خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص0%

خلافة الرسول بين الشورى والنص مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 133

خلافة الرسول بين الشورى والنص

مؤلف: مركز الرسالة
تصنيف:

الصفحات: 133
المشاهدات: 40681
تحميل: 4905

توضيحات:

خلافة الرسول بين الشورى والنص
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 133 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40681 / تحميل: 4905
الحجم الحجم الحجم
خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص

مؤلف:
العربية

فلمّا تجنّب الخلفاء مبدأ الشورى ومبدأ النصّ والاستخلاف معاً، واختاروا مبدأ القهر والاستيلاء والتغلّب بالسيف، قبلنا به واحداً من طرق الخلافة!

فكم بين الشورى، والتغلّب بالسيف؟!

إنّ إقرار مبدأ التغلّب بالسيف لَيُعدّ أكبر انتكاسة لمبدأ الشورى!

وإذا كانت الشورى مستمدّة من القرآن، فمن أين استمدّت قاعدة التغلّب بالسيف؟!

وثَمَّ سؤال أشدّ إحراجاً من هذا:

فإذا كانت الشورى هي القاعدة الشرعية المستمدّة من القرآن، فماذا عن عهود الخلافة التي لم تتمّ وفق هذه القاعدة؟!

وحين لم يتوفّر الجواب الذي ينقذ هذه النظرية من هذا المأزق الكبير، رأينا أنّ المهرب الوحيد هو أن نبرِّر جميع صور الخلافة التي تحقّقت في الواقع: فمرّةً بعقد رجل واحد ومتابعة أربعة، ومرّة بنصّ من الخليفة السابق، ومرّة في ستّة يجتمعون لانتخاب أحدهم، ومرّة بالقهر والاستيلاء، حتّى أدّى هذا المبدأ الاَخير إلى أن تصبح الخلافة وراثة بحتة لا أثر للدِين فيها.

مصير شروط الاِمامة:

إنّ هذه الطريقة في تبرير الاَمر الواقع لم تسقط الشورى وحدها، بل أسقطت معها أهمّ شروط الاِمامة الواجبة لصحّة عقدها، والتي منها:

٤١

1 - العدالة: إذ قالوا أوّلاً في بناء نظرية الخلافة: لاتنعقد إمامة الفاسق؛ لاَنّ المراد من الاِمام مراعاة النظر للمسلمين، والفاسق لم ينظر لنفسه في أمر دينه، فكيف ينظر في مصلحة غيره(1) ؟!

وقالوا: إنّ هذا الفسق يمنع من انعقاد الاِمامة، ومن استدامتها، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها(2) .

2 - الاجتهاد: إذ عدّوا في شروط الاِمام: أن يكون من أفضلهم في العلم والدين، والمراد بالعلم هو العلم المؤدّي إلى الاجتهاد في النوازل والاَحكام، فلاتنعقد إمامة غير العالم بذلك، لاَنّه محتاج لاَنْ يصرّف الاُمور على النهج القويم ويُجريها على السراط المستقيم، ولاَنْ يعلم الحدود ويستوفي الحقوق ويفصل الخصومات بين الناس، وإذا لم يكن عالماً مجتهداً لم يقدر على ذلك(3) .

لكن سرعان ما انهار هذان الشرطان حين تغلّب على الخلافة رجال لم يكن فيهم شيء منها، لا العدالة، ولا العلم المؤدّي إلى الاجتهاد..

قال الفرّاء: قد روي عن أحمد ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل، فقال: (ومن غلبهم بالسيف حتّى صار خليفةً وسمّي أمير المؤمنين، فلا يحلّ لاَحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه، برّاً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين)(4) !

____________________

(1) مآثر الاِنافة 1: 36، الاَحكام السلطانية - للماوردي -: 6، الاَحكام السلطانية - للفرّاء -:20.

(2) الاَحكام السلطانية - للماوردي -: 17.

(3) مآثر الاِنافة 1: 37، الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: 20.

(4) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: 20.

٤٢

وقال القلقشندي: ( إن لم يكن الخليفة المتغلّب بالقهر والاستيلاء جامعاً لشرائط الخلافة، بأن كان فاسقاً أو جاهلاً، فوجهان لاَصحابنا الشافعية، أصحّهما: انعقاد إمامته أيضاً )(1) !

التبرير:

إنّ مثل هذا الرأي الذي ينقض شرائط الخلافة بعد أن نقض أساسها، لابُدّ له من تبرير مقبول.

والتبرير الذي قدّمته هذه النظرية هنا هو: (الاضطرار)!

لاَنّا لو قلنا: لاتنعقد إمامته، لزم ذلك بطلان أحكامه كلّها المالية والمدنيّة، فيتعيّن على الخليفة الذي يأتي بعده وفق الشروط الشرعية أن يقيم الحدود ثانياً، ويستوفي الزكاة والجزية ثانياً، وهكذا(2) .

والضرورة أيضاً تقتضي صحّة خلافته: لحفظ نظام الشريعة، وتنفيذ أحكامها(3) ، ولاَنّه لابُدّ للمسلمين من حاكم(4) .

إذن قبولها على هذه الصورة يستدعي السعي الدائم لاِزاحتها وإرجاع الاَمر إلى صيغته الشرعية متى ما وجدت الاُمّة سبيلاً إلى ذلك.

هذا ماذهب إليه الشيخ محمّد رشيد رضا وقد استعرض هذه الآراء، فقال: ( معنى هذا أنّ سلطة التغلّب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند

____________________

(1) مآثر الاِنافة 1: 58.

(2) اُنظر: مآثر الاِنافة 1: 58.

(3) مآثر الاِنافة 1: 71.

(4) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: 24.

٤٣

الضرورة، تنفذ بالقهر، وتكون أدنى من الفوضى!

ومقتضاه أنّه يجب السعي دائماً لاِزالتها عند الاِمكان، ولايجوز أن توطّن الاَنفس على دوامها، ولا أن تجعل كالكرة بين المتغلّبين يتقاذفونها، ويتلقّفونها كما فعلت الاُمم التي كانت مظلومة وراضية بالظلم )(1) .

لكنَّ الواقع كان على العكس من ذلك، فقد حرّموا دائماً الخروج على السلطان الجائر والفاسق، وعدّوا أيّ محاولة من هذا القبيل من الفتن التي نهى عنها الدين وحرّم الدخول فيها..

يقول الزرقاني: ( أمّا أهل السُنّة فقالوا: الاختيار أن يكون الامام فاضلاً عادلاً محسناً. فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائر أوْلى من الخروج عليه، لِما فيه من استبدال الخوف بالاَمن، وإهراق الدماء، وشنّ الغارات، والفساد، وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه )(2) !

كما ثبت عن أحمد بن حنبل أنّه قال: (الصبر تحت لواء السلطان على ماكان منه من عدلٍ أو جور، ولايُخرَج على الاُمراء بالسيف وإنْ جاروا)(3) .

استعرض الشيخ أبو زهرة هذين القولين، ثمّ قال: ( وهذا هو المنقول عن أئمّة أهل السُنّة؛ مالك، والشافعي، وأحمد )(4) .

____________________

(1) الخلافة: 45، عنه: نظام الحكم والاِدارة في الاِسلام: 126.

(2) شرح الموطّأ 2: 292، عنه: المذاهب الاِسلامية: 155.

(3) المذاهب الاِسلامية: 155.

(4) المذاهب الاِسلامية: 155.

٤٤

فهل ينسجم هذا الاعتقاد مع أحكام الاضطرار والاِكراه؟!

لقد طعن الشيخ محمّد رشيد رضا هذه العقيدة في الصميم حين قال:

«وقد عُني الملوك المستبدّون بجذب العلماء إليهم بسلاسل الذهب والفضّة والرُتَب والمناصب، وكان غيرهم أشدّ انجذاباً، ووضع هؤلاء العلماء الرسميّون قاعدة لاُمرائهم ولاَنفسهم هدموا بها القواعد التي قام بها أمرُ الدِين والدنيا في الاِسلام، وهي: أنّه يجوز أن يكون أولياء الاُمور فاقدين للشروط الشرعية التي دلّ على وجوبها واشتراطها الكتاب والسُنّة، وإنْ صرّح بها أئمّة الاُصول والفقه، فقالوا: يجوز، إذا فُقِدَ الحائزون لتلك الشروط.

مثال ذلك: إنّه يشترط فيهم العلم المعبَّر عنه بالاجتهاد، وقد صرّح هؤلاء بجواز تقليد الجاهل، وعدّوه من الضرورة، وأطلق الكثيرون هذا القول، وجرى عليه العمل. وذلك من توسيد الاَمر إلى غير أهله الذي يقرّب خطوات ساعة هلاك الاُمة، ومن علاماتها: ذهاب الاَمانة، وظهور الخيانة.. ولا خيانة أشدّ من توسيد الاَمر إلى الجاهلين..

روى مسلم وأبو داوود حديث ابن عبّاس: ( من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أوْلى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسُنّة نبيّه، فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين )(1) .

وطعنها أيضاً في قوله: ( ما أفسد على هذه الاُمّة أمرها وأضاع عليها ملكها إلاّ جعل طاعة هؤلاء الجبّارين الباغين واجبة شرعاً على الاِطلاق،

____________________

(1) تفسير المنار 5: 215 - 216 باختصار.

٤٥

وجعل التغلّب أمراً شرعيّاً كمبايعة أهل الحلّ والعقد للاِمام الحقّ، وجعل عهد كلّ متغلّب باغٍ إلى ولده أو غيره من عصبته حقّاً شرعياً وأصلاً مرعياً لذاته )(1) !

وهذه حقيقة تاريخية، وليست دعوى مجازفٍ أو متهاون.

صورتان:

صورتان نقف عندهما يسيراً بعد هذا الشوط المضني، لنواصل بعدهما المشوار..

الصورة الاَولى: مذهب عظماء السَلَف؟!

لقد أسقط مذهب الكثير من عظماء السلف وأشرافهم فلا يُذكر لهم اسم، ولايُشرَك لهم قول في هذه النظرية.

فلا ذكر للسبط الشهيد الاِمام الحسين بن عليّ ( ع ) وثورته(2) ... ولا لمئات المهاجرين والاَنصار وبقيّة الصحابة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونهضتهم على يزيد بن معاوية(3) .. ولا عبد الله بن الزبير.. ولا الشهيد زيد بن عليّ بن

____________________

(1) الخلافة: 51، عنه: نظرية الحكم والاِدارة في الاِسلام: 126.

(2) قُتل الاِمام الحسين عليه السلام مع نيّف وسبعين من أهل البيت والتابعين وفيهم الصحابي أنس بن الحارث الذي روى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إنّ ابني هذا - يعني الحسين - يُقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد منكم ذلك فلينصره» البداية والنهاية 8: 201، أُسد الغابة، والاِصابة: ترجمة أنس بن الحارث.

(3) قُتل منهم ثمانون صحابياً ولم يبق بدريّ بعد ذلك، وقتل من قريش والاَنصار سبع مئة، ومن التابعين والعرب والموالي عشرة آلاف، وأُبيحت المدينة ثلاثة أيّام وانتُهكت الاَعراض حتّى ولدت الاَبكار لايُعرَف من أولدَهنّ!

أُنظر تفاصيل وقعة الحرّة في أحداث سنة 63 هـ في: المنتظم لابن الجوزي، تاريخ الطبري، وانظر تاريخ الخلفاء للسيوطي: 195.

٤٦

الحسين ( ع ).. ولا الصحابي سليمان بن صُرَد الخزاعي ومن معه أصحاب ثورة التوّابين.. ولا القُرّاء في الكوفة وثورتهم!

كما أُسقط أيضاً مذهب أبي حنيفة من بين أئمّة أهل السُنّة، وذلك لاَنّه - كما جاء في غير واحدٍ من المصادر - كان يساند الثائرين على خلفاء الزور فساند زيد الشهيد ابن الإمام زين العابدين عليه السلام وساند ثورات أولاد الامام الحسن عليه السلام حتّى مات في السجن وهو على موالاتهم، وكان يسمّي خلفاء بني أمية وبني العباس (اللصوص)(1) !

كلّ أُولئك أُسقطوا من هذه النظرية، فأُخرجوا عن دائرة أهل السُنّة!!

لقد بالغ بعض كبار المتكلّمين باسم أهل السُنّة في النَيْل من أُولئك العظماء الاَشراف، ووجوه القوم وكبارهم، ولعلّ من أشهرهم ابن تيميّة الذي ذهلته العصبية حتّى تمرّد على جميع الضوابط الدينية والقيم الخُلقية، فوصف نهضة سيّد شباب أهل الجنّة سبط الرسول وريحانته بأنّها فساد كبير! ولايرضى بها الله ورسوله! وكذا وصف نهضة بقيّة المهاجرين والاَنصار في المدينة المنوّرة، ثمّ بالغ في إعذار يزيد في التصدّي لهم وقتلهم جميعاً لاَجل حفظ ملكه؛ ولم ينكر على يزيد إلاّ أنّه أباح المدينة ثلاثة أيام(2) .

وقال في هذا الاَمر أيضاً: ( ممّا يتعلّق بهذا الباب أن يُعلَم أنّ الرجل العظيم في العلم والدِين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم

____________________

(1) اُنظر: الملل والنحل 1: 140، الكشاف للزمخشري: عند تفسيره الآية 124 من سورة البقرة( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) .

(2) اُنظر: منهاج السُنّة 2: 241 - 243 و 253، الوصيّة الكبرى: 54.

٤٧

القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظنّ ونوع من الهوى الخفيّ، فيحصل بسبب ذلك ما لاينبغي اتّباعه فيه وإنْ كان من أولياء الله المتّقين، ومثل هذا إذا وقع صار فتنة )(1) !!

تُرى لماذا كان ابن تيميّة أعلم بمداخل الفتنة وأبعد عن الهوى الخفيّ من أُولئك العظماء من الصحابة وأهل البيت؟! هل لاَنّه رضي إمامةَ الفاجر والجاهل، ورفضَها أُولئك؟!

هكذا تُلقي هذه النظرية بنفسها في مأزقٍ حرج حين تُعرِض عن ذلك الاَثر الضخم من آثار عظماء السَلَف وأئمّتهم.

الصورة الثانية: الخارج المأجور

مازال إظهار الخلاف للحاكم محرَّماً، والخروج عليه فتنةً وفساداً كبيراً، مازال هذا الحكم ثابتاً لا يتزحزح..

إذن لماذا أصبح الخارج على الاِمام، مرّةً واحدة فقط في تاريخ الاِمامة، مأجوراً؟!

حين كان الاِمام هو عليٌّ بن أبي طالب، أخصّ الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكثرهم علماً وجهاداً وأوْلاهم بالعدل، عندئذٍ فقط حقَّ للناس أن يخرجوا على الاِمام!

وسوف لايكون خروجهم - هذه المرّة - فتنة وفساداً، بل هو اجتهاد، وهم مأجورون عليه، مثابون لاَجله وإن أخطأوا!!

____________________

(1) منهاج السُنّة 2: 245.

٤٨

إنّها صور لو عرضتَ أيّاً منها على تلك النظرية لوجدت فتقاً لايُرتَق إلاّ بتكلّفٍ ظاهر، والتواءٍ سافر.

٤٩

٥٠

النص

٥١

٥٢

ضرورة النصّ بين الخليفة والنبيّ:

لانزاع بينهم في ثبوت حقّ الخليفة في النصّ على مَن يخلفه، ولافي نفوذ هذا النصّ؛ لاَنّ الاِمام أحقّ بالخلافة، فكان اختياره فيها أمضى، ولا يتوقّف ذلك على رضى أهل الحلّ والعقد(1) .

وإنّما صار ذلك للخليفة خوفاً من وقوع الفتنة واضطراب الاُمّة(2) .

فمن أجل ذلك كان بعض الصحابة يراجع عمر ويسأله أن ينصّ على من يخلفه(3) .

تُرى، لماذا لا يكون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أوْلى بالتفكير في ذلك، وبرعاية هذه المصلحة؟!

إنّه الرحمة المهداة، بلا شكّ.. أليس من تمام الرحمة وجمالها أن يُجنّب أُمّته المحذور من الاختلاف بعده؟!

لقد أحبّ أُمّته وحرص عليها( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) (4) .

وأيضاً: فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أنّنا سوف لاننتظر بعده نبيّاً يُعيد نظمَ أمرنا!

____________________

(1) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: 10، الاَحكام السلطانية - للبغوي -: 25 - 26.

(2) الفِصَل 4: 169، تاريخ الاُمم الاِسلامية - للخضري -: 1: 196.

(3) الكامل في التاريخ 3: 65.

(4) التوبة 9: 128.

٥٣

لقد بصر ابن حزم بذلك، فحاول أن يتداركه، فقال: وجدنا عقد الاِمامة يصحّ بوجوه: أوّلها وأصحّها وأفضلها أن يعهد الاِمام الميّت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته، سواء جعل ذلك في صحّته أو عند موته، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي بكر، وكما فعل أبو بكر بعمر، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز.

قال: وهذا هو الوجه الذي نختاره، ونكره غيره، لِما في هذا الوجه من اتّصال الاِمامة، وانتظام أمر الاِسلام وأهله، ورفع مايتخوّف من الاختلاف والشغب ممّا يُتوَقّع في غيره من بقاء الاُمّة فوضى، ومن انتشار الاَمر وحدوث الاَطماع(1) .

لقد لحظ ابن حزم أكثر من ثغرة في تلك النظرية ( الشورى )، فأظهر مهارةً في محاولة رتقها، بأنْ جمع بين الضرورات الدينية والعقلية والاجتماعية وبين الاَمر الواقع، ليخرج بصيغة أكثر تماسكاً.

فتَرْكُ الاُمّة دون تعيين وليّ الاَمر الذي يخلف زعيمها يعني بقاء الاُمّة فوضى، وتشتّت أمرها، وظهور الاَطماع في الخلافة لا محالة.. وهذا ممّا ينبغي أن يدركه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيبادر إلى تلافيه، ولو في مرضه الذي توفّي فيه.

وتعيين الخليفة بهذه الطريقة سيضمن اتّصال الاِمامة، وانتظام أمر الاِسلام.

وإذا كان أبو بكر قد أدرك ذلك فنصَّ على مَن يخلفه، وأدركه أيضاً

____________________

(1) الفِصَل 4: 169.

٥٤

عمر، وأدركه سليمان بن عبد الملك، فكيف نظنّ بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قد أغفل ذلك؟!

إنّها إثارات جادّة دفعته إلى حلٍّ وحيد يمكنه أن ينقذ هذه النظرية، كما ينقذ الاَمر الواقع بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتمثّل هذا الحلّ عنده بنصّ النبيّ على أبي بكر بالخلافة!

إذن فلا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد ترك هذا الاَمر للاُمّة، أو تركها فوضى، ولا كانت بيعة أبي بكر فلتة!

إنّها أُطروحة متينة، كفيلة بقطع النزاع، لو تمّت..!

ولكنّها - للاَسف - لم تكن سوى مجازفة، فمن البديهي عندئذٍ أن تكون عاجزةً عن تحقيق الاَمل المنشود منها!

فلا هي تداركت تلك النظرية وعالجت ثغراتها، ولا هي أنقذت الاَمر الواقع!

وذلك لسبب بسيط، وهو أنّ النصّ على أبي بكر لم يثبت، بل لم يدّعِ وجوده أحد، بل تسالمت الاُمّة على عدمه.

فمن أراد أن يثبت مثل هذا النصّ على أبي بكر بالخصوص، فعليه أن ينفي حادثة السقيفة جملةً وتفصيلاً.

عليه أن يكذّب بكلّ ماثبت نقله في الصحاح من كلام أبي بكر وعمر وعليٍّ والعبّاس والزبير في الخلافة..

عليه أن يهدم بعد ذلك كلّ ماقامت عليه نظرية أهل السُنّة في الاِمامة، فلم تُبْنَ هذه النظرية أوّلاً إلاّ على أصل واحد، وهو البيعة لاَبي بكر بتلك

٥٥

الطريقة التي تمّت في السقيفة وبعدها!!

عليه أن ينفي ماصرّحوا به من (الاِجماع على أنّ النصّ منتفٍ في حقّ أبي بكر)(1) !

ولم يكن هذا الطرح منسجماً مع هذه المدرسة ومبادئها، وإنّما هو محاولة لسدّ ثغراتها، ومقابلة للاِلحاح الذي تُقدّمه النظرية الاُخرى القائمة على أساس النصّ، ولقطع دابر النزاع، كما ذكر ابن حزم.

إنّه كان مقتنعاً بضرورة النصّ، ولكنّه أراد نصّاً منسجماً مع الاَمر الواقع، وإنْ لم يسعفه الدليل!!

إقرار بقدر من النصّ:

لم يختف النصّ إلى الاَبد في هذه النظرية، والشورى هنا ليست مطلقة العنان، فليس لاَهل الحلّ والعقد أن ينتخبوا من شاءوا بلا قيد.

إنّ هناك حدّاً تلتزمه الشورى، وهذا الحدّ إنّما رسمه النصّ الثابت.

قالوا: إنّ من شرط الاِمامة: النَسَب القرشي، فلا تنعقد الاِمامة بدونه.. وعلّلوا ذلك بالنصّ الثابت فيه، فقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «الاَئمّة من قريش».

وقال: «قدّموا قريشاً ولا تتقدّموها». وليس مع هذا النصّ المسلَّم شبهةٌ لمنازع، ولا قول لمخالف(2) .

____________________

(1) شرح المقاصد 5: 255، ومصادر أُخرى.

(2) الاَحكام السلطانية - للماوردي -: 6.

٥٦

واشترطوا لهذا القرشي أن يكون قرشيّاً من الصميم، من بني النضر بن كنانة، تصديقاً للنصّ(1) .

وقال أحمد: (لا يكون من غير قريش خليفة)(2) .

واستدلّوا على تواتر هذا النصّ بتراجع الاَنصار وتسليمهم الخلافة للمهاجرين القرشيّين حين احتجّوا عليهم بهذا النصّ في السقيفة(3) .

وقال ابن خلدون: ( بقي الجمهور على القول باشتراطها - أي القرشية - وصحّة الخلافة للقرشيّ ولو كان عاجزاً عن القيام بأُمور المسلمين )(4) .

وهكذا ثبت النصّ الشرعي، وثبت تواتره، وثبت الاِجماع عليه.

وحين تراجع بعضهم عن الالتزام بهذا النصّ - كأبي بكر الباقلاّني - فسّر ابن خلدون سرّ تراجعه، وردّ عليه، فقال: لمّا ضعف أمر قريش، وتلاشت عصبيّتهم بما نالهم من الترف والنعيم، وبما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الاَرض، عجزوا بذلك عن أمر الخلافة وتغلّبت عليهم الاَعاجم، فاشتبه ذلك على كثير من المحقّقين حتّى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشية، وعوّلوا على ظواهر في ذلك مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اسمعوا وأطيعوا وإنْ وليَ عليكم عبدٌ حبشي»(5) .

____________________

(1) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: 20، الفِصَل 4: 89، مآثر الاِنافة 1: 37، مقدّمة ابن خلدون: 214 فصل 26.

(2) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: 20.

(3) الفِصَل 4: 89.

(4) المقدّمة: 215.

(5) والخوارج أيضاً احتجّوا بهذا حين لم يجدوا بينهم قرشياً يسندون إليه الزعامة فيهم!

٥٧

قال: وهذا لاتقوم به حجّة في ذلك، لاَنّه خرج مخرج التمثيل، للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة(1) .

وثبت النصّ واستقرّ، ولا غرابة، فهو نصّ صحيح، بل متواتر.

وهو فوق ذاك ينطوي على فائدة أُخرى، فهو النصّ الذي يعزّز أركان هذه النظرية، إذ يضفي الشرعية على الخلافة في كافة عهودها، ابتداءً من أوّل عهود الخلافة! وانتهاءً بآخر خلفاء بني العبّاس، فهذا كلّ مايتّسع له لفظ القرشيّة هنا.

لمّا تغلب معاوية بالسيف بلغه أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص يُحدِّث أنّه سيكون ملك من قحطان، فهبّ معاوية غضباً فجمع الناس وخطبهم قائلاً: أمّا بعد، فإنّه بلغني أنّ رجالاً منكم يحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله ولاتؤثر عن رسول الله، أُولئك جهّالكم! فإيّاكم والاَمانيّ التي تضلّ أهلها، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إنّ هذا الاَمر في قريش، لايعاديهم أحد إلاّ كبّه الله في النار على وجهه»(2) .

وقفة مع هذا النصّ:

عرف المهاجرون القرشيّون الثلاثة - أبو بكر وعمر وأبو عبيدة - هذا النصّ فاحتجّوا به على الاَنصار في السقيفة، فأذعن الاَنصار، وعاد القرشيّون بالخلافة، أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ مالت عن أبي عبيدة، لا لعدم كفاءته وهو القرشيّ المهاجر، بل لاَنّه قد توفّي في خلافة عمر، فلمّا حضرت عمر الوفاة تأسّف عليه، وقال: (لو كان أبو عبيدة حيّاً

____________________

(1) مقدّمة ابن خلدون: 214 - 215 فصل 26.

(2) صحيح البخاري - كتاب الاَحكام - باب 2 | 6720.

٥٨

لولّيتهُ)(1) .. والاَمر ماضٍ مع النصّ.

ولكن حين لم يكن أبو عبيدة حيّاً كاد ذلك المبدأ - النصّ - أن ينهار، وكاد ذلك النصّ المتواتر أن يُنسى، كلّ ذلك على يد الرجل الذي كان من أوّل المحتجّين به على الاَنصار، عمر بن الخطاب! إنّه لمّا لم يجد أبا عبيدة حيّاً، قال: (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيتُه)(2) .

ولمّا لم يكن سالم حيّاً، قال: (لو كان معاذ بن جبل حيّاً لولّيتُه)(3) .

فهل كان سالم قرشياً؟! أم كان معاذ كذلك؟!

أمّا سالم: فأصله من إصْطَخْر، من بلاد فارس، وكان مولىً لاَبي حذيفة(4) !

وأمّا مُعاذ: فهو رجل من الاَنصار الّذين أغار عليهم القرشيّون الثلاثة في السقيفة، وفيهم عمر، واحتجّوا عليهم بأنّ الاَئمّة من قريش، وهيهات أن ترضى العرب بغير قريش! هذا الكلام قاله عمر في خطابه للاَنصار في السقيفة، ثمّ واصل خطابه قائلاً: (ولنا بذلك الحجّة الظاهرة، مَن نازعنا سلطانَ محمّد ونحن أولياؤه وعشيرتُه، إلاّ مُدْلٍ بباطلٍ، أو متجانفٍ لاِثم، أو متورّط في هَلَكة)(5) ؟!

إنّ تعدّد هذه المواقف المختلفة أضفى كثيراً من الغموض على عقيدة

____________________

(1) مسند أحمد 1: 18، الكامل في التاريخ 3: 65، صفة الصفوة 1: 367، سير أعلام النبلاء 1: 10.

(2) الكامل في التاريخ 3: 65، صفة الصفوة 1: 283، طبقات ابن سعد 3: 343.

(3) مسند أحمد 1: 18، صفة الصفوة 1: 494، طبقات ابن سعد 3: 590، سير أعلام النبلاء 1: 10.

(4) سير أعلام النبلاء 1: 167.

(5) راجع: الكامل في التاريخ 2: 329 - 330، الاِمامة والسياسة: 12 - 16.

٥٩

عمر في الخلافة، ممّا يزيد في إرباك نظرية الخلافة والاِمامة إذا ماأرادت أن تُساير جميع المواقف، من هنا اضطرّوا إلى الضرب على اختلافات عمر حفاظاً على صورة أكثر تماسكاً لهذه النظرية، كلّ ذلك لاَجل تثبيت هذا المبدأ القائم على النصّ الشرعي: «الاَئمّة من قريش».

واضح إذن كيف تمّ الانتصار للنصّ على الرأي المخالف!

وواضح أيضاً كيف كان قد تمّ الانتصار لمبدأ النصّ على مبدأ الشورى، وذلك حين رأى الخليفة ضرورة النصّ على من يخلفه، هذا بغض النظر عن السر الذي ذكرناه في طرح نظرية الشورى!

فدخل النصّ إذن في قمّة النظام السياسي!

إذن، ثبت لدينا نصّ صريح صحيح وفاعل في هذه النظرية، وهو الحديث الشريف «الاَئمّة من قريش» وقد أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن والسير بألفاظ مختلفة.

ضرورة التخصيص في النصّ:

1 - إنّ قراءةً سريعة في تاريخنا السياسي والاجتماعي توقفنا على حقيقة أنّ النصّ المتقدّم «الاَئمّة من قريش» بمفرده لايحقق للاِمامة الاَمل المنشود منها في حراسة الدين والمجتمع.

وأوّل من لمس هذه الحقيقة هم الصحابة أنفسهم منذ انتهاء عصر الخلفاء الاَربعة، ثمّ أصبحت الحقيقة أكثر وضوحاً لدى من أدرك ثاني ملوك بني أُميّة - يزيد بن معاوية - ومَن بعده.

ففي صحيح البخاري: لمّا كان النزاع دائراً بين مروان بن الحكم وهو

٦٠