بخار كالدخان(2 فخلق منه السموات، و ظهر على وجه ذلك الماء زبد2) فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال. و منها أن السماء الدنيا موج مكفوف بخلاف السموات الفوقانية، و هذا أيضا قول قد ذهب إليه قوم و استدلوا عليه بما نشاهده(3) من حركة الكواكب المتحيرة و ارتعادها في مرأى(4) العين و اضطرابها قالوا؛ لأن المتحيرة متحركة في أفلاكها و نحن نشاهدها بالحس البصري و بيننا و بينها أجرام الأفلاك الشفافة و نشاهدها مرتعدة حسب ارتعاد الجسم السائر في الماء و ما ذاك إلا؛ لأن السماء الدنيا ماء متموج فارتعاد الكواكب

____________________

(1) كلمة " كل " ساقطة من ا.

(2 - 2 )ساقط من ا.

(3) ب: " شاهده ".

(4) إ: " مرائي ".

٨٥

المشاهدة حسا إنما هو بحسب ارتعاد أجزاء الفلك الأدنى، قالوا: فأما الكواكب الثابتة فإنا(1) لم نشاهدها كذلك؛ لأنها ليست بمتحركة، و أما القمر و إن كان في السماء الدنيا إلا أن فلك تدويره من جنس الأجرام الفوقانية، و ليس بماء متموج كالفلك الممثل التحتاني، و كذلك القول في الشمس. و منها أن الكواكب في قوله: (ثم زينها بزينة الكواكب) أين هي فإن اللفظ محتمل و ينبغي أن يتقدم على ذلك بحث في أصل قوله تعالى:( إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِزِينَةٍ اَلْكَواكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ) (2) . فنقول إن ظاهر هذا اللفظ أن الكواكب في السماء الدنيا و أنها جعلت فيها حراسة للشياطين من استراق السمع فمن دنا منهم لذلك رجم بشهاب، و هذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ، و مذهب الحكماء أن السماء الدنيا ليس فيها إلا القمر وحده، و عندهم أن الشهب المنقضة هي آثار تظهر في الفلك الأثيري الناري الذي تحت فلك القمر، و الكواكب لا ينقض منها شي‏ء و الواجب التصديق بما في ظاهر لفظ الكتاب العزيز، و أن يحمل كلام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) على مطابقته فيكون الضمير في قوله: (زينها) راجعا إلى سفلاهن التي قال: (إنها موج مكفوف) و يكون(3) الضمير في قوله: (و أجرى فيها) راجعا إلى جملة السموات إذا وافقنا الحكماء في أن الشمس في السماء الرابعة. و منها أن ظاهر الكلام يقتضي أن خلق السموات بعد خلق الأرض ألا تراه كيف لم يتعرض فيه لكيفية خلق الأرض أصلا، و هذا قول قد ذهب إليه جماعة من أهل الملة

____________________

(1) ب ا: " فإنا ".

(2) سورة الصافات 6، 7.

(3) ا: " فيكون ".

٨٦

و استدلوا(1) عليه بقوله تعالى:( قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ اَلْعالَمِينَ ) (2) ، ثم قال:( ثُمَّ اِسْتَوى‏ إِلَى اَلسَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ ) (3) . و منها أن الهاء في قوله: (فرفعه في هواء منفتق)، و الهاء في قوله: (فسوى منه سبع سموات) إلى ما ذا ترجع فإن آخر المذكورات قبلها الزبد، و هل يجوز أن تكون السموات مخلوقة من زبد الماء الحق أن الضمائر ترجع إلى الماء الذي عب عبابه لا إلى الزبد، فإن أحدا لم يذهب إلى أن السماء مخلوقة من زبد الماء، و إنما قالوا: إنها مخلوقة من بخاره. و منها أن يقال: إن البارئ سبحانه قادر على خلق الأشياء إبداعا و اختراعا فما الذي اقتضى أنه خلق المخلوقات على هذا الترتيب، و هلا أوجدها إيجاد الماء الذي ابتدعه أولا من غير شي‏ء. فيقال: في جواب ذلك على طريق أصحابنا لعل إخباره للمكلفين بذلك على هذا الترتيب يكون لطفا بهم(4) ، و لا يجوز الإخبار منه تعالى إلا و المخبر عنه مطابق للإخبار. فهذا حظ المباحث المعنوية من هذا الفصل. ثم نشرع في تفسير ألفاظه: أما (الأجواء) فجمع جو، و الجو هنا الفضاء العالي بين السماء و الأرض، و (الأرجاء)

____________________

(1) إ: " استدلوا "

(2) سورة فصلت 9.

(3) سورة فصلت 10.

(4) كذا فى ج، وفي ا، ب:"لهم".

٨٧

الجوانب واحدها رجا مثل عصا، و (السكائك) جمع سكاكة، و هي أعلى الفضاء كما قالوا ذؤابة و ذوائب و التيار الموج و المتراكم الذي بعضه فوق بعض، و (الزخار) الذي يزخر، أي يمتد و يرتفع و الريح الزعزع الشديدة الهبوب، و كذلك القاصفة كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها و معنى قوله: (فأمرها برده) أي بمنعه عن الهبوط؛ لأن الماء ثقيل و من شأن الثقيل الهوي، و معنى قوله: (و سلطها على شدة) أي على وثاقة، كأنه سبحانه لما سلط البريح على منعه من الهبوط فكأنه قد شده بها و أوثقه و منعه من الحركة، و معنى قوله: (و قرنها إلى حده)، أي جعلها مكانا له أي جعل حد الماء المذكور، و هو سطحه الأسفل مما ساطح الريح التي تحمله و تقله، و الفتيق المفتوق المنبسط و الدفيق المدفوق و اعتقم مهبها، أي جعل هبوبها عقيما و الريح العقيم التي لا تلقح سحابا و لا شجرا، و كذلك كانت تلك الريح المشار إليها؛ لأنه سبحانه إنما خلقها لتمويج الماء فقط و أدام مربها أي ملازمتها أرب بالمكان مثل ألب به أي: لازمه. و معنى قوله: (وعصفت به عصفها بالفضاء)، فيه(1) معنى لطيف؛ يقول إن الريح إذا عصفت بالفضاء الذي لا أجسام فيه كان عصفها شديدا لعدم المانع، و هذه الريح عصفت بذلك الماء العظيم عصفا شديدا كأنها تعصف في فضاء لا ممانع لها فيه من الأجسام. و الساجي الساكن و المائر الذي يذهب و يجي‏ء و عب عبابه، أي: ارتفع أعلاه و ركامه ثبجه و هضبه(2) و الجو المنفهق المفتوح الواسع، و الموج المكفوف الممنوع من السيلان و عمد يدعمها يكون لها دعامة و الدسار واحد الدسر و هي المسامير. و الثواقب النيرة المشرقة و سراجا مستطيرا، أي: منتشر الضوء يقال: قد استطار

____________________

(1) كلمة " فيه " ساقطة من ب.

(2) أ: " هضبه "؟.

٨٨

الفجر، أي انتشر ضوءه و رقيم مائر، أي لوح متحرك سمي الفلك رقيما تشبيها باللوح؛ لأنه مسطح فأما القطب الراوندي فقال: إنه (عليه‌السلام ) ذكر قبل هذه الكلمات أنه أنشأ حيوانا له أعضاء و أحناء، ثم ذكر هاهنا أنه فتق السماء و ميز بعضها عن بعض، ثم ذكر أن بين كل سماء و سماء مسيرة خمسمائة عام، و هي سبع سموات و كذلك بين كل أرض و أرض و هي سبع أيضا، و روى حديث البقرة التي تحمل الملك الحامل للعرش و الصخرة التي تحمل البقرة و الحوت الذي يحمل الصخرة. و لقائل أن يقول إنه (عليه‌السلام ) لم يذكر فيما تقدم أن الله تعالى خلق حيوانا ذا أعضاء و لا قوله الآن، ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء هو معنى قوله تعالى:( أَنَّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) (1) ألا تراه كيف صرح (عليه‌السلام ) بأن البارئ سبحانه خلق الهواء الذي هو الفضاء و عبر عن ذلك بقوله، ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء و ليس فتق الأجواء هو فتق السماء. فإن قلت فكيف يمكن التطبيق بين كلامه (عليه‌السلام ) و بين الآية. قلت إنه تعالى لما سلط الريح على الماء فعصفت به حتى جعلته بخارا و زبدا و خلق من أحدهما السماء و من الآخر الأرض كان فاتقا لهما من شي‏ء واحد و هو الماء. فأما حديث البعد بين السموات و كونه مسيرة خمسمائة عام بين كل سماء و سماء، فقد ورد ورودا لم يوثق به و أكثر(2) الناس على خلاف ذلك، و كون الأرض سبعا أيضا

____________________

(1) سورة الأنبياء 30.

(2) أ: " فأكثر "، وما أثبته عن ا ب.

٨٩

خلاف ما يقوله جمهور العقلاء، و ليس في القرآن العزيز ما يدل على تعدد الأرض إلا قوله تعالى:( وَمِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ) (1) و قد أولوه على الأقاليم السبعة و حديث الصخرة و الحوت و البقرة من الخرافات في غالب الظن، و الصحيح أن الله تعالى يمسك الكل بغير واسطة جسم آخر. ثم قال الراوندي السكائك جمع سكاك، و هذا(2) غير جائز؛ لأن فعالا لا يجمع على فعائل و إنما هو جمع سكاكة ذكر ذلك الجوهري(3) . ثم قال و سلطها على شده الشد العدو، و لا يجوز حمل الشد هاهنا على العدو؛ لأنه لا معنى له و الصحيح ما ذكرناه. و قال في تفسير قوله (عليه‌السلام ) : جعل سفلاهن موجا مكفوفا أراد تشبيهها بالموج لصفائها و اعتلائها، فيقال له: إن الموج ليس بعال ليشبه به الجسم العالي، و أما صفاؤه فإن كل السموات صافية فلما ذا خص سفلاهن بذلك. ثم قال: و يمكن أن تكون السماء السفلى قد كانت أول ما وجدت موجا، ثم عقدها يقال له و السموات الأخر كذلك كانت فلما ذا خص السفلى بذلك. ثم قال الريح الأولى غير الريح الثانية؛ لأن إحداهما معرفة و الأخرى نكرة و هذا مثل قوله صم اليوم صم يوما فإنه يقتضي يومين. يقال له: ليست المغايرة بينهما مستفادة من مجرد التعريف و التنكير؛ لأنه لو كان قال

____________________

(1) سورة الطلاق 12.

(2) ب: " وهو "، وما أثبته عن ا.

(3) الصحاح ص 1591، والذي فيه: " والسكاك والسكاكة: الهواء الذي يلاقي أعنان السماء ".

٩٠

(عليه‌السلام ) و حمله على متن ريح عاصفة و زعزع قاصفة لكانت الريحان الأولى و الثانية منكرتين معا و هما متغايرتان، و إنما علمنا تغايرهما؛ لأن إحداهما تحت الماء و الأخرى فوقه و الجسم الواحد لا يكون في جهتين: (ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ اَلسَّمَوَاتِ اَلْعُلاَ فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ مِنْهُمْ سُجُودٌ لاَ يَرْكَعُونَ وَ رُكُوعٌ لاَ يَنْتَصِبُونَ وَ صَافُّونَ لاَ يَتَزَايَلُونَ وَ مُسَبِّحُونَ لاَ يَسْأَمُونَ لاَ يَغْشَاهُمْ نَوْمُ اَلْعُيُونِ وَ لاَ سَهْوُ اَلْعُقُولِ وَ لاَ فَتْرَةُ اَلْأَبْدَانِ وَ لاَ غَفْلَةُ اَلنِّسْيَانِ وَ مِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَ أَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ وَ مُخْتَلِفُونَ [ مُتَرَدِّدُونَ ] بِقَضَائِهِ(1) وَ أَمْرِهِ وَ مِنْهُمُ اَلْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَ اَلسَّدَنَةُ [ اَلسَّنَدَةُ ] لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ وَ مِنْهُمُ اَلثَّابِتَةُ فِي اَلْأَرَضِينَ اَلسُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ وَ اَلْمَارِقَةُ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ وَ اَلْخَارِجَةُ مِنَ اَلْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ وَ اَلْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ اَلْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ اَلْعِزَّةِ وَ أَسْتَارُ اَلْقُدْرَةِ لاَ يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ وَ لاَ يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ اَلْمَصْنُوعِينَ [ اَلْمَخْلُوقِينَ ] وَ لاَ يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ وَ لاَ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ)

القول في الملائكة و أقسامهم

الملك عند المعتزلة حيوان نوري فمنه شفاف عادم اللون كالهواء، و منه ملون بلون الشمس، و الملائكة عندهم قادرون عالمون أحياء بعلوم و قدر و حياة كالواحد منا و مكلفون كالواحد منا إلا أنهم معصومون، و لهم في كيفية تكليفهم كلام؛ لأن التكليف

____________________

(1) مخطوطة النهج: " لقضائه ".

٩١

مبني على الشهوة. و في كيفية خلق الشهوة فيهم نظر و ليس هذا الكتاب موضوعا للبحث في ذلك و قد جعلهم (عليه‌السلام ) في هذا الفصل أربعة أقسام القسم الأول: أرباب العبادة، فمنهم من هو ساجد أبدا لم يقم من سجوده ليركع، و منهم من هو راكع أبدا لم ينتصب قط و منهم الصافون في الصلاة بين يدي خالقهم لا يتزايلون، و منهم المسبحون الذين لا يملون التسبيح و التحميد له سبحانه. و القسم الثاني: السفراء بينه تعالى و بين المكلفين من البشر بتحمل الوحي الإلهي إلى الرسل و المختلفون بقضائه و أمره إلى أهل الأرض. و القسم الثالث: ضربان أحدهما حفظة العباد كالكرام الكاتبين و كالملائكة الذين يحفظون البشر من المهالك و الورطات، و لو لا ذلك لكان العطب أكثر من السلامة و ثانيهما سدنة الجنان. القسم الرابع: حملة العرش. و يجب أن يكون الضمير في دونه و هو الهاء راجعا إلى العرش لا إلى البارئ سبحانه، و كذلك الهاء في قوله تحته و يجب أن تكون الإشارة بقوله و بين من دونهم إلى الملائكة الذين دون هؤلاء في الرتبة. فأما ألفاظ الفصل فكلها غنية عن التفسير إلا يسيرا كالسدنة جمع سادن، و هو الخادم و المارق الخارج و تلفعت بالثوب، أي: التحفت به. و أما(1) القطب الراوندي فجعل الأمناء على الوحي و حفظة العباد و سدنة الجنان

____________________

(1) ا: " فأما ".

٩٢

قسما واحدا فأعاد الأقسام الأربعة إلى ثلاثة و ليس بجيد؛ لأنه قال: و منهم الحفظة فلفظة و منهم تقتضي كون الأقسام أربعة؛ لأنه بها فصل بين الأقسام. و قال أيضا معنى قوله (عليه‌السلام ) لا يغشاهم نوم العيون يقتضي أن لهم نوما قليلا لا يغفلهم عن ذكر الله سبحانه، فأما البارئ سبحانه فإنه لا تأخذه سنة و لا نوم أصلا مع أنه حي و هذه هي المدحة العظمى. و لقائل أن يقول لو ناموا قليلا لكانوا زمان ذلك النوم و إن قل غافلين عن ذكر الله سبحانه؛ لأن الجمع بين النوم و بين الذكر مستحيل. و الصحيح أن الملك لا يجوز عليه النوم كما لا يجوز عليه الأكل و الشرب؛ لأن النوم من توابع المزاج و الملك لا مزاج له، و أما مدح البارئ بأنه لا تأخذه سنة و لا نوم فخارج عن هذا الباب؛ لأنه تعالى يستحيل عليه النوم استحالة ذاتية لا يجوز تبدلها، و الملك يجوز أن يخرج عن كونه ملكا بأن يخلق في أجزاء جسمه رطوبة و يبوسة و حرارة و برودة يحصل من اجتماعها مزاج، و يتبع ذلك المزاج النوم فاستحالة النوم عليه إنما هي ما دام ملكا فهو كقولك الماء بارد، أي ما دام ماء؛ لأنه يمكن أن يستحيل هواء، ثم نارا فلا يكون باردا؛ لأنه ليس حينئذ ماء و البارئ جلت عظمته يستحيل على ذاته أن يتغير فاستحال عليه النوم استحالة مطلقة مع أنه حي و من هذا إنشاء التمدح، و روى أبو هريرة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) أن الله خلق الخلق أربعة أصناف، الملائكة و الشياطين و الجن و الإنس، ثم جعل الأصناف الأربعة عشرة أجزاء فتسعة منها الملائكة و جزء واحد الشياطين و الجن و الإنس، ثم جعل هؤلاء الثلاثة عشرة أجزاء، فتسعة منها الشياطين و جزء واحد الجن و الإنس، ثم جعل الجن و الإنس عشرة أجزاء، فتسعة منها الجن و جزء واحد الإنس،

٩٣

و في الحديث الصحيح أن الملائكة كانت تصافح عمران بن الحصين و تزوره ثم افتقدها، فقال: يا رسول الله، إن رجالا كانوا يأتونني لم أر أحسن وجوها و لا أطيب أرواحا منهم ثم انقطعوا، فقال: (عليه‌السلام ) أصابك جرح فكنت تكتمه فقال: أجل، قال: ثم أظهرته، قال: أجل، قال: أما لو أقمت على كتمانه لزارتك الملائكة إلى أن تموت، و كان هذا الجرح أصابه في سبيل الله. و قال سعيد بن المسيب و غيره: الملائكة ليسوا بذكور و لا إناث و لا يتوالدون و لا يأكلون و لا يشربون، و الجن يتوالدون و فيهم ذكور و إناث و يموتون، و الشياطين ذكور و إناث و يتوالدون و لا يموتون حتى يموت إبليس. و قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) في رواية أبي ذر، إني أرى ما لا ترون و أسمع ما لا تسمعون، أطت السماء و حق لها أن تئط(1) فما فيها موضع شبر إلا و فيه ملك قائم أو راكع أو ساجد واضع جبهته لله، و الله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا، و ما تلذذتم بالنساء على الفرش، و لخرجتم إلى الفلوات تجأرون إلى الله، و الله لوددت أني كنت شجرة تعضد(2) ، قلت: و يوشك هذه الكلمة الأخيرة أن تكون قول أبي ذر. و اتفق أهل الكتب على أن رؤساء الملائكة و أعيانهم أربعة، جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل، و هو ملك الموت، و قالوا: إن إسرافيل صاحب الصور و إليه النفخة، و إن ميكائيل صاحب النبات و المطر، و إن عزرائيل على أرواح الحيوانات، و إن جبرائيل على جنود السموات و الأرض كلها، و إليه تدبير الرياح و هو ينزل إليهم كلهم بما يؤمرون به.

____________________

(1) ذكره ابن الأثير في النهاية 1: 35، وقال: " الأطيط: صوت الأقتاب، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها، أي أن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثم أطيط، وإنما هو كلام تقريب، أريد به تقرير عظمة الله تعالى ".

(2) تعضد: تقطع، وانظر النهاية لابن الأثير 3: 104.

٩٤

و روى أنس بن مالك: أنه قيل لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ما هؤلاء الذين استثني بهم في قوله تعالى:( فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اَللَّهُ ) (1) ، فقال: جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل، فيقول الله عز و جل لعزرائيل: يا ملك الموت، من بقي؟ و هو سبحانه أعلم، فيقول: سبحانك ربي ذا الجلال و الإكرام بقي جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت، فيقول: يا ملك الموت، خذ نفس إسرافيل، فيقع في صورته التي خلق عليها كأعظم ما يكون من الأطواد، ثم يقول و هو أعلم: من بقي؟ يا ملك الموت، فيقول: سبحانك ربي يا ذا الجلال و الإكرام، جبرائيل و ميكائيل و ملك الموت، فيقول خذ نفس ميكائيل، فيقع في صورته التي خلق عليها و هي أعظم ما يكون من خلق إسرافيل بأضعاف مضاعفة، ثم يقول سبحانه: يا ملك الموت، من بقي؟ فيقول: سبحانك ربي ذا الجلال و الإكرام جبرائيل و ملك الموت، فيقول تعالى: يا ملك الموت، مت فيموت، و يبقى جبرائيل، و هو من الله تعالى بالمكان الذي ذكر لكم فيقول الله يا جبرائيل، إنه لابد من أن يموت أحدنا، فيقع جبرائيل ساجدا يخفق بجناحيه يقول: سبحانك ربي و بحمدك أنت الدائم القائم الذي لا يموت و جبرائيل الهالك الميت الفاني، فيقبض الله روحه فيقع على ميكائيل و إسرافيل، و أن فضل خلقه على خلقهما كفضل الطود العظيم على الظرب(2) من الظراب، و في الأحاديث الصحيحة أن جبرائيل كان يأتي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) على صورة دحية الكلبي و أنه كان يوم بدر على فرس اسمه حيزوم، و أنه سمع ذلك اليوم صوته أقدم حيزوم(3) .

____________________

(1) سورة الزمر 68.

(2) الضرب، ككتف: الجبل الصغير.

(3) الخبر في اللسان (حزم (؛ وفيه: "أراد أقدم ياحيزم؛ فحذف حرف النداء والياء فيسه " زائدة".

٩٥

و الكروبيون(1) عند أهل الملة سادة الملائكة كجبرائيل و ميكائيل، و عند الفلاسفة أن سادة الملائكة هم الروحانيون يعنون العقول الفعالة و هي المفارقة للعالم الجسماني المسلوبة التعلق به لا بالحول و لا بالتدبير، و أما الكروبيون فدون الروحانيين في المرتبة، و هي أنفس الأفلاك المدبرة لها الجارية منها مجرى نفوسنا مع أجسامنا. ثم هي على قسمين، قسم أشرف و أعلى من القسم الآخر، فالقسم الأشرف ما كان نفسا ناطقة غير حالة في جرم الفلك كأنفسنا بالنسبة إلى أبداننا، و القسم الثاني ما كان حالا في جرم الفلك و يجري ذلك مجرى القوى التي في أبداننا كالحس المشترك و القوة الباصرة: (مِنْهَا فِي صِفَةِ خَلْقِ آدَمَ (عليه‌السلام ) ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ اَلْأَرْضِ وَ سَهْلِهَا وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا تُرْبَةً سَنَّهَا [ سَنَاهَا ] بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ وَ لاَطَهَا بِالْبِلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ وَ أَعْضَاءٍ وَ فُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى اِسْتَمْسَكَتْ وَ أَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أَمَدٍ [ أَجَلٍ ] أَجَلٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ فَتَمَثَّلَتْ(2) إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ يُجِيلُهَا وَ فِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا وَ جَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا وَ أَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ اَلْحَقِّ وَ اَلْبَاطِلِ وَ اَلْأَذْوَاقِ وَ اَلْمَشَامِّ وَ اَلْأَلْوَانِ وَ اَلْأَجْنَاسِ مَعْجُوناً بِطِينَةِ اَلْأَلْوَانِ اَلْمُخْتَلِفَةِ

____________________

(1) الكروبيون، مخففة الراء - على ما قاله صاحب القاموس -: هم أقرب الملائكة إلى حملة العرش، وأصله من الكرب وهو القرب، قال أمية:

ملائكة لا يفترون عبادة

كروبية منهم ركوع وسجد

(2) مخطوطة النهج: " فمثلت

٩٦

(1 وَ اَلْأَشْبَاهِ اَلْمُؤْتَلِفَةِ1) [ اَلْمُتَّفِقَةِ ] وَ اَلْأَضْدَادِ اَلْمُتَعَادِيَةِ وَ اَلْأَخْلاَطِ اَلْمُتَبَايِنَةِ مِنَ اَلْحَرِّ وَ اَلْبَرْدِ وَ اَلْبِلَّةِ وَ اَلْجُمُودِ وَ اَلْمَسَاءَةِ وَ اَلسُّرُورِ وَ اِسْتَأْدَى اَللَّهُ سُبْحَانَهُ اَلْمَلاَئِكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ وَ عَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِمْ فِي اَلْإِذْعَانِ بِالسُّجُودِ لَهُ وَ اَلْخُنُوعِ [ وَ اَلْخُشُوعِ ] لِتَكْرِمَتِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ لَهُمْ:( اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ ) (2) وَ قَبيلَهُ اِعْتَرَتْهُمُ اِعْتَرَتْهُ اَلْحَمِيَّةُ وَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ عَلَيْهِ اَلشِّقْوَةُ وَ تَعَزَّزُوا تَعَزَّزَ بِخِلْقَةِ اَلنَّارِ وَ اِسْتَوْهَنُوا اِسْتَوْهَنَ خَلْقَ اَلصَّلْصَالِ فَأَعْطَاهُ اَللَّهُ اَلنَّظِرَةَ اِسْتِحْقَاقاً لِلسَّخْطَةِ وَ اِسْتِتْمَاماً لِلْبَلِيَّةِ وَ إِنْجَازاً لِلْعِدَةِ فَقَالَ( فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ ) (3) الحزن ما غلظ من الأرض و سبخها ما ملح منها و سنها بالماء، أي ملسها قال:

ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء

تمشي في مرمر مسنون(4)

أي مملس، و (لاطها) من قولهم لطت الحوض بالطين، أي ملطته و طينته به، و (البلة) بفتح الباء من البلل، و (لزبت) بفتح الزاي، أي التصقت و ثبتت فجبل منها، أي خلق و الأحناء الجوانب جمع حنو، و (أصلدها) جعلها صلدا، أي: صلبا متينا، و (صلصلت) يبست، و هو الصلصال و يختدمها يجعلها في مآربه و أوطاره، كالخدم الذين تستعملهم و تستخدمهم، و استأدى الملائكة وديعته طلب منهم أداءها و الخنوع الخضوع و الشقوة بكسر الشين، و في الكتاب العزيز( رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا

____________________

(1 - 1 (تكملة مخطوطة النهج.

(2) سورة البقرة 34.

(3) سورة ص 80، 81

(4) لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت من أبيات يشبب فيها بابنة معاوية، كذا نسبه صاحب اللسان 71: 88 ونقل عن ابن بري أنها تروى لأبي دهبل.

٩٧

شِقْوَتُنا ) (1) و استوهنوا عدوه واهنا ضعيفا، و النظرة بفتح النون و كسر الظاء الإمهال و التأخير. فأما معاني الفصل فظاهرة، و فيه مع ذلك مباحث. منها أن يقال: اللام في قوله لوقت معدود بما ذا تتعلق. و الجواب: أنها تتعلق بمحذوف تقديره حتى صلصلت كائنة لوقت، فيكون الجار و المجرور في موضع الحال، و يكون معنى الكلام أنه أصلدها حتى يبست و جفت معدة لوقت معلوم فنفخ حينئذ روحه فيها، و يمكن أن تكون اللام متعلقة بقوله فجبل، أي جبل و خلق من الأرض هذه الجثة لوقت، أي لأجل وقت معلوم و هو يوم القيامة. و منها أن يقال: لماذا قال من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها. و الجواب: أن المراد من ذلك أن يكون الإنسان مركبا من طباع مختلفة، و فيه استعداد للخير و الشر و الحسن و القبح. و منها أن يقال: لما ذا أخر نفخ الروح في جثة آدم مدة طويلة، فقد قيل إنه بقي طينا تشاهده الملائكة أربعين سنة و لا يعلمون ما المراد به. و الجواب: يجوز أن يكون في ذلك(2 لطف للملائكة؛ لأنهم تذهب ظنونهم في ذلك2) كل مذهب فصار كإنزال المتشابهات الذي تحصل به رياضة الأذهان و تخريجها و في ضمن ذلك يكون اللطف، و يجوز أن يكون في أخبار ذرية آدم بذلك فيما بعد لطف بهم(3) و لا يجوز إخبارهم بذلك إلا إذا كان المخبر عنه حقا

____________________

(1) سورة المؤمنين 106.

(2 - 2 (ساقط من ا.

(3) " لهم".

٩٨

و منها أن يقال: ما المعني بقوله: (ثم نفخ فيها من روحه). الجواب: أن النفس لما كانت جوهرا مجردا لا متحيزة و لا حالة في المتحيز حسن لذلك نسبتها إلى البارئ؛ لأنها أقرب إلى الانتساب إليه من الجثمانيات(1) ، و يمكن أيضا أن تكون لشرفها مضافة إليه كما يقال بيت الله للكعبة، و أما النفخ فعبارة عن إفاضة النفس على الجسد، و لما نفخ الريح في الوعاء عبارة عن إدخال الريح إلى جوفه و كان الإحياء عبارة عن إفاضة النفس على الجسد، و يستلزم ذلك حلول القوى و الأرواح في الجثة باطنا و ظاهرا سمي ذلك نفخا مجازا. و منها أن يقال: ما معنى قوله: (معجونا بطينة الألوان المختلفة). الجواب: أنه (عليه‌السلام ) قد فسر ذلك بقوله من الحر و البرد و البلة و الجمود، يعني الرطوبة و اليبوسة، و مراده بذلك المزاج الذي هو كيفية واحدة حاصلة من كيفيات مختلفة قد انكسر بعضها ببعض و قوله معجونا صفة إنسانا و الألوان المختلفة يعنى الضروب و الفنون كما تقول(2) في الدار ألوان من الفاكهة. و منها أن يقال ما المعني بقوله و استأدى الملائكة وديعته لديهم و كيف كان هذا العهد و الوصية بينه و بينهم. الجواب أن العهد و الوصية هو قوله تعالى لهم:( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) (3) .

____________________

(1) يقال: جثمانالرجل وجسمانه، أى جسده.

(1) ا: " كما يقال ".

(2) سورة ص 71، 72.

٩٩

و منها أن يقال كيف كانت شبهة إبليس و أصحابه في التعزز بخلقة النار. الجواب لما كانت النار مشرقة بالذات و الأرض مظلمة و كانت النار أشبه بالنور و النور أشبه بالمجردات جعل إبليس ذلك حجة احتج بها في شرف عنصره على عنصر آدم (عليه‌السلام ) و لأن النار أقرب إلى الفلك من الأرض، و كل شي‏ء كان أقرب إلى الفلك من غيره كان أشرف و البارئ تعالى لم يعتبر ذلك و فعل سبحانه ما يعلم أنه المصلحة و الصواب. و منها أن يقال كيف يجوز السجود لغير الله تعالى. و الجواب: أنه قيل إن السجود لم يكن إلا لله تعالى، و إنما كان آدم (عليه‌السلام ) قبلة و يمكن أن يقال إن السجود لله على وجه العبادة و لغيره على وجه التكرمة كما سجد أبو يوسف و إخوته له، و يجوز أن تختلف الأحوال و الأوقات في حسن ذلك و قبحه. و منها أن يقال كيف جاز على ما تعتقدونه من حكمة البارئ أن يسلط إبليس على المكلفين أليس هذا هو الاستفساد الذي تأبونه و تمنعونه. و الجواب أما الشيخ أبو علي (رحمه‌الله )، فيقول حد المفسدة ما وقع عند الفساد و لولاه لم يقع مع تمكن المكلف من الفعل في الحالين و من فسد بدعاء إبليس لم يتحقق فيه هذا الحد؛ لأن الله تعالى علم أن كل من فسد عند دعائه فإنه يفسد و لو لم يدعه. و أما أبو هاشمرحمه‌الله فيحد المفسدة(1) بهذا الحد أيضا، و يقول إن في الإتيان بالطاعة مع دعاء إبليس إلى القبيح مشقة زائدة على مشقة الإتيان بها لو لم يدع إبليس إلى

____________________

(1) ج:"الفساد".

١٠٠