خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص42%

خلافة الرسول بين الشورى والنص مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 133

خلافة الرسول بين الشورى والنص
  • البداية
  • السابق
  • 133 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46877 / تحميل: 6760
الحجم الحجم الحجم
خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

- وأيّام الخندق ذاتها؛ أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يفتّ في عضد الاحزاب ويفرّق شملهم ليخفّف على أهل المدينة ضنك الحصار، بأن يصالح كبير غطفان عيينة بن حصن على سهم من ثمر المدينة لينسحب بمن معه من غطفان وهوازن ويخذل الاَحزاب، فدعا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الاَمر سيّدي الاَوس والخزرج من الاَنصار: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فاستشارهما في ذلك، فقالا: يا رسول الله، إن كنت اُمرتَ بشيء فافعله وامضِ له، وإن كان غير ذلك فوالله لا نعطيهم إلاّ السيف.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لم اُؤمر بشيء، ولو اُمرت بشيء ما شاورتكما.. بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلاّ لاَنّني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كلِّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ ما». وسُرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولهما، فقال لعيينة بن حصن، ورفع صوته بها «ارجع، فليس بيننا وبينكم إلاّ السيف»(١) .

وفي هذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد اختبر صبر الانصار وثباتهم وصدق إيمانهم.

كما كشف هذا الحوار صراحةً أنّه لا محلّ للشورى في ما كان عن أمر من الله ورسوله.

- وفي حدثٍ ثالث كان المستشار علي عليه السلام وزيد بن حارثة، ذلك حين كان حديث الاِفك.

- وفي حدثٍ رابع استمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى مشورة امرأة واحدة، هي اُمّ

____________________

(١) سيرة ابن هشام ٣: ٢٣٤، الاستيعاب ٢: ٣٧، تاريخ الطبري ٢: ٥٧٣ عن الزهري.

٢١

المؤمنين اُمّ سَلَمة، ذلك يوم الحديبية، بعد إمضاء الصلح، إذ أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن ينحروا ما معهم من الهدي الذي ساقوه، فلم ينحر أحد، فبان الغضب بوجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعاد إلى خيمته، فقالت له اُمّ سَلَمة، لو نحرتَ يا رسول الله، لنحروا بعدك.. فنحر صلى الله عليه وآله وسلم هديه، فنحروا بعده(١) .

هذه هي أشهر نماذج الشورى التي يعرضها التاريخ، بغضّ النظر عن صحّة أسانيدها أو ضعفها، منذ نزلت آية الشورى هذه حتّى قُبض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.. فليس هناك شيء أكثر ممّا كان قبل نزولها.. وليس هناك نظام محدّد، ولا أشخاص معيّنون.. ليس هناك أثر لما دعاه البعض (هيئة العشرة)..

تلك هيئة ليس لها أثر أيّام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلّها، ولا استطاع مدّعيها(٢) أن يأتي بشاهد تاريخي واحد على وجودها في أيام النبيّ ( ص )، ولا يستطيع أن يأتي بشاهد واحد يؤيّدها من حياة أبي بكر كلّها وحياة عمر كلّها، حتّى اختياره الستة المعروفين لشورى الخلافة!

وأضعف من هذه الدعوى ما جاء في محاولة البرهنة عليها من أشياء متكلَّفة، واُخرى لا واقع لها، واُخرى تفيد نفيها بدلاً من إثباتها!

ومن أنكر وأغرب ما استدلّ به، وهو يراه أقوى أدلّة الاِثبات، ثلاثة أشياء، هي:

____________________

(١) تاريخ الطبري ٢: ٦٣٧ عن الزهري.

(٢) محمد عمارة، الخلافة ونشأة الاَحزاب الاِسلامية: ٥٤.

٢٢

الاَول: قوله: يتحدّث سعيد بن جبير عن هذه الحقيقة الهامّة، فيقول: (وكان مقام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبدالرحمن بن عوف وابي عبيدة وسعيد بن زيد، كانوا أمام رسول الله في القتال ووراءه في الصلاة). ثم يستنتج من هذا القول أنّ هؤلاء العشرة لم يكونوا فقط وزراء الرسول ومجلس شوراه، وانّما كانوا يديمون الوقوف خلفه مباشرة في الصلاة، كما يلتزمون الوقوف أمامه عند الحرب والقتال(١) !!

إننا بغضّ النظر عن صحّة نسبة مثل هذا القول إلى سعيد بن جبير، أو عدمها، لو سألنا الباحث أن يكتشف لنا حرباً واحدةً فقط من حروب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقف فيها هؤلاء العشرة أمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقت القتال، لعاد بعد بحث طويل في خيبة أمل!

الثاني: قوله: هؤلاء العشرة فيهم أوّل ثمانية دخلوا في دين الاِسلام، فهم أوّلون في الاِسلام، ومهاجرون(٢) . وهذا كلام مع ما فيه من تهافت فهو دعوى غير صحيحة أيضاً.. فهل كان سبق الثمانية إلى الاِسلام هو الذي رفع الاثنين الآخرين؟!

ثمّ أين هذا السبق، وكلّهم - ما خلا عليّ - مسبوق؟! إنّهم، غير الإمام علي عليه السلام، مسبوقون إلى الاِسلام، سبقتهم خديجة، وجعفر بن أبي طالب، وخالد بن سعيد بن العاص، وأخوه عثمان، وسبقهم زيد بن حارثة، وسبقهم أبو ذرّ الغفاري خامس الاِسلام، وسبقهم آخرون(٣) .

____________________

(١) الخلافة ونشأة الاَحزاب الاِسلامية: ٥٧.

(٢) الخلافة ونشأة الاَحزاب الاِسلامية: ٥٨.

(٣) اُنظر: البداية والنهاية ٣: ٣٤ - ٣٨، ترجمة أبي ذرّ في: الاستيعاب، اُسد الغابة، الاصابة، سِيَر أعلام النبلاء.

٢٣

الثالث: وهو أكثرها نكارة، ما نقله عن المستشرق فان فلوتن، بعد أن قدّم له بسؤال مثير، فقال: (ولكن هل خرجت الشورى على عهد رسول الله من النطاق الفردي غير المنظّم، إلى نطاق التنظيم المحكوم بمؤسّسة من المؤسّسات؟ ).

فلمّا لم يجد لهذا التساؤل الهام جواباً من التاريخ، تعلّق بالخطأ الذي وقع فيه فان فلوتن لسوء فهمه لمفردات العربية، فحين قرأ عن أصحاب الصفّة وهم المقيمون في المسجد على صفّة كبيرة فيه، والبالغ عددهم سبعين رجلاً، ظن أنّ الصفّة تعني (الصفوة)! فظنّ أنّ صفوة الصحابة كانوا سبعين رجلاً لا يفارقون المسجد كمؤسّسة استشارية تتّخذ من المسجد مقرّاً لها، ولم يفهم أنّ أصحاب الصفة هؤلاء هم أضعف المسلمين حالاً، لا يملكون مأوىً لهم فاتخذوا المسجد مأوى!!

وليس هذا بمستغرب من مستشرق لا يتقن العربية، ولا تعنيه فداحة الخطأ العلمي بقدر ما يعنيه الادلاء برأيه.. لكنّ المستغرب أن يأتي باحث كبير كالشيخ محمد عمارة فيعتمد هذا الخطأ العلمي مصدراً لتثبيت قضية هامّة كهذه، قائلاً: (نعم، فهناك ما يشير إلى وجود مجلس للشورى في عهد الرسول كان عدد أعضائه سبعين عضواً) ويصرّح أن مصدره فان فلوتن(١) !

أنتم أعلم باُمور دنياكم!:

هذا وجه آخر من وجوه تفسير مشاورة الرسول أصحابه: إنّ علوم الخلق متناهية، فلابدّ أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح مالا يخطر

____________________

(١) الخلافة ونشأة الاَحزاب الاِسلامية: ٥٣.

٢٤

بباله صلى الله عليه وآله وسلم لا سيّما في ما يُفعل من اُمور الدنيا، ولذلك قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»(١) !

لكنّ هذا وجه مردود من أوّل نظرة، حتّى على فرض صحّة الحديث «أنتم أعلم بأمور دنياكم».. ذلك أنّ هذا كان في واقعة محدّدة، هي قضية تأبير النخل في عام من الاَعوام، وقضية مثل هذه لا تدخل في شؤون النبوّة ولا في شؤون القيادة السياسة والاجتماعية، فلم يكن قائد من قوّاد الاُمم مسؤولاً عن نظام تأبير النخل! أو عن إصلاح شؤون بيوت الناس من ترتيب أثاثها وترميم قديمها! أو كيفية خياطة الثياب! أو طريقة رصف السلع في الاَسواق!

هذه هي أمور دنيا الناس التي يباشرونها بأذواقهم وبخبراتهم الخاصة الخاضعة لظروفها الزمانية والمكانية.

أمّا أن يقال إنّ من الناس من هو أعلم من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشؤون سياسة الدولة، وأقدر منه على تقدير مصالحها وحفظها، فهذا من الفكر الشاذّ الذي لا يستقيم ومبادئ الاِسلام.

فمن المستنكر جدّاً أن يستفاد من حديث «أنتم أعلم باُمور دنياكم» انّهم أعلم منه بسياسة البلاد وبتخطيط النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية!

إنّه لا يتجاوز في معانيه تلك الاَمثلة المتقدّمة في شؤون الناس الخاصّة التي يتعاهدونها بأنفسهم، وليس القائد - نبيّاً أو غيره - بمسؤول عن

____________________

(١) تفسير الرازي ٩: ٦٦.

٢٥

تنظيمها.

إذن فخلاصة ما وقفنا عليه في هذا البعد الاَول: أنّ الشورى التي اُمر بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وزاولها إنّما هي شورى الحاكم، القائد، يشاور من يشاء من أهل الخبرة أو أهل الصلة المباشرة بالاَمر، وليس هناك ما يشير من قريب أو بعيد إلى اعتماد الشورى في تعيين رأس النظام السياسي والاجتماعي في الاِسلام، هذا حتّى لو تحقّق في التاريخ وقوع مشاورة في ما يتّصل بخطط سياسية أو اجتماعية.

البعد الثاني:

ثمّة بُعد ثانٍ للشورى هو أبعد من الاَوّل عن شؤون النظام السياسي؛ إنّه البعد الاجتماعي، المتمثّل بمزاولة الناس للشورى في شؤونهم الخاصّة، ولم نقل إنّها ذات بعد شخصي فقط، ذلك لاَنّها علاقة بين طرفين، المشير والمستشار، وعلى الثاني مسؤوليته في النصح والصدق والاَمانة، فعادت علاقة اجتماعية، ذات أثر اجتماعي هامّ.

- فقد روى ابن عباس أنّه لما نزلت( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (١) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمةً لاُمّتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غيّاً»(٢) .

فلم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم محتاجاً إلى الشورى في اُمور الدنيا ليستنير برأيٍ ويهتدي إلى صواب، بل كان غنيّاً عن ذلك، وإنّما هي رحمة للعباد لئلاّ يركبوا رؤوسهم في شؤونهم وأعمالهم ويتمادوا بالغطرسة والاعتداد

____________________

(١) آل عمران ٣: ١٥٩.

(٢) الدر المنثور ٢: ٣٥٩.

٢٦

بالرأي الذي يوردهم المهالك! ويوضّحه الحديث الشريف عنه ( ص ): «ما تشاور قوم قط إلاّ هدوا وأرشدَ أمرُهم»(١) .

والحديث الشريف: «استرشدوا العاقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا»(٢) .

وقد ورد حديث كثير في الحثّ على المشورة بهذا المعنى، وحديث يخاطب المستشار بمسؤوليته: «المستشار مؤتمن»(٣) .

«من استشاره أخوه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه»(٤) .

هذا البعد الاجتماعي للشورى هو الذي يبرز في خطاب النصّ الثالث من نصوصها..

النصّ الثالث:

قوله تعالى:( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) (٥) .

جاءت هذه الآية الكريمة ضمن سياق عام يتحدّث عن خصائص المجتمع الاَمثل، قال تعالى:

( ... وَمَا عِندَ اللَّـهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *

____________________

(١) أخرجه عبد بن حميد، والبخاري في الاَدب المفرد، الدر المنثور ٧: ٣٥٧.

(٢) أخرجه الخطيب في (رواة مالك)، الدر المنثور ٧: ٣٥٧.

(٣) مسند أحمد ٥: ٢٧٤.

(٤) مسند أحمد ٢: ٣٢١.

(٥) الشورى ٤٢: ٣٨.

٢٧

وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ) (١) .

فهي ناظرة إلى ظواهر يتميّز بها المجتمع الاِسلامي التي تمثّل أهداف الاِسلام وآدابه، فمع ما يتحلّون به من الايمان، وحسن التوكّل على الله تعالى، واجتناب الكبائر والفواحش، والعفو والمسامحة، والاستجابة لاَمر ربّهم، واحياء الصلاة، وردّ البغي والعدوان، فهم أيضاً (شأنهم المشاورة بينهم.. ففيه الاِشارة إلى أنّهم أهل الرشد واصابة الواقع، يمعنون في استخراج صواب الرأي بمراجعة العقول. فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى:( يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) )(٢) .

وهذه نصوص تؤكد على اهمية التشاور والاسترشاد:

وعلى هذا انطلق المفسّرون في ظلال هذا النصّ يتحدّثون عن استحباب مشاورة الناس لمن أهمّه أمر، والاسترشاد بعقول الآخرين وآرائهم الناضجة، دائرين في دائرة ذلك البعد الاجتماعي الذي تقدّم آنفاً..

«ما تشاور قوم قطّ إلاّ هُدوا وأرشد أمرهم».

«استرشدوا العاقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا».

«من أراد أمراً فشاور فيه، اهتدى لاَرشد الاُمور»(٣) .

____________________

(١) الشورى ٤٢: ٣٦ - ٣٩.

(٢) الميزان في تفسير القرآن ١٨: ٦٥، والأية من سورة الزمر ٣٩: ١٨.

(٣) الدر المنثور ٧: ٣٥٧.

٢٨

شورى الحاكم أيضاً:

في حديث واحد ممّا قيل في ظلال هذا النصّ، أخرجه السيوطي، منسوباً إلى الإمام عليّ عليه السلام قال: «قلتُ: يا رسول الله، الاَمر ينزل بنا بعدك، لم ينزل فيه قرآن، ولم يُسمَع منك فيه شيء؟

قال: اجمعوا له العابد من اُمّتي، واجعلوه بينكم شورى، ولا تقضوه برأي واحد»(١) .

والبحث فيه على فرض صحّته، علماً أنّه لم يرد في شيء من مصادر الحديث المعتمدة..

فهو حديث عن أمر لم ينزل فيه قرآن، ولم يرد فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ممّا قد يستجدّ بعده من اُمور لم يكن لها موضوع، أو ضرورة تدعوه لطرقها وتقديم الاِرشاد فيها.. وهذا موضوع عام لسائر مستجدّات الحياة المدنية والاجتماعية والتنظيمية..

ثمّ يأتي جواب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيه موجّهاً إلى جهة تتولّى مهامّ القيادة، وتقع عليها مسؤولية الحكم: «اجمعوا له العابد من اُمّتي» فهناك جهة مسؤولة هي التي تتولّى مهمّة جمع الصالحين من المؤمنين للمشاورة.

أمّا إذا كان الاَمر قد ورد فيه شيء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقوله نافذ، ولا محلّ للشورى والرأي فيه.

والبحث في هذا الحديث انما كان على فرض صحته، والثابت أنّه لم

____________________

(١) الدر المنثور ٧: ٣٥٧، وقال: أخرجه الخطيب في (رواة مالك).

٢٩

يصحّ وليس له أصل، قال فيه ابن عبد البر: هذا حديث لا أصل له! وقال الدارقطني: لا يصحّ! وقال الخطيب: لا يثبت عن مالك(١) !

____________________

(١) لسان الميزان ٣: ٧٨ | ٢٨٣ ترجمة سليمان بن بزيع.

٣٠

الشورى في التاريخ والفقه السياسي

الذي يتركّز عليه البحث في التاريخ وفي الفقه السياسي هو موضوع الشورى في اختيار الحاكم (خليفة الرسول).

وقد ثبت في البحث المتقدّم أنّ شيئاً ما لم يرد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ممّا يمكن أن يُلتمس منه ايكال أمر اختيار خليفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشورى، بل الاَدلة الثابتة من الكتاب والسُنّة قائمة على عدم إيكاله إلى أحدٍ من الاُمة مطلقاً. ومما يشهد بذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عرض الاِسلام على القبائل اشترط عليه بعضهم أن يكون الاَمر لهم من بعده، فرفض في تلك الظروف الصعبة هذا الشرط قائلاً: «إنَّ الاَمر لله يضعه حيثُ يشاء»(١) .

وعدم ورود شيء عن النبيّ (ص) في هذا الموضوع، قضية مفروغ منها، متّفق عليها، لا نزاع فيها.. فمتى ولد التفكير في اسناد هذا الامر إلى الشورى؟

أول ظهور لمبدأ الشورى

هذا أمر اثبته أصحاب التاريخ وأصحاب الحديث، بلا نزاع فيه ولا خلاف.. اتفقوا على أنّ ذلك مبدأ سنّه عمر بن الخطاب قبل وفاته، وليس

____________________

(١) ذكرهُ أصحاب السيرة، اُنظر منها: انسان العيون ٢: ١٥٤.

٣١

له قبل هذا التاريخ أثر..

قال القرطبي، بعد كلام في استحباب الشورى: (وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافةَ - وهي أعظم النوازل - شورى)(١) .

وقال ابن كثير:( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) أي لا يبرمون أمراً حتّى يتشاوروا فيه، ليتساعدوا بآرائهم، في مثل الحروب وما جرى مجراها، كما قال تبارك وتعالى:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيّب بذلك قلوبهم. وهكذا لمّا حضرت عمر بن الخطاب الوفاة حين طعن جعل الاَمر بعده شورى(٢) .

فانظر إلى هذا التحوّل الكبير في المدى الذي حدث قبل وفاة عمر، ولم يكن له قبلها أثر! أمّا كيف حدث هذا التحوّل الكبير؟ وتحت أيّ دافع؟

فهذا سؤال هام أجاب عنه عمر بن الخطاب بنفسه في ذات الوقت الذي جعل فيه الخلافة شورى، ذلك في خطبته الشهيرة التي ذكر فيها السقيفة وأخبارها، ثم قال: (لا يغترنّ أمرؤ أن يقول إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت، ألا إنّها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرّها! فمن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرّةً أن يُقتلا)(٣) .

____________________

(١) تفسير القرطبي: ١٦١ - ١٦٢.

(٢) تفسير ابن كثير ٤: ١١٩.

(٣) صحيح البخاري - كتاب الحدود - باب رجم الحبلى من الزنا | ٦٤٤٢، مسند أحمد ١: ٥٦، سيرة ابن هشام ٤: ٣٠٨، تاريخ الطبري ٣: ٢٠٠.

٣٢

أمّا سبب هذه الخطبة التي أفرزت (الشورى) مبدءاً في اختيار الخليفة لاَوّل مرّة، فيحدّثنا عنه القسطلاني وهو يفكَ ألغازها..

فبعد أن يأتي باسنادها الذي أورده البخاري عن ابن عباس، وفيه أنّ عبدالرحمن بن عوف جاء إلى ابن عباس في موسم الحجّ وكان يتعلّم عنده القرآن، فقال له: لو سمعت ما قاله أمير المؤمنين - يعني عمر بن الخطاب - إذ بلغه أنّ "فلاناً" قال: لو قد مات عمر لبايعت "فلاناً" فما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتة، فهمّ عمر أن يخطب الناس ردّاً على هذا القول، فنهيته لاجتماع الناس كلّهم في الحج وقلت له إذا عدت المدينة فقل هناك ما تريد، فإنّه أبعد عن اثارة الشغب.. فلمّا رجعوا من الحجّ إلى المدينة قام عمر في خطبته المذكورة..

فمن هو "فلان" القائل؟ ومن هو "فلان" الآخر؟

حين تردّد بعض الشارحين في الكشف عن هذين الاسمين، استطاع ابن حجر العسقلاني أن يتوصل إلى ذلك بالاِسناد الصحيح المعتمد عنده، والذي ألغى به كل ماقيل من أقوال أثبت ضعفها ووهنها، فقال: وجدته في الاَنساب للبلاذري بإسناد قويّ، من رواية هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، بالاسناد المذكور في الاصل، ولفظه: (قال عمر: بلغني أنّ الزبير قال: لو قد مات عمر لبايعنا عليّاً..) الحديث(١) !!

فذلك إذن هو السرّ في ثورة عمر!

____________________

(١) مقدمة فتح الباري بشرح صحيح البخاري: ٣٣٧. وتبعه القسطلاني في ارشاد الساري لشرح صحيح البخاري ١٠: ١٩.

٣٣

وذلك هو السرّ في ولادة مبدأ الشورى في الخلافة!

الشورى التي سنتحدّث عن تفاصيلها وأحكامها وما قيل فيها، باستيعاب يتناسب مع حجم هذا الكتاب.

٣٤

الشورى في اطارها النظري

إنّ الاَساس الذي قامت عليه نظرية الشورى هو أنّ أمر الخلافة متروك إلى الاُمّة.. ومن هنا ابتدأت الاَسئلة تنهال على هذه النظرية؛ عند البحث عن الدليل الشرعي في تفويض هذا الامر إلى الاُمّة.. وعند محاولة إثبات شرعية الاسلوب الذي سوف تسلكه الاُمّة في الاختيار..

لقد رأوا في قوله تعالى:( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) (١) أفضل دليل شرعي يدعم هذه النظرية، ومن هنا قالوا: إنّ أوّل وجوه انتخاب الخليفة هو الشورى.

لكن ستأتي الصدمة لاَوّل وهلة حين نرى أنّ مبدأ الشورى هذا لم يطرق أذهان الصحابة آنذاك.

فانتخاب أوّل الخلفاء كان بمعزل عن هذا المبدأ تماماً، فإنّما كان "فلتةً" كما وصفه عمر، وهو الذي ابتدأه وقاد الناس إليه!

ثمّ كان انتخاب ثاني الخلفاء بمعزلٍ أيضاً عن هذا المبدأ!

نعم، ظهر هذا المبدأ لاَوّل مرّة على لسان عمر في خطبته الشهيرة التي ذكر فيها السقيفة وبيعة أبي بكر فحذّر من العودة إلى مثلها، فقال: (فمن بايع رجلاً من غير مشورةٍ من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرَّة

____________________

(١) الشورى ٤٢: ٣٨.

٣٥

أن يُقتلا)(١) . ذلك القول الذي عرفنا قبل قليل أنّه ما قاله إلاّ ليقطع الطريق على الإمام عليّ عليه السلام ومن ينوي أن يبايع له!

لكنّه حين أدركته الوفاة أصبح يبحث عن رجل يرتضيه فيعهد إليه بالخلافة بنصّ قاطع بعيداً عن الشورى!

فقال: لو كان أبو عبيدة حيّاً لولّيته(٢) .

ثمّ قال: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته(٣) .

ثمّ قال: لو كان معاذ بن جبل حيّاً لولّيته(٤) .

إذن لم يكن عمر يرى أنّ الاَصل في هذا الاَمر هو الشورى، وإن كان قد قال بالشورى في خطبته الاَخيرة إلاّ أنّه لم يعمل بها إلاّ اضطراراً حين لم يجد من يعهد إليه!

لقد أوضح عن عقيدته التامّة في هذا الاَمر حين قال قُبيل نهاية المطاف: (لو كان سالمٌ حيّاً ماجعلتها شورى)(٥) !!

ثمّ كانت الشورى..

وأيّ شورى!!

إنّها شورى محاطة بشرائط عجيبة لا مجال للمناقشة فيها! وجملتها:

____________________

(١) صحيح البخاري - كتاب المحاربين ٦ | ٦٤٤٢، مسند أحمد ١: ٥٦، سيرة ابن هشام ٤: ٣٠٨.

(٢) الكامل في التاريخ ٣: ٦٥، صفة الصفوة ١: ٣٦٧.

(٣) الكامل في التاريخ ٣: ٦٥، صفة الصفوة ١: ٣٨٣، طبقات ابن سعد ٣: ٣٤٣.

(٤) صفة الصفوة ١: ٤٩٤.

(٥) طبقات ابن سعد ٣: ٢٤٨.

٣٦

١ - إنّها شورى بين ستّة نفر، وحسب، يعيّنهم الخليفة وحده دون الاُمّة!

٢ - أن يكون الخليفة المنتخب واحداً من هؤلاء الستّة، لا من غيرهم!

٣ - إذا اتّفق أكثر الستّة على رجل وعارض الباقون، ضُربت أعناقهم!

٤ - إذا اتّفق اثنان على رجل، واثنان على آخر، رجّحت الكفّة التي فيها عبد الرحمن بن عوف - أحد الستّة - وإنْ لم يُسَلّم الباقون ضُربت أعناقهم!

٥ - ألاّ تزيد مدّة التشاور على ثلاثة أيّام، وإلاّ ضُربت أعناق الستّة أهل الشورى بأجمعهم!!

٦ - يتولّى صهيب الرومي مراقبة ذلك في خمسين رجلاً من حَمَلَة السيوف، على رأسهم أبو طلحة الاَنصاري(١) !

فالحقّ أنّ هذا النظام لم يترك الاَمر إلى الاُمّة لتنظر وتعمل بمبدأ الشورى، بل هو نظام حدّده الخليفة، ومنحه سمة الاَمر النافذ الذي لامحيد عنه، ولاتغيير فيه، ولايمكن لصورة كهذه أن تُسمّى شورى بين المسلمين، ولابين أهل الحلّ والعقد.

لقد كانت تلك الظروف إذن كفيلة بتعطيل أوّل شورى في تاريخ الاِسلام عن محتواها، فطعنت إذن في تلك القاعدة الاَساسيّة المفترضة (قاعدة الشورى).

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٣: ٦٦ - ٦٧.

٣٧

والحقّ أنّ هذه القاعدة لم يكن لها عين ولا أثر من قبل.. فلم يكن أبو بكر مؤمناً بمبدأ الشورى قاعدةً للنظام السياسي وأصلاً في انتخاب الخليفة، ولا مارس ذلك بنفسه، بل غلّق دونها الاَبواب حين سلب الاُمّة حقّ الاختيار وممارسة الشورى إذ نصّ على عمر خليفةً له، ولم يُصغ إلى ماسمعه من اعتراضات بعض كبار الصحابة على هذا الاختيار.

علماً أنّ اعتراض هؤلاء الصحابة المعترضين حينذاك لم يكن على طريقة اختيار الخليفة التي مارسها أبو بكر، ولا قالوا: إنّ الاَمر ينبغي أن يكون شورى بين الاُمّة، ولا احتجّ أحدهم بقوله تعالى:( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) ، وإنّما كان اعتراضهم على اختياره عمر بالذات، فقالوا له: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت مايلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم؟! وأنت لاقٍ ربّك فسائلك عن رعيّتك(١) !

بل كان عمر صريحاً كلّ الصراحة في تقديم النصّ على الشورى، ذلك حين قال: (لو كان سالمٌ حيّاً لَما جعلتها شورى)(٢) !!

إنّ عهداً كهذا ليلغي رأي الاُمّة بالكامل، وحتّى الجماعة التي يُطلق عليها (أهل الحلّ والعقد)!

قالوا: إذا عهد الخليفة إلى آخر بالخلافة بعده، فهل يُشترط في ذلك رضى الاُمّة؟

فأجابوا: إنّ بيعته منعقدة، وإنَّ رضى الاُمّة بها غير معتبر، ودليل

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٢: ٤٢٥.

(٢) طبقات ابن سعد ٣: ٢٤٨.

٣٨

ذلك: أنّ بيعة الصدّيق لعمر لم تتوقّف على رضى بقيّة الصحابة(١) !

لم يكن إذن لقاعدة الشورى أثر في تعيين الخليفة!!

لعلّ هذه الملاحظات هي التي دفعت ابن حزم إلى تأخير مبدأ الشورى وتقديم النصّ والتعيين الصريح مِن قِبَل الخليفة السابق، فقال: (وجدنا عقد الاِمامة يصحّ بوجوه، أوّلها وأصحّها وأفضلها: أن يعهد الاِمام الميّت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته)(٢) !

الشورى أم السيف؟

لقد أدركنا جيّداً هبوط مبدأ الشورى في الواقع عن المرتبة التي احتلّها في النظريّة، فتنازلنا عنه تنازلاً صريحاً - بعد إقراره - حين ذهبنا إلى تصحيح واعتماد كلّ ماحدث على السّاحة رغم منافاته الصريحة لمبدأ الشورى.

ولم نكتف بهذا، بل ذهبنا إلى تبرير تلك الوجوه المتناقضة بلا استثناء، وبدون الرجوع إلى أيّ دليل من الشرع، ودليلنا الوحيد كان دائماً: (فعل الصحابة) رغم أنّنا نعلم علم اليقين أنّ الصحابة لم يجتمعوا على رأي واحد من تلك الآراء والوجوه.

كما أنّنا نعلم علم اليقين أيضاً أنّ خلاف المخالفين منهم وإنكار المنكرين كان ينهار أمام الحكم الغالب.

ورغم ذلك فقد عمدنا إلى القرار الغالب والنافذ في الواقع، فمنحناه

____________________

(١) مآثر الاِنافة ١: ٥٢، الاَحكام السلطانية - للماوردي -: ١٠، الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: ٢٥ - ٢٦.

(٢) الفصل ٤: ١٦٩.

٣٩

صبغة الاِجماع، بحجّة أنّه لم يكن لينفذ في عهدهم إلاّ بإجماعهم عليه، أو إقرارهم إيّاه.

وبهذا تنكّرنا لحقيقة أنّ القرار النافذ كان يبتلع كلَّ ماصادفه من أصوات المخالفين والمنكرين، ولايلقي لها بالاً، وهذا هو الغالب على كلّ مايتّصل بالخلافة والمواقف السياسية الكبرى.

فماذا أغنى اعتراض بني هاشم ومَن معهم مِن المهاجرين والاَنصار على نتائج السقيفة؟!

وما أغنى إنكار الصحابة على أبي بكر يوم استخلف عمر؟!

وما أغنى إنكار الصحابة سياسة عثمان في قضايا كثيرة كتقديمه بني أُميّة على خيار الصحابة مع ماكان عليه أُولئك من حرص على الدنيا وبُعدٍ عن الدِين؟!

ثمّ لم يشتدّ هذا الاِنكار ويعلو صداه حتّى تغلّب على شؤون الاُمّة والخليفة غلمانُ بني أُميّة ممّن اتفق الكل على أنّه لم يكن معهم من الدين والورع لا كثير ولا قليل، كمروان بن الحكم وعبد الله بن سعد بن أبي سرح والوليد بن عقبة، ومعاوية.

ومع هذا فلم يكن إنكارهم عندنا حجّة، بل كانوا به ملومين!

فمتى إذن كان إنكار الصحابة حجّة، ليكون سكوتهم إقراراً؟!

فإذا كانت الخطوة الاُولى في التراجع عن مبدأ الشورى هي القبول بتسليم الاَمر إلى الخليفة القائم ليستخلف بعده من يشاء، فإنّ الخطوة الثانية كانت خطوة مُرّةً حقّاً.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الإيمان ، وهذا حكم عامّ لا استثناء فيه حتّى في تلك الموارد التي رخّص الله تعالى لرسوله الكريم مشورة الناس فيها.

قال تعالى :( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (١) .

فمدار القرار ومحوره عزم الرسول وإقدامه في تحديد أيّ موقف ، ولا رأي للناس في ذلك ، ولم تكن مشورتهم إلاّ لتطيب خواطرهم ، وإشعارهم بشخصيتهم في ميدان العمل والتطبيق ، مضافاً إلى ما للمشورة من تأثير على تمسّكهم بأوامر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتزامهم بما ألزموا به أنفسهم ، خصوصاً في مواطن الشدّة كالحرب.

هذا ، وإنّ الشورى لم تتحقّق بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في سقيفة بني ساعدة ، فقد حضرها مجموعة قليلة من الأنصار والمهاجرين ، ولم يكونوا يمثّلون جميع أهل الحلّ والعقد ، خصوصاً وأنّ علياً ‎عليه‌السلام قد أبدى اعتراضه على ما جرى في السقيفة ورفض البيعة ، كما اعترض كبار الصحابة : كالمقداد ، وسلمان ، والزبير ، وعمّار ، وعبد الله بن مسعود ، وسعد بن عبادة ، والعباس ابن عبد المطلب ، وأُسامة بن زيد ، وأُبي بن كعب ، وعثمان بن حنيف.

ولو تنزّلنا وقلنا : حصلت الشورى في انتخاب الخليفة الأوّل ، لكنّها لم تحصل في الخليفة الثاني ، حيث تمّ تعيينه مباشرة ومن دون مشورة أحد.

وهكذا لم تحصل في الخليفة الثالث ، حيث إنّ عمر رشّح ستة أشخاص ، ووضع لهم طريقة خاصّة في انتخاب الخليفة ، كما ورد في كتب التاريخ(٢) .

ثمّ لو كانت الشورى مشروعة في تعيين الخليفة لبيّنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ورفع الغموض عنها ، مع أنّه لم يؤثر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله شيء في هذا المجال.

____________

١ ـ آل عمران : ١٥٩.

٢ ـ تاريخ الأُمم والملوك ٣ / ٢٩٥ ، تاريخ المدينة ٣ / ٩٢٤.

٦١

وهل يعقل أنّ النبيّ ‎صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يهتمّ في مسألة الحاكم الذي يليه ، بينما يكون غيره ـ كأبي بكر وعمر ـ أكثر حرصاً منهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيقدما على الوصاية من بعدهما ، ولا يقدم نبي الرحمة على ذلك؟

والخلاصة : حيث إنّه لم يؤثر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه تحدّث عن الشورى كأسلوب في تعيين الخليفة من بعده ، فلابدّ من الرجوع إلى النصوص المأثورة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله والدالّة على تنصيب الإمام عليعليه‌السلام كخليفة المسلمين.

( ـ السعودية ـ )

ليست أساس الحكم والخلافة :

س : حاول المتجدّدون من متكلّمي أهل السنّة ، صب صيغة الحكومة الإسلامية على أساس المشورة بجعله بمنزلة الاستفتاء الشعبي ، واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (١) ، فما هو ردّكم؟

ج : إنّ الآية الشريفة حثّت على الشورى فيما يمت إلى شؤون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أُمورهم ، وكون تعيين الإمام داخلاً في أُمورهم فهو أوّل الكلام ، إذ لا ندري ـ على الفرض ـ هل هو من شؤونهم أو من شؤون الله سبحانه؟ ولا ندري ، هل هي إمرة وولاية إلهية تتمّ بنصبه سبحانه وتعيينه ، أو إمرة وولاية شعبية يجوز للناس التدخّل فيها؟ فما لم يحرز تعيين الإمام أمر مربوط بالمؤمنين لم يجز التمسّك بعموم الآية في أنّها تشمل تعيين الإمام.

____________

١ ـ الشورى : ٣٨.

٦٢

الشيعة :

( فاطمة السنّية ـ سنّية ـ ٢٥ سنة ـ طالبة )

دفع تهم عنهم :

س : أرجو منكم الردّ عليّ فوراً يا شيعة : سئل الإمام مالك عن الشيعة ، فقال : لا تكلّمهم ، ولا ترو عنهم ، فإنّهم يكذبون.

وقال الشافعي : ما رأيت أهل الأهواء قوم أشهد بالزور من الرافضة.

وقال شيخ الإسلام : لا توجد فرقة تقدّس الكذب سوى الرافضة.

ج : إنّ البحث عن الحقائق لا يُؤخذ هكذا ، ولا يكون بالحكم على الأشياء سلفاً دون الاعتماد على تقصّي الوقائع ، ودون اللجوء إلى استماع الأقاويل ، وتقليد الآخرين في حكمهم ، فإنّ الله غداً سائلنا عن كُلّ ما نقوله ، فماذا نعتذر غداً إذا لم نملك حجّة نعتذر بها عند الله تعالى؟

قال تعالى :( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (١) ، نحن مسؤولون عن كُلّ صغيرة وكبيرة ، عن ظلمنا لشخص واحد ، فكيف بظلمنا لطائفةٍ من المسلمين؟

علينا أن نبحث أوّلاً عن نشوء مصطلح الرافضة ، ومن هم؟ فاصطلاح الرافضة ليس من الضروري أن يطلق على الشيعة ، إلاّ أنّ الأنظمة السياسية عزّزت من

____________

١ ـ الإسراء : ٣٦.

٦٣

فكرة استخدام هذا المصطلح على الشيعة ، وقلّدهم الآخرون في ذلك ، فأطلقوا هذا المصطلح على كُلّ شيعي ، من هنا نشكّك في دعوى انتساب هذا المصطلح إلى التشيّع ، ومنه يمكننا إلغاء كُلّ ما تدّعينه في حقّ شيعة أهل البيتعليهم‌السلام ، وتنسبين أقوال هؤلاء العلماء في حقّهم ، وهذا الكلام يؤيّده ما قاله إمام الشافعية :

إذا نحن فضّلنا علياً فإنّنا

روافضُ بالتفضيل عند ذوي الجهلِ

وقال كذلك :

إذا في مجلس ذكروا علياً

وسبطيه فاطمة الزكية

يقال تجاوزوا يا قوم هـذا

فهذا من حديث الرافضية

برئت إلى المهيمن من أُناسٍ

يرون الرفض حبّ الفاطمية

وقال كذلك :

قالوا ترفّضت قلت كلاّ

ما الرفض ديني ولا اعتقادي

لكن تولّيت غير شكّ

خير إمامٍ وخير هادي

إن كان حبّ الولي رفضاً

فإنّني أرفض العبادِ(١)

وهكذا فرّق الشافعي بين مصطلح التشيّع الذي هو ولاء علي وأولادهعليهم‌السلام وبين مصطلح الرافضة الذي أطلقه النظام السياسي الحاكم على معارضيه ، ومن هنا فإنّ الذي تذكرينه عن الشافعي لا يستقيم.

أمّا ما تذكرينه عن مالك في حقّ الشيعة ، فلم يثبت في مصدر يعوّل عليه ، ولم تذكرين لنا المصدر الذي تأخذين هذا القول عنه ، ويستحيل أن ينسب مالك هذا الكلام لشيعة أهل البيتعليهم‌السلام .

____________

١ ـ نظم درر السمطين : ١١١.

٦٤

واعلمي أنّ الشيعة لم يضعوا الحديث ، ولم يكذّبوا فيه ، فإنّهم كانوا تحت رقابةٍ مشدّدة من التعديلات الرجالية ، بحيث كان الرجاليون يترقّبون كُلّ من وضع الحديث ، أو كذّب فيه ، فيسقطونه عن الاعتبار ، وكانوا يتحرّجون في ذلك أشدّ التحرّج ، ولو كان قد صدر منهم كذب في حديث لوجدتِ أنّ الأنظمة الحاكمة قد جعلت ذلك ذريعة للتشهير بهم ، ومحاربتهم بحجّة وضع الحديث وكذبهم فيه.

إلاّ أنّنا نعلمك : أنّ آفة وضع الحديث قد امتاز بها غير الشيعة ، وشهد لذلك ابن حجر الهيثمي وغيره لهذه المشكلة فقال : « وقد اغتر قوم من الجهلة ، فوضعوا أحاديث الترغيب والترهيب وقالوا : نحن لم نكذب عليه ـ أي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته »(١) .

وأخرج البخاري في تاريخه عن عمر بن صبح ـ وهو من رواة أهل السنّة ـ يقول : أنا وضعت خطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

قيل لأبي عصمة : من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة؟ فقال : إنّي رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن ، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ، ومغازي ابن إسحاق ، فوصفت هذا الحديث حسبة(٣) .

وهكذا ، فإنّ الوضع لم يكن عند الشيعة كما تذكرين ، بل هؤلاء علماء أهل السنّة يعترفون بمشكلة الوضع عند رواة أهل السنّة ، وهي مشكلة تعمّ الكثير من الأحاديث ، وعليكِ متابعة الموضوع من مصادره ، ليتبيّن لكِ الحقّ والواقع.

نسأل الله تعالى أن يكشف لكِ الكثير من الحقائق لتقفين بنفسكِ على كثيرٍ من الأُمور.

____________

١ ـ فتح الباري ١ / ١٧٨.

٢ ـ التاريخ الصغير ٢ / ١٩٢.

٣ ـ الجامع لأحكام القرآن ١ / ٧٨ ، البرهان في علوم القرآن ١ / ٤٣٢.

٦٥

( خالد ـ الجزائر ـ ٢٧ سنة ـ التاسعة أساسي )

تعقيب على الجواب السابق :

لقد قرأت سؤال الأُخت فاطمة السنّية ، حيث نقلت عن بعض النواصب : إنّ الشيعة يكذبون ، وأردت أن أبيّن الحقيقة لكُلّ من يطلبها ، وأبيّن من هم الكذّابين؟ وأرجو منكم أن تنشروا هذه الفقرات تبياناً للحقيقة ، وخدمة لأهل البيت عليهم‌السلام .

فأقول بعد الصلاة على محمّد وآل محمّد :

١ ـ قال ابن الأثير في تاريخه : « فلمّا مات زياد عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد ، ثمّ كتب معاوية بعد ذلك إلى مروان بن الحكم ، فقام مروان فيهم وقال : إنّ أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يألُ ، وقد استخلف ابنه يزيد بعده.

فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال : كذبت والله يا مروان وكذب معاوية! ما الخيار أردتما لأُمّة محمّد ، ولكنّكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كلّما مات هرقل قام هرقل

فسمعت عائشة مقالته فقامت من وراء الحجاب وقالت : يا مروان كذبت! ولكنّك أنت فضض من لعنه نبي الله »(١) .

لكن البخاري ذكر الحديث في باب : « والذي قال لوالديه أُفّ لكما ، فقال : كان مروان على الحجاز استعمله معاوية ، فخطب وجعل يذكر يزيد لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً ، فقال : خذوه ، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه ، فقال مروان : إنّ هذا الذي أنزل الله فيه : والذي قال لوالديه أُفّ لكما أتعدانني ، فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلاّ أنّ الله أنزل عذري »(٢) .

لاحظوا جيّداً كيف حذف الشيخ البخاري كلام عبد الرحمن عندما قال : كذبت والله يا مروان وكذب معاوية! ما الخيار أردتما لأُمّة محمّد ،

____________

١ ـ الكامل في التاريخ ٣ / ٥٠٦.

٢ ـ صحيح البخاري ٦ / ٤٢.

٦٦

ولكنّكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كُلّما مات هرقل قام هرقل ، وأبدله بعبارة : فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً ، وحذف قول عائشة لمروان : يا مروان كذبت! ولكنّك أنت فضض من لعنه نبي الله .

٢ ـ روى الطبري في تاريخه في وصف مرض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « عن عائشة قالت : فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بين رجلين من أهله ، أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر ، قال عبيد الله : فحدّثت هذا الحديث عنها عبد الله بن عباس فقال : هل تدري من الرجل؟ قلت : لا ، قال : علي بن أبي طالب ، ولكنّها كانت لا تقدر على أن تذكره بخير وهي تستطيع »(١) .

ورواه أيضاً ابن سعد في طبقاته(٢) .

٣ ـ أخذ ابن هشام من سيرة ابن إسحاق برواية البكائي ، وقال في ذكر منهجه في أوّل الكتاب ، وتارك بعض ما أورده ابن إسحاق في هذا الكتاب ، وأشياء يشنع الحديث به ويسوء الناس ذكره ، وكان ممّا يسوء الناس ذكره ممّا حذف : خبر دعوة النبيّ بني عبد المطلب حينما نزلت( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (٣) .

فقد روى الطبري في تاريخه : أنّه بعد نزول هذه الآية دعا النبيّ بني عبد المطلب وقال لعلي : «إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا »(٤) ، وقد تدارك الطبري أهمّية هذا الحديث ، فتدارك في تفسيره ما غفل عنه في تاريخه ، فلمّا أورد الحديث بنفس الإسناد في تفسير الآية قال : فقال النبيّ لعلي : «إنّ هذا أخي وكذا وكذا ، فاسمعوا له وأطيعوا »(٥) .

____________

١ ـ تاريخ الأُمم والملوك ٢ / ٤٣٣.

٢ ـ الطبقات الكبرى ٢ / ٢١٨.

٣ ـ الشعراء : ٢١٣.

٤ ـ تاريخ الأُمم والملوك ٢ / ٦٣.

٥ ـ جامع البيان ١٩ / ١٤٩.

٦٧

وكذلك فعل ابن كثير في تاريخه وتفسيره ، حيث حذف كلمة : أخي ووصيي ، وأبدلها بعبارة : كذا وكذا ، وكذلك محمّد حسين هيكل حيث ذكر الحديث بتمامه في الطبعة الأُولى من كتابه حياة محمّد ، لكنّه حذفه في الطبعة الثانية.

٤ ـ أورد الطبري وابن الأثير في تاريخهما خطبة الإمام الحسينعليه‌السلام فقالوا : قال الحسين : « أمّا بعد ، فانسبوني فانظروا من أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟! ألست ابن بنت نبيّكم ، وابن وصيّه ، وابن عمّه »؟!(١) .

لكن ابن كثير ذكر الخبر وحذف عبارة : وابن وصيه وابن عمّه!(٢) .

٥ ـ ابن تيمية الذي يتهمّ الشيعة بالكذب ، فحسبنا أنّه أنكر حديث من كنت مولاه فعلي مولاه(٣) .

ويقول الشيخ الألباني : « فزعم ـ ابن تيمية ـ أنّه كذب! وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرّعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها ويدقّق النظر فيها »(٤) .

وبهذه الأمثلة من كتب أهل السنّة يتبيّن للأخوة القرّاء عامّة ، وللأخت فاطمة خاصّة ، من هم الكذّابين الحقّيقيين؟!

وإنّ ما نسب للشيعة وعلمائنا الكبار أنّه محض افتراء ، وفي هذا بيان كافّ إن شاء الله تعالى.

____________

١ ـ تاريخ الأُمم والملوك ٤ / ٣٢٢ ، الكامل في التاريخ ٤ / ٦١.

٢ ـ البداية والنهاية ٨ / ١٩٣.

٣ ـ منهاج السنّة ٧ / ٣١٩.

٤ ـ سلسلة الأحاديث الصحيحة ٤ / ٣٤٤.

٦٨

( خالد ـ الجزائر ـ ٢٧ سنة ـ التاسعة أساسي )

تعقيب ثاني على الجواب السابق :

إتماماً للفقرة الأُولى التي ذكر فيها بعض الأمثلة على كذب علماء العامّة ، أرجو منكم أن تضيفوا هذه الفقرات نظراً لأهمّيتها ، وخدمة للقرّاء الكرام.

١ ـ نقل الذهبي في ترجمة الإمام النسائي قال : « سئل النسائي عن فضائل معاوية : ألا تخرج فضائل معاوية؟ فقال : أيّ شيء أخرج؟ حديث : « اللهم لا تشبع بطنه » ، فسكت السائل ».

قال الذهبي : لعل هذه منقبة لمعاوية لقول النبيّ : « اللهم من لعنته أو شتمته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة »!(١) .

وجاء ابن كثير من بعده فقال : « لقد انتفع معاوية بهذه الدعوة »(٢) .

وقد روى مسلم في صحيحه حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يذمّ فيه معاوية : « لا اشبع الله بطنه » (٣) .

وعندما وقع أهل السنّة في حيرة من هذا الحديث ـ وقد روته صحاحهم ـ نسبوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « اللهم من لعنته أو شتمته فجعل ذلك له زكاة ورحمة » فربطوا بين الحديثين ، وجعلوا منهما منقبة لمعاوية.

سبحان الله ، هل يعقل أنّ سيّد الخلق يسبّ ويشتم المؤمنين! وهل يعقل أنّ النبيّ الذي خاطبه الله تعالى بقوله :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٤) ، وبقوله : ( وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) (٥) ،هل يعقل أن يتحوّل هذا النبيّ الكريم من الرسول القدوة إلى من يسبّ ويلعن المؤمنين؟

____________

١ ـ تذكرة الحفّاظ ٢ / ٦٩٩.

٢ ـ البداية والنهاية ٨ / ١٢٨.

٣ ـ صحيح مسلم ٨ / ٢٧.

٤ ـ صحيح مسلم ٨ / ٢٧.

٥ ـ آل عمران : ١٥٩.

٦٩

٢ ـ ما فعله الطبراني بالحديث الآتي عن سلمان الفارسيرضی‌الله‌عنه قال : قلت يا رسول الله لكُلّ نبي وصي فمن وصيّك؟ فسكت عنّي ، فلمّا كان بعد رآني فقال : « يا سلمان » ، فأسرعت إليه قلت : لبيك ، قال : « تعلم من وصي موسى »؟ قلت : نعم يوشع بن نون ، قال : « لِمَ »؟ قلت : لأنّه كان أعلمهم يومئذ ، قال : « فإنّ وصيي وموضع سرّي وخير من اترك بعدي ، وينجز عدّتي ، ويقضي ديني علي بن أبي طالب ».

فبعد روايته للحديث قال الطبراني : « قوله وصيي يعني أنّه أوصاه بأهله لا بالخلافة »(١) .

سبحان الله ، انظروا كيف أوّل الطبراني هذا الحديث حسب هواه ، والحديث واضح ، وهو يؤكّد أنّ علياًعليه‌السلام وصي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصدق الله العظيم حين يقول في كتابه :( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) (٢) ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

٣ ـ قال الذهبي في ترجمة الحاكم النيسابوري : « فسئل أبو عبد الله الحاكم عن حديث الطير فقال : لا يصحّ ، ولو صحّ لما كان أحد أفضل من علي بعد النبيّ.

قلت : ثمّ تغيّر رأي الحاكم ، وأخرج حديث الطير في مستدركه ، ولا ريب أنّ في المستدرك أحاديث كثيرة ليست على شرط الصحّة ، بل فيه أحاديث موضوعة شأن المستدرك بإخراجها فيه.

وأمّا حديث الطير فله طرق كثيرة جدّاً ، قد أفردتها بمصنّف ومجموعها هو يوجب أن يكون الحديث له أصل ، وأمّا حديث : « من كنت مولاه » ، فله طرق جيّدة ، وقد أفردت ذلك أيضاً »(٣) .

____________

١ ـ المعجم الكبير ٦ / ٢٢١.

٢ ـ الجاثية : ٢٣.

٣ ـ تذكرة الحفّاظ ٣ / ١٠٤٢.

٧٠

فالذهبي ينقل فضل الحاكم ، وبما أنّ الحاكم نقل في مستدركه أحاديث في فضائل علي ، وما فيه انتقاص لمعاوية ، طعنوا فيه وقالوا : ثقة في الحديث رافضي خبيث.

قال الذهبي : « أمّا انحرافه عن خصوم علي فظاهر ، وأمّا أمر الشيخين فمعظّم لهما بكُلّ حال ، فهو شيعي لا رافضي ، وليته لم يصنّف المستدرك على الصحيحين ، فإنّه غضّ من فضائله بسوء تصرّفه »(١) .

ومن العجيب أنّ ابن كثير بعدما نقل في أربع صفحات من تاريخه ، ملئها بطرق حديث الطير وأسانيده ورواته ، ونحو أكثر من مائة ممّن رووا عن أنس هذا الحديث قال : « وبالجملة ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر ، وإن كثرت طرقه » (٢) .

انظروا إلى هذا التعصّب الأعمى ، كيف جعلهم يتّهمون عالماً من علمائهم بالتشيّع والرفض ، بسبب روايته أحاديث لا تعجبهم ، والأعجب بعد هذا أن يقول ابن كثير بعد روايته للحديث : في القلب من صحّة هذا الحديث نظر!

والجدير بالذكر : أنّ حديث الطير رواه الترمذي في سننه ، والطبراني في المعجم الأوسط ، وغيرهما من أعلام السنّة(٣) ، وممّا لاشكّ فيه ، أنّه لو كان الحديث يخصّ أحد الصحابة ـ خاصّة الخلفاء الأوائل ـ لدقّوا عليه الطبول.

ومن أمثلة الأحاديث التي رواها الحاكم :

١ ـ عن علي عليه‌السلام قال : « اخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ أوّل من يدخل الجنّة أنا وفاطمة والحسن والحسين ، قلت : يا رسول الله فمحبّونا ، قال : من ورائكم ».

____________

١ ـ المصدر السابق ٣ / ١٠٤٥.

٢ ـ البداية والنهاية ٧ / ٣٩٠.

٣ ـ الجامع الكبير ٥ / ٣٠٠ ، طبقات المحدّثين بأصبهان ٣ / ٤٥٤ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٩٠ ، المناقب : ١٠٨ ، سبل الهدى والرشاد ٧ / ١٩١ ، ينابيع المودّة ٢ / ١٥٠ ، المستدرك ٣ / ١٣٠ ، أُسد الغابة ٤ / ٣٠ ، المعجم الأوسط ٢ / ٢٠٧ و ٦ / ٩٠ و ٧ / ٢٦٧ و ٩ / ١٤٦ ، تاريخ بغداد ٩ / ٣٧٩ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٥٠ و ٢٥٧.

٧١

قال الحاكم : « صحيح الإسناد ولم يخرجاه »(١) ، وقال الذهبي في تلخيصه : « الحديث منكر من القول ، يشهد القلب بوضعه ».

٢ ـ عن عليعليه‌السلام قال : « سمعت النبيّ يقول : إذا كان يوم القيامة نادى مناد من وراء الحجاب : غضّوا أبصاركم عن فاطمة بنت محمّد حتّى تمر » (٢) .

قال الحاكم : « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه »(٣) ، وقال الذهبي في تلخيصه : « لا والله بل موضوع ».

وأخرج الحاكم بإسناده إلى عليعليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (٤) ، قال علي : « رسول الله المنذر وأنا الهادي ».

قال الحاكم : « هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه »(٥) ، وقال الذهبي : « بل كذب قبّح الله واضعه ».

وسئل أحمد بن حنبل عن حديث : « أنا مدينة العلم وعلي بابها » فقال : « قبّح الله أبا الصلت »(٦) .

لاحظوا كيف استدلّوا على وضع الأحاديث التي لم تعجبهم : فتارة يستشهدون بالقلب ، وتارة باليمين ، وتارة بالسبّ ، وهل يعقل أن نستشهد على وضع الحديث بالقلب أو اليمين بلا دليل؟ فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

٤ ـ نقل ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى :( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (٧) ، قال

____________

١ ـ المستدرك ٣ / ١٥١.

٢ ـ ذخائر العقبى : ٤٨ ، نظم درر السمطين : ١٨٢ ، الجامع الصغير ١ / ١٢٧ ، كنز العمّال ١٢ / ١٠٨ ، فيض القدير ١ / ٥٤٩ ، كشف الخفاء ١ / ٩٦ ، أُسد الغابة ٥ / ٥٢٣ ، ينابيع المودّة ٢ / ٨٨ و ١٣٧.

٣ ـ المستدرك ٣ / ١٥٣.

٤ ـ الرعد : ٧.

٥ ـ المستدرك ٣ / ١٣٠.

٦ ـ الموضوعات ١ / ٣٥٤.

٧ ـ النساء : ٦٤.

٧٢

ابن كثير : وقد ذكر جماعة ، منهم الشيخ أبو منصور بن الصبّاغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي قال : كنت جالساً عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء إعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله ، سمعت الله يقول : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) ، وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربّي ، ثمّ انشأ يقول :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهن القاع والاكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثمّ انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فرأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في النوم فقال : « يا عتبي الحق الإعرابي فبشّره أنّ الله قد غفر له »(١) .

وذكر هذه القصّة النووي الشافعي في كتابه « الأذكار » ، ولكن عندما طبع الكتاب سنة ١٤٠٩ هجري في دار الهدى في الرياض ، حذفت قصّة العتبي ، وحذف قول النووي : « اعلم أنّ على كُلّ من حجّ أن يتوجّه إلى زيارة النبيّ ، فإنّ زيارته من أهمّ القربات ».

لماذا حذفت قصّة العتبي وحذف قول النووي؟ بالطبع لأنّ الوهّابية تحرّم الاستشفاع والتوسّل بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبما أنّ قصّة العتبي رواها كبار علماء السنّة ، فلم يجدوا المخرج إلاّ بتحريف الكتاب ، فحذفوا ما لا يروقهم ، فهل من الأمانة العلمية أن تحرّف الكتب؟! هذا سؤال يبقى مطروح على علماء الوهّابية.

ويشبه هذا ما يفعله علماء الوهّابية حالياً بكتاب الرحّالة ابن بطّوطة ، إذ إنّ ابن بطوطة عندما يصف رحلته إلى الشام يذكر ابن تيمية ، ويقول عنه : أنّه إنسان مجنون ، ونقل عن ابن تيمية أنّه كان ينزل من أعلى المنبر إلى أسفله ، ثمّ يقول : إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ، ونزل درجة من المنبر(٢) .

____________

١ ـ تفسير القرآن العظيم ١ / ٥٣٢.

٢ ـ رحلة ابن بطّوطة : ٩٥.

٧٣

لكن الكتب التي تطبع حالياً ـ خاصّة في الأوساط الوهّابية ـ تنزع منها هذه العبارة ، ولكن في النسخ القديمة ما زالت موجودة ، والحمد لله.

يقول الشيخ محمّد إبراهيم شقرة في شريط اسمه لا دفاعاً عن ابن تيمية ، ولكن إظهاراً للحقّ : إنّ ابن بطّوطة كان ينقل عن العوام ، وما نقله عن ابن تيمية سمعه ولم يره ، ولهذا فكتب ابن بطّوطة تحذف منها هذه العبارة الآن!

سبحان الله ، كيف يجوّزون لأنفسهم حذف الأخبار والأحاديث ـ التي لا تعجبهم ـ ثمّ يتّهمون الشيعة بالكذب ، وهل يقبل إنسان عاقل هذه التبريرات منهم؟ وهل اصبحوا كاليهود حيث يقول الله تعالى عنهم :( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) (١) .

هذه بعض الأمثلة سقناها للقرّاء الكرام حول كيفية تحريف علماء العامّة عامّة والوهّابية خاصّة للأخبار والأحاديث التي لا تعجبهم.

والآن نأتي بأمثلة أُخرى من كتبهم حول تركهم للسنّة بدعاوى مختلفة :

١ ـ قال ابن حزم : « وأمّا قولنا في الرجلين فإنّ القرآن نزل بالمسح ، وقد قال بالمسح على الرجلين جماعة من السلف ، منهم علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، والشعبي ، وجماعة غيرهم ، وهو قول الطبري »(٢) .

قال ابن الجوزي في المنتظم : « كان ابن جرير ـ أي الطبري ـ يرى المسح على القدمين ، ولا يوجب غسلهما ، فلهذا نسب إلى الرفض » (٣) .

لاحظوا كيف ينسبون علماءهم ويتهمونهم بالرفض والتشيّع إذا اقرّوا بالحقيقة ، ومعروف في التاريخ : أنّ الطبري حاصره الحنابلة ـ أجداد الوهّابية والسلفية ـ في داره ، ومنعوا من دفنه ، وادعوا عليه الإلحاد حتّى دفن ليلاً.

____________

١ ـ النساء : ٤٦.

٢ ـ المحلّى ٢ / ٥٦.

٣ ـ المنتظم ١٣ / ٢١٧.

٧٤

وذكر ثابت بن سنان في تاريخه : « أنّه إنّما أخفيت حاله ، لأنّ العامّة اجتمعوا ومنعوا من دفنه بالنهار ، وادعوا عليه الرفض ثمّ ادعوا عليه الإلحاد »(١) .

٢ ـ قال أبو حنيفة ومالك وأحمد : « التسنيم أولى ، لأنّ التسطيح صار شعاراً للشيعة » (٥) .

وقال الغزّالي : « ثمّ التسنيم أفضل من التسطيح مخالفة لشعار الروافض » !(٢) .

٣ ـ ذكر الزرقاني في شرح المواهب اللدنية في صفة عِمّة النبيّ على رواية علي في إسدالها على منكبه حين عمّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ ذكر قول الحافظ العراقي : « كما يفعله بعضهم ، إلاّ أنّه صار شعار الإمامية فينبغي تجنّبه ، لترك التشبه بهما » (٣) .

٤ ـ قال الزمخشري في كيفية الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو فمكروه ، لأنّ ذلك شعاراً لذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولأنّه يؤدّي إلى الاتهام بالرفض » (٤) .

قال ابن تيمية عند بيان التشبّه بالشيعة : « ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبّات إذ صارت شعاراً لهم » (٤) .

سبحان الله ، هل يعقل أن يترك من يدّعي أنّه يتبع السنّة ، السنّة الصحيحة ، بدعوى أنّ من يسمّوهم الرافضة تتبع هذه السنن.

فهل أمر الله تعالى أو نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله بمخالفة الشيعة؟! وإذا وجب مخالفة الشيعة ، فلماذا لا يفتي علماؤهم لاتباعهم بترك الصلاة والحجّ ، لأنّ الشيعة

____________

١ ـ نفس المصدر السابق.

٢ ـ رحمة الأُمّة : ١٠٢.

٣ ـ الوجيز ١ / ٧٨.

٤ ـ شرح المواهب اللدنية ٥ / ١٣.

٥ ـ الكشّاف ٥ / ٩٦.

٦ ـ منهاج السنّة ٤ / ١٥٤.

٧٥

يصومون ويحجّون؟! وهل يعقل أن يخالف المرء السنّة بحجّة أنّ الشيعة يعملون بها؟!

ومن هم الرافضة؟! أهم الذين رفضوا الإسلام كما يروّجه الوهّابية؟ أم من رفضوا البدع ، وحكّام الجور ، وتمسكوا بالسنّة؟! هذه أسئلة نطرحها على كُلّ إنسان له ضمير حيّ ، وعلى كُلّ إنسان جرّد نفسه من التعصّب الأعمى.

وممّا يجدر بالذكر أنّ كُلّ الأمثلة التي ذكرت هي من أُمّهات كتب السنّة ، ولا يوجد حديث أو رواية واحدة من كتب الشيعة حتّى تكون الحجّة عليهم ، وكما قيل : ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله المعصومين.

( عاشق التوحيد ـ السعودية ـ سنّي )

الأئمّة لم يذمّوا شيعتهم :

س : إنّ علياًرضی‌الله‌عنه وأولاده ، كانوا يبغضون الشيعة المنتسبين إليهم ـ المدّعين حبّهم واتباعهم ـ وكانوا يذمّونهم على رؤوس الإشهاد.

فهذا علي يذمّ شيعته ، ويدعو عليهم فيقول : « لقد ملأتم قلبي قيحاً ، وشحنتم صدري غيظا ، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان »(١) .

ويروي الكليني عن أبي الحسن أنّه قال : « لو ميّزت شيعتي ما أجدهم إلاّ واصفة ، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلاّ مرتدّين »(٢) .

وقال الحسين بن علي مخاطباً الرافضة : « تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً ، وبؤساً لكم؟ حين استصرختمونا ولهين ، فأصرخناكم موجفين ، فشحذتم علينا سيفاً كان في أيدينا ، وحمشتم علينا ناراً أضرمناها على عدوّكم

____________

١ ـ شرح نهج البلاغة ٢ / ٧٥.

٢ ـ الكافي ٨ / ٢٢٨.

٧٦

وعدوّنا ، فأصبحتم ألباً على أوليائكم ، ويداً على أعدائكم ، من غير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، ولا ذنب كان منّا إليكم » (١) .

ج : إنّ البحث عن الحقائق لا تأتي هكذا اعتباطاً ، ما لم يعزّز البحث عنها بالدليل والبرهان ، وإلاّ ستكون محاولات يائسة تجرّ صاحبها إلى سخط الله تعالى ، وتحيله إلى مقلّدٍ أعمى لا يعي ما يقول ، فالغيور على دينه ، ينبغي عليه أن يتحرّى الأُمور بحقائقها ، ويتابع الأشياء بوقائعها ، وأن لا يقلّد كُلّ ما سمعه وردّده الآخرون.

إنّ ما ذكرته : إنّ علياًعليه‌السلام قد ذمّ شيعته ، فهذا ما لا ينبغي أن يصدر منك ، فإنّ شيعة عليعليه‌السلام هم خير من عرفهم التاريخ ، واعتزّ بذكرهم بكُلّ إجلال ، منهم سلمان الفارسي وعمّار وأبو ذر ومحمّد بن أبي بكر وعبد الله بن مسعود وأبو الهيثم بن التيّهان وأمثالهم ، فهم خيرة من عرفت وأحصيت ، فكيف فات عليك ذكر هؤلاء؟ وكيف أنّ علياًعليه‌السلام قد ذمّ أمثال هؤلاء ووبّخهم؟!

وعليك أن ترجع إلى تاريخ ما حدث أيّام خلافة عليعليه‌السلام ، وتابع بنفسك ما أحدثه المنشقوّن على طاعته ، والخارجون على إمامته ، فأشعلوا حروب صفّين والجمل والنهروان ، فقد كانت مجموعة من رعية الإمام وقت ذاك أناس مخالفون لطاعته ، لا ينصاعون لأوامره ، يثبّطون قومه على الخروج معه ، وكان أشهرهم أبو موسى الأشعري ، الذي تخاذل حين استخلفه الإمامعليه‌السلام على الكوفة ، وثبّط الناس عن الخروج ، فوبّخه وكتب إليه في أمر الحكمين وخيانته قائلاً : «فإنّ شرار الناس طائرون إليك بأقاويل السوء »(٢) ، ممّا يعني أنّ هناك عصابة من المنافقين قد تألبوا عليه.

وعبّرعليه‌السلام عن سخطه من طلحة والزبير ، ومن كان معهما في حرب الجمل ، التي تسبّبت في إزهاق آلاف من نفوس المسلمين فقالعليه‌السلام : « فخرجوا يجرّون

____________

١ ـ الاحتجاج ٢ / ٢٤.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ١٨ / ٧٤.

٧٧

حرمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما تجرّ الأمة عند شرائها ، متوجّهين بها إلى البصرة ، فحبسا نساءهما في بيوتهما ، وأبرز حبيس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لهما ولغيرهما ، في جيش ما منهم رجل إلاّ وقد أعطاني الطاعة ، وسمح لي بالبيعة »(١) .

فقد أنّب الإمام عليعليه‌السلام كُلّ من خرج في حرب الجمل دون استثناء ، وحمّلهم مسؤولية الخروج على طاعته ، وهؤلاء ـ كما تعلم ـ كانوا يشكّلون الغالبية العظمى من رعايا الإمام ، فكان الإمامعليه‌السلام يوجّه لومه إلى مثل هؤلاء ، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى كان رعايا الإمام ممّن انخرطوا في صفٍ معارضٍ خطير ، وهم الخوارج الذين آل الأمر إليهم بالخروج عليه في حرب النهروان ، وأدّى بعد ذلك انحرافهم وخبثهم ، أن سخّروا عبد الرحمن بن ملجم المرادي ـ الذي هو أحد رؤوس الخوارج ـ إلى اغتيال الإمامعليه‌السلام في فاجعة الاعتداء الغشيمة ، وقتله في مسجد الكوفة.

هؤلاء الخوارج ، ومثلهم أصحاب الجمل ، أضف إليهم المتقاعسون القاعدون عن القتال أتباع أبي موسى الأشعري ، إذ كانوا يشكّلون نسبة كبيرة من أتباعه ، وكان الأشعث بن قيس ـ رأس المنافقين ـ طابور خيانة داخل دولة الإمامعليه‌السلام ، فيشعلون الفتن ، ويطعنون بالإمام من خلفه ، كُلّ هؤلاء كان الإمامعليه‌السلام قد خاطبهم بالخطب التي ذكرتها ، وليس كما عبّرت من كون المخاطبين كانوا شيعة الإمام.

كيف يصف الإمام شيعته ومحبّيه بهذه الأوصاف؟ التي لا تنم إلاّ عن أوصاف أعدائه ومخالفيه ، وعليك فيما بعد أن تتابع الأحداث التي عاشها الإمام مع هؤلاء ، فحينئذ تجد قد شكّلوا نسبة كبرى من المنافقين الذين خرجوا على الإمام ، وخرقوا طاعته ومعصيته.

____________

١ ـ المصدر السابق ٩ / ٣٠٨.

٧٨

أمّا ما ذكرته عن خطبة الإمام الحسينعليه‌السلام ، فإنّك خلطت في كثير من القضايا ، فالخطبة كانت للإمام الحسينعليه‌السلام يوم الطفّ ، وكان يخاطب بها الجيش الأموي ، ومن الخطأ الكبير أن تنسب هؤلاء إلى شيعة الإمام ، إذ إنّ شيعة الإمام هم الذين شكّلوا جيش الإمام ، وقد فدوا نفوسهم دونه ، وكانوا من خيرة الشيعة الذين يعتزّ بهم التاريخ ، بل يذكرهم العالم ـ المسلم وغير المسلم ـ بكُلّ إجلال وإكبار ، لتضحيتهم ووفائهم أمثال : حبيب بن مظاهر الأسدي ، ومسلم بن عوسجة ، وبرير بن خضير ، وأمثالهم الذين ضحّوا بنفوسهم الزكية ، هؤلاء هم شيعة الحسينعليه‌السلام .

فكيف تنسب أعداء الحسين ـ الذين خرجوا لحربه ـ إلى كونهم شيعته؟ فهل هذا إلاّ تناقض وخلط للحقائق؟ أرجو أن تكون دقيقاً في متابعتك للأُمور ، لا أن يغلبك القيل والقال دون تروٍ وتحقيق.

ونفس الكلام سيكون في ما ذكرته من قول الإمام أبي الحسن موسىعليه‌السلام ، فإنّ الشيعة الذين يقصدهم الإمام لم يكونوا شيعته حقيقة ، بل أنّ ظاهر ما اشتهر عن هؤلاء أنّهم شيعة ، فيظنّ الظانّ أنّ هؤلاء يحسبون من اتباع الإمام اشتباهاً ، وهم ليسوا من أتباعه حقيقة ، فأرادعليه‌السلام أن يرفع شبهة من نسب هؤلاء إلى الإمام بأنّهم من خيرة شيعته ومريديه.

هذا ، وفي الختام نذكّرك بأنّ لفظ الشيعة له معنى خاصّ ، ومعنى عام ، فالمعنى الخاصّ : من اعتقد بالإمامة وأنّها من الله تعالى وبالنصّ ، وذلك يستلزم اعتقاد عصمة الإمام ومقاماته.

والشيعة بالمعنى العام : هو من أحبّ الإمام واتبعه بصفة أنّه خليفة ، أو من أهل البيتعليهم‌السلام ، ولم يعتقد بإمامته الإلهية ولا بعصمته ، فهذا يعبّر عنه بالشيعة بالمعنى العام ، وفي كلمات الأئمّةعليهم‌السلام إن ورد ذمّ الشيعة فمحمول على معناه العام لا الخاصّ.

٧٩

( أبو أحمد ـ مصر ـ )

موقفهم من أهل السنّة :

س : لماذا هذا العداء بين الشيعة والسنّة؟ مع العلم أنّ العداء من الطرفين.

ج : عليك بالتأمّل في كتب التاريخ لترى بوضوح : إنّ العداء لم يشرع من الشيعة في مقابل إخوانهم السنّة ، ولا أيضاً استمرّ من قبلهم ، فالشيعة وعلى مرّ العصور في موقف دفاع ، فهم دائماً يعانون أنواع الظلم الذي يجري عليهم ، وحتّى يومنا الحاضر ، فالشيعة دائماً في موقف دفاع ، وأكثر ما استعمله الشيعة في موقف الدفاع هو الردّ بالدليل وتأليف الكتب ، حتّى وإن كان ما واجهوه من الظلم بالاعتداء على النفوس المحترمة والأموال ، فالشيعة دائماً في موقف دفاع بالطريق العلمي المستدلّ.

( عبد الأمير ـ البحرين ـ ١٩ سنة ـ طالب جامعة )

كيفية انتشارها في إيران :

س : كيف انتشر التشيّع في إيران؟ هل صحيح أنّ أحد حكّام الدولة الصفوية قديماً قام بفرضه على الناس؟ حيث كان وزيره شيعياً ، وذهب معه إلى النجف ، ثمّ اقتنع بالتشيّع ، أو هناك روايات أُخرى؟

ج : إنّ كيفية انتشار التشيّع هي حديث التاريخ لا المذهب والعقيدة ؛ ولكن باختصار نقول :

أوّلاً : إنّ العلّة الأساسية لبسط نفوذ الشيعة في أي منطقة ـ ومنها إيران ـ تكمن وراء ثلاث نقاط :

١ ـ عدالة قضيّتهم وحقّانيتهم المدعومة بالأدلّة الواضحة والمبرهنة.

٢ ـ مظلوميّتهم لما يرونه من السلطات وتحدّيهم لهؤلاء حكّام الجور.

٣ ـ نشاطات علمائهم ومبلّغيهم لنشر أفكارهم.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133