المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية

المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية18%

المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 220

  • البداية
  • السابق
  • 220 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29100 / تحميل: 7307
الحجم الحجم الحجم
المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية

المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ب :( وَلا تَنْقُضُوا الإيْمان بَعْد تَوكيدها ) فالأيمان جمع يمين.

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين ، والظاهر اختصاص الأولى بالعهود التي يبرمها مع الله تعالى ، كما إذا قال : عاهدت الله لأفعلنّه ، أو عاهدت الله أن لا أفعله.

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد الله.

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم الله ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه.

ثمّ إنّه قيّد الأيمان بقوله : بعد توكيدها ، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين : قسم يطلق عليه لقب اليمين ، بلا عزم في القلب وتأكيد له ، كقول الإنسان حسب العادة والله وبالله.

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد ، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين ، يقول سبحانه :( لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الإيْمان ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل تحريم نقض العهد ، بقوله :( وَقَد جَعَلتم الله علَيكم كفيلاً انّ الله يعلم ما تَفْعلون ) أي جعلتم الله كفيلاً بالوفاء فمن حلف بالله فكأنّه أكفل الله بالوفاء.

فالحالف إذا قال : والله لأفعلنّ كذا ، أو لأتركنّ كذا ، فقد علّق ما حلف عليه نوعاً من التعليق على الله سبحانه ، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه

__________________

١ ـ المائدة : ٨٩.

١٨١

اليمين ، فإن نكث ولم يفِ كان لكفيله أن يؤدبه ، ففي نكث اليمين ، إهانة وإزراء بساحة العزة.

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، قال :( وَلاتَكُونُوا كَالّتى نَقَضَت غزلها مِنْ بعْدل قُوّة أنكاثاً ) مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها وبيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر ، ثمّ تنقض ما غزلته ، وقد عرفت في قوله ب‍ « الحمقاء » فكذلك حال من أبرم عهداً مع الله وباسمه ثمّ يقدم على نقضه ، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين ، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً ، يقول سبحانه :( تَتَّخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمّة هي أربى من أمّة ) فقوله « أربى » من الربا بمعنى الزيادة ، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش ، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد ، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه ، كما يقول سبحانه :( إنّما يبلوكم الله به وليبيّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به ، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هوا لمهتدي.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١٢ / ٣٣٦.

١٨٢

النحل

٣٠

التمثيل الثلاثون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون ) .(١)

تفسير الآيات

« رغد » عيش رغد ورغيد : طيّب واسع ، قال تعالى :( وكلا منها رغداً ) .

يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث :

أ : آمنة : أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم ، ولا يُشنُّ عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال ، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.

ب : مطمئنة : أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق ، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار ، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه ، فالاطمئنان رهن الأمن.

____________

١ ـ النحل : ١١٢ ـ ١١٣.

١٨٣

ج :( يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان ) ، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية ، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى ، والدليل على ذلك ، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب :( وَاسئلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصادِقُون ) .(١) والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.

وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الاَصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.

هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية ، أعنيبعث الرسول إليها ، كما أشار إليه في الآية الثانية ، بقوله :( وَلَقد جاءهُمْ رسول منهم ) .

وهوَلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا الله عليها كفروا بها.

أمّا النعمة المعنوية ، أعني : الرسول فكذّبوه ـ كما هو صريح الآية الثانية ـ وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.

روى العياشي ، عن حفص بن سالم ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : « إنّ قوماً في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها ، فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها

__________________

١ ـ يوسف : ٨٢.

١٨٤

ويأكلونها ، وهو قول الله :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) ».(١)

وفي رواية أخرى عن زيد الشحّام ، عن الصادقعليه‌السلام قال : كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلاّ أن يمصّها ، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها ، قال : فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم ، ثم قال : إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.

قالعليه‌السلام : فلمّا فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد ، فلم تدع لهم شيئاً خلقه الله إلاّ أكلته من شجر أو غيره ، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه وهي القرية التي قال الله تعالى :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .(٢)

وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة الله. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية ، فكلّ ذلك كفران لنعم الله.

ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية ، وأشار إليها

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩١ ، حديث ٢٤٧.

٢ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩٢ ، حديث ٢٤٨.

١٨٥

بآيتين :

الاَُولى :( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .

الثانية :( فَأخذهم العذاب وهم ظالمون ) .

فلنرجع إلى الآية الأولى ، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.

وهناك سؤال مطروح منذ القدم وهو أنّه سبحانه جمع في الآية الأولى بين الذوق واللباس ، فقال :( فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الجُوعِ ) مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم ، بأن يقول : « فأذاقها الله طعم الجوع ».

ومقتضى اللفظ الثاني أعني : اللباس ، أن يقول : « فكساهم الله لباس الجوع » فلماذا عدل عـن تلك الجملتين إلى جملة ثالثــة لا صلـة لها ـ حسب الظاهر ـ بين اللفظين ؟

والجواب : انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.

أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم ، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس ، ولذلك قال :( لباس الجوع والخوف ) ولم يقل « الجوع والخوف » لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.

وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع ، لأنّ الإنسان يذوق الطعام ، وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش والخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته ، فقال :( فَأَذاقَهُمُ الله لِباس الجوع والخَوف ) .

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وأمّا ما هو المرادمن تلك القرية بأوصافها الثلاثة ، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

١٨٦

نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة ، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه ، ثمّ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة وهي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكفروا به وبالغوا في إيذائه ، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.

قال المفسرون : عذّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

وأمّا الخوف ، فهو انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله :( أَوَ لَمْ نُمَكّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَيْءٍ ) .(١)

ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.

أمّا أوّلاً : فلأنَّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.

وثانياً : لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة ، وان كان يذكره بعض المفسرين.

وثالثاً : انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبّة تماديهم في كفرهم ، والسورة مكية إلاّ آيات قليلة ، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف ، لتكون أحوال تلك الأمم عبرة للمشركين من أهل مكة وما والاها.

__________________

١ ـ القصص : ٥٧.

١٨٧

الاِسراء

٣١

التمثيل الواحد والثلاثون

( وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) .(١)

تفسير الآيات « الغلُّ » : ما يقيَّد به ، فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال ، ومعنى قوله :( مغلولة إلى عنقك ) أي مقيَّدة به.

« الحسرة » : الغم على ما فاته والندم عليه ، وعلى ذلك يكون محسوراً ، عطف تفسير لقوله « ملوماً » ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه ، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الاِعطاء والبذل ، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك ، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وهذا كناية عن الإسراف ، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية

__________________

١ ـ الإسراء : ٢٩ ـ ٣٠.

١٨٨

وإن لم يكن منطوقاً ، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء ، فقد تضمّنته آية أخرى في سورة الفرقان ، وهي :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) .(١)

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها.

روى الطبري أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : قل له : إنّ أمّي تستكسيك درعاً ، فإن قال : حتى يأتينا شيء. ، فقل له : انّها تستكسيك قميصك.

فأتاه ، فقال ما قالت له ، فنزع قميصه فدفعه إليه ، فنزلت الآية.

ويقال انّهعليه‌السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار ، وقالوا : إنّ محمداً اشتغل بالنوم واللهو عن الصلاة( إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) أي يوسع مرة ويضيق مرة ، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه.(٢)

روى الكليني عن عبدالملك بن عمرو الأحول ، قال : تلا أبو عبد الله هذه الآية :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَم يسرفُوا وَلم يقتروا وَكان بين ذلكَ قواماً ) .

قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أخرى ، فأرخى كفه كلها ، ثمّ قال : هذا الإسراف ، ثمّ قبض قبضة أخرى فأرخى بعضها ، وقال : هذا القوام.(٣)

__________________

١ ـ الفرقان : ٦٧.

٢ ـ مجمع البيان : ٣ / ٤١٢.

٣ ـ البرهان في تفسير القرآن : ٣ / ١٧٣.

١٨٩

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون ، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم وانّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به ، فالشمس ترسل ٤٥٠ ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما ، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

إنّ النحل يمتصّ رحيق الاَزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً ، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة ، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الاِفراط والتفريط ، فمنع عن الشح ، كما منع عن الإسراف في البذل.

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان ، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله :( وَ اقْصُدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير ) .(١)

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية ، فمن جانب يصرح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام .(٢)

ومن جانب آخر يقول الإمام عليعليه‌السلام : « هلك فيّ اثنان : محب غال ، ومبغض قال ».(٣)

__________________

١ ـ لقمان : ١٩.

٢ ـ حلية الأولياء : ١ / ٨٦.

٣ ـ بحار الأنوار : ٣٤ / ٣٠٧.

١٩٠

فالاِمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساس في الإسلام ، ولعله بذلك سميت الأمة الإسلامية بالاَُمة الوسط ، قال سبحانه :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ) .(١)

وهناك كلمة قيمة للاِمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حول الاعتدال نأتي بنصها :

دخل الإمام علي العلاء بن زياد الحارثى وهو من أصحابه يعوده ، فلمّا رأي سعة داره ، قال :

« ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرَّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ».

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال : « وماله؟ » قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : « عليّ به ». فلمّا جاء قال :

« يا عديّ نفسك : لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ؟! أنت أهون على الله من ذلك ».

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك !

قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل ( الحق ) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره ! »(٢)

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٩.

١٩١

الكهف

٣٢

التمثيل الثاني والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأحَدِهِما جَنَّتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً * وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً * وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لاََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً * قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّا هُوَ اللهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلداً * فَعَسى رَبّي أَنْ يُوَْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ ماوَُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الحفّ » من حفَّ القوم بالشيء إذا أطافوا به ، وحفاف الشيء جانباه كأنّهما

__________________

١ ـ الكهف : ٣٢ ـ ٤٣.

١٩٢

أطافا به ، فقوله في الآية( فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما ، وقوله :( ما أظن أن تبيد ) فهو من باد الشيء ، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.

« حسباناً » : أصل الحسبان السهام التي ترمى ، الحسبان ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه ، وفي الحديث انّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله في الريح : « اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً ».

« الصعيد » يقال لوجه الأرض « زلق » أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد ، كما في قوله سبحانه :( فتركه صلداً ) (١)

هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها ، فهو تمثيل للمؤمن والكافر بالله والمنكر للحياة الأخروية ، فالأوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة ، والثاني يركن إلى الدنيا ويطمئن بها ، ويتبين ذلك بالتمثيل التالي :

قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى الموَقت وانّه سوف يذهب سدى ، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه.

وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى الله بالإحسان والصدقة ، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الاَخ الغني على الفقير ، وقال :( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) ، وما هذا إلاّ لأنّه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفاً

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٤.

١٩٣

بهما وبين الجنتين زرع وافر ، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.

وكان كلما يدخل جنته يقول : ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار ـ أي تبقى أبداً ـ وأخذ يكذب بالساعة ، ويقول : ما أحسب القيامة آتية ، ولو افترض صحة ما يقوله الموحِّدون من وجود القيامة ، فلئن بعثت يومذاك ، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة ، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم ، وهذا دليل على كرامتي عليه.

هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً ، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.

و يقول : كيف كفرت بالله سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة ، ثمّ رجلاً سوياً ، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة ؟

وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة ، بل إنكار للمعاد ، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.

فإن افتخرت أنت بالمال ، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد الله لا أُشرك به أحداً.

ثمّ ذكّره بسوء العاقبة ، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله ، فانّ الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه ، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة الله تبارك وتعالى.

ثمّ أشار إلى نفسه ، وقال : أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو

١٩٤

أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك ، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء ، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.

قالها أخوه وهو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.

فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره ، ففي ذلك الوقت استيقظ الاَخ الكافر من رقدته ، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه ، وأخذ يندم على شركه ، ويقول : يا ليتني لم أكن مشركاً بربي ، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.

هذه حصيلة التمثيل ، وقد بيّنه سبحانه على وجه الإيجاز ، بقوله :( المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) .(١)

وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أخرى ، وقال :( قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ * يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقينَ * أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإنّا لَمَدِينُونَ * قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون * فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم ) .(٢)

إلى هنا تبيّـن مفهوم المثل ، وأمّا تفسير مفردات الآية وجملها ، فالاِمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً ، ومع ذلك نفسرها على وجه الإيجاز.

__________________

١ ـ الكهف : ٤٦.

٢ ـ الصافات : ٥١ ـ ٥٥.

١٩٥

( واضرب لهم ) أي للكفار مع المؤمنين( مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما ) أي للكافر( جنتين ) أي بستانين( من أعناب وحففناهما ) أحدقناهما بنخل( وجعلنا بينهما زرعاً ) يقتات به( كلتا الجنتين آتت أكلها ) ثمرها( لم تظلم ) تنقص( منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً ) يجري بينهما( وكان له ) مع الجنتين( ثمر فقال لصاحبه ) المؤمن( وهو يحاوره ) يفاخره( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) عشيرة( ودخل جنته ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها.( وهو ظالم لنفسه ) بالكفر( قال ما أظن أن تبيد ) تنعدم( هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي ) في الآخرة على زعمك( لاَجدنّ خيراً منها منقلباً ) مرجعاً( قال له صاحبه وهو يحاوره ) يجادله( أكفرت بالذى خلقك من تراب ) لأنّ آدم خلق منه( ثم من نطفة ثمّ سوّاك ) عدلك وصيّرك( رجلاً ) . أمّا أنا فأقول( لكنّا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ) عند اعجابك بها( ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ) .( إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً ) وصواعق( من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم( أو يصبح ماؤها غوراً ) بمعنى غائراً( فلن تستطيع له طلباً ) حيلة تدركه بها( وأحيط بثمره ) مع ما جنته بالهلاك فهلكت( فأصبح يقلب كفيه ) ندماً وتحسراً( على ما أنفق فيها ) في عمارة جنته( وهي خاوية ) ساقطة( على عروشها ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم( ويقول يا ليتني ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه( لم أُشرك بربي أحداً ولم تكن له فئة ) جماعة( ينصرونه من دون الله ) عند هلاكها و( ما كان منتصراً ) عند هلاكها بنفسه( هنالك ) أي يوم القيامة( الولاية ) الملك( لله الحقّ ) .(١)

__________________

١ ـ السيوطي : تفسير الجلالين : تفسير سورة الكهف.

١٩٦

الكهف

٣٣

التمثيل الثالث والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلّ شَيءٍ مُقتدراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الهشيم » : ما يكسر ويحطم في يبس النبات ، و « الذر » والتذرية : تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.

تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر ، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها ، فعندئذٍ تبتدئ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الاَزهار الرائعة ، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها ، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمِّرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة ، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف ، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر

__________________

١ ـ الكهف : ٤٥.

١٩٧

على طول السنة ويشاهده الإنسان باُمّ عينه ، دون أن يعتبر بها ، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.

يقول سبحانه :( وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) على وجه يلتف بعضه ببعض ، يروق الإنسان منظره ، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة ، وهذا ما يعبر عنه القرآن ، بقوله :( فأصبح هشيماً ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات( وكان الله على كلّ شيء مقتدراً ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها ، فهكذا الأموال والبنون.

وإنّما هي زينة للحياة الدنيا ، فإذا كان الأصل مؤقتاً زائلاً ، فما ظنّك بزينته ، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا ، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً ، قال سبحانه :( المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا ) .

نعم ، الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأخروية ، قال سبحانه :( وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة ، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية.(٢)

__________________

١ ـ مريم : ٧٦.

٢ ـ انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس ٢٥ ، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد ، الآية ٢٠.

١٩٨

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما يُعدُّ من أمثال القرآن قوله :( وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الإنسان أكثر شيء جدلاً ) .(١)

والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.

ومعنى قوله :( ولقد صرّفنا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة ومع ذلك( وَكانَ الإنسانُ أكثرَ شىءٍ جَدلاً ) أي أكثر شيء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

__________________

١ ـ الكهف : ٥٤.

١٩٩

الحج

٣٤

التمثيل الرابع والثلاثون

( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * ما قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز ) .(١)

تفسير الآيات

كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية ، ويعربون عن عقيدتهم ، بأنّه لا خالق في الكون سوى الله سبحانه ، وقد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرضَ لَيقُولُنَّ خَلقهُنَّ العَزِيزُ العَلِيم ) .(٢)

ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية ، وكأنّه سبحانه ـ بزعمهم ـ خلق السماوات والأرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة ، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الاَرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة ، يقول سبحانه :( أَأَرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ) (٣) والآية وإن كانت تفصح عن

____________

١ ـ الحج : ٧٣ ـ ٧٤.

٢ ـ الزخرف : ٩.

٣ ـ يوسف : ٣٩.

٢٠٠

مضموناً أخلاقياً يريده ويتمنّاه ويبحث عنه في:

وطرزت المدى ألقاً كريماً

كأنّ النجم طلّ به وطافا

ويوردها متعلّقة بالسجية والسلوك والطباع في:

مشى مجداً وطاف هدىً وأسرى

كريم الطبع قد سلك اقتيافا

لنرى أنّ يقين البصري لا يفارق إطلالته الموشّاة بجمال الأخلاق، ونرى أنّ نشوته وجذله عندما ينظم بيتاً تظهر فيه الأخلاق مذابة في محاكاته للنموذج ومضاهاته لعنفوان القصيدة العربية الكلاسيكية، وقد أوشكنا أن ننتهي من تقرير هذا المنحى عنده بشكل قطعي، إلاّ أنّنا نضيف دليلاً من المستوى العروضي لكشف هذه المحاكاة.

قصيدة البصري من بحر الوافر ورويّها هو حرف الفاء المفتوح وتحوّلت الفتحة إلى ألف إطلاق، ولو تأمّلنا في هذا البحر وفي تفعيلاته لرأينا أنّه كالآتي:

مفاعلتن مفاعلتن فعولن

مفاعلتن مفاعلتن فعولن

فلو قطعنا المجموع ( مفا ) من أوّل الصدر ومن أوّل العجز لبقي لدينا:

علتن مفاعلتن فعولن

علتن مفاعلتن فعولن

وهذه الصيغة الإيقاعية تقابل بالضبط صيغة مجزوء الكامل المرفل:

متفاعلن متفاعلاتن

متفاعلن متفاعلاتن

وللشاعر الكبير محمّد مهدي الجواهري قصيدة بعنوان ( رسالة مُملَّحة )، منظومة على هذا البحر وعلى روي قصيدة البصري نفسه، وهذه القصيدة في ذاكرة البصري بلا أدنى شك ممّا يمنحه الفرصة للتقاطع معها كركيزة للمحاكاة والمضاهاة على المستوى النظمي، ولا أقول التعكّز عليها لأنّ المضامين التي يطرحها البصري تفرز شاعريته الخصوصية غير المتداخلة مع نصّ الجواهري في مضامينه، لكنّني أقول إنّ هناك تراسلاً لا شعورياً وتناصّاً لا يبرأ منه نصّ

٢٠١

البصري وإن كان على مستوى نظام التقفية لديه، مع كون المنحى الأخلاقي الذي يدعو إليه الجواهري في نصّه متدنّياً وداعياً إلى سلوك مضاد لما يدعو إليه يقين البصري في نصّه، ومن هذا التضاد تتكشّف مقدرة يقين البصري على مقاربة أدوات الآخرين مع مسح الظلال الذاتية التي تعتورها، وهذه كفاءة يفخر بها البصري بلا شك.

٢٠٢

البوح المشتهى

الاستاذ فرات الأسدي

نضّر الأرضَ أيّها الحسنُ

يدهشِ الخلد تنبهرْ عدَنُ

ويمدّ الورد الخطى ولهاً

والينابيع تُروَ والمُزن

ويُرقْ دورقُ الفتون شذىً

أخضر الرُّوح جسمه الفنن

والربيع البهيُّ أغنيةٌ

والعناقيدُ لحنُها وطن

كم تثنّى نبضُ الأسى فرحاً

في يديها وأورق الشجن

في جدار البقيع في مدنٍ

حيثُ لا غير حزنها مدن

وغفا الحلم أو صحا الوسنُ

وانطوى الزمنُ

نضّر الحسن مرّةً

يشتعلْ عالم الترابْ

بالمواويل غضّة

وحكايا اللظى العذاب

وبقايا خبيئةٍ

دونها سُدَّ ألف باب

ليفيق الثرى على

وجعٍ جامح الرِّغاب

أيُّها المترف الخطى

أيٌّها الفتنة العُجاب

٢٠٣

يا أخ النهر مولداً

يا رؤى البحر والعبابْ

دونك الزمنُ

والمدى سفن

أطلق الخصب فهو مرتهنُ

يولَد النوء يختزن

يا رائع المجتلى بي للهوى ظمأُ

يكاد لولا ولاك العذب ينطفئ

تَلهُّفُ الرملِ للأمطار قافيتي

تَتوهُ ثم إلى لقياك تلتجئ

سفحتَ جمري واستبقيت صبوتَهُ

يا ليتها دون نار الوجد تختبئ

الحبّ وجهك يندى كبرياء هوىً

ولي من الخوف وجهٌ رشّه الصدأ

ولي من العمُرِ المجدورِ اُمنيةٌ

خرساءُ قبل صداها الصمتُ مُهترئ

تكاد لولا ولاكَ العذب تنطفئ

وفي متيه الزمان المسخ تنكفئ

احمل الشمسَ في مقلتيك فإنّ الشتاء يكاد يضيق بليل الضياع المجدّر وجه

المصابيح والعتمات تمزّق تاريخنا

احمل البحرَ في شفتيك ومرّ على الماء زنبقةً ومدى دون جنحين من زهرات

الفراشات في يثرب الشاحبة

احمل الحبَّ بين يديك ورُشّ به تلعاتِ الضغينة وارتدْ بزهوك ذلّ حقول قريش

اليبيسة أطلق ينابيعك الفرحة

احمل الطفلَ في وجهك النبويّ البريء وباركْ به النظرات وأيقظْ لغاتِ العيون

الكسيرة أطلقْ حروف القناديل من كلّ معنى دنيء

إبتكرْ حُلمنا أيُّهذا الفتون الوضيءْ

أيّها الماثلُ الآن في الرُّوح يا مبدأ الحبّ والمنتهى

أيّها الرائع المشتهى

٢٠٤

أيّها البوح في دمنا العلويّ المرقرَقِ بين المياه ونيرانها أيّها الجرح يا سيّد العنفوانْ

لك في مقلتيّ بريقُ الكلام وفي سرّي الهمس والاُغنيات الحِسان

صمتتْ بعد أن راود الشوك أجفانها بنعاس الضغينهْ

خرستْ بعد أن سرّبتها الحرائق خلف جدار البقيع الأصمّْ

آهِ يا سيّد الحزن يا وجهنا الأبديَّ الذي يصلُ النبعَ بالدمع والموت بالفرح المستبدّْ

آهِ يا ذاهل الشدو يا رائع الخطوات الشهيده

آه يا موتنا المتشظّي المؤرّخ عصر الرمادْ

لم يكن غير أن تحمل الشمس في اُفقيك وأن تتهاوى النهارات خلف حصاد السيوفْ

لم يكن غير أن تُودِع النهر في قدميك وأن تتوضّأ منك التواريخُ بالعشب واللّهفة اليانعهْ

لم يكُنْ غير أن تحمل الخصب ما بين يوميك ثمّ تسرّبُه للشهاده

لم يكن غير أن تمنح الأرض ميلادها ..

لم يكن غير أن:

أوقظَ اللّغة المستعادهْ

٢٠٥

• الاستاذ فرات الأسدي

فرات الأسدي - شاعراً - مشغول بالكثافة على حساب كلّ الأبعاد والإمكانات الاُخرى، وهذه الكثافة داخلة في كلّ مستويات النصّ صوتاً ونحواً وصرفاً وتركيباً ودلالة وترميزاً، ممّا يعسّر على المحاولة النقدية المختصرة أن تنصفه وتعطيه حقّه، وكذا الحال بالنسبة إلى القراءة المتعجّلة والتلقّي السريع.

ولأنّه يسحب هذا المفهوم المكاني ( الكثافة ) إلى أرضيّة الشعر الذي لا يتعاطى مع المكان إلاّ تجوّزاً فستبدو الصعوبة شاخصة في الاقتراب من نصّه، ففرات الأسدي مشغوف بفنّ العمارة وهو أكثر الفنون التصاقاً بالمكان، فنرى الحسّ المعماري يطغى على نصوصه ومن هنا تبدو المفارقة، فمعظم الأدوات الشعرية زمانية - فعلاً وأداءاً وتأثُّراً - فينتج من هذا التضادّ حاجز سميك في عملية توصيل النص.

وسنلاحظ في هذه القصيدة ( البوح المشتهى ) أنّ فرات الأسدي قد أعمل حسّه المعماري المكاني على الإيقاع الشعري الزماني، وقبل هذا لنشرح العلاقة بين الكثافة - كمفهوم فيزيائي - وبين المكان - كمفهوم فلسفي - وكيف يلتقيان عند فرات الأسدي في معالجته الجمالية لهذا الالتحام كأداة تتمثّل في الكتلة التي يقاربها الشاعر - تنظيماً وترتيباً وتوحيداً - فتتجلّى عنده كحسّ معماري يعامل المواد التعبيرية الأوّليّة على أساسه في تجربته الشعرية، فينبري للتصدّي للبنية الإيقاعية من خلال استخدامه لخمسة أوزان شعرية هي ( الخفيف المهذّب - هذا المصطلح أطلقه العلاّمة الدكتور مصطفى جمال الدين في كتابه الإيقاع في الشعر العربي لصيغة: فاعلاتن مستفعلن فعلن من بحر الخفيف - الخفيف المجزوء، المتدارك المنهوك، المتدارك المجزوء، البسيط ) ليصل بعدها إلى كتابة بقية القصيدة شعراً حرّاً مدوّراً على بحر المتدارك.

٢٠٦

ولو نظرنا إلى هذا التراسل بين الأوزان الخمسة التي نظّم عليها الشاعر عمودياً لرأينا ما يلي:

١ - من:

نضّر الأرض أيّها الحسن

يُدهش الخلد تنبهر عدنُ

إلى:

في جدار البقيع في مدن

حيث لا غير حزنها مدن

تنتظم تفعيلاتها على بحر الخفيف المهذّب:

فاعلاتن مستفعلن فعلن

فاعلاتن مستفعلن فعلن

مع خبن ( فاعلاتن ) لتصبح ( فَعِلاتن ) أحياناً وكثرة خبن ( مستفعلن ) لتصبح ( مَفاعِلُن ).

والخبن كما هو معروف زحاف يحذف به الحرف الثاني الساكن من التفعيلة فتصبح ( مستفعلن = مُتَفْعِلُنْ ) وتتحوّل للتسهيل إلى ( مَفاعِلُنْ ) وكذلك ( فاعلاتن = فَعِلاتُنْ، فَاعِلُنْ = فَعِلُنْ ).

٢ - إفراد شطر ( وغفا الحلمُ أو صحا الوسنُ ) بخبن ( فاعلاتن ومستفعلن ) ليصبح وزن الشطر:

فَعِلاتن مَفاعِلُن فَعِلُنْ

من بحر الخفيف المهذّب أيضاً.

٣ - الإتيان ببحر المتدارك المنهوك مع خبن ( فاعِلُنْ ) لتصبح ( فَعِلُنْ ) هكذا: وانطوى الزمنُ: فاعِلُنْ فَعِلُنْ.

ليكون البناء الإيقاعي متوافقاً على وحدة ( فاعلن فعلن ) الموجودة أيضاً في نهاية بحر الخفيف المهذّب بالشكل الآتي:

فاعلاتن م‍ ( فاعلن فعلن ).

٢٠٧

ومع الالتفات لوحدة حرف الروي في التركيبين وهو حرف النون المضموم، تتراسل البنيتان إيقاعاً ولحناً تحت إشراف الحسّ المعماري الذي يشغل الشاعر آلياته بكثافة أيضاً، وكأنّها كتل كونكريتية أو قطع من الآجر المتساوية الأحجام يبني بها الشاعر هيكل القصيدة وواجهاتها المطلّة على ساحة التلقّي.

٤ - بعد أن أحدث الشاعر توافقاً على نهايات الأجزاء أو الأبيات أو الأشطر يعود ثانية إلى بداياتها ليورد من بحر الخفيف المجزوء المذيّل مقطوعة بستّة أبيات تبدأ:

نضّر الحسن مرّة

يشتعل عالم التراب

ووزنها:

فاعلاتُنْ مَفَاعَلُنْ

فاعِلاتُنْ مَفَاعِلانْ

وهي صيغة تتفق مع ما ورد أوّلاً من بحر الخفيف المهذّب ( فاعلاتن مفاعلن فعلن ) في التفعيلتين الأوّليتين ( فاعلاتن، مفاعلن ).

ومع إيراد فعل الأمر نفسه ( نضّر ) يريد الشاعر أن يلفت انتباهنا لما يقصد، ومع استخدام للفظة ( الحسن ) التي ناداها في المقطع الأوّل ( نضّر الأرض أيّها الحسن ) جاءت هنا ( نضّر الحسن ) وكلّ هذا التكثيف لمحاولة شدّنا وجلب اهتمامنا إلى صراع الاشتقاقات لنفهم انّه يعتني بلفظة ( الحسن ) وهو اسم الإمام المعصومعليه‌السلام الذي كُتِبَت في مولده القصيدة.

٥ - سيرجعنا الشاعر إلى بحر المتدارك المنهوك والمخبون ضرباً وعروضاً في:

دونك الزمنُ

والمدى سفنُ

فاعلن فعلن

٢٠٨

فاعلن فعلن

كل هذا استحضار وتهيئة للمقطع الختامي فهو يبني لنا بحسّه المعماري المكثّف بناءه هيكلاً من الداخل، وواجهات من الخارج ليجعلنا نستأنس بهذه القفزات أو التنويعات الإيقاعية.

٦ - إرجاع آخر إلى بحر الخفيف المهذّب بشطر واحد يحمل نفس القافية النونيّة ونفس حركة حرف الروي المضموم:

فاعلاتن مفاعلن فعلن

أطلق الخصب فهو مرتهنُ

٧ - تهيئة اُخرى واستبذار لبحر المتدارك بصيغة مجزوءة:

يولد النوء يختزنُ

فاعلن فاعلن فعلن

ويحافظ الشاعر على القافية النونية وحركة حرف الروي المضمومة ليخمِّن التراسل المطلوب بين الصيغ الوزنية الإيقاعية التي انشأها وبناها.

٨ - ستة أبيات من بحر البسيط جاء بها الشاعر ليفاجأنا ببناء مشتمل صغير قرب البناية الأصلية، داخل نفس المساحة لكنّه مغاير لها طولاً وعرضاً وارتفاعاً.

وإمعاناً في الإدهاش والمفاجأة نظمت المقطوعة على قافية همزية مضمومة الرَّوي غريبة على النّظم المتعارف، لقلّة المفردات التي تنتظم في سياقها، وهنا يحقّ لنا أن نتساءل: لِمَ لمْ يأت الشاعر بقافية المقطوعات الاُخرى ( حرف النون المضموم ) ليحدث توافقاً موسيقياً قائماً على ما يُسمّى في الموسيقى ( الطباق كونتربوينت )؟

والجواب هنا هو أنّ الشاعر لا يريد ان يستفيد من الإمكانات الفنية ذات الطابع الزماني مثل الموسيقى إلاّ بعد ان تحلّى بحسّه المعماري المكاني،

٢٠٩

فدحرج علينا كتلة سرعان ما كبرت بالانحدار ليضرب انتشاءنا الإيقاعي في الصميم، لكنّه لا يعدم وسيلة لتبرير هذا الخرق وله الحقّ في هذا التبرير لأنّ نهايات بحر البسيط هنا تنتهي بنفس القفلة الإيقاعية ( فاعِلُن فَعِلُنْ ) وسنراها هكذا:

يا رائع المجتلى بي للهوى ظمأ

مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن

ويمكن كتابته:

مستفعلن فاعلاتن فاعلن فعلن

ولدعم هذا التبرير نرى الشاعر قد أورد في الشطر الأوّل هذين التركيبين ( رائع المجتلى، للهوى ظمأ ) وهما تركيبان من منهوك المتدارك بلا شكّ ليهذّب الكتلة وفقاً للنسب المعمارية والوحدات البنائية التي استخدمها في هيكلية النصّ وواجهاته.

٩ - المقطع الختامي منسوج بقماش شعر التفعيلة بتدوير تفعيلتي المتدارك؛ الصحيحة ( فاعلن ) والمخبونة ( فَعِلن ) مع وقوف على تذييل ( التذييل إضافة حرف ساكن إلى نهاية التفعيلة فتصبح فاعلن: فاعلن ن وتحوّر إلى: فاعلان ) أو ترفيل ( الترفيل إضافة سبب خفيف إلى نهاية التفعيلة والسبب الخفيف حرفان الأوّل منهما متحرّك والثاني ساكن فتصبح فاعلن: فاعلن تن وتحور تسهيلاً إلى: فاعلاتن ) في نهايات بعض الأشطر مع احتفاء ومراعاة للقوافي المزدوجة في بعض الأشطر.

ننتهي إلى أنّ هذا النص حمل مبرّرات خروجه على البنى الإيقاعية السائدة والمتعارفة ليحقّق إخلاصه بتوجّه جمالي من موقف آخر يصعب تناوله إلاّ من خلال حقيقة نفسية سيكولوجية هي تراسل الحواس، تقابل المرئي والمسموع، ممّا يحدث إعاقة ظاهرة على مستوى التلقّي غير المدرّب.

٢١٠

صوفيّة جرح

الشيخ علي الفرج

( ١ )

حينما يقرأ الناس كفَّكَ خطاً فخطاً ..

يقولون: تعشقكَ امرأةٌ من دخانٍ تسمّى سماءْ

يقولون: إنّك يوماً

ستصبح والبحر شيئاً

فحيناً يسمّى الزكيَّ

وحيناً يسمّى محيطات ماءْ

يقولون: إنّ الزمان سيحفر أيامك الحالماتِ شقوقاً..

وينهش ثوبك ذئبٌ ويعوي إلى أن يموت

وتدفنه أنتَ في ظلمة العار وجهاً غريباً وتتركه ثمّ تمضى مع الأنبياءْ

وأمّا أنا ..

سوف أقرأ كلّ أكفّ الحياة جميعاً

٢١١

وسوف أراك بها شاخصاً من بعيدٍ

وجوداً وجوداً

وغيرُكَ حتى أكفّ الحياة

فناءٌ فناءْ

(٢)

كان وجهاً ممزّقا

كيف غنّى وصفّقا

كان نهراً محاصَراً

وحريقاً تدفّقا

بين ألف انكسارةٍ

تتدلّى ليشنقا

كان جرحاً وأعمقا

وجحيماً وأحرقا

فاعلاتُنْ لمستْه من البتول غصونٌ فأورقا

فتمشّى به الجحيم شفيفاً وأزرقا

يتمطّى على الشقاء ولا يعرف الشقا
 

أنا شيءٌ على يديك ترامى ليغرقا

فإذا ما رأى سناك على السحب حدّقا

وإذا ما رأى سناك جبالاً تسلَّقا
 

وسيصحو بك الشروقُ ويهواكَ مَشرقا

وستغدو إلى السماءِ ويغدو مُحلّقا

غير أنّي إلى الفناءِ ومسراك للبَقا

* * * *

أنا شيءٌ من الرمادِ صريعٌ بأحرفي

أتلوّى على يديك وأحيا وأنطفي

وتلهّفتُ فانسكبتُ أنا في تلهُّفي

٢١٢

أنتَ شيءٌ أراك تسكن حتّى تصوّفي

أنت صوفيّتي نمَتْ بين كهفي ومُصحفي

في دمي يختفي الورى وأنا فيك أختفي

أنتَ تحتلُّ من صلاتي خفايا تزلّفي

وبرؤياي مالكٌ تتشهّى وتصطفي

أنتَ من أنتَ يا هوىً عسليّاً لمدنفِ

مات قيسٌ على هواه وليلاه لم تَفِ

وأنا أنهل الحياة بذكراكَ يا وفي

* * *

حدّثتْني رؤاي أنّك شيءٌ قد انتثرْ

فغدا هذه النجوم الجميلات والقمر

وارتمى بعض ضوئه في يد الاُفق وانهمر

فغدا يصنع الصباح الذي يشربُ السّحر

ثمّ غنّى على التراب لحوناً من القدر

فمشى يفرش التراب أفانينَ من شجر

حدّثتني رؤاي أنّك في رحلة السفر

سكنتْ فيك آهةٌ آه ما أظلمَ البشر

أنت تُغضي ويظلمون وتعفو وتؤتسر

عجباً يقطع الخميلةَ من يأكل الثَّمر

* * *

أنا شيءٌ على البقيع هيامٌ على هيامْ

واُسمّى جنازةً وقفت فوقها الحمام

٢١٣

صُلِبَتْ ألفُ شمعةٍ ها هنا تحمل السّلام

وهنا الكون ينحني ومجرّاته تنام

وأنا جاثم هناك حريقاً من الغرام

طفتُ لوناً على الترابِ ولوناً على الغمام

أ أهنا أنتَ أم على السحب أم أنتَ لا ترام

مَن أنا يا ترى تناثر وجهي مع الحطام

أأنا ذلك الهشيم تناءى به الظلام

فتذكرتُ أن نعشي قد غيلَ بالسهام

من بقاياك طينةٌ أنا لا أعشق انقسام

* * *

٢١٤

• الشيخ علي الفرج:

يبدأ علي الفرج باستخدام حدث فلكلوري شعبي هو ( قراءة الكفّ ) ليقول لنا: إنّ أبسط طرق الناس للمعرفة ستوصلنا إلى علاقة الإمام المعصومعليه‌السلام بالسماء حتماً.

فنراه يستخدم ( يقولون ) فعل حكاية ليسرد بطريقة القصص الشعبية الفلكلورية تصوّرات البسطاء من الناس على ثلاث مراحل.

سنتناول المرحلتين الاُولى والثانية أوّلاً:

يقولون: تعشقك امرأةٌ من دخان تسمّى سماء

يقولون: إنّك يوماً ستُصبح والبحر شيئاً

فالإمام المعصومعليه‌السلام يُلبسه الناس البسطاء حلّة غرائبية هي بالتالي حلّة البطل المقدّس المخلّص من الآلام والشقاء والعذاب الدنيوي.

ونلاحظ انّ علي الفرج قد استبقى التصوّرات تلك بتراكيبها الغرائبية ذاتها، فهناك عشقٌ يحدّد العلاقة، وصاحبته امرأة من دخان هي الجزء السحري والمدهش من الكون والوجود وهي السماء أمّا على الأرض فيختار علي الفرج من أجزائها البحر ليواصل الإدهاش بالغامض والمستتر فيصبح الإمام المعصومعليه‌السلام والبحر شيئاً واحداً من جهات عدّة يمكننا شرحها وتفصيلها، فالإمام والبحر هما العمق والإحاطة والعطاء المستمر والسعة اللامتناهية والطهارة وهذه الأخيرة هي الجهة التي اختارها الشاعر ليقول:

فحيناً يُسمى الزكيّ ...

ولا يخفى هنا استمرار علي الفرج في احتفائه الدائب بالصور المائية وخصوصاً البحرية منها، ممّا يطبع شاعريته بهذا الحسّ الذي سبق لنا أن أشرنا إليه في أكثر من دراسة لشعره.

٢١٥

يقولون: إنّ الزمان سيحفر أيامك الحالماتِ شقوقاً ..

وينهش ثوبك ذئبٌ ويعوي إلى أن يموت

وتدفنه أنتَ في ظلمة العار وجهاً غريباً وتتركه ثمّ تمضى مع الأنبياءْ

هنا يسرد الشاعر قصّة مختصرة كاملة وبنفس الطريقة الفلكلورية العجائبية الغرائبية حيث يتدخّل الزمان - وهو القدر والمصير في التصوّر الشعبي - ليحفر شقوقاً في أيّام المعصومعليه‌السلام الهانئة الحالمة - وهذا أيضاً وفقاً للتصوّرات الشعبية - وتأتي أحداث القصّة حيث يتعرّض ثوب البطل إلى نهش الذئب الذي سيعوي بعد النهش ويستمر في العواء الجائع إلى أن يموت، وكأنّ نهشه للثوب كان سبباً لموته، ثم يتدخّل الشاعر ليضفي على هذا الجو الاُسطوري مسحة رمزية شفّافة حين يقول:

وتدفنه أنتَ في ظلمة العار وجهاً غريباً وتتركه

ونلاحظ أنّ عملية دفن الذئب في ظلمة العار هي ترميز لاندثار الخطّ المعادي للمعصومعليه‌السلام لأنّ هذا الخط يصبح وجهاً غريباً عن حركة الحياة بحقائقها الساطعة حينما يمضي الإمام المعصومعليه‌السلام مع الانبياء في خطّهم ومنهجهم الإلهي.

وبمقابل عملية قراءة الكفّ الشعبية الفلكلورية ستكون هناك عملية قراءة من نوع آخر عندما يبدأ الشاعر نفسه بقراءة أكفّ الحياة جميعها، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أكفّ الحياة وقراءتها ليستا من النوع الأوّل، بل هما يقابلان - تجوّزاً - كل النشاطات الحياتية العملية والفكرية.

والقراءة هنا قراءة تقصّ واكتشاف بعيدة عن الغرائبية والتصوّرات المندهشة بالمغيبات بدون تصنيف علمي وبدون فرز إدراكي عقائدي سليم.

ويحلو لي ان اسمّيها قراءة شاعرية، وأظنّها كذلك فهي مستندة إلى التصوّر

٢١٦

العقائدي الواضح لحالة الإمام المعصومعليه‌السلام لكنّها تحاوره ببديلٍ شعري هو معادل وجداني للفكرة يقرّره الشاعر هكذا:

وسوف أراك بها شاخصاً من بعيد

وجوداً وجوداً

مقابل ان كلّ الوجودات غيره فانية حتى أكفّ الحياة التي قرأها الشاعر.

ولا يفوتني ان اُشير إلى أنّي أقرأ لعلي الفرج محاولته الاُولى في الشعر الحرّ التي تكشفه لنا متمكّناً أيضاً في هذا النوع من الفن الشعري الذي اتمنّى أن يواصل كتابته فيه شاعراً ولائياً تحاصره الحداثة وتطرق بواباته نصف المغلقة.

أمّا عن قصيدته العمودية ( صوفيّة جرح ) فقد تعمّد علي الفرج فيها ان يقف مع الجمال على أرضيته، وأن يحلّق في فضاءاته الواسعة على حساب كلّ ما هو بليغ، فقصيدته جميلة أكثر منها بليغة، بل انّه بدأ ينسف بعض الجسور التي تجعله متواصلاً مع البلاغة القديمة، ولنقل أيضاً: إنّ الشاعر بدأ يتلمّس طريقه إلى بلاغة جديدة من صنعه هو، وهذه الخطوة المفتوحة بقوّة في طريقه الإبداعي محسوبة على محاولاته للخروج والتجاوز والتخطّي وعلى مستويات عدّة، فمنها انّ الشاعر اختار النظم - عمودياً - على بحر الخفيف المجزوء وهو صيغة حديثة في النظم انتشرت بكثرة منذ أقل من قرن من الزمان في الشعر العمودي، وهو لم يكتف بذلك فقط، بل دوّر(٣٢) بيتاً من أصل(٤٥) بيتاً على غير عادة النظم في هذا البحر، ليحقّق تعبيراً صارخاً عن ضيقه بهيكلية الصدر والعجز في البيت الشعري، وتوزيع الكلمات والجمل عليهما، فلو نظرنا إلى توزيع عدد الأبيات على القوافي لرأينا الآتي:

قافية حرف القاف(١٣) بيتاً، قافية حرف الفاء(١١) بيتاً، قافية حرف الراء(١٠) أبيات، قافية حرف الميم(١١) بيتاً.

٢١٧

ممّا يؤشّر أنّ الشاعر لم يحتفل بنظام حسابي معيّن لهندسة قصيدته، وهذا أيضاً يوضّح نفوره وضيقه من التقليد ويؤكّد خروجه وتجاوزه لما هو سائد ومألوف:

أمّا على المستوى التركيبي فسنرى:

كان نهراً محاصرا

وحريقاً تدفّقا

أو:

فتمشّى به الجحيم شفيفاً وأزرقا

أو:

أنا شيء من الرماد صريع بأحرفي

من فجائية التركيب يصل الشاعر إلى صوره الجميلة، والتراكيب عنده عبارة عن مادّة تعبيرية يوصل بها ما يريد وما يختار، فشعره منحاز إلى الصيرورة والتوليد أكثر من انحيازه للكينونة والثبات، بمعنى انّه يجمع احتمالات الولادة والطزاجة ليفاجئ المتلقّي ويسحره ويسحبه إلى داخل عوالمه الجميلة:

وارتمى بعض ضوئه في يد الاُفق وانهمر

فغدا يصنع الصباح الذي يشرب السحر

أمّا على المستوى الدلالي فأنّ القصيدة قد تلاعبت بضمائر ثلاثة ( أنا أنتَ هو ) أو ( المتكلّم والمخاطب والغائب ) ثلاثة أشخاص تناوبوا على أبيات القصيدة.

فافتتح الشاعر القصيدة مع ضمير الغائب بسبعة أبيات ليعرض حالة وجه ممزّق ونهر محاصر وحريق، وهذه كلّها إسقاطات للجرح الذي يدور بصوفيّته على ما أراد الشاعر التعبير عنه وتوصيله لنا بعد ذلك:

يحتدم بعدها الحوار بين ( أنا وأنتَ ) أي بين المتكلّم والمخاطب وعلى

٢١٨

امتداد(١٧) بيتاً ليُطرح هذا التساؤل المضطرب:

أنتَ مَن أنتَ يا هوىً عسليّاً لمدنفِ

ونستمع إلى(١٠) أبيات رائية من حديث رؤى المتكلّم مع المتكلّم نفسه:

حدّثتني رؤاي أنّك شيء قد انتثر

أو:

حدّثتني رؤاي أنّك في رحلة السفر

وحديث الرؤى حديث كشف لحقيقة المخاطَب، فنحن نقترب من شخصية الإمام الحسنعليه‌السلام وخصوصاً في هذا البيت:

أنت تغضي ويظلمون وتعفو وتؤتسرْ

ونعود في نهاية القصيدة إلى المتكلّم الذي يؤشّر بقعة جغرافية محدّدة ( البقيع ) ليؤكّد لنا انّه كان يتكلّم عن الإمام الحسنعليه‌السلام :

أنا شيء على البقيع هيام على هيامْ

لتبدأ بعدها تساؤلات تدخلنا إلى مناطق اضطراب الدلالة وكثرة احتمالات التأويل.

وننتهي مع الشاعر الذي يؤكّد انتماءه ومحبّته، لكن بطريقة أقرب للغرابة منها للوضوح التقريري، وهي تلامس أكثر من نمط من أنماط الغموض الجميل، لكن القصيدة تمضي إلى النجاح بأكثر من خطوة موفّقة.

٢١٩

الفهرس

الإهداء ٥

المقدّمة ٧

البدء ٩

افتتاحية الندوة ١٣

القسم الأوّل. ١٩

جانب البحوث والدراسات.. ١٩

الإمام الحسن مواقف وأهداف.. ٢١

حديث.. ٥٧

الطائفتين من المسلمين بين القبول والرفض.. ٥٧

إطلالة على محنة الذكرى. ٨٧

إثارات حول. ٩٥

صلح الإمام الحسن عليه‌السلام.... ٩٥

حدود العصمة ١٠٣

معطيات رسائل. ١٠٩

الإمام الحسن عليه‌السلام إلى معاوية ١٠٩

القسم الثاني. ١٤٥

الجانب الأدبي. ١٤٥

واقع الشعر الإسلامي بعد الخلافة ١٤٧

ثمرة الاقتران المقدّس. ١٥٩

دراسة في مستويات التلقّي. ١٥٩

قراءات في وادي السنا ١٦٧

سمات البقيع. ١٧٥

كبد وجراحك الخضراء ١٨٣

الندى المحترق. ١٩٥

البوح المشتهى. ٢٠٣

صوفيّة جرح. ٢١١

٢٢٠