خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص57%

خلافة الرسول بين الشورى والنص مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 133

خلافة الرسول بين الشورى والنص
  • البداية
  • السابق
  • 133 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46870 / تحميل: 6760
الحجم الحجم الحجم
خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص

مؤلف:
العربية

١

٢

٣

مقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المحمود الله ، جلت آلاؤه ، والمصلى عليه محمد وآله.

وبعد : فإنا لنشاهد في عصرنا الحاضر ميل الناس إلى التزيد في الثقافة الدينية ، ولا سيما تفسير الكتاب الكريم والسنة النبوية ، وكثيرا ما سئلت أىّ التفاسير أسهل منالا ، وأجدى فائدة للقارئ في الزمن القليل؟ فكنت أقف واجما حائرا لا أجد جوابا عن سؤال السائل ، علما منى بأن كتب التفسير على ما فيها من فوائد جمة ، وأسرار دينية عظيمة وإيضاح لمغازى الكتاب الكريم ، قد حشيت بالكثير من مصطلحات الفنون :

من بلاغة ونحو وصرف وفقه وأصول وتوحيد إلى نحو أولئك مما كان عقبة كأداء أمام قارئيها ، إلى ما فيها من أقاصيص مجانفه ، لوجه الصواب متنكّبة عن حظيرة العقل ووجوه المعارف التي يصح تصديقها ، إلى تفسير للقضايا العلمية التي أشار إليها القرآن العزيز بحسب ما أيده العلم فى تلك العصور ، وقد أثبت العلم فى هذا العصر وأيد الدليل والبرهان أنه لا ينبغى التعويل على مثل ما كان معروفا حينئذ ، إلى أن هذه المؤلفات وضعت

٤

ـ فى عصور قد خلت ـ بأساليب تناسب أهلها ، وكان مؤلفوها يتباهون بإيجازها ويرون ذلك مفخرة لهم ، ولكن الزمان وهو الحوّل القلّب غيّر آراء الناس في الموسوعات العلمية ، فرأوا أن الكتاب الذي لا يناجيك معناه لدى قراءة لفظه ، أولى لك ألا تضيع وقتك في قراءته وكدّ الفكر فى الوصول إلى المعمّى من معناه.

ومن ثم نهج الناس فى التأليف منهج السهولة والسلاسة مع تحقيق المسائل العلمية حتى تعتز بمظاهرة الدليل والبرهان لها ، ونفى الزائف الذي لا يقوم على ساقين ، أو يستند إلى عضوين ، من تجربة واختبار ، وحجة وبرهان.

من جرّاء هذا رأينا مسيس الحاجة إلى وضع تفسير للكتاب العزيز يشاكل حاجة الناس فى عصرنا فى أسلوبه وطريق رصفه ووضعه ، ويكون دانى القطوف ، سهل المأخذ يحوى ما تطمئن إليه النفس من تحقيق علمى تدعمه الحجة والبرهان ، وتؤيده التجربة والاختبار ، ويضم إلى آراء مؤلفه آراء أهل الذكر من الباحثين فى مختلف الفنون التي ألمع إليها القرآن على نحو ما أثبته العلم فى عصرنا ، وتركنا الروايات التي أثبتت فى كتب التفسير ، وهى بعيدة عن وجه الحق مجانفة للصواب ، والله أسأل أن يوفقنا للرشاد ، ويهدينا إلى سواء السبيل؟

أول المحرم عام 1365 ه‍

أحمد مصطفى المراغي

٥

عناية المسلمين بتفسير الكتاب الكريم

كتاب الله هو دستور التشريع ، ومنبع الأحكام التي طلب إلى المسلمين أن يعملوا بها ، ففيه بيان الحلال والحرام والأمر والنهى ، هو معين الآداب والأخلاق التي أمروا أن يستمسكوا بها ، لتكون مصدر سعادتهم ، ومنبع هدايتهم ، ونيلهم الزّلفى عند ربهم في جنات النعيم ؛ فهى الوسيلة لإصلاح حال المجتمع الإسلامى إذا أخذوا بها ولم يحيدوا عن طريقها ، وينحرفوا عن سننها.

ومما ساعد على العمل بها أنه نزل منجّما بحسب الحوادث والوقائع في نيف وعشرين سنة ، وقد كانت تنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم الآية أو الآيات فى واقعة بعينها فيتدارسها مع صحبه ، ويفصل لهم مجملها ، ويوضح لهم مبهمها ، ويفسر لهم مشكلها ، حتى لا تبقى فى النفس بقية من لبس ، وكان عليه الصلاة السلام الهادي لهم إلى سواء السبيل ، والفاتح لهم ما استغلق من أمر دينهم ، والمفسر لكتاب الله بسنته القولية وسنته الفعلية كما قال تعالى :( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) وظلّ دائبا هكذا حتى لحق بالرفيق الأعلى.

فلا غرو أن كان تفسيره وإيضاح ما أشكل عليهم فهمه منه ـ هجيراهم من بدء التنزيل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته ، وما زال الأمر كذلك في كل العصور حتى عصرنا ، وما طفقت التفاسير تترى وهى مختلفة المناجى والمناهج ، فما من عصر إلا جدّت فيه تفاسير تشاكل حاجة ذلك العصر ما بين مطوّل ومختصر كما نشاهد ذلك رأى العين ، وإن كتاب الله لفيه من الأسرار ما لم يقف على كنهه جهابذة المفسرين وسيفسره الزمن وتقدم العلوم والفنون ، ورقىّ الفكر الإنساني كما قال سبحانه وتعالى :( وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ) .

٦

طبقات المفسرين

1 ـ التفسير فى عصر الصحابة :

طفق المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يتدارسون القرآن ، ويتفهمون معناه بطريق الرواية عن صحبه الذين كانوا يجلسون فى حضرته كثيرا.

وقد اشتهر بالتفسير عشرة من الصحابة : الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ ، ثم عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وأبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير وأكثر من روى عنه التفسير من الخلفاء على بن أبي طالب ، والرواية عن الثلاثة الباقين نادرة ، وروى عن ابن مسعود المتوفى بالمدينة سنة 32 ه‍ أكثر مما روى عن علىّ رضى الله عنه.

أما عبد الله بن عباس المتوفى بالطائف سنة 68 ه‍ فهو ترجمان القرآن ، وحبر الأمة ، وشيخ المفسرين ، فقد روى عنه فى التفسير ما لا يحصى كثرة ، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اللهمّ فقّهه فى الدين وعلّمه التأويل.

قال صاحب كشف الظنون ما نصه :

وأصح الطرق فى الرواية عنه :

(1) طريق علىّ بن أبي طلحة الهاشمي المتوفى سنة 143 ه‍ ، وعليها اعتمد البخاري فى صحيحه.

(2) طريق قيس بن مسلم الكوفي المتوفى سنة 120 ه‍ عن عطاء بن السائب.

(3) طريق ابن إسحاق صاحب السيرة.

(4) طريق أبى النصر محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 146 ه‍ وهى أوهى الطرق ، ولا سيما إذا وافقتها طريق محمد بن مروان السّدّى الصغير المتوفى سنة 186 ه‍.

٧

وقد طبع تفسير ينسب إلى ابن عباس برواية الفيروز بادى صاحب القاموس ، سماه (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس).

وروى عن أبيّ بن كعب المتوفى سنة 20 ه‍ تفسير كبير رواه عنه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية ، وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أقرأ الصحابة وسيد القراء.

وزيد بن ثابت الأنصاري المتوفى سنة 45 ه‍ أحد كتاب الوحى ، وهو الذي جمع المصحف أولا في عهد أبى بكر ، ثم كان رئيس الجماعة الذين كتبوا المصحف فى عهد عثمان.

وأبو موسى الأشعري هو عبد الله بن قيس الأشعري المتوفي سنة 44 ه‍.

2 ـ التفسير في عهد التابعين

أعلم الناس بالتفسير فى هذا العصر :

(ا) علماء مكة أصحاب عبد الله بن عباس ، وأشهرهم :

(1) مجاهد بن جبر المتوفى سنة 103 ه‍ وقد قال : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة ، واعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري.

(2) سعيد بن جبير المتوفى سنة 94 ه‍.

(3) عكرمة مولى ابن عباس المتوفى بمكة سنة 105 ه‍.

(4) طاوس بن كيسان اليماني المتوفى بمكة سنة 106 ه‍.

(5) عطاء بن أبي رباح المكي المتوفى سنة 114 ه‍.

قال سفيان الثوري : خذوا التفسير عن أربعة : عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك. وقال قتادة : كان أعلم التابعين أربعة ، كان عطاء بن أبى رباح أعلمهم بالمناسك ، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير ، وكان عكرمة أعلمهم بالسير ، وكان الحسن(1) أعلمهم بالحلال والحرام.

__________________

(1) الحسن البصري.

٨

(ب) علماء الكوفة أصحاب ابن مسعود ، وأشهرهم :

(1) علقمة بن قيس المتوفى سنة 102 ه‍.

(2) الأسود بن يزيد المتوفى سنة 75 ه‍.

(3) إبراهيم النخعي المتوفى سنة 95 ه‍.

(4) الشعبي المتوفى سنة 105 ه‍.

(حـ) علماء المدينة أصحاب زيد بن أسلم العدوى المدني المتوفى سنة 136 ه‍ ، وله تفسير يعدّ من أمهات التفاسير ، ومن أشهرهم :

(1) ابنه عبد الرحمن بن زيد المتوفى سنة 182 ه‍.

(2) مالك بن أنس المتوفى سنة 179 ه‍.

(3) الحسن البصري المتوفى سنة 121 ه‍.

(4) عطاء بن أبى مسلم الخراسانى المتوفى سنة 135 ه‍.

(5) محمد بن كعب القرظي المتوفى سنة 117 ه‍.

(6) أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي المتوفى سنة 90 ه‍.

(7) الضحاك بن مزاحم المتوفى سنة 105 ه‍.

(8) عطية بن سعيد العوفى المتوفى سنة 111 ه‍.

(9) قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة 117 ه‍.

(10) الربيع بن أنس المتوفي سنة 139 ه‍.

(11) إسماعيل بن عبد الرحمن السّدى الكبير المتوفى سنة 127 ه‍.

3 ـ طبقة ثالثة جمعت أقوال الصحابة والتابعين :

وأشهر هؤلاء :

(1) سفيان بن عيينة المتوفى سنة 198 ه‍.

(2) وكيع بن الجراح الكوفي المتوفى سنة 197 ه‍.

٩

(3) شعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 ه‍.

(4) يزيد بن هرون السّلمى.

(5) عبد الرازق المتوفى سنة 211 ه‍.

(6) آدم بن أبي إياس المتوفى سنة 221 ه‍.

(7) إسحاق بن راهويه الإمام الحافظ النيسابوري المتوفى سنة 238 ه‍.

(8) روح بن عبادة المتوفى سنة 205 ه‍.

(9) عبد الله بن حميد الجهني.

(10) أبو بكر بن أبى شيبة الإمام الحافظ الكوفي المتوفى سنة 335 ه‍.

4 ـ الطبقة الرابعة طبقة ابن جرير :

تلت هؤلاء طبقة أخرى ، منها :

(1) علىّ بن أبى طلحة المتوفى سنة 343 ه‍.

(2) ابن أبى حاتم عبد الرحمن بن محمد الرازي المتوفى سنة 327 ه‍.

(3) ابن ماجه الحافظ أبو عبد الله محمد القزويني المتوفى سنة 273 ه‍.

(4) ابن مردويه أبو بكر أحمد بن موسى الأصفهانى المتوفى سنة 410 ه‍.

(5) أبو الشيخ بن حبان البستي المتوفى سنة 354 ه‍.

(6) إبراهيم بن المنذر المتوفى سنة 236 ه‍.

(7) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 ه‍ وهو من أشهر مفسرى هذا العصر. قال السيوطي فى الإتقان : وكتابه أجل التفاسير وأعظمها ، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض وللإعراب ، والاستنباط ، فهو يفوق بذلك تفاسير الأقدمين ا ه. وقال النووي النيسابورى الشافعي في تهذيبه : كتاب ابن جرير فى التفسير لم يصنف أحد مثله ، وقال أبو إسحاق الاسفرائينى : لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا ، وروى أن ابن جرير قال لأصحابه :

١٠

أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا كم يكون قدره؟ قال : ثلاثين ألف ورقة. قالوا هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه ، فاختصره فى نحو ثلاثة آلاف ورقة ، ذكر ذلك السبكى فى طبقاته.

5 ـ الطبقة الخامسة طبقة المفسرين بحذف الأسانيد :

ألف بعد هؤلاء جماعة من المفسرين لهم تفاسير مشحونة بالفوائد محذوفة الأسانيد ، من أشهرهم :

(1) أبو إسحاق الزجاج إبراهيم بن السرىّ النحوي المتوفي سنة 310 ه‍ وقد سمى تفسيره (معانى القرآن).

(2) أبو على الفارسي الحجة الثبت فى اللغة والبلاغة ، وصاحب المؤلفات الكثيرة فى مختلف الفنون ، توفى سنة 377 ه‍.

(3) أبو بكر محمد بن الحسن المعروف بالنقاش الموصلي المتوفى سنة 351 ه‍.

(4) أبو جعفر النحاس النحوي المصري المتوفى سنة 338 ه‍.

(5) مكىّ بن أبى طالب القيسي النحوي المغربي المتوفى سنة 437 ه‍.

(6) أبو العباس أحمد بن عمار المهدوى المتوفي سنة 430 ه‍ وله تفسير يسمى (التفصيل الجامع لعلوم التنزيل).

وقد دخل فى التفسير فى هذه الفترة الدخيل ، إذ نقلت الأقوال بترا محذوفة الأسانيد ، فالتبس الصحيح بالعليل ، وصار كل من سنح له قول يورده ، ومن خطر بباله شىء يعتمده ، غير ملتفت إلى ما روى عن السلف الصالح فى ذلك ، ومن هم القدوة فى هذا الباب.

6 ـ عصر المعرفة الإسلامية :

التقت فى البلاد الإسلامية تيارات العقل البشرى حاملة تراث المدنيات والحضارات

١١

اليونانية والفارسية والهندية ، ومرت بأهلها أعاصير من جدل أهل الكتاب يهودهم ونصاراهم ، فكان كل أولئك حافزا للعلماء على أن يؤلفوا موسوعات فى التفسير تجمع بين دفتيها فنونا من المعرفة لم يكن لهم بها سابقة عهد ، وسار الفكر الإسلامى حرّا طليقا فى معرفتها حينا ، ومقيدا حينا آخر ، يحكّم العقل مرة ، ويسلس قياده للنص أخرى ، ويميل إلى التقليد حين الضعف والانحلال والركود الفكرى.

ولما كان القرآن كتابا سماويا تنزل على قلب أكمل الأنبياء ، مشتملا على معارف عالية ومطالب سامية ، يجد المنقّب عنها من الهيبة والجلال ما يكاد يحول بينه وبين الوصول إليها ـ سهل سبحانه الأمر علينا ، فلم يطلب منا إلا الفهم والتدبر فى كلامه ، لأنه نزّله نورا وهدى للناس ، وجعله حاويا للشرائع والأحكام التي لا يمكن العمل بها إلا إذا فهمت حق الفهم ، واستوضحت مغازيها ، وكشفت أسرارها ومراميها ، من حيث هى دين إلهى ، وهدى سماوى ، ترشد الناس إلى ما فيه سعادتهم فى حياتيهم الدنيوية والأخروية ، وما سوى ذلك من وجوه النظر والبحث ، فتابع لذلك ، ووسيلة إليه فى التحصيل ، ولا يعنينا العناية التي نهتم لها اهتمامنا بالمطلب الأول ، لكنّ كثيرا من المفسرين ، جعلوا عنايتهم تكاد تكون وقفا على الوسائل دون المقاصد :

(1) فمنهم من وجه النظر إلى البحث فى أساليب الكتاب ومعانيه ، وبيان ما احتوى عليه من بلاغة وفصاحة ، وأطنب فى ذلك وجعل مقصده بيان ميزته عن غيره من الكلام وإظهار إعجازه للناس ، ليتبين لهم كيف أعجز مقاويل العرب وفصحاءهم ، وكيف استخذوا أمامه ووقفوا وأجمعين؟ وكيف لجئوا إلى السيف والسنان ، دون مقابلة البرهان بالبرهان؟ وكيف عمّى عليهم الأمر؟ فلم يجدوا لرد التحدي سبيلا.

وقد سلك هذا المسلك الزمخشري فى كشافه ، فألمّ بالكثير من مقاصد البلاغة ، وأبدع فيها أيّما إبداع ، ونحا نحوه خلق كثير.

(2) ومنهم من وجه النظر إلى إعرابه وتوسع فى بيان وجوهه ، حتى كأن القرآن

١٢

لهذا أنزل ، وممن سلك هذا المسلك الزجّاج فى تفسيره معانى القرآن ، والواحدي النيسابورى في تفسيره (البسيط) وأبو حيان محمد بن يوسف الأندلسى فى البحر المحيط (3) ومنهم من وجه النظر إلى القصص والأخبار عمن سلف ، وقد نحا هذا النحو أقوام زادوا فى قصص القرآن ما شاءوا من كتب التاريخ والإسرائيليات. وليتهم اقتصروا على النقل من التوراة والإنجيل والكتب المعتمدة لدى أهل الكتاب ، لكنهم أخذوا جميع ما سمعوه عنهم من غير تفريق بين غثّ وسمين ، ولا تنقيح لما يخالف الشرع ولا يطابق العقل ، ومن أشهر هؤلاء الثعلبي ، وصاحب الخازن علاء الدين بن محمد البغدادي المتوفى سنة 741 ه‍.

(4) ومنهم من وجّه همه إلى الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات وكيفية استنباطها من الآيات ، وربما استطردوا إلى إقامة الأدلة عليها ، والرد على المخالفين مما لا تعلق له بالتفسير كما فعل القرطبي فى تفسيره.

(5) ومنهم من عنى بالكلام فى أصول العقائد ومقارعة الزائغين ، ومحاجة المخالفين وللإمام الرازي المتوفى سنة 610 ه‍ فى ذلك القدح المعلّى فى تفسيره الكبير المسمى بمفاتيح الغيب ، فقد خرج فيه من باب إلى باب ، حتى ليقضى الناظر العجب من صنيعه. ومن ثمّ قال أبو حيان الأندلسى فى البحر المحيط : جمع الرازي فى تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة إليها فى علم التفسير ، ولذلك قال بعض العلماء : تفسيره فيه كل شىء إلا التفسير ا ه.

(6) ومنهم من اتجه إلى الوعظ والرقائق ممزوجة بحكايات المتصوفة والعبّاد ، وفى بعضها خروج عن حدود الفضائل والآداب التي جرى عليها القرآن.

(7) ومنهم من سلك طريق التفسير بالإشارة إلى دقائق لا تنكشف إلا لأرباب السلوك ، ويمكن إرادتها مع إرادة ظاهر المعنى ، وقال إن ذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان.

١٣

ولقد نعلم أن الإكثار فى مقصد من هذه المقاصد يدخل النقص على الغرض الأصلى من تفسير الكتاب الكريم ، وهو فهم الكتاب من حيث هو دين وهداية للناس فى دنياهم وآخرتهم.

7 ـ طريق كتابة القرآن الكريم :

من المعروف أن لكتابة القرآن طريقا خاصة تخالف الطريق التي اتبعها العلماء فيما بعد ودرجوا عليها ، ودوّنوا فيها كتبا تعرف بعلم رسم الحروف ، أو علم الإملاء ، وبه كتبت جميع المؤلفات من القرن الثالث فما بعده إلى اليوم.

أما كتابة المصحف فهى تابعة للطريق التي كتب بها المصحف فى عهد عثمان ابن عفان الخليفة الثالث على يد جماعة من كبار الصحابة وتسمى (الرسم العثماني) وقد اتبع فيها نهج خاص يخالف ما اتبع فيما بعد فى كثير من المواضع ، ومن ثم قيل :

خطان لا يقاس عليهما : خط العروض ، وخط المصحف العثماني.

آراء العلماء فى التزام الرسم العثماني

فى كتابة المصاحف

الرأى الأول ـ عبر عنه الإمام أحمد بقوله : تحرم مخالفة خط عثمان في واو أو ألف أو ياء أو غير ذلك. وقال أبو عمرو الداني : لا مخالف لما حكى عن مالك من وجوب الكتابة على الكتبة الأولى من علماء الأمة.

الرأى الثاني : أن رسم المصاحف اصطلاحى لا توقيفى ، وعليه فتجوز مخالفته ، ومن جنح إلى هذا الرأى ابن خلدون فى مقدمته ، وممن تحمس له القاضي أبو بكر فى الانتصار ، إذ قال : وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا ، إذ لم يأخذ على كتّاب القرآن وخطاطى المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه ،

١٤

إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف ، وليس فى نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحدّ محدود لا يجوز تجاوزه ، ولا فى نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه ، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك ، ولا دلت عليه القياسات الشرعية ، بل السنة دلت على جواز رسمه بأى وجه سهل ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجها معينا ، ولا نهى عن كتابته بغيره.

ولذلك اختلفت خطوط المصاحف ، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه أن ذلك اصطلاح ، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال ، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول ، وأن يجعل اللام على صورة الكاف ، وأن تعوّج الألفات ، وأن يكتب على غير هذه الوجوه ، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين ، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة ، وجاز أن يكتب بين ذلك.

وإذا كانت خطوط المصاحف ، وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة ، وكان الناس قد أجازوا ذلك ، وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته ، وما هو أسهل وأشهر وأولى ، من غير تأثيم ولا تناكر ، علم أنه لم يؤخذ فى ذلك على الناس حدّ محدود مخصوص ، كما أخذ عليهم فى القراءة والأذان.

والسبب فى ذلك أن الخطوط إنما هى علامات ورسوم تجرى مجرى الإشارات والعقود والرموز ، فكل رسم دالّ على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكتابة به على أىّ صورة كانت.

وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه ، وأنّى له ذنك؟ ا ه.

١٥

الرأى الثالث : يميل صاحب التبيان ومن قبله صاحب البرهان إلى ما يفهم من كلام العز بن عبد السلام ، من أنه يجوز بل يجب كتابة المصحف الآن لعامة الناس على الاصطلاحات المعروفة الشائعة عندهم ، ولا تجوز كتابته لهم بالرسم العثماني الأول ، لئلا يوقع في تغيير من الجهال ، ولكن يجب فى الوقت نفسه المحافظة على الرسم العثماني كأثر من الآثار النفيسة الموروثة عن سلفنا الصالح ، فلا يهمل مراعاته لجهل الجاهلين ، بل يبقى فى أيدى العارفين الذين لا تخلو منهم الأرض. وهاك عبارة التبيان قال :

واما كتابته (المصحف) على ما أحدث الناس من الهجاء فقد جرى عليه أهل الشرق بناء على كونها أبعد من اللبس ، وثحاماه أهل المغرب بناء على قول الإمام مالك ، وقد سئل هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء؟ فقال : لا. إلا على الكتبة الأولى.

قال في البرهان : قلت وهذا كان فى الصدر الأول والعلم حىّ غض ، وأما الآن فقد يخشى الالتباس ، ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة ، لئلا يوقع في تغيير من الجهال ، ولكن لا ينبغى إجراء هذا على إطلاقه ، لئلا يؤدى إلى دروس العلم ، وشىء قد أحكمه القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين ، ولن تخلو الأرض من قائم لله بهجته ا ه.

وقد جرينا على الرأى الذي أوجبه العز بن عبد السلام فى كتابة الآيات أثناء التفسير العلة التي ذكرها ، وهى فى عصرنا أشد حاجة إليها من تلك العصور ، على أن الخلاف بينهم فى المصحف لا فى القرآن ولو أثناء التفسير كما فعلنا.

١٦

خدمتى للغة العربية والكتاب الكريم

لقد سعدت بخدمتي للغة العربية نحو نصف قرن درسا وتدريسا ، وتأليفا وتصنيفا ، أتتبع أساليبها فى آي القرآن الحكيم ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والشعر والنثر ، حتى وجدتني كلفا ، بأن أتوّج خدمتى لهذه اللغة بتفسير آي الذكر الحكيم مع تسميته «تفسير المراغي».

وقصاراى أن أسير فى قافلة الحاملين لمشعل المعرفة الإسلامية ، مؤديا بعض ما يجب علىّ نحو الكتاب الكريم من الكشف عن بعض أسراره ومغازيه.

نهجنا الذي سلكناه فى هذا التفسير

رأينا أن ندلى إليك أيها القارئ الكريم ، بالنهج الذي اتبعناه فى التأليف ، لتكون على بينة من أمره :

(1) ذكر الآيات فى صدر البحث :

صدّرنا كل بحث بآية أو آيتين أو آيات من الكتاب الكريم ، سيقت لتؤدى غرضا واحدا.

(2) شرح المفردات :

أردفنا ذلك تفسير مفرداتها اللغوية ، إن كان فيها بعض الخفاء على كثير من القارئين.

(3) المعنى الجملي للآيات :

أتبعنا ذلك بذكر المعنى الجملي لهذه الآية أو الآيات ليتجلّى للقارئ منها صورة مجملة حتى إذا جاء التفسير وضح ذاك المجمل.

١٧

(4) أسباب النزول :

أعقبنا ذلك بما ورد من أسباب النزول لهذه الآيات ، إن صح شىء من ذلك لدى المفسرين بالمأثور.

(5) الإعراض عن ذكر مصطلحات العلوم :

ضربنا صفحا عن ذكر مصطلحات العلوم : من نحو وصرف وبلاغة إلى أشباه ذلك ، مما أدخله المفسرون فى تفاسيرهم ، فكان من العوائق التي حالت بين جمهرة الناس وقراءة كتب التفسير ، فقد وجدوا طلّسمات وألغازا يصعب عليهم فهمها والسير قدما فى استيعاب قراءة التفسير ، لأنها من ألوان الصناعات التي يخصّ بها قوم من الناس ، وتكون عونا لهم على فهم الأساليب العربية فهم دراسة وتعمق ، كما يخصّ قوم من الأمة بالحياكة والنجارة والحدادة إلى أشباه ذلك.

(6) أسلوب المفسرين :

رأينا أن الأساليب التي كتبت بها كتب التفسير وضعت فى عهود سحيقة بأساليب تناسب أهل العصور التي ألفت فيها ويسهل عليهم فهمها ، وأن جمهرتهم أوجزوا فى القول وعدّوا ذلك مفخرة لهم.

ولما كان لكل عصر طابع خاص يمتاز به عن غيره فى آداب أهله وأخلاقهم وعاداتهم وطرائق تفكيرهم ـ وجب على الباحثين فى هذا العصر مجاراة أهله فى كل ما نقدّم ، فكان لزاما علينا أن نتلمس لونا من التفسير لكتاب الله بأسلوب عصرنا موافقا لأمزجة أهله ، فأساس التخاطب أن لكل مقام مقالا ، وأن الناس يخاطبون على قدر عقولهم ، وقد رأينا أن نشيد فيه بجهود السابقين معترفين بفضلهم ، مستندين إلى آرائهم.

١٨

وقد سلكنا فى الوصول إلى فهم الآيات التي أشارت إلى بعض نظريات فى مختلف الفنون استطلاع آراء العارفين بها ، فاستطلعنا آراء الطبيب النطاسي ، والفلكي العارف والمؤرخ الثّبت ، والحكيم البصير ليدلى كل برأيه فيما تمهّر فيه ، لنعلم ما أثبته العلم وأنتجه الفكر ، فيكون كلامنا معتزا بكرامة المعرفة التي تشرف بتفهم كتاب الله ، فرجل الدين حامل لوائها ، عليه أن يسأل العلم دائما ليستبصر بما ثبت لديه ، ويساير عصره ما وجد إلى ذلك سبيلا ، فإن قعدت به همته إلى الموروث من قضاياه لدى الماضين ركب شططا وازداد بعدا عن الحقيقة ، وتضاءل أمام نفسه وأمام قارئي بحوثه ومؤلفاته.

(7) ميزة العصر الحاضر في وسائل التفاهم :

يمتاز هذا العصر بميل أهله لسهولة الكلام ليفهم الغرض المراد منه حين التخاطب ، دون احتياج إلى النقاش وصنوف التأويل ، ومن ثم كان أهم ما عنيت به أن أقرأ فى الموضوع الواحد ما كتبه أعلام المفسرين على اختلاف نزعاتهم وتباين أزمنتهم حتى إذا اطمأننت إلى فهم ما قرأت وتمثلته وهضمته ، كتبته بأسلوب العصر الحاضر ، وهذا هو نهجى فى تأليف هذا التفسير.

وما حملنى على ركوب هذا المركب الخشن ، واقتحام هذه العقبات إلا انصراف القارئين عن قراءة كتب التفسير التي بين أيدينا ، بدعوى أنها صعبة المدخل مفعمة بكثير من المصطلحات التي لا يعلمها إلا من أتقن هذه الفنون ، واستبدلت بأساليب المؤلفين أسلوبا سهل المأخذ قليل الكلفة فى الفهم ، حتى يستطيع القارئ أن يلمّ بأسرار كتاب الله دون كدّ ولا نصب.

١٩

(8) تمحيص روايات كتب التفسير :

أشار الكتاب الكريم إلى كثير من تاريخ الأمم الغابرة التي حلّ بها العذاب على ما اجترحت من الآثام ، وإلى بدء الخلق وتكوين الأرض والسموات ، ولم يكن لدى العرب من المعرفة ما يستطيعون به شرح هذه المجملات التي أشار إليها الكتاب ، إذ كانوا أمة أمية في صحراء نائية عن مناهل العلم والمعرفة ، والإنسان بطبعه حريص على استكناه المجهول ، واستيضاح ما عزّت عليه معرفته ، فألجأتهم الحاجة إلى الاستفسار من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولا سيما مسلمتهم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ، ووهب بن منبّه ، فقصّوا عليهم من القصص ما ظنوه تفسيرا لما خفى عليهم فهمه من كتابهم ، ولكنهم كانوا فى ذلك كحاطب ليل ، يجمع بين الشذرة والبعرة ، والذهب والشبه ، إذ لم تكن علوم القصّاص ممحّصة ولا مهذبة ، بل كان ينقصها الميزان العلمي الذي به يتعرّف جيّد الرأى من بهرجه ، وصحيحه من سقيمه ، فساقوا إلى المسلمين من الآراء فى تفسير كتابهم ما ينبذه العقل ، وينافيه الدين ، وتكذبه المشاهدة ، ويبعده كل البعد ما أثبته العلم فى العصور اللاحقة.

وما كان مثلهم ومثل العرب الذين استوضحوهم بعض ما استعصى عليهم فهمه ، إلا مثل السائح الأوربى إذا جاء إلى سفح الأهرام بمصر ، وسأل العرب الضاربين خيامهم حولها. لم بنيت الأهرام؟ ومن بناها؟ ومتى بنيت؟ وكيف بنيت؟ فيجيبونه إجابات بعيدة عن الحقيقة ومجانفة وجه الصواب.

ومن ثمّ رأينا ألا نذكر رواية مأثورة إلا إذا تلقاها العلم بالقبول ، ولم نر فيها ما يتنافر مع قضايا الدين التي لا خلاف فيها بين أهله ، وقد وجدنا أن ذلك أسلم لصادق المعرفة ، وأشرف لتفسير كتاب الله ، وأجذب لقلوب المثقفين ثقافة علمية ، لا يقنعها إلا الدليل والبرهان ونور المعرفة الصادقة.

٢٠

- وأيّام الخندق ذاتها؛ أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يفتّ في عضد الاحزاب ويفرّق شملهم ليخفّف على أهل المدينة ضنك الحصار، بأن يصالح كبير غطفان عيينة بن حصن على سهم من ثمر المدينة لينسحب بمن معه من غطفان وهوازن ويخذل الاَحزاب، فدعا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الاَمر سيّدي الاَوس والخزرج من الاَنصار: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فاستشارهما في ذلك، فقالا: يا رسول الله، إن كنت اُمرتَ بشيء فافعله وامضِ له، وإن كان غير ذلك فوالله لا نعطيهم إلاّ السيف.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لم اُؤمر بشيء، ولو اُمرت بشيء ما شاورتكما.. بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلاّ لاَنّني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كلِّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ ما». وسُرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولهما، فقال لعيينة بن حصن، ورفع صوته بها «ارجع، فليس بيننا وبينكم إلاّ السيف»(١) .

وفي هذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد اختبر صبر الانصار وثباتهم وصدق إيمانهم.

كما كشف هذا الحوار صراحةً أنّه لا محلّ للشورى في ما كان عن أمر من الله ورسوله.

- وفي حدثٍ ثالث كان المستشار علي عليه السلام وزيد بن حارثة، ذلك حين كان حديث الاِفك.

- وفي حدثٍ رابع استمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى مشورة امرأة واحدة، هي اُمّ

____________________

(١) سيرة ابن هشام ٣: ٢٣٤، الاستيعاب ٢: ٣٧، تاريخ الطبري ٢: ٥٧٣ عن الزهري.

٢١

المؤمنين اُمّ سَلَمة، ذلك يوم الحديبية، بعد إمضاء الصلح، إذ أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن ينحروا ما معهم من الهدي الذي ساقوه، فلم ينحر أحد، فبان الغضب بوجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعاد إلى خيمته، فقالت له اُمّ سَلَمة، لو نحرتَ يا رسول الله، لنحروا بعدك.. فنحر صلى الله عليه وآله وسلم هديه، فنحروا بعده(١) .

هذه هي أشهر نماذج الشورى التي يعرضها التاريخ، بغضّ النظر عن صحّة أسانيدها أو ضعفها، منذ نزلت آية الشورى هذه حتّى قُبض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.. فليس هناك شيء أكثر ممّا كان قبل نزولها.. وليس هناك نظام محدّد، ولا أشخاص معيّنون.. ليس هناك أثر لما دعاه البعض (هيئة العشرة)..

تلك هيئة ليس لها أثر أيّام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلّها، ولا استطاع مدّعيها(٢) أن يأتي بشاهد تاريخي واحد على وجودها في أيام النبيّ ( ص )، ولا يستطيع أن يأتي بشاهد واحد يؤيّدها من حياة أبي بكر كلّها وحياة عمر كلّها، حتّى اختياره الستة المعروفين لشورى الخلافة!

وأضعف من هذه الدعوى ما جاء في محاولة البرهنة عليها من أشياء متكلَّفة، واُخرى لا واقع لها، واُخرى تفيد نفيها بدلاً من إثباتها!

ومن أنكر وأغرب ما استدلّ به، وهو يراه أقوى أدلّة الاِثبات، ثلاثة أشياء، هي:

____________________

(١) تاريخ الطبري ٢: ٦٣٧ عن الزهري.

(٢) محمد عمارة، الخلافة ونشأة الاَحزاب الاِسلامية: ٥٤.

٢٢

الاَول: قوله: يتحدّث سعيد بن جبير عن هذه الحقيقة الهامّة، فيقول: (وكان مقام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبدالرحمن بن عوف وابي عبيدة وسعيد بن زيد، كانوا أمام رسول الله في القتال ووراءه في الصلاة). ثم يستنتج من هذا القول أنّ هؤلاء العشرة لم يكونوا فقط وزراء الرسول ومجلس شوراه، وانّما كانوا يديمون الوقوف خلفه مباشرة في الصلاة، كما يلتزمون الوقوف أمامه عند الحرب والقتال(١) !!

إننا بغضّ النظر عن صحّة نسبة مثل هذا القول إلى سعيد بن جبير، أو عدمها، لو سألنا الباحث أن يكتشف لنا حرباً واحدةً فقط من حروب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقف فيها هؤلاء العشرة أمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقت القتال، لعاد بعد بحث طويل في خيبة أمل!

الثاني: قوله: هؤلاء العشرة فيهم أوّل ثمانية دخلوا في دين الاِسلام، فهم أوّلون في الاِسلام، ومهاجرون(٢) . وهذا كلام مع ما فيه من تهافت فهو دعوى غير صحيحة أيضاً.. فهل كان سبق الثمانية إلى الاِسلام هو الذي رفع الاثنين الآخرين؟!

ثمّ أين هذا السبق، وكلّهم - ما خلا عليّ - مسبوق؟! إنّهم، غير الإمام علي عليه السلام، مسبوقون إلى الاِسلام، سبقتهم خديجة، وجعفر بن أبي طالب، وخالد بن سعيد بن العاص، وأخوه عثمان، وسبقهم زيد بن حارثة، وسبقهم أبو ذرّ الغفاري خامس الاِسلام، وسبقهم آخرون(٣) .

____________________

(١) الخلافة ونشأة الاَحزاب الاِسلامية: ٥٧.

(٢) الخلافة ونشأة الاَحزاب الاِسلامية: ٥٨.

(٣) اُنظر: البداية والنهاية ٣: ٣٤ - ٣٨، ترجمة أبي ذرّ في: الاستيعاب، اُسد الغابة، الاصابة، سِيَر أعلام النبلاء.

٢٣

الثالث: وهو أكثرها نكارة، ما نقله عن المستشرق فان فلوتن، بعد أن قدّم له بسؤال مثير، فقال: (ولكن هل خرجت الشورى على عهد رسول الله من النطاق الفردي غير المنظّم، إلى نطاق التنظيم المحكوم بمؤسّسة من المؤسّسات؟ ).

فلمّا لم يجد لهذا التساؤل الهام جواباً من التاريخ، تعلّق بالخطأ الذي وقع فيه فان فلوتن لسوء فهمه لمفردات العربية، فحين قرأ عن أصحاب الصفّة وهم المقيمون في المسجد على صفّة كبيرة فيه، والبالغ عددهم سبعين رجلاً، ظن أنّ الصفّة تعني (الصفوة)! فظنّ أنّ صفوة الصحابة كانوا سبعين رجلاً لا يفارقون المسجد كمؤسّسة استشارية تتّخذ من المسجد مقرّاً لها، ولم يفهم أنّ أصحاب الصفة هؤلاء هم أضعف المسلمين حالاً، لا يملكون مأوىً لهم فاتخذوا المسجد مأوى!!

وليس هذا بمستغرب من مستشرق لا يتقن العربية، ولا تعنيه فداحة الخطأ العلمي بقدر ما يعنيه الادلاء برأيه.. لكنّ المستغرب أن يأتي باحث كبير كالشيخ محمد عمارة فيعتمد هذا الخطأ العلمي مصدراً لتثبيت قضية هامّة كهذه، قائلاً: (نعم، فهناك ما يشير إلى وجود مجلس للشورى في عهد الرسول كان عدد أعضائه سبعين عضواً) ويصرّح أن مصدره فان فلوتن(١) !

أنتم أعلم باُمور دنياكم!:

هذا وجه آخر من وجوه تفسير مشاورة الرسول أصحابه: إنّ علوم الخلق متناهية، فلابدّ أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح مالا يخطر

____________________

(١) الخلافة ونشأة الاَحزاب الاِسلامية: ٥٣.

٢٤

بباله صلى الله عليه وآله وسلم لا سيّما في ما يُفعل من اُمور الدنيا، ولذلك قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»(١) !

لكنّ هذا وجه مردود من أوّل نظرة، حتّى على فرض صحّة الحديث «أنتم أعلم بأمور دنياكم».. ذلك أنّ هذا كان في واقعة محدّدة، هي قضية تأبير النخل في عام من الاَعوام، وقضية مثل هذه لا تدخل في شؤون النبوّة ولا في شؤون القيادة السياسة والاجتماعية، فلم يكن قائد من قوّاد الاُمم مسؤولاً عن نظام تأبير النخل! أو عن إصلاح شؤون بيوت الناس من ترتيب أثاثها وترميم قديمها! أو كيفية خياطة الثياب! أو طريقة رصف السلع في الاَسواق!

هذه هي أمور دنيا الناس التي يباشرونها بأذواقهم وبخبراتهم الخاصة الخاضعة لظروفها الزمانية والمكانية.

أمّا أن يقال إنّ من الناس من هو أعلم من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشؤون سياسة الدولة، وأقدر منه على تقدير مصالحها وحفظها، فهذا من الفكر الشاذّ الذي لا يستقيم ومبادئ الاِسلام.

فمن المستنكر جدّاً أن يستفاد من حديث «أنتم أعلم باُمور دنياكم» انّهم أعلم منه بسياسة البلاد وبتخطيط النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية!

إنّه لا يتجاوز في معانيه تلك الاَمثلة المتقدّمة في شؤون الناس الخاصّة التي يتعاهدونها بأنفسهم، وليس القائد - نبيّاً أو غيره - بمسؤول عن

____________________

(١) تفسير الرازي ٩: ٦٦.

٢٥

تنظيمها.

إذن فخلاصة ما وقفنا عليه في هذا البعد الاَول: أنّ الشورى التي اُمر بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وزاولها إنّما هي شورى الحاكم، القائد، يشاور من يشاء من أهل الخبرة أو أهل الصلة المباشرة بالاَمر، وليس هناك ما يشير من قريب أو بعيد إلى اعتماد الشورى في تعيين رأس النظام السياسي والاجتماعي في الاِسلام، هذا حتّى لو تحقّق في التاريخ وقوع مشاورة في ما يتّصل بخطط سياسية أو اجتماعية.

البعد الثاني:

ثمّة بُعد ثانٍ للشورى هو أبعد من الاَوّل عن شؤون النظام السياسي؛ إنّه البعد الاجتماعي، المتمثّل بمزاولة الناس للشورى في شؤونهم الخاصّة، ولم نقل إنّها ذات بعد شخصي فقط، ذلك لاَنّها علاقة بين طرفين، المشير والمستشار، وعلى الثاني مسؤوليته في النصح والصدق والاَمانة، فعادت علاقة اجتماعية، ذات أثر اجتماعي هامّ.

- فقد روى ابن عباس أنّه لما نزلت( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (١) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمةً لاُمّتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غيّاً»(٢) .

فلم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم محتاجاً إلى الشورى في اُمور الدنيا ليستنير برأيٍ ويهتدي إلى صواب، بل كان غنيّاً عن ذلك، وإنّما هي رحمة للعباد لئلاّ يركبوا رؤوسهم في شؤونهم وأعمالهم ويتمادوا بالغطرسة والاعتداد

____________________

(١) آل عمران ٣: ١٥٩.

(٢) الدر المنثور ٢: ٣٥٩.

٢٦

بالرأي الذي يوردهم المهالك! ويوضّحه الحديث الشريف عنه ( ص ): «ما تشاور قوم قط إلاّ هدوا وأرشدَ أمرُهم»(١) .

والحديث الشريف: «استرشدوا العاقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا»(٢) .

وقد ورد حديث كثير في الحثّ على المشورة بهذا المعنى، وحديث يخاطب المستشار بمسؤوليته: «المستشار مؤتمن»(٣) .

«من استشاره أخوه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه»(٤) .

هذا البعد الاجتماعي للشورى هو الذي يبرز في خطاب النصّ الثالث من نصوصها..

النصّ الثالث:

قوله تعالى:( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) (٥) .

جاءت هذه الآية الكريمة ضمن سياق عام يتحدّث عن خصائص المجتمع الاَمثل، قال تعالى:

( ... وَمَا عِندَ اللَّـهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *

____________________

(١) أخرجه عبد بن حميد، والبخاري في الاَدب المفرد، الدر المنثور ٧: ٣٥٧.

(٢) أخرجه الخطيب في (رواة مالك)، الدر المنثور ٧: ٣٥٧.

(٣) مسند أحمد ٥: ٢٧٤.

(٤) مسند أحمد ٢: ٣٢١.

(٥) الشورى ٤٢: ٣٨.

٢٧

وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ) (١) .

فهي ناظرة إلى ظواهر يتميّز بها المجتمع الاِسلامي التي تمثّل أهداف الاِسلام وآدابه، فمع ما يتحلّون به من الايمان، وحسن التوكّل على الله تعالى، واجتناب الكبائر والفواحش، والعفو والمسامحة، والاستجابة لاَمر ربّهم، واحياء الصلاة، وردّ البغي والعدوان، فهم أيضاً (شأنهم المشاورة بينهم.. ففيه الاِشارة إلى أنّهم أهل الرشد واصابة الواقع، يمعنون في استخراج صواب الرأي بمراجعة العقول. فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى:( يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) )(٢) .

وهذه نصوص تؤكد على اهمية التشاور والاسترشاد:

وعلى هذا انطلق المفسّرون في ظلال هذا النصّ يتحدّثون عن استحباب مشاورة الناس لمن أهمّه أمر، والاسترشاد بعقول الآخرين وآرائهم الناضجة، دائرين في دائرة ذلك البعد الاجتماعي الذي تقدّم آنفاً..

«ما تشاور قوم قطّ إلاّ هُدوا وأرشد أمرهم».

«استرشدوا العاقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا».

«من أراد أمراً فشاور فيه، اهتدى لاَرشد الاُمور»(٣) .

____________________

(١) الشورى ٤٢: ٣٦ - ٣٩.

(٢) الميزان في تفسير القرآن ١٨: ٦٥، والأية من سورة الزمر ٣٩: ١٨.

(٣) الدر المنثور ٧: ٣٥٧.

٢٨

شورى الحاكم أيضاً:

في حديث واحد ممّا قيل في ظلال هذا النصّ، أخرجه السيوطي، منسوباً إلى الإمام عليّ عليه السلام قال: «قلتُ: يا رسول الله، الاَمر ينزل بنا بعدك، لم ينزل فيه قرآن، ولم يُسمَع منك فيه شيء؟

قال: اجمعوا له العابد من اُمّتي، واجعلوه بينكم شورى، ولا تقضوه برأي واحد»(١) .

والبحث فيه على فرض صحّته، علماً أنّه لم يرد في شيء من مصادر الحديث المعتمدة..

فهو حديث عن أمر لم ينزل فيه قرآن، ولم يرد فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ممّا قد يستجدّ بعده من اُمور لم يكن لها موضوع، أو ضرورة تدعوه لطرقها وتقديم الاِرشاد فيها.. وهذا موضوع عام لسائر مستجدّات الحياة المدنية والاجتماعية والتنظيمية..

ثمّ يأتي جواب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيه موجّهاً إلى جهة تتولّى مهامّ القيادة، وتقع عليها مسؤولية الحكم: «اجمعوا له العابد من اُمّتي» فهناك جهة مسؤولة هي التي تتولّى مهمّة جمع الصالحين من المؤمنين للمشاورة.

أمّا إذا كان الاَمر قد ورد فيه شيء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقوله نافذ، ولا محلّ للشورى والرأي فيه.

والبحث في هذا الحديث انما كان على فرض صحته، والثابت أنّه لم

____________________

(١) الدر المنثور ٧: ٣٥٧، وقال: أخرجه الخطيب في (رواة مالك).

٢٩

يصحّ وليس له أصل، قال فيه ابن عبد البر: هذا حديث لا أصل له! وقال الدارقطني: لا يصحّ! وقال الخطيب: لا يثبت عن مالك(١) !

____________________

(١) لسان الميزان ٣: ٧٨ | ٢٨٣ ترجمة سليمان بن بزيع.

٣٠

الشورى في التاريخ والفقه السياسي

الذي يتركّز عليه البحث في التاريخ وفي الفقه السياسي هو موضوع الشورى في اختيار الحاكم (خليفة الرسول).

وقد ثبت في البحث المتقدّم أنّ شيئاً ما لم يرد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ممّا يمكن أن يُلتمس منه ايكال أمر اختيار خليفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشورى، بل الاَدلة الثابتة من الكتاب والسُنّة قائمة على عدم إيكاله إلى أحدٍ من الاُمة مطلقاً. ومما يشهد بذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عرض الاِسلام على القبائل اشترط عليه بعضهم أن يكون الاَمر لهم من بعده، فرفض في تلك الظروف الصعبة هذا الشرط قائلاً: «إنَّ الاَمر لله يضعه حيثُ يشاء»(١) .

وعدم ورود شيء عن النبيّ (ص) في هذا الموضوع، قضية مفروغ منها، متّفق عليها، لا نزاع فيها.. فمتى ولد التفكير في اسناد هذا الامر إلى الشورى؟

أول ظهور لمبدأ الشورى

هذا أمر اثبته أصحاب التاريخ وأصحاب الحديث، بلا نزاع فيه ولا خلاف.. اتفقوا على أنّ ذلك مبدأ سنّه عمر بن الخطاب قبل وفاته، وليس

____________________

(١) ذكرهُ أصحاب السيرة، اُنظر منها: انسان العيون ٢: ١٥٤.

٣١

له قبل هذا التاريخ أثر..

قال القرطبي، بعد كلام في استحباب الشورى: (وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافةَ - وهي أعظم النوازل - شورى)(١) .

وقال ابن كثير:( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) أي لا يبرمون أمراً حتّى يتشاوروا فيه، ليتساعدوا بآرائهم، في مثل الحروب وما جرى مجراها، كما قال تبارك وتعالى:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيّب بذلك قلوبهم. وهكذا لمّا حضرت عمر بن الخطاب الوفاة حين طعن جعل الاَمر بعده شورى(٢) .

فانظر إلى هذا التحوّل الكبير في المدى الذي حدث قبل وفاة عمر، ولم يكن له قبلها أثر! أمّا كيف حدث هذا التحوّل الكبير؟ وتحت أيّ دافع؟

فهذا سؤال هام أجاب عنه عمر بن الخطاب بنفسه في ذات الوقت الذي جعل فيه الخلافة شورى، ذلك في خطبته الشهيرة التي ذكر فيها السقيفة وأخبارها، ثم قال: (لا يغترنّ أمرؤ أن يقول إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت، ألا إنّها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرّها! فمن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرّةً أن يُقتلا)(٣) .

____________________

(١) تفسير القرطبي: ١٦١ - ١٦٢.

(٢) تفسير ابن كثير ٤: ١١٩.

(٣) صحيح البخاري - كتاب الحدود - باب رجم الحبلى من الزنا | ٦٤٤٢، مسند أحمد ١: ٥٦، سيرة ابن هشام ٤: ٣٠٨، تاريخ الطبري ٣: ٢٠٠.

٣٢

أمّا سبب هذه الخطبة التي أفرزت (الشورى) مبدءاً في اختيار الخليفة لاَوّل مرّة، فيحدّثنا عنه القسطلاني وهو يفكَ ألغازها..

فبعد أن يأتي باسنادها الذي أورده البخاري عن ابن عباس، وفيه أنّ عبدالرحمن بن عوف جاء إلى ابن عباس في موسم الحجّ وكان يتعلّم عنده القرآن، فقال له: لو سمعت ما قاله أمير المؤمنين - يعني عمر بن الخطاب - إذ بلغه أنّ "فلاناً" قال: لو قد مات عمر لبايعت "فلاناً" فما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتة، فهمّ عمر أن يخطب الناس ردّاً على هذا القول، فنهيته لاجتماع الناس كلّهم في الحج وقلت له إذا عدت المدينة فقل هناك ما تريد، فإنّه أبعد عن اثارة الشغب.. فلمّا رجعوا من الحجّ إلى المدينة قام عمر في خطبته المذكورة..

فمن هو "فلان" القائل؟ ومن هو "فلان" الآخر؟

حين تردّد بعض الشارحين في الكشف عن هذين الاسمين، استطاع ابن حجر العسقلاني أن يتوصل إلى ذلك بالاِسناد الصحيح المعتمد عنده، والذي ألغى به كل ماقيل من أقوال أثبت ضعفها ووهنها، فقال: وجدته في الاَنساب للبلاذري بإسناد قويّ، من رواية هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، بالاسناد المذكور في الاصل، ولفظه: (قال عمر: بلغني أنّ الزبير قال: لو قد مات عمر لبايعنا عليّاً..) الحديث(١) !!

فذلك إذن هو السرّ في ثورة عمر!

____________________

(١) مقدمة فتح الباري بشرح صحيح البخاري: ٣٣٧. وتبعه القسطلاني في ارشاد الساري لشرح صحيح البخاري ١٠: ١٩.

٣٣

وذلك هو السرّ في ولادة مبدأ الشورى في الخلافة!

الشورى التي سنتحدّث عن تفاصيلها وأحكامها وما قيل فيها، باستيعاب يتناسب مع حجم هذا الكتاب.

٣٤

الشورى في اطارها النظري

إنّ الاَساس الذي قامت عليه نظرية الشورى هو أنّ أمر الخلافة متروك إلى الاُمّة.. ومن هنا ابتدأت الاَسئلة تنهال على هذه النظرية؛ عند البحث عن الدليل الشرعي في تفويض هذا الامر إلى الاُمّة.. وعند محاولة إثبات شرعية الاسلوب الذي سوف تسلكه الاُمّة في الاختيار..

لقد رأوا في قوله تعالى:( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) (١) أفضل دليل شرعي يدعم هذه النظرية، ومن هنا قالوا: إنّ أوّل وجوه انتخاب الخليفة هو الشورى.

لكن ستأتي الصدمة لاَوّل وهلة حين نرى أنّ مبدأ الشورى هذا لم يطرق أذهان الصحابة آنذاك.

فانتخاب أوّل الخلفاء كان بمعزل عن هذا المبدأ تماماً، فإنّما كان "فلتةً" كما وصفه عمر، وهو الذي ابتدأه وقاد الناس إليه!

ثمّ كان انتخاب ثاني الخلفاء بمعزلٍ أيضاً عن هذا المبدأ!

نعم، ظهر هذا المبدأ لاَوّل مرّة على لسان عمر في خطبته الشهيرة التي ذكر فيها السقيفة وبيعة أبي بكر فحذّر من العودة إلى مثلها، فقال: (فمن بايع رجلاً من غير مشورةٍ من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرَّة

____________________

(١) الشورى ٤٢: ٣٨.

٣٥

أن يُقتلا)(١) . ذلك القول الذي عرفنا قبل قليل أنّه ما قاله إلاّ ليقطع الطريق على الإمام عليّ عليه السلام ومن ينوي أن يبايع له!

لكنّه حين أدركته الوفاة أصبح يبحث عن رجل يرتضيه فيعهد إليه بالخلافة بنصّ قاطع بعيداً عن الشورى!

فقال: لو كان أبو عبيدة حيّاً لولّيته(٢) .

ثمّ قال: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته(٣) .

ثمّ قال: لو كان معاذ بن جبل حيّاً لولّيته(٤) .

إذن لم يكن عمر يرى أنّ الاَصل في هذا الاَمر هو الشورى، وإن كان قد قال بالشورى في خطبته الاَخيرة إلاّ أنّه لم يعمل بها إلاّ اضطراراً حين لم يجد من يعهد إليه!

لقد أوضح عن عقيدته التامّة في هذا الاَمر حين قال قُبيل نهاية المطاف: (لو كان سالمٌ حيّاً ماجعلتها شورى)(٥) !!

ثمّ كانت الشورى..

وأيّ شورى!!

إنّها شورى محاطة بشرائط عجيبة لا مجال للمناقشة فيها! وجملتها:

____________________

(١) صحيح البخاري - كتاب المحاربين ٦ | ٦٤٤٢، مسند أحمد ١: ٥٦، سيرة ابن هشام ٤: ٣٠٨.

(٢) الكامل في التاريخ ٣: ٦٥، صفة الصفوة ١: ٣٦٧.

(٣) الكامل في التاريخ ٣: ٦٥، صفة الصفوة ١: ٣٨٣، طبقات ابن سعد ٣: ٣٤٣.

(٤) صفة الصفوة ١: ٤٩٤.

(٥) طبقات ابن سعد ٣: ٢٤٨.

٣٦

١ - إنّها شورى بين ستّة نفر، وحسب، يعيّنهم الخليفة وحده دون الاُمّة!

٢ - أن يكون الخليفة المنتخب واحداً من هؤلاء الستّة، لا من غيرهم!

٣ - إذا اتّفق أكثر الستّة على رجل وعارض الباقون، ضُربت أعناقهم!

٤ - إذا اتّفق اثنان على رجل، واثنان على آخر، رجّحت الكفّة التي فيها عبد الرحمن بن عوف - أحد الستّة - وإنْ لم يُسَلّم الباقون ضُربت أعناقهم!

٥ - ألاّ تزيد مدّة التشاور على ثلاثة أيّام، وإلاّ ضُربت أعناق الستّة أهل الشورى بأجمعهم!!

٦ - يتولّى صهيب الرومي مراقبة ذلك في خمسين رجلاً من حَمَلَة السيوف، على رأسهم أبو طلحة الاَنصاري(١) !

فالحقّ أنّ هذا النظام لم يترك الاَمر إلى الاُمّة لتنظر وتعمل بمبدأ الشورى، بل هو نظام حدّده الخليفة، ومنحه سمة الاَمر النافذ الذي لامحيد عنه، ولاتغيير فيه، ولايمكن لصورة كهذه أن تُسمّى شورى بين المسلمين، ولابين أهل الحلّ والعقد.

لقد كانت تلك الظروف إذن كفيلة بتعطيل أوّل شورى في تاريخ الاِسلام عن محتواها، فطعنت إذن في تلك القاعدة الاَساسيّة المفترضة (قاعدة الشورى).

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٣: ٦٦ - ٦٧.

٣٧

والحقّ أنّ هذه القاعدة لم يكن لها عين ولا أثر من قبل.. فلم يكن أبو بكر مؤمناً بمبدأ الشورى قاعدةً للنظام السياسي وأصلاً في انتخاب الخليفة، ولا مارس ذلك بنفسه، بل غلّق دونها الاَبواب حين سلب الاُمّة حقّ الاختيار وممارسة الشورى إذ نصّ على عمر خليفةً له، ولم يُصغ إلى ماسمعه من اعتراضات بعض كبار الصحابة على هذا الاختيار.

علماً أنّ اعتراض هؤلاء الصحابة المعترضين حينذاك لم يكن على طريقة اختيار الخليفة التي مارسها أبو بكر، ولا قالوا: إنّ الاَمر ينبغي أن يكون شورى بين الاُمّة، ولا احتجّ أحدهم بقوله تعالى:( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) ، وإنّما كان اعتراضهم على اختياره عمر بالذات، فقالوا له: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت مايلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم؟! وأنت لاقٍ ربّك فسائلك عن رعيّتك(١) !

بل كان عمر صريحاً كلّ الصراحة في تقديم النصّ على الشورى، ذلك حين قال: (لو كان سالمٌ حيّاً لَما جعلتها شورى)(٢) !!

إنّ عهداً كهذا ليلغي رأي الاُمّة بالكامل، وحتّى الجماعة التي يُطلق عليها (أهل الحلّ والعقد)!

قالوا: إذا عهد الخليفة إلى آخر بالخلافة بعده، فهل يُشترط في ذلك رضى الاُمّة؟

فأجابوا: إنّ بيعته منعقدة، وإنَّ رضى الاُمّة بها غير معتبر، ودليل

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٢: ٤٢٥.

(٢) طبقات ابن سعد ٣: ٢٤٨.

٣٨

ذلك: أنّ بيعة الصدّيق لعمر لم تتوقّف على رضى بقيّة الصحابة(١) !

لم يكن إذن لقاعدة الشورى أثر في تعيين الخليفة!!

لعلّ هذه الملاحظات هي التي دفعت ابن حزم إلى تأخير مبدأ الشورى وتقديم النصّ والتعيين الصريح مِن قِبَل الخليفة السابق، فقال: (وجدنا عقد الاِمامة يصحّ بوجوه، أوّلها وأصحّها وأفضلها: أن يعهد الاِمام الميّت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته)(٢) !

الشورى أم السيف؟

لقد أدركنا جيّداً هبوط مبدأ الشورى في الواقع عن المرتبة التي احتلّها في النظريّة، فتنازلنا عنه تنازلاً صريحاً - بعد إقراره - حين ذهبنا إلى تصحيح واعتماد كلّ ماحدث على السّاحة رغم منافاته الصريحة لمبدأ الشورى.

ولم نكتف بهذا، بل ذهبنا إلى تبرير تلك الوجوه المتناقضة بلا استثناء، وبدون الرجوع إلى أيّ دليل من الشرع، ودليلنا الوحيد كان دائماً: (فعل الصحابة) رغم أنّنا نعلم علم اليقين أنّ الصحابة لم يجتمعوا على رأي واحد من تلك الآراء والوجوه.

كما أنّنا نعلم علم اليقين أيضاً أنّ خلاف المخالفين منهم وإنكار المنكرين كان ينهار أمام الحكم الغالب.

ورغم ذلك فقد عمدنا إلى القرار الغالب والنافذ في الواقع، فمنحناه

____________________

(١) مآثر الاِنافة ١: ٥٢، الاَحكام السلطانية - للماوردي -: ١٠، الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: ٢٥ - ٢٦.

(٢) الفصل ٤: ١٦٩.

٣٩

صبغة الاِجماع، بحجّة أنّه لم يكن لينفذ في عهدهم إلاّ بإجماعهم عليه، أو إقرارهم إيّاه.

وبهذا تنكّرنا لحقيقة أنّ القرار النافذ كان يبتلع كلَّ ماصادفه من أصوات المخالفين والمنكرين، ولايلقي لها بالاً، وهذا هو الغالب على كلّ مايتّصل بالخلافة والمواقف السياسية الكبرى.

فماذا أغنى اعتراض بني هاشم ومَن معهم مِن المهاجرين والاَنصار على نتائج السقيفة؟!

وما أغنى إنكار الصحابة على أبي بكر يوم استخلف عمر؟!

وما أغنى إنكار الصحابة سياسة عثمان في قضايا كثيرة كتقديمه بني أُميّة على خيار الصحابة مع ماكان عليه أُولئك من حرص على الدنيا وبُعدٍ عن الدِين؟!

ثمّ لم يشتدّ هذا الاِنكار ويعلو صداه حتّى تغلّب على شؤون الاُمّة والخليفة غلمانُ بني أُميّة ممّن اتفق الكل على أنّه لم يكن معهم من الدين والورع لا كثير ولا قليل، كمروان بن الحكم وعبد الله بن سعد بن أبي سرح والوليد بن عقبة، ومعاوية.

ومع هذا فلم يكن إنكارهم عندنا حجّة، بل كانوا به ملومين!

فمتى إذن كان إنكار الصحابة حجّة، ليكون سكوتهم إقراراً؟!

فإذا كانت الخطوة الاُولى في التراجع عن مبدأ الشورى هي القبول بتسليم الاَمر إلى الخليفة القائم ليستخلف بعده من يشاء، فإنّ الخطوة الثانية كانت خطوة مُرّةً حقّاً.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133