كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ٤

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 280

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 280
المشاهدات: 35222
تحميل: 5706


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 280 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35222 / تحميل: 5706
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 4

مؤلف:
العربية

أو أن يعلمك المهلب غزوه

و ترى جبالا قد دنت لجبال

قال:و كان بدر بن الهذيل من أصحاب المهلب شجاعا،و كان لحانة كان إذا أحس بالخوارج ينادي:يا خيل الله اركبي،و إليه يشير القائل:

و إذا طلبت إلى المهلب حاجة

عرضت توابع دونه و عبيد

العبد كردس و بدر مثله

و علاج باب الأحمرين شديد

قال:و كان بشر بن المغيرة بن أبي صفرة أبلى يومئذ بلاء حسنا عرف مكانه فيه،و كانت بينه و بين المهلب جفوة،فقال لبنيه:يا بني عم،إني قد قصرت عن شكاة العاتب،و جاوزت شكاة المستعتب،حتى كأني لا موصول و لا محروم،فاجعلوا لي فرجة أعيش بها،و هبوني امرأ رجوتم نصره أو خفتم لسانه،فرجعوا له و وصلوه و كلموا فيه المهلب فوصله.و ولى الحجاج كردما فارس و وجهه إليها و الحرب قائمة،فقال رجل من أصحاب المهلب:

و لو رآها كردم لكردما

كردمة العير أحس الضيغما

فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن إصطخر و دارابجرد لأرزاق الجند،ففعل،و قد كان قطري هدم مدينة إصطخر ؛ لأن أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره،و أراد مثل ذلك بمدينة فسا فاشتراها منه آزاذ مرد بن الهربذ بمائة ألف درهم

٢٠١

فلم يهدمها فواقعه وجه المهلب،فهزمه فنفاه إلى كرمان،و اتبعه المغيرة ابنه،و قد كان دفع إليه سيفا وجه به الحجاج إلى المهلب،و أقسم عليه أن يتقلده فدفعه إلى المغيرة بعد ما تقلده،فرجع به المغيرة إليه،و قد دماه فسر المهلب،و قال:ما يسرني أن يكون كنت دفعته إلى غيرك من ولدي،و قال له:اكفني جباية خراج هاتين الكورتين و ضم إليه الرقاد،فجعلا يجبيان و لا يعطيان الجند شيئا،ففي ذلك يقول رجل من بني تميم في كلمة له:

و لو علم ابن يوسف ما نلاقي

من الآفات و الكرب الشداد

لفاضت عينه جزعا علينا

و أصلح ما استطاع من الفساد

ألا قل للأمير جزيت خيرا

أرحنا من مغيرة و الرقاد

فما رزق الجنود بهم قفيزا

و قد ساست مطامير الحصاد

أي:وقع فيها السوس.قال:ثم حاربهم المهلب بالسيرجان حتى نفاهم عنها إلى جيرفت و اتبعهم،و نزل قريبا منهم.ثم اختلفت كلمة الخوارج،و كان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اتهم بامرأة رجل نجار رأوه يدخل مرارا إليها بغير إذن،فأتى قطريا،فذكروا ذلك له فقال لهم:إن عبيدة من الدين بحيث علمتم،و من الجهاد بحيث رأيتم فقالوا:إنا لا نقار على الفاحشة،فقال:

٢٠٢

انصرفوا،ثم بعث إلى عبيدة فأخبره،و قال له:أنا لا أقار على الفاحشة،فقال بهتوني:يا أمير المؤمنين،فما ترى ؟ قال:إني جامع بينك و بينهم،فلا تخضع خضوع المذنب،و لا تتطاول تطاول البري‏ء،فجمع بينهم فتكلموا،فقام عبيدة فقال:بسم الله الرحمن الرحيم( إِنَّ اَلَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ... ) ،حتى تلا الآيات فبكوا،و قاموا إليه فاعتنقوه،و قالوا استغفر لنا،ففعل فقال عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة:و الله لقد خدعكم،فتابع عبد ربه منهم ناس كثير،و لم يظهروا و لم يجدوا على عبيدة في إقامة الحد ثبتا.و كان قطري قد استعمل رجلا من الدهاقين،فظهرت له أموال كثيرة،فأتوا قطريا فقالوا:إن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا،فقال قطري:إني استعملته و له ضياع و تجارات،فأوغر ذلك صدورهم،و بلغ المهلب ذلك فقال:اختلافهم أشد عليهم مني،ثم قالوا لقطري:ألا تخرج بنا إلى عدونا،فقال:لا،ثم خرج،فقالوا:قد كذب و ارتد،فاتبعوه يوما فأحس بالشر،و دخل دارا مع جماعة من أصحابه فاجتمعوا عليه،و صاحوا:اخرج إلينا يا دابة،فخرج إليهم فقال:أرجعتم بعدي كفارا ؟ قالوا:أو لست دابة،قال الله تعالى:( وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ رِزْقُها ) ،و لكنك قد كفرت بقولك:أنا قد رجعنا كفارا فتب إلى الله،فشاور عبيدة في ذلك،فقال له:إن تبت لم يقبلوا منك،فقل:إني استفهمت،فقلت:أرجعتم بعدي كفارا ؟ فقال لهم ذلك فقبلوا منه،فرجع إلى منزله.

٢٠٣

عبد ربه الصغير

و منهم عبد ربه الصغير أحد موالي قيس بن ثعلبة.لما اختلفت الخوارج على قطري بايعه منهم جمع كثير،و كان قطري قد عزم على أن يبايع للمقعطر العبدي،و يخلع نفسه،فجعله أمير الجيش في الحرب قبل أن يعهد إليه بالخلافة،فكرهه القوم و أبوه،و قال صالح بن مخراق عنهم و عن نفسه:ابغ لنا غير المقعطر،فقال لهم قطري:إني أرى طول العهد قد غيركم و أنتم بصدد عدو،فاتقوا الله و أقبلوا على شأنكم و استعدوا للقاء القوم،فقال صالح:إن الناس قبلنا قد سألوا عثمان بن عفان أن يعزل سعيد بن العاصي عنهم،ففعل و يجب على الإمام أن يعفي الرعية مما كرهت،فأبى قطري أن يعزل المقعطر،فقال له القوم:فإنا قد خلعناك و بايعنا عبد ربه الصغير،و كان عبد ربه هذا معلم كتاب،و كان عبد ربه الكبير بائع رمان،و كلاهما من موالي قيس بن ثعلبة،فانفصل إلى عبد ربه الصغير أكثر من شطرهم،و جلهم الموالي و العجم،و كان منهم هناك ثمانية آلاف و هم القراء،ثم ندم صالح بن مخراق و قال لقطري:هذه نفخة من نفخات الشيطان،فأعفنا من المقعطر،و سر بنا إلى عدونا و عدوك،فأبى قطري إلا للمقعطر،و حمل فتى من الشراة على صالح بن مخراق فطعنه،فأنفذه و أوجره الرمح.فنشبت الحرب بينهم فتهايجوا،ثم انحاز كل قوم إلى صاحبهم،فلما كان الغد اجتمعوا فاقتتلوا،فأجلت الحرب عن ألفي قتيل،فلما كان الغد عاودوا الحرب،فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب عن المدينة،فأقام عبد ربه بها و صار قطري خارجا من

٢٠٤

مدينة جيرفت بإزائهم،فقال له عبيدة بن هلال:يا أمير المؤمنين،إن أقمت لم آمن هذه العبيد عليك إلا أن تخندق على نفسك،فخندق على باب المدينة،و جعل يناوشهم،و ارتحل المهلب و كان منهم على ليلة و رسول الحجاج معه يستحثه،فقال له:أصلح الله الأمير عاجلهم قبل أن يصطلحوا،فقال المهلب:إنهم لن يصطلحوا و لكن دعهم،فإنهم سيصيرون إلى حال لا يفلحون معها،ثم دس رجلا من أصحابه،فقال:ائت عسكر قطري،فقل:إني لم أزل أرى قطريا يصيب الرأي حتى نزل منزله هذا،فظهر خطؤه أيقيم بين المهلب و عبد ربه يغاديه القتال هذا و يراوحه هذا،فنمي الكلام إلى قطري فقال:صدق تنحوا بنا عن هذا الموضع،فإن اتبعنا المهلب قاتلناه،و إن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون.فقال له الصلت بن مرة:يا أمير المؤمنين،إن كنت إنما تريد الله فأقدم على القوم،و إن كنت إنما تريد الدنيا،فأعلم أصحابك حتى يستأمنوا،ثم قال:

قل للمحلين قد قرت عيونكم

بفرقة القوم و البغضاء و الهرب

كنا أناسا على دين فغيرنا

طول الجدال و خلط الجد باللعب

ما كان أغنى رجالا قل جيشهم

عن الجدال و أغناهم عن الخطب

إني لأهونكم في الأرض مضطربا

ما لي سوى فرسي و الرمح من نشب

ثم قال:أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع منه فيه.و ارتحل قطري و بلغ ذلك المهلب،فقال لهزيم بن أبي طحمة المجاشعي:إني لا آمن أن يكون كاذبا بترك موضعه اذهب،فتعرف الخبر فمضى الهزيم في اثني عشر فارسا،فلم ير في المعسكر إلا عبدا و علجا مريضين فسألهما عن قطري و أصحابه،فقالا:

٢٠٥

مضوا يرتادون غير هذا المنزل،فرجع هزيم إلى المهلب فأخبره،فارتحل حتى نزل خندق قطري،فجعل يقاتل عبد ربه أحيانا بالغداة و أحيانا بالعشي،فقال رجل من سدوس،يقال له المعتق و كان فارسا:

ليت الحرائر بالعراق شهدننا

و رأيننا بالسفح ذي الأجبال

فنكحن أهل الجد من فرساننا

و الضاربين جماجم الأبطال

و وجه المهلب يزيد ابنه إلى الحجاج يخبره بأنه قد نزل منزل قطري،و أنه مقيم على عبد ربه و يسأله أن يوجه في أثر قطري رجلا جلدا،فسر بذلك الحجاج سرورا أظهره،ثم كتب إلى المهلب يستحثه لمناجزة القوم مع عبيد بن موهب.أما بعد،فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلي،فيرجعون بعذرك و ذلك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح و تنسى القتلى،و تحمل الكال،ثم تلقاهم فتحمل منهم ثقل ما يحتملون منك من وحشة القتل،و ألم الجراح،و لو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم و القرن قد قصم،و لعمري ما أنت و القوم سواء ؛ لأن من ورائك رجالا و أمامك أموالا،و ليس للقوم إلا ما نعهد،و لا يدرك الوجيف بالدبيب و لا الظفر بالتعذير.فلما ورد عليه الكتاب قال لأصحابه:يا قوم،إن الله قد أراحكم من أمور أربعة قطري بن الفجاءة،و صالح بن مخراق،و عبيدة بن هلال،و سعد بن الطلائع،و إنما بين أيديكم عبد ربه الصغير في خشار من خشار الشيطان تقتلونهم إن شاء الله تعالى.

٢٠٦

فكانوا يتغادون القتال و يتراوحون،فتصيبهم الجراح،ثم يتحاجزون فكأنما انصرفوا عن مجلس كانوا يتحدثون فيه يضحك بعضهم إلى بعض،فقال عبيد بن موهب للمهلب:قد بان عذرك فاكتب فإني مخبر الأمير.فكتب إلى الحجاج:أما بعد،فإني لم أعط رسلك على قول الحق أجرا و لم أحتج منهم عن المشاهدة إلى تلقين ذكرت إني أجم القوم،و لا بد من وقت راحة يستريح فيه الغالب،و يحتال فيه المغلوب،و ذكرت أن في الجمام ما ينسي القتلى،و تبرأ منه الجراح،هيهات أن ينسى ما بيننا و بينهم،تأبى ذلك قتلى لم تجن و قروح لم تتقرب،و نحن و القوم على حالة،و هم يرقبون منا حالات إن طمعوا حاربوا،و إن ملوا وقفوا و إن يئسوا انصرفوا،و علينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا،و نتحرز إذا وقفوا،و نطلب إذا هربوا،فإن تركتني و الرأي كان القرن مقصوما،و الداء بإذن الله محسوما،و إن أعجلتني لم أطعك و لم أعصك،و جعلت وجهي إلى بابك،و أعوذ بالله من سخط الله و مقت الناس.قال:و لما اشتد الحصار على عبد ربه قال لأصحابه:لا تفتقروا إلى من ذهب عنكم من الرجال،فإن المسلم لا يفتقر مع الإسلام إلى غيره،و المسلم إذا صح توحيده عز بربه،و قد أراحكم الله من غلظة قطري،و عجلة صالح بن مخراق و نخوته و اختلاط عبيدة بن هلال،و وكلكم إلى بصائركم،فالقوا عدوكم بصبر و نية و انتقلوا عن منزلكم هذا،فمن قتل منكم قتل شهيدا،و من سلم من القتل فهو المحروم.

٢٠٧

قال:و ورد في ذلك الوقت على المهلب عبيد بن أبي ربيعة بن أبي الصلت الثقفي من عند الحجاج يستحثه بالقتال،و معه أمينان فقال للمهلب:خالفت وصية الأمير و آثرت المدافعة و المطاولة،فقال له المهلب:و الله ما تركت جهدا.فلما كان العشي خرجت الأزارقة،و قد حملوا حريمهم و أموالهم،و خف متاعهم لينتقلوا فقال المهلب لأصحابه:الزموا مصافكم،و أشرعوا رماحكم،و دعوهم و الذهاب،فقال له عبيدة بن أبي ربيعة:هذا لعمري أيسر عليك،فغضب و قال للناس:ردوهم عن وجههم و قال لبنيه:تفرقوا في الناس،و قال لعبيدة بن أبي ربيعة:كن مع يزيد فخذه بالمحاربة أشد الأخذ،و قال لأحد الأمينين:كن مع المغيرة و لا ترخص له في الفتور.فاقتتلوا قتالا شديدا حتى عقرت الخيل و صرع الفرسان،و قتلت الرجالة و جعلت الخوارج تقاتل عن القدح يؤخذ منها و السوط و العلف و الحشيش أشد قتال.و سقط رمح لرجل من مراد من الخوارج،فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح و القتل،و ذلك مع المغرب و المرادي يرتجز و يقول:

الليل ليل فيه ويل ويل

قد سال بالقوم الشراة السيل

إن جاز للأعداء فينا قول

٢٠٨

فلما عظم الخطب في ذلك الرمح بعث المهلب إلى المغيرة خل لهم عن الرمح عليهم لعنة الله،فخلوا لهم عنه و مضت الخوارج،فنزلت على أربعة فراسخ من جيرفت،فدخلها المهلب و أمر بجمع ما كان لهم من متاع،و ما خلفوه من دقيق و جثم عليه،و هو و الثقفي و الأمينان،ثم اتبعهم فوجدهم قد نزلوا على ماء و عين لا يشرب منها أحد إلا قوي يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها،و هناك قرية فيها أهلها فغاداهم القتال،و ضم الثقفي إلى ابنه يزيد و أحد الأمينين إلى المغيرة،فاقتتل القوم إلى نصف النهار.و قال المهلب لأبي علقمة العبدي،و كان شجاعا،و كان عاتيا هازلا:أمددنا يا أبا علقمة بخيل اليحمد،و قل لهم فليعيرونا جماجمهم ساعة،فقال:أيها الأمير،إن جماجمهم ليست بفخار فتعار و لا أعناقهم كرادي فتنبت.و قال لحبيب بن أوس كر على القوم فلم يفعل و قال:

يقول لي الأمير بغير علم

تقدم حين جد به المراس

فما لي إن أطعتك من حياة

و ما لي غير هذا الرأس رأس

و قال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة احمل،فقال:لا إلا أن تزوجني ابنتك أم مالك،فقال:قد زوجتك فحمل على الخوارج فكشفهم و طعن فيهم و قال:

ليت من يشتري الحياة بمال

ملكة كان عندنا فيرانا

٢٠٩

نصل الكر عند ذاك بطعن

إن للموت عندنا ألوانا

قوله ملكة أي تزويجا و نكاحا.قال:ثم جال الناس جولة عند حملة حملها عليهم الخوارج،فالتفت المهلب فقال للمغيرة ابنه،ما فعل الأمين الذي كان معك قال قتل و هرب الثقفي،فقال ليزيد ما فعل عبيد بن أبي ربيعة،قال لم أره منذ كانت الجولة،فقال الأمين الآخر للمغيرة:أنت قتلت صاحبي،فلما كان العشي رجع الثقفي،فقال رجل من بني عامر بن صعصعة:

ما زلت يا ثقفي تخطب بيننا

و تغمنا بوصية الحجاج

حتى إذا ما الموت أقبل زاخرا

و سقى لنا صرفا بغير مزاج

وليت يا ثقفي غير مناظر

تنساب بين أحزة و فجاج

ليست مقارعة الكماة لدى الوغى

شرب المدامة في إناء زجاج

فقال المهلب للأمين الآخر:ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل حتى تبيتوا عسكرهم،فقال:ما تريد أيها الأمير،إلا أن تقتلني كما فعلت بصاحبي فضحك المهلب،و قال ذاك إليك،و لم يكن للقوم خنادق،فكان كل حذرا من صاحبه غير أن الطعام و العدة مع المهلب،و هو في زهاء ثلاثين ألفا،فلما أصبح أشرف على واد،فإذا هو برجل معه رمح مكسور مخضوب بالدم،و هو ينشد:

و إني لأعفي ذا الخمار و صنعتي

إذا راح أطواء بني الأصاغر

٢١٠

أخادعهم عنه ليغبق دونهم

و أعلم غير الظن أني مغاور

كأني و أبدان السلاح عشية

يمر بنا في بطن فيحان طائر

فقال له:أتميمي أنت ؟ قال:نعم.قال:أحنظلي ؟ قال:نعم.قال:أيربوعي ؟ قال:نعم.قال:أمن آل نويرة ؟ قال:نعم،أنا ولد مالك بن نويرة.قال:قد عرفتك بالشعر.قال أبو العباس:و ذو الخمار فرس مالك بن نويرة.قال:فمكثوا أياما يتحاربون و دوابهم مسرجة،و لا خنادق لهم حتى ضعف الفريقان،فلما كان الليلة التي قتل في صبيحتها عبد ربه جمع أصحابه،فقال:يا معشر المهاجرين،إن قطريا و عبيدة هربا طلبا للبقاء،و لا سبيل إلى البقاء،فالقوا عدوكم غدا،فإن غلبوكم على الحياة فلا يغلبنكم على الموت،فتلقوا الرماح بنحوركم،و السيوف بوجوهكم،و هبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الآخرة.فلما أصبحوا غادوا المهلب فاقتتلوا قتالا شديدا أنسى ما كان قبله،و قال رجل من الأزد،من أصحاب المهلب:من يبايعني على الموت ؟ فبايعه أربعون رجلا من الأزد،فصرع بعضهم،و قتل بعضهم،و جرح بعضهم.

٢١١

و قال عبد الله بن رزام الحارثي للمهلب:احملوا،فقال المهلب:أعرابي مجنون و كان من أهل نجران،فحمل وحده فاخترق القوم حتى خرج من ناحية أخرى،ثم كر ثانية،ففعل فعلته الأولى،و تهايج الناس فترجلت الخوارج و عقروا دوابهم،فناداهم عمرو القنا و لم يترجل هو و لا أصحابه،و هم زهاء أربعمائة،فقال:موتوا على ظهور دوابكم كراما و لا تعقروها،فقالوا:إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار،فاقتتلوا و نادى المهلب بأصحابه:الأرض،الأرض،و قال لبنيه:تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم،و نادت الخوارج ألا إن العيال لمن غلب فصبر بنو المهلب،و قاتل يزيد بين يدي أبيه قتالا شديدا أبلى فيه،فقال له أبوه:يا بني،إني أرى موطنا لا ينجو فيه إلا من صبر،و ما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست الحروب.و كسرت الخوارج أجفان سيوفها و تجاولوا،فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقتولا.فهرب عمرو القنا و أصحابه و استأمن قوم،و أجلت الحرب عن أربعة آلاف قتيل و جريح من الخوارج و مأسور،و أمر المهلب أن يدفع كل جريح إلى عشيرته،و ظفر بعسكرهم فحوى ما فيه،ثم انصرف إلى جيرفت فقال:الحمد لله الذي ردنا إلى الخفض و الدعة،فما كان عيشنا ذلك العيش.ثم نظر المهلب إلى قوم في عسكره و لم يعرفهم،فقال:ما أشد عادة السلاح،ناولني درعي،فلبسها ثم قال:خذوا هؤلاء،فلما صيرهم إليه قال:ما أنتم ؟ قالوا:جئنا لنطلب غرتك للفتك بك،فأمر بهم فقتلوا.

٢١٢

طرف من أخبار المهلب و بينه

و وجه كعب بن معدان الأشقري،و مرة بن بليد الأزدي فوردا على الحجاج،:فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشده: يا حفص إني عداني عنكم السفر

فقال الحجاج:أشاعر أم خطيب ؟ قال شاعر:فأنشده القصيدة،فأقبل عليه الحجاج و قال:خبرني عن بني المهلب ؟ قال:المغيرة سيدهم و فارسهم،و كفى بيزيد فارسا شجاعا

٢١٣

و جوادهم و سخيهم قبيصة،و لا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك،و عبد الملك سم ناقع،و حبيب موت ذعاف،و محمد ليث غاب،و كفاك بالفضل نجدة فقال له:فكيف خلفت جماعة الناس ؟ قال:خلفتهم بخير قد أدركوا ما أملوا و أمنوا ما خافوا.قال:فكيف كان بنو المهلب فيهم ؟ قال:كانوا حماة السرح،فإذا أليلوا ففرسان البيات.قال:فأيهم كان أنجد.قال:كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها.قال:فكيف كنتم أنتم و عدوكم ؟ قال:كنا إذا أخذنا عفونا،و إذا أخذوا يئسنا منهم،و إذا اجتهدنا و اجتهدوا طمعنا فيهم.قال الحجاج:إن العاقبة للمتقين،فكيف أفلتكم قطري ؟ قال:كدناه و ظن أن قد كادنا بأن صرنا منه إلى التي نحب.قال:فهلا اتبعتموه ؟ قال:كان حرب الحاضر آثر عندنا من اتباع الفل.قال:فكيف كان المهلب لكم و كنتم له ؟ قال:كان لنا منه شفقة الوالد و له منا بر الولد.قال:فكيف كان اغتباط الناس به ؟ قال:نشأ فيهم الأمن و شملهم النفل.قال:أكنت أعددت لي هذا الجواب ؟ قال:لا يعلم الغيب إلا الله.قال:هكذا و الله تكون الرجال المهلب كان أعلم بذلك حيث بعثك.هذه رواية أبي العباس.و روى أبو الفرج في الأغاني أن كعبا لما أوفده المهلب إلى الحجاج أنشده قصيدته التي أولها:

٢١٤

يا حفص إني عداني عنكم السفر

و قد سهرت و آذى عيني السهر

يذكر فيها حروب المهلب مع الخوارج و يصف وقائعه فيهم في بلد،و هي طويلة و من جملتها:

كنا نهون قبل اليوم شأنهم

حتى تفاقم أمر كان يحتقر

لما وهنا و قد حلوا بساحتنا

و استنفر الناس تارات فما نفروا

نادى امرؤ لا خلاف في عشيرته

عنه و ليس به عن مثله قصر

خبوا كمينهم بالسفح إذ نزلوا

بكازرون فما عزوا و لا نصروا

باتت كتائبنا تردي مسمومة

حول المهلب حتى نور القمر

هناك ولوا خزايا بعد ما هزموا

و حال دونهم الأنهار و الجدر

تأبى علينا حزازات النفوس فما

نبقي عليهم و لا يبقون إن قدروا

فضحك الحجاج و قال:إنك لمنصف يا كعب،ثم قال له:كيف كانت حالكم مع عدوكم.قال:كنا إذا لقيناهم بعفونا و عفوهم يئسنا منهم،و إذا لقيناهم بجدنا وجدهم طمعنا فيهم.قال:فكيف كان بنو المهلب ؟ قال:حماة الحريم نهارا و فرسان الليل تيقظا.قال:فأين السماع من العيان ؟ قال:السماع دون العيان.قال

٢١٥

:صفهم لي رجلا رجلا،قال المغيرة فارسهم و سيدهم نار ذاكية،و صعدة عالية،و كفى بيزيد فارسا شجاعا،ليث غاب و بحر جم العباب،و جوادهم قبيصة ليث المغار و حامي الذمار،و لا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك،و كيف لا يفر من مدرك،و كيف لا يفر من الموت الحاضر و الأسد الخادر،و عبد الملك سم ناقع و سيف قاطع،و حبيب الموت الذعاف طود شامخ و بحر باذح،و أبو عيينة البطل الهمام و السيف الحسام،و كفاك بالمفضل نجدة ليث هدار و بحر مواز،و محمد ليث غاب و حسام ضراب.قال:فأيهم أفضل ؟ قال:هم كالحلقة المفرغة،لا يعرف طرفاها.قال:فكيف جماعة الناس ؟ قال:على أحسن حال أرضاهم العدل و أغناهم النفل.قال:فكيف رضاهم بالمهلب ؟ قال:أحسن رضا لا يعدمون منه إشفاق الوالد،و لا يعدم منهم بر الولد،و ذكر تمام الحديث.و قال:إن الحجاج أمر له بعشرين ألف درهم،و حمله على فرس،و أوفده على عبد الملك،فأمر له بعشرين ألفا أخرى.قال أبو الفرج:و كعب الأشقري من شعراء المهلب و مادحيه،و هو شاعر مجيد،قال عبد الملك بن مروان للشعراء:تشبهونني مرة بالأسد و مرة بالبازي،ألا قلتم كما قال كعب الأشقري للمهلب و ولده:

براك الله حين براك بحرا

و فجر منك أنهارا غزارا

٢١٦

بنوك السابقون إلى المعالي

إذا ما أعظم الناس الخطارا

كأنهم نجوم حول بدر

تكمل إذ تكمل فاستدارا

ملوك ينزلون بكل ثغر

إذا ما الهام يوم الروع طارا

رزان في الخطوب ترى عليهم

من الشيخ الشمائل و النجارا

نجوم يهتدى بهم إذا ما

أخو الغمرات في الظلماء حارا

قال أبو الفرج:و هذا الشعر من قصيدة لكعب يمدح بها المهلب،و يذكر الخوارج و منها:

سلوا أهل الأباطح من قريش

عن المجد المؤثل أين صارا

٢١٧

لقوم الأزد في الغمرات أمضى

و أوفى ذمة و أعز جارا

هم قادوا الجياد على وجاها

من الأمصار يقذفن المهارا

إلى كرمان يحملن المنايا

بكل ثنية يوقدن نارا

شوازب ما أصبنا الثار حتى

رددناها مكلمة مرارا

غداة تركن مصرع عبد رب

نثرن عليه من رهج غبارا

و يوم الزحف بالأهواز ظلنا

نروي منهم الأسل الحرارا

فقرت أعين كانت حزينا

قليلا نومها إلا غرارا

و لو لا الشيخ بالمصرين ينفي

عدوهم لقد نزلوا الديارا

و لكن قارع الأبطال حتى

أصابوا الأمن و احتلوا القرارا

٢١٨

إذا وهنوا و حل بهم عظيم

يدق العظم كان لهم جبارا

و مبهمة يحيد الناس عنها

تشب الموت شد لها إزارا

شهاب تنجلي الظلماء عنه

يرى في كل مظلمة منارا

براك الله حين براك بحرا

و فجر منك أنهارا غزارا

الأبيات المتقدمة.قال أبو الفرج:و حدثني محمد بن خلف وكيع بإسناد ذكره:أن الحجاج لما كتب إلى المهلب يأمره بمناجزة الخوارج حينئذ و يستبطئه و يضعفه و يعجزه من تأخيره أمرهم و مطاولته لهم.قال المهلب لرسوله:قل له:إنما البلاء أن يكون الأمر لمن يملكه لا لمن يعرفه،فإن كنت نصبتني لحرب هؤلاء القوم على أن أدبرها كما أرى،فإذا أمكنتني فرصة انتهزتها،و إن لم تمكني توقفت،فأنا أدبر ذلك بما يصلحه و إن أردت أن أعمل برأيك،و أنا حاضر و أنت غائب،فإن كان صوابا،فلك و إن كان خطأ فعلي فابعث من رأيت مكاني،و كتب من فوره بذلك إلى عبد الملك،فكتب عبد الملك إلى الحجاج لا تعارض المهلب،فيما يراه و لا تعجله و دعه يدبر أمره.قال:و قام كعب الأشقري إلى المهلب،فأنشده بحضرة رسول الحجاج:

إن ابن يوسف غره من أمركم

خفض المقام بجانب الأمصار

لو شهد الصفين حيث تلاقيا

ضاقت عليه رحيبة الأقطار

من أرض سابور الجنود و خيلنا

مثل القداح بريتها بشفار

٢١٩

من كل صنديد يرى بلبانه

وقع الظبات مع القنا الخطار

لرأى معاودة الرباع غنيمة

أزمان كان محالف الإقتار

فدع الحروب لشيبها و شبابها

و عليك كل غريرة معطار

فبلغت أبياته الحجاج فكتب إلى المهلب يأمره بإشخاص كعب الأشقري إليه،فأعلم المهلب كعبا بذلك،و أوفده إلى عبد الملك من ليلته،و كتب إليه يستوهبه منه،فقدم كعب على عبد الملك برسالة المهلب،فاستنطقه فأعجبه و أوفده إلى الحجاج،و كتب إليه يقسم عليه أن يصفح و يعفو عما بلغه من شعره،فلما دخل قال:إيه يا كعب،لرأي معاودة الرباع غنيمة،فقال:أيها الأمير،و الله لوددت في بعض ما شاهدته من تلك الحروب،و ما أوردناه المهلب من خطرها أن أنجو منها،و أكون حجاما أو حائكا،قال:أولى لك لو لا قسم أمير المؤمنين ما نفعك ما تقول الحق بصاحبك و رده إلى المهلب.قال أبو العباس:و كان كتاب المهلب إلى الحجاج الذي بشره فيه بالظفر و النصر:بسم الله الرحمن الرحيم،الحمد لله الكافي بالإسلام،فقد ما سواه الحاكم بألا ينقطع المزيد من فضله حتى ينقطع الشكر من عباده،أما بعد،

٢٢٠