خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص28%

خلافة الرسول بين الشورى والنص مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 133

خلافة الرسول بين الشورى والنص
  • البداية
  • السابق
  • 133 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46872 / تحميل: 6760
الحجم الحجم الحجم
خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص

مؤلف:
العربية

١

٢

٣

مقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المحمود الله ، جلت آلاؤه ، والمصلى عليه محمد وآله.

وبعد : فإنا لنشاهد في عصرنا الحاضر ميل الناس إلى التزيد في الثقافة الدينية ، ولا سيما تفسير الكتاب الكريم والسنة النبوية ، وكثيرا ما سئلت أىّ التفاسير أسهل منالا ، وأجدى فائدة للقارئ في الزمن القليل؟ فكنت أقف واجما حائرا لا أجد جوابا عن سؤال السائل ، علما منى بأن كتب التفسير على ما فيها من فوائد جمة ، وأسرار دينية عظيمة وإيضاح لمغازى الكتاب الكريم ، قد حشيت بالكثير من مصطلحات الفنون :

من بلاغة ونحو وصرف وفقه وأصول وتوحيد إلى نحو أولئك مما كان عقبة كأداء أمام قارئيها ، إلى ما فيها من أقاصيص مجانفه ، لوجه الصواب متنكّبة عن حظيرة العقل ووجوه المعارف التي يصح تصديقها ، إلى تفسير للقضايا العلمية التي أشار إليها القرآن العزيز بحسب ما أيده العلم فى تلك العصور ، وقد أثبت العلم فى هذا العصر وأيد الدليل والبرهان أنه لا ينبغى التعويل على مثل ما كان معروفا حينئذ ، إلى أن هذه المؤلفات وضعت

٤

ـ فى عصور قد خلت ـ بأساليب تناسب أهلها ، وكان مؤلفوها يتباهون بإيجازها ويرون ذلك مفخرة لهم ، ولكن الزمان وهو الحوّل القلّب غيّر آراء الناس في الموسوعات العلمية ، فرأوا أن الكتاب الذي لا يناجيك معناه لدى قراءة لفظه ، أولى لك ألا تضيع وقتك في قراءته وكدّ الفكر فى الوصول إلى المعمّى من معناه.

ومن ثم نهج الناس فى التأليف منهج السهولة والسلاسة مع تحقيق المسائل العلمية حتى تعتز بمظاهرة الدليل والبرهان لها ، ونفى الزائف الذي لا يقوم على ساقين ، أو يستند إلى عضوين ، من تجربة واختبار ، وحجة وبرهان.

من جرّاء هذا رأينا مسيس الحاجة إلى وضع تفسير للكتاب العزيز يشاكل حاجة الناس فى عصرنا فى أسلوبه وطريق رصفه ووضعه ، ويكون دانى القطوف ، سهل المأخذ يحوى ما تطمئن إليه النفس من تحقيق علمى تدعمه الحجة والبرهان ، وتؤيده التجربة والاختبار ، ويضم إلى آراء مؤلفه آراء أهل الذكر من الباحثين فى مختلف الفنون التي ألمع إليها القرآن على نحو ما أثبته العلم فى عصرنا ، وتركنا الروايات التي أثبتت فى كتب التفسير ، وهى بعيدة عن وجه الحق مجانفة للصواب ، والله أسأل أن يوفقنا للرشاد ، ويهدينا إلى سواء السبيل؟

أول المحرم عام 1365 ه‍

أحمد مصطفى المراغي

٥

عناية المسلمين بتفسير الكتاب الكريم

كتاب الله هو دستور التشريع ، ومنبع الأحكام التي طلب إلى المسلمين أن يعملوا بها ، ففيه بيان الحلال والحرام والأمر والنهى ، هو معين الآداب والأخلاق التي أمروا أن يستمسكوا بها ، لتكون مصدر سعادتهم ، ومنبع هدايتهم ، ونيلهم الزّلفى عند ربهم في جنات النعيم ؛ فهى الوسيلة لإصلاح حال المجتمع الإسلامى إذا أخذوا بها ولم يحيدوا عن طريقها ، وينحرفوا عن سننها.

ومما ساعد على العمل بها أنه نزل منجّما بحسب الحوادث والوقائع في نيف وعشرين سنة ، وقد كانت تنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم الآية أو الآيات فى واقعة بعينها فيتدارسها مع صحبه ، ويفصل لهم مجملها ، ويوضح لهم مبهمها ، ويفسر لهم مشكلها ، حتى لا تبقى فى النفس بقية من لبس ، وكان عليه الصلاة السلام الهادي لهم إلى سواء السبيل ، والفاتح لهم ما استغلق من أمر دينهم ، والمفسر لكتاب الله بسنته القولية وسنته الفعلية كما قال تعالى :( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) وظلّ دائبا هكذا حتى لحق بالرفيق الأعلى.

فلا غرو أن كان تفسيره وإيضاح ما أشكل عليهم فهمه منه ـ هجيراهم من بدء التنزيل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته ، وما زال الأمر كذلك في كل العصور حتى عصرنا ، وما طفقت التفاسير تترى وهى مختلفة المناجى والمناهج ، فما من عصر إلا جدّت فيه تفاسير تشاكل حاجة ذلك العصر ما بين مطوّل ومختصر كما نشاهد ذلك رأى العين ، وإن كتاب الله لفيه من الأسرار ما لم يقف على كنهه جهابذة المفسرين وسيفسره الزمن وتقدم العلوم والفنون ، ورقىّ الفكر الإنساني كما قال سبحانه وتعالى :( وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ) .

٦

طبقات المفسرين

1 ـ التفسير فى عصر الصحابة :

طفق المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يتدارسون القرآن ، ويتفهمون معناه بطريق الرواية عن صحبه الذين كانوا يجلسون فى حضرته كثيرا.

وقد اشتهر بالتفسير عشرة من الصحابة : الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ ، ثم عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وأبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير وأكثر من روى عنه التفسير من الخلفاء على بن أبي طالب ، والرواية عن الثلاثة الباقين نادرة ، وروى عن ابن مسعود المتوفى بالمدينة سنة 32 ه‍ أكثر مما روى عن علىّ رضى الله عنه.

أما عبد الله بن عباس المتوفى بالطائف سنة 68 ه‍ فهو ترجمان القرآن ، وحبر الأمة ، وشيخ المفسرين ، فقد روى عنه فى التفسير ما لا يحصى كثرة ، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اللهمّ فقّهه فى الدين وعلّمه التأويل.

قال صاحب كشف الظنون ما نصه :

وأصح الطرق فى الرواية عنه :

(1) طريق علىّ بن أبي طلحة الهاشمي المتوفى سنة 143 ه‍ ، وعليها اعتمد البخاري فى صحيحه.

(2) طريق قيس بن مسلم الكوفي المتوفى سنة 120 ه‍ عن عطاء بن السائب.

(3) طريق ابن إسحاق صاحب السيرة.

(4) طريق أبى النصر محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 146 ه‍ وهى أوهى الطرق ، ولا سيما إذا وافقتها طريق محمد بن مروان السّدّى الصغير المتوفى سنة 186 ه‍.

٧

وقد طبع تفسير ينسب إلى ابن عباس برواية الفيروز بادى صاحب القاموس ، سماه (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس).

وروى عن أبيّ بن كعب المتوفى سنة 20 ه‍ تفسير كبير رواه عنه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية ، وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أقرأ الصحابة وسيد القراء.

وزيد بن ثابت الأنصاري المتوفى سنة 45 ه‍ أحد كتاب الوحى ، وهو الذي جمع المصحف أولا في عهد أبى بكر ، ثم كان رئيس الجماعة الذين كتبوا المصحف فى عهد عثمان.

وأبو موسى الأشعري هو عبد الله بن قيس الأشعري المتوفي سنة 44 ه‍.

2 ـ التفسير في عهد التابعين

أعلم الناس بالتفسير فى هذا العصر :

(ا) علماء مكة أصحاب عبد الله بن عباس ، وأشهرهم :

(1) مجاهد بن جبر المتوفى سنة 103 ه‍ وقد قال : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة ، واعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري.

(2) سعيد بن جبير المتوفى سنة 94 ه‍.

(3) عكرمة مولى ابن عباس المتوفى بمكة سنة 105 ه‍.

(4) طاوس بن كيسان اليماني المتوفى بمكة سنة 106 ه‍.

(5) عطاء بن أبي رباح المكي المتوفى سنة 114 ه‍.

قال سفيان الثوري : خذوا التفسير عن أربعة : عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك. وقال قتادة : كان أعلم التابعين أربعة ، كان عطاء بن أبى رباح أعلمهم بالمناسك ، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير ، وكان عكرمة أعلمهم بالسير ، وكان الحسن(1) أعلمهم بالحلال والحرام.

__________________

(1) الحسن البصري.

٨

(ب) علماء الكوفة أصحاب ابن مسعود ، وأشهرهم :

(1) علقمة بن قيس المتوفى سنة 102 ه‍.

(2) الأسود بن يزيد المتوفى سنة 75 ه‍.

(3) إبراهيم النخعي المتوفى سنة 95 ه‍.

(4) الشعبي المتوفى سنة 105 ه‍.

(حـ) علماء المدينة أصحاب زيد بن أسلم العدوى المدني المتوفى سنة 136 ه‍ ، وله تفسير يعدّ من أمهات التفاسير ، ومن أشهرهم :

(1) ابنه عبد الرحمن بن زيد المتوفى سنة 182 ه‍.

(2) مالك بن أنس المتوفى سنة 179 ه‍.

(3) الحسن البصري المتوفى سنة 121 ه‍.

(4) عطاء بن أبى مسلم الخراسانى المتوفى سنة 135 ه‍.

(5) محمد بن كعب القرظي المتوفى سنة 117 ه‍.

(6) أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي المتوفى سنة 90 ه‍.

(7) الضحاك بن مزاحم المتوفى سنة 105 ه‍.

(8) عطية بن سعيد العوفى المتوفى سنة 111 ه‍.

(9) قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة 117 ه‍.

(10) الربيع بن أنس المتوفي سنة 139 ه‍.

(11) إسماعيل بن عبد الرحمن السّدى الكبير المتوفى سنة 127 ه‍.

3 ـ طبقة ثالثة جمعت أقوال الصحابة والتابعين :

وأشهر هؤلاء :

(1) سفيان بن عيينة المتوفى سنة 198 ه‍.

(2) وكيع بن الجراح الكوفي المتوفى سنة 197 ه‍.

٩

(3) شعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 ه‍.

(4) يزيد بن هرون السّلمى.

(5) عبد الرازق المتوفى سنة 211 ه‍.

(6) آدم بن أبي إياس المتوفى سنة 221 ه‍.

(7) إسحاق بن راهويه الإمام الحافظ النيسابوري المتوفى سنة 238 ه‍.

(8) روح بن عبادة المتوفى سنة 205 ه‍.

(9) عبد الله بن حميد الجهني.

(10) أبو بكر بن أبى شيبة الإمام الحافظ الكوفي المتوفى سنة 335 ه‍.

4 ـ الطبقة الرابعة طبقة ابن جرير :

تلت هؤلاء طبقة أخرى ، منها :

(1) علىّ بن أبى طلحة المتوفى سنة 343 ه‍.

(2) ابن أبى حاتم عبد الرحمن بن محمد الرازي المتوفى سنة 327 ه‍.

(3) ابن ماجه الحافظ أبو عبد الله محمد القزويني المتوفى سنة 273 ه‍.

(4) ابن مردويه أبو بكر أحمد بن موسى الأصفهانى المتوفى سنة 410 ه‍.

(5) أبو الشيخ بن حبان البستي المتوفى سنة 354 ه‍.

(6) إبراهيم بن المنذر المتوفى سنة 236 ه‍.

(7) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 ه‍ وهو من أشهر مفسرى هذا العصر. قال السيوطي فى الإتقان : وكتابه أجل التفاسير وأعظمها ، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض وللإعراب ، والاستنباط ، فهو يفوق بذلك تفاسير الأقدمين ا ه. وقال النووي النيسابورى الشافعي في تهذيبه : كتاب ابن جرير فى التفسير لم يصنف أحد مثله ، وقال أبو إسحاق الاسفرائينى : لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا ، وروى أن ابن جرير قال لأصحابه :

١٠

أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا كم يكون قدره؟ قال : ثلاثين ألف ورقة. قالوا هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه ، فاختصره فى نحو ثلاثة آلاف ورقة ، ذكر ذلك السبكى فى طبقاته.

5 ـ الطبقة الخامسة طبقة المفسرين بحذف الأسانيد :

ألف بعد هؤلاء جماعة من المفسرين لهم تفاسير مشحونة بالفوائد محذوفة الأسانيد ، من أشهرهم :

(1) أبو إسحاق الزجاج إبراهيم بن السرىّ النحوي المتوفي سنة 310 ه‍ وقد سمى تفسيره (معانى القرآن).

(2) أبو على الفارسي الحجة الثبت فى اللغة والبلاغة ، وصاحب المؤلفات الكثيرة فى مختلف الفنون ، توفى سنة 377 ه‍.

(3) أبو بكر محمد بن الحسن المعروف بالنقاش الموصلي المتوفى سنة 351 ه‍.

(4) أبو جعفر النحاس النحوي المصري المتوفى سنة 338 ه‍.

(5) مكىّ بن أبى طالب القيسي النحوي المغربي المتوفى سنة 437 ه‍.

(6) أبو العباس أحمد بن عمار المهدوى المتوفي سنة 430 ه‍ وله تفسير يسمى (التفصيل الجامع لعلوم التنزيل).

وقد دخل فى التفسير فى هذه الفترة الدخيل ، إذ نقلت الأقوال بترا محذوفة الأسانيد ، فالتبس الصحيح بالعليل ، وصار كل من سنح له قول يورده ، ومن خطر بباله شىء يعتمده ، غير ملتفت إلى ما روى عن السلف الصالح فى ذلك ، ومن هم القدوة فى هذا الباب.

6 ـ عصر المعرفة الإسلامية :

التقت فى البلاد الإسلامية تيارات العقل البشرى حاملة تراث المدنيات والحضارات

١١

اليونانية والفارسية والهندية ، ومرت بأهلها أعاصير من جدل أهل الكتاب يهودهم ونصاراهم ، فكان كل أولئك حافزا للعلماء على أن يؤلفوا موسوعات فى التفسير تجمع بين دفتيها فنونا من المعرفة لم يكن لهم بها سابقة عهد ، وسار الفكر الإسلامى حرّا طليقا فى معرفتها حينا ، ومقيدا حينا آخر ، يحكّم العقل مرة ، ويسلس قياده للنص أخرى ، ويميل إلى التقليد حين الضعف والانحلال والركود الفكرى.

ولما كان القرآن كتابا سماويا تنزل على قلب أكمل الأنبياء ، مشتملا على معارف عالية ومطالب سامية ، يجد المنقّب عنها من الهيبة والجلال ما يكاد يحول بينه وبين الوصول إليها ـ سهل سبحانه الأمر علينا ، فلم يطلب منا إلا الفهم والتدبر فى كلامه ، لأنه نزّله نورا وهدى للناس ، وجعله حاويا للشرائع والأحكام التي لا يمكن العمل بها إلا إذا فهمت حق الفهم ، واستوضحت مغازيها ، وكشفت أسرارها ومراميها ، من حيث هى دين إلهى ، وهدى سماوى ، ترشد الناس إلى ما فيه سعادتهم فى حياتيهم الدنيوية والأخروية ، وما سوى ذلك من وجوه النظر والبحث ، فتابع لذلك ، ووسيلة إليه فى التحصيل ، ولا يعنينا العناية التي نهتم لها اهتمامنا بالمطلب الأول ، لكنّ كثيرا من المفسرين ، جعلوا عنايتهم تكاد تكون وقفا على الوسائل دون المقاصد :

(1) فمنهم من وجه النظر إلى البحث فى أساليب الكتاب ومعانيه ، وبيان ما احتوى عليه من بلاغة وفصاحة ، وأطنب فى ذلك وجعل مقصده بيان ميزته عن غيره من الكلام وإظهار إعجازه للناس ، ليتبين لهم كيف أعجز مقاويل العرب وفصحاءهم ، وكيف استخذوا أمامه ووقفوا وأجمعين؟ وكيف لجئوا إلى السيف والسنان ، دون مقابلة البرهان بالبرهان؟ وكيف عمّى عليهم الأمر؟ فلم يجدوا لرد التحدي سبيلا.

وقد سلك هذا المسلك الزمخشري فى كشافه ، فألمّ بالكثير من مقاصد البلاغة ، وأبدع فيها أيّما إبداع ، ونحا نحوه خلق كثير.

(2) ومنهم من وجه النظر إلى إعرابه وتوسع فى بيان وجوهه ، حتى كأن القرآن

١٢

لهذا أنزل ، وممن سلك هذا المسلك الزجّاج فى تفسيره معانى القرآن ، والواحدي النيسابورى في تفسيره (البسيط) وأبو حيان محمد بن يوسف الأندلسى فى البحر المحيط (3) ومنهم من وجه النظر إلى القصص والأخبار عمن سلف ، وقد نحا هذا النحو أقوام زادوا فى قصص القرآن ما شاءوا من كتب التاريخ والإسرائيليات. وليتهم اقتصروا على النقل من التوراة والإنجيل والكتب المعتمدة لدى أهل الكتاب ، لكنهم أخذوا جميع ما سمعوه عنهم من غير تفريق بين غثّ وسمين ، ولا تنقيح لما يخالف الشرع ولا يطابق العقل ، ومن أشهر هؤلاء الثعلبي ، وصاحب الخازن علاء الدين بن محمد البغدادي المتوفى سنة 741 ه‍.

(4) ومنهم من وجّه همه إلى الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات وكيفية استنباطها من الآيات ، وربما استطردوا إلى إقامة الأدلة عليها ، والرد على المخالفين مما لا تعلق له بالتفسير كما فعل القرطبي فى تفسيره.

(5) ومنهم من عنى بالكلام فى أصول العقائد ومقارعة الزائغين ، ومحاجة المخالفين وللإمام الرازي المتوفى سنة 610 ه‍ فى ذلك القدح المعلّى فى تفسيره الكبير المسمى بمفاتيح الغيب ، فقد خرج فيه من باب إلى باب ، حتى ليقضى الناظر العجب من صنيعه. ومن ثمّ قال أبو حيان الأندلسى فى البحر المحيط : جمع الرازي فى تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة إليها فى علم التفسير ، ولذلك قال بعض العلماء : تفسيره فيه كل شىء إلا التفسير ا ه.

(6) ومنهم من اتجه إلى الوعظ والرقائق ممزوجة بحكايات المتصوفة والعبّاد ، وفى بعضها خروج عن حدود الفضائل والآداب التي جرى عليها القرآن.

(7) ومنهم من سلك طريق التفسير بالإشارة إلى دقائق لا تنكشف إلا لأرباب السلوك ، ويمكن إرادتها مع إرادة ظاهر المعنى ، وقال إن ذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان.

١٣

ولقد نعلم أن الإكثار فى مقصد من هذه المقاصد يدخل النقص على الغرض الأصلى من تفسير الكتاب الكريم ، وهو فهم الكتاب من حيث هو دين وهداية للناس فى دنياهم وآخرتهم.

7 ـ طريق كتابة القرآن الكريم :

من المعروف أن لكتابة القرآن طريقا خاصة تخالف الطريق التي اتبعها العلماء فيما بعد ودرجوا عليها ، ودوّنوا فيها كتبا تعرف بعلم رسم الحروف ، أو علم الإملاء ، وبه كتبت جميع المؤلفات من القرن الثالث فما بعده إلى اليوم.

أما كتابة المصحف فهى تابعة للطريق التي كتب بها المصحف فى عهد عثمان ابن عفان الخليفة الثالث على يد جماعة من كبار الصحابة وتسمى (الرسم العثماني) وقد اتبع فيها نهج خاص يخالف ما اتبع فيما بعد فى كثير من المواضع ، ومن ثم قيل :

خطان لا يقاس عليهما : خط العروض ، وخط المصحف العثماني.

آراء العلماء فى التزام الرسم العثماني

فى كتابة المصاحف

الرأى الأول ـ عبر عنه الإمام أحمد بقوله : تحرم مخالفة خط عثمان في واو أو ألف أو ياء أو غير ذلك. وقال أبو عمرو الداني : لا مخالف لما حكى عن مالك من وجوب الكتابة على الكتبة الأولى من علماء الأمة.

الرأى الثاني : أن رسم المصاحف اصطلاحى لا توقيفى ، وعليه فتجوز مخالفته ، ومن جنح إلى هذا الرأى ابن خلدون فى مقدمته ، وممن تحمس له القاضي أبو بكر فى الانتصار ، إذ قال : وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا ، إذ لم يأخذ على كتّاب القرآن وخطاطى المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه ،

١٤

إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف ، وليس فى نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحدّ محدود لا يجوز تجاوزه ، ولا فى نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه ، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك ، ولا دلت عليه القياسات الشرعية ، بل السنة دلت على جواز رسمه بأى وجه سهل ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجها معينا ، ولا نهى عن كتابته بغيره.

ولذلك اختلفت خطوط المصاحف ، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه أن ذلك اصطلاح ، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال ، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول ، وأن يجعل اللام على صورة الكاف ، وأن تعوّج الألفات ، وأن يكتب على غير هذه الوجوه ، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين ، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة ، وجاز أن يكتب بين ذلك.

وإذا كانت خطوط المصاحف ، وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة ، وكان الناس قد أجازوا ذلك ، وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته ، وما هو أسهل وأشهر وأولى ، من غير تأثيم ولا تناكر ، علم أنه لم يؤخذ فى ذلك على الناس حدّ محدود مخصوص ، كما أخذ عليهم فى القراءة والأذان.

والسبب فى ذلك أن الخطوط إنما هى علامات ورسوم تجرى مجرى الإشارات والعقود والرموز ، فكل رسم دالّ على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكتابة به على أىّ صورة كانت.

وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه ، وأنّى له ذنك؟ ا ه.

١٥

الرأى الثالث : يميل صاحب التبيان ومن قبله صاحب البرهان إلى ما يفهم من كلام العز بن عبد السلام ، من أنه يجوز بل يجب كتابة المصحف الآن لعامة الناس على الاصطلاحات المعروفة الشائعة عندهم ، ولا تجوز كتابته لهم بالرسم العثماني الأول ، لئلا يوقع في تغيير من الجهال ، ولكن يجب فى الوقت نفسه المحافظة على الرسم العثماني كأثر من الآثار النفيسة الموروثة عن سلفنا الصالح ، فلا يهمل مراعاته لجهل الجاهلين ، بل يبقى فى أيدى العارفين الذين لا تخلو منهم الأرض. وهاك عبارة التبيان قال :

واما كتابته (المصحف) على ما أحدث الناس من الهجاء فقد جرى عليه أهل الشرق بناء على كونها أبعد من اللبس ، وثحاماه أهل المغرب بناء على قول الإمام مالك ، وقد سئل هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء؟ فقال : لا. إلا على الكتبة الأولى.

قال في البرهان : قلت وهذا كان فى الصدر الأول والعلم حىّ غض ، وأما الآن فقد يخشى الالتباس ، ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة ، لئلا يوقع في تغيير من الجهال ، ولكن لا ينبغى إجراء هذا على إطلاقه ، لئلا يؤدى إلى دروس العلم ، وشىء قد أحكمه القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين ، ولن تخلو الأرض من قائم لله بهجته ا ه.

وقد جرينا على الرأى الذي أوجبه العز بن عبد السلام فى كتابة الآيات أثناء التفسير العلة التي ذكرها ، وهى فى عصرنا أشد حاجة إليها من تلك العصور ، على أن الخلاف بينهم فى المصحف لا فى القرآن ولو أثناء التفسير كما فعلنا.

١٦

خدمتى للغة العربية والكتاب الكريم

لقد سعدت بخدمتي للغة العربية نحو نصف قرن درسا وتدريسا ، وتأليفا وتصنيفا ، أتتبع أساليبها فى آي القرآن الحكيم ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والشعر والنثر ، حتى وجدتني كلفا ، بأن أتوّج خدمتى لهذه اللغة بتفسير آي الذكر الحكيم مع تسميته «تفسير المراغي».

وقصاراى أن أسير فى قافلة الحاملين لمشعل المعرفة الإسلامية ، مؤديا بعض ما يجب علىّ نحو الكتاب الكريم من الكشف عن بعض أسراره ومغازيه.

نهجنا الذي سلكناه فى هذا التفسير

رأينا أن ندلى إليك أيها القارئ الكريم ، بالنهج الذي اتبعناه فى التأليف ، لتكون على بينة من أمره :

(1) ذكر الآيات فى صدر البحث :

صدّرنا كل بحث بآية أو آيتين أو آيات من الكتاب الكريم ، سيقت لتؤدى غرضا واحدا.

(2) شرح المفردات :

أردفنا ذلك تفسير مفرداتها اللغوية ، إن كان فيها بعض الخفاء على كثير من القارئين.

(3) المعنى الجملي للآيات :

أتبعنا ذلك بذكر المعنى الجملي لهذه الآية أو الآيات ليتجلّى للقارئ منها صورة مجملة حتى إذا جاء التفسير وضح ذاك المجمل.

١٧

(4) أسباب النزول :

أعقبنا ذلك بما ورد من أسباب النزول لهذه الآيات ، إن صح شىء من ذلك لدى المفسرين بالمأثور.

(5) الإعراض عن ذكر مصطلحات العلوم :

ضربنا صفحا عن ذكر مصطلحات العلوم : من نحو وصرف وبلاغة إلى أشباه ذلك ، مما أدخله المفسرون فى تفاسيرهم ، فكان من العوائق التي حالت بين جمهرة الناس وقراءة كتب التفسير ، فقد وجدوا طلّسمات وألغازا يصعب عليهم فهمها والسير قدما فى استيعاب قراءة التفسير ، لأنها من ألوان الصناعات التي يخصّ بها قوم من الناس ، وتكون عونا لهم على فهم الأساليب العربية فهم دراسة وتعمق ، كما يخصّ قوم من الأمة بالحياكة والنجارة والحدادة إلى أشباه ذلك.

(6) أسلوب المفسرين :

رأينا أن الأساليب التي كتبت بها كتب التفسير وضعت فى عهود سحيقة بأساليب تناسب أهل العصور التي ألفت فيها ويسهل عليهم فهمها ، وأن جمهرتهم أوجزوا فى القول وعدّوا ذلك مفخرة لهم.

ولما كان لكل عصر طابع خاص يمتاز به عن غيره فى آداب أهله وأخلاقهم وعاداتهم وطرائق تفكيرهم ـ وجب على الباحثين فى هذا العصر مجاراة أهله فى كل ما نقدّم ، فكان لزاما علينا أن نتلمس لونا من التفسير لكتاب الله بأسلوب عصرنا موافقا لأمزجة أهله ، فأساس التخاطب أن لكل مقام مقالا ، وأن الناس يخاطبون على قدر عقولهم ، وقد رأينا أن نشيد فيه بجهود السابقين معترفين بفضلهم ، مستندين إلى آرائهم.

١٨

وقد سلكنا فى الوصول إلى فهم الآيات التي أشارت إلى بعض نظريات فى مختلف الفنون استطلاع آراء العارفين بها ، فاستطلعنا آراء الطبيب النطاسي ، والفلكي العارف والمؤرخ الثّبت ، والحكيم البصير ليدلى كل برأيه فيما تمهّر فيه ، لنعلم ما أثبته العلم وأنتجه الفكر ، فيكون كلامنا معتزا بكرامة المعرفة التي تشرف بتفهم كتاب الله ، فرجل الدين حامل لوائها ، عليه أن يسأل العلم دائما ليستبصر بما ثبت لديه ، ويساير عصره ما وجد إلى ذلك سبيلا ، فإن قعدت به همته إلى الموروث من قضاياه لدى الماضين ركب شططا وازداد بعدا عن الحقيقة ، وتضاءل أمام نفسه وأمام قارئي بحوثه ومؤلفاته.

(7) ميزة العصر الحاضر في وسائل التفاهم :

يمتاز هذا العصر بميل أهله لسهولة الكلام ليفهم الغرض المراد منه حين التخاطب ، دون احتياج إلى النقاش وصنوف التأويل ، ومن ثم كان أهم ما عنيت به أن أقرأ فى الموضوع الواحد ما كتبه أعلام المفسرين على اختلاف نزعاتهم وتباين أزمنتهم حتى إذا اطمأننت إلى فهم ما قرأت وتمثلته وهضمته ، كتبته بأسلوب العصر الحاضر ، وهذا هو نهجى فى تأليف هذا التفسير.

وما حملنى على ركوب هذا المركب الخشن ، واقتحام هذه العقبات إلا انصراف القارئين عن قراءة كتب التفسير التي بين أيدينا ، بدعوى أنها صعبة المدخل مفعمة بكثير من المصطلحات التي لا يعلمها إلا من أتقن هذه الفنون ، واستبدلت بأساليب المؤلفين أسلوبا سهل المأخذ قليل الكلفة فى الفهم ، حتى يستطيع القارئ أن يلمّ بأسرار كتاب الله دون كدّ ولا نصب.

١٩

(8) تمحيص روايات كتب التفسير :

أشار الكتاب الكريم إلى كثير من تاريخ الأمم الغابرة التي حلّ بها العذاب على ما اجترحت من الآثام ، وإلى بدء الخلق وتكوين الأرض والسموات ، ولم يكن لدى العرب من المعرفة ما يستطيعون به شرح هذه المجملات التي أشار إليها الكتاب ، إذ كانوا أمة أمية في صحراء نائية عن مناهل العلم والمعرفة ، والإنسان بطبعه حريص على استكناه المجهول ، واستيضاح ما عزّت عليه معرفته ، فألجأتهم الحاجة إلى الاستفسار من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولا سيما مسلمتهم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ، ووهب بن منبّه ، فقصّوا عليهم من القصص ما ظنوه تفسيرا لما خفى عليهم فهمه من كتابهم ، ولكنهم كانوا فى ذلك كحاطب ليل ، يجمع بين الشذرة والبعرة ، والذهب والشبه ، إذ لم تكن علوم القصّاص ممحّصة ولا مهذبة ، بل كان ينقصها الميزان العلمي الذي به يتعرّف جيّد الرأى من بهرجه ، وصحيحه من سقيمه ، فساقوا إلى المسلمين من الآراء فى تفسير كتابهم ما ينبذه العقل ، وينافيه الدين ، وتكذبه المشاهدة ، ويبعده كل البعد ما أثبته العلم فى العصور اللاحقة.

وما كان مثلهم ومثل العرب الذين استوضحوهم بعض ما استعصى عليهم فهمه ، إلا مثل السائح الأوربى إذا جاء إلى سفح الأهرام بمصر ، وسأل العرب الضاربين خيامهم حولها. لم بنيت الأهرام؟ ومن بناها؟ ومتى بنيت؟ وكيف بنيت؟ فيجيبونه إجابات بعيدة عن الحقيقة ومجانفة وجه الصواب.

ومن ثمّ رأينا ألا نذكر رواية مأثورة إلا إذا تلقاها العلم بالقبول ، ولم نر فيها ما يتنافر مع قضايا الدين التي لا خلاف فيها بين أهله ، وقد وجدنا أن ذلك أسلم لصادق المعرفة ، وأشرف لتفسير كتاب الله ، وأجذب لقلوب المثقفين ثقافة علمية ، لا يقنعها إلا الدليل والبرهان ونور المعرفة الصادقة.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

فلمّا تجنّب الخلفاء مبدأ الشورى ومبدأ النصّ والاستخلاف معاً، واختاروا مبدأ القهر والاستيلاء والتغلّب بالسيف، قبلنا به واحداً من طرق الخلافة!

فكم بين الشورى، والتغلّب بالسيف؟!

إنّ إقرار مبدأ التغلّب بالسيف لَيُعدّ أكبر انتكاسة لمبدأ الشورى!

وإذا كانت الشورى مستمدّة من القرآن، فمن أين استمدّت قاعدة التغلّب بالسيف؟!

وثَمَّ سؤال أشدّ إحراجاً من هذا:

فإذا كانت الشورى هي القاعدة الشرعية المستمدّة من القرآن، فماذا عن عهود الخلافة التي لم تتمّ وفق هذه القاعدة؟!

وحين لم يتوفّر الجواب الذي ينقذ هذه النظرية من هذا المأزق الكبير، رأينا أنّ المهرب الوحيد هو أن نبرِّر جميع صور الخلافة التي تحقّقت في الواقع: فمرّةً بعقد رجل واحد ومتابعة أربعة، ومرّة بنصّ من الخليفة السابق، ومرّة في ستّة يجتمعون لانتخاب أحدهم، ومرّة بالقهر والاستيلاء، حتّى أدّى هذا المبدأ الاَخير إلى أن تصبح الخلافة وراثة بحتة لا أثر للدِين فيها.

مصير شروط الاِمامة:

إنّ هذه الطريقة في تبرير الاَمر الواقع لم تسقط الشورى وحدها، بل أسقطت معها أهمّ شروط الاِمامة الواجبة لصحّة عقدها، والتي منها:

٤١

١ - العدالة: إذ قالوا أوّلاً في بناء نظرية الخلافة: لاتنعقد إمامة الفاسق؛ لاَنّ المراد من الاِمام مراعاة النظر للمسلمين، والفاسق لم ينظر لنفسه في أمر دينه، فكيف ينظر في مصلحة غيره(١) ؟!

وقالوا: إنّ هذا الفسق يمنع من انعقاد الاِمامة، ومن استدامتها، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها(٢) .

٢ - الاجتهاد: إذ عدّوا في شروط الاِمام: أن يكون من أفضلهم في العلم والدين، والمراد بالعلم هو العلم المؤدّي إلى الاجتهاد في النوازل والاَحكام، فلاتنعقد إمامة غير العالم بذلك، لاَنّه محتاج لاَنْ يصرّف الاُمور على النهج القويم ويُجريها على السراط المستقيم، ولاَنْ يعلم الحدود ويستوفي الحقوق ويفصل الخصومات بين الناس، وإذا لم يكن عالماً مجتهداً لم يقدر على ذلك(٣) .

لكن سرعان ما انهار هذان الشرطان حين تغلّب على الخلافة رجال لم يكن فيهم شيء منها، لا العدالة، ولا العلم المؤدّي إلى الاجتهاد..

قال الفرّاء: قد روي عن أحمد ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل، فقال: (ومن غلبهم بالسيف حتّى صار خليفةً وسمّي أمير المؤمنين، فلا يحلّ لاَحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه، برّاً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين)(٤) !

____________________

(١) مآثر الاِنافة ١: ٣٦، الاَحكام السلطانية - للماوردي -: ٦، الاَحكام السلطانية - للفرّاء -:٢٠.

(٢) الاَحكام السلطانية - للماوردي -: ١٧.

(٣) مآثر الاِنافة ١: ٣٧، الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: ٢٠.

(٤) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: ٢٠.

٤٢

وقال القلقشندي: ( إن لم يكن الخليفة المتغلّب بالقهر والاستيلاء جامعاً لشرائط الخلافة، بأن كان فاسقاً أو جاهلاً، فوجهان لاَصحابنا الشافعية، أصحّهما: انعقاد إمامته أيضاً )(١) !

التبرير:

إنّ مثل هذا الرأي الذي ينقض شرائط الخلافة بعد أن نقض أساسها، لابُدّ له من تبرير مقبول.

والتبرير الذي قدّمته هذه النظرية هنا هو: (الاضطرار)!

لاَنّا لو قلنا: لاتنعقد إمامته، لزم ذلك بطلان أحكامه كلّها المالية والمدنيّة، فيتعيّن على الخليفة الذي يأتي بعده وفق الشروط الشرعية أن يقيم الحدود ثانياً، ويستوفي الزكاة والجزية ثانياً، وهكذا(٢) .

والضرورة أيضاً تقتضي صحّة خلافته: لحفظ نظام الشريعة، وتنفيذ أحكامها(٣) ، ولاَنّه لابُدّ للمسلمين من حاكم(٤) .

إذن قبولها على هذه الصورة يستدعي السعي الدائم لاِزاحتها وإرجاع الاَمر إلى صيغته الشرعية متى ما وجدت الاُمّة سبيلاً إلى ذلك.

هذا ماذهب إليه الشيخ محمّد رشيد رضا وقد استعرض هذه الآراء، فقال: ( معنى هذا أنّ سلطة التغلّب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند

____________________

(١) مآثر الاِنافة ١: ٥٨.

(٢) اُنظر: مآثر الاِنافة ١: ٥٨.

(٣) مآثر الاِنافة ١: ٧١.

(٤) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: ٢٤.

٤٣

الضرورة، تنفذ بالقهر، وتكون أدنى من الفوضى!

ومقتضاه أنّه يجب السعي دائماً لاِزالتها عند الاِمكان، ولايجوز أن توطّن الاَنفس على دوامها، ولا أن تجعل كالكرة بين المتغلّبين يتقاذفونها، ويتلقّفونها كما فعلت الاُمم التي كانت مظلومة وراضية بالظلم )(١) .

لكنَّ الواقع كان على العكس من ذلك، فقد حرّموا دائماً الخروج على السلطان الجائر والفاسق، وعدّوا أيّ محاولة من هذا القبيل من الفتن التي نهى عنها الدين وحرّم الدخول فيها..

يقول الزرقاني: ( أمّا أهل السُنّة فقالوا: الاختيار أن يكون الامام فاضلاً عادلاً محسناً. فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائر أوْلى من الخروج عليه، لِما فيه من استبدال الخوف بالاَمن، وإهراق الدماء، وشنّ الغارات، والفساد، وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه )(٢) !

كما ثبت عن أحمد بن حنبل أنّه قال: (الصبر تحت لواء السلطان على ماكان منه من عدلٍ أو جور، ولايُخرَج على الاُمراء بالسيف وإنْ جاروا)(٣) .

استعرض الشيخ أبو زهرة هذين القولين، ثمّ قال: ( وهذا هو المنقول عن أئمّة أهل السُنّة؛ مالك، والشافعي، وأحمد )(٤) .

____________________

(١) الخلافة: ٤٥، عنه: نظام الحكم والاِدارة في الاِسلام: ١٢٦.

(٢) شرح الموطّأ ٢: ٢٩٢، عنه: المذاهب الاِسلامية: ١٥٥.

(٣) المذاهب الاِسلامية: ١٥٥.

(٤) المذاهب الاِسلامية: ١٥٥.

٤٤

فهل ينسجم هذا الاعتقاد مع أحكام الاضطرار والاِكراه؟!

لقد طعن الشيخ محمّد رشيد رضا هذه العقيدة في الصميم حين قال:

«وقد عُني الملوك المستبدّون بجذب العلماء إليهم بسلاسل الذهب والفضّة والرُتَب والمناصب، وكان غيرهم أشدّ انجذاباً، ووضع هؤلاء العلماء الرسميّون قاعدة لاُمرائهم ولاَنفسهم هدموا بها القواعد التي قام بها أمرُ الدِين والدنيا في الاِسلام، وهي: أنّه يجوز أن يكون أولياء الاُمور فاقدين للشروط الشرعية التي دلّ على وجوبها واشتراطها الكتاب والسُنّة، وإنْ صرّح بها أئمّة الاُصول والفقه، فقالوا: يجوز، إذا فُقِدَ الحائزون لتلك الشروط.

مثال ذلك: إنّه يشترط فيهم العلم المعبَّر عنه بالاجتهاد، وقد صرّح هؤلاء بجواز تقليد الجاهل، وعدّوه من الضرورة، وأطلق الكثيرون هذا القول، وجرى عليه العمل. وذلك من توسيد الاَمر إلى غير أهله الذي يقرّب خطوات ساعة هلاك الاُمة، ومن علاماتها: ذهاب الاَمانة، وظهور الخيانة.. ولا خيانة أشدّ من توسيد الاَمر إلى الجاهلين..

روى مسلم وأبو داوود حديث ابن عبّاس: ( من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أوْلى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسُنّة نبيّه، فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين )(١) .

وطعنها أيضاً في قوله: ( ما أفسد على هذه الاُمّة أمرها وأضاع عليها ملكها إلاّ جعل طاعة هؤلاء الجبّارين الباغين واجبة شرعاً على الاِطلاق،

____________________

(١) تفسير المنار ٥: ٢١٥ - ٢١٦ باختصار.

٤٥

وجعل التغلّب أمراً شرعيّاً كمبايعة أهل الحلّ والعقد للاِمام الحقّ، وجعل عهد كلّ متغلّب باغٍ إلى ولده أو غيره من عصبته حقّاً شرعياً وأصلاً مرعياً لذاته )(١) !

وهذه حقيقة تاريخية، وليست دعوى مجازفٍ أو متهاون.

صورتان:

صورتان نقف عندهما يسيراً بعد هذا الشوط المضني، لنواصل بعدهما المشوار..

الصورة الاَولى: مذهب عظماء السَلَف؟!

لقد أسقط مذهب الكثير من عظماء السلف وأشرافهم فلا يُذكر لهم اسم، ولايُشرَك لهم قول في هذه النظرية.

فلا ذكر للسبط الشهيد الاِمام الحسين بن عليّ ( ع ) وثورته(٢) ... ولا لمئات المهاجرين والاَنصار وبقيّة الصحابة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونهضتهم على يزيد بن معاوية(٣) .. ولا عبد الله بن الزبير.. ولا الشهيد زيد بن عليّ بن

____________________

(١) الخلافة: ٥١، عنه: نظرية الحكم والاِدارة في الاِسلام: ١٢٦.

(٢) قُتل الاِمام الحسين عليه السلام مع نيّف وسبعين من أهل البيت والتابعين وفيهم الصحابي أنس بن الحارث الذي روى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إنّ ابني هذا - يعني الحسين - يُقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد منكم ذلك فلينصره» البداية والنهاية ٨: ٢٠١، أُسد الغابة، والاِصابة: ترجمة أنس بن الحارث.

(٣) قُتل منهم ثمانون صحابياً ولم يبق بدريّ بعد ذلك، وقتل من قريش والاَنصار سبع مئة، ومن التابعين والعرب والموالي عشرة آلاف، وأُبيحت المدينة ثلاثة أيّام وانتُهكت الاَعراض حتّى ولدت الاَبكار لايُعرَف من أولدَهنّ!

أُنظر تفاصيل وقعة الحرّة في أحداث سنة ٦٣ هـ في: المنتظم لابن الجوزي، تاريخ الطبري، وانظر تاريخ الخلفاء للسيوطي: ١٩٥.

٤٦

الحسين ( ع ).. ولا الصحابي سليمان بن صُرَد الخزاعي ومن معه أصحاب ثورة التوّابين.. ولا القُرّاء في الكوفة وثورتهم!

كما أُسقط أيضاً مذهب أبي حنيفة من بين أئمّة أهل السُنّة، وذلك لاَنّه - كما جاء في غير واحدٍ من المصادر - كان يساند الثائرين على خلفاء الزور فساند زيد الشهيد ابن الإمام زين العابدين عليه السلام وساند ثورات أولاد الامام الحسن عليه السلام حتّى مات في السجن وهو على موالاتهم، وكان يسمّي خلفاء بني أمية وبني العباس (اللصوص)(١) !

كلّ أُولئك أُسقطوا من هذه النظرية، فأُخرجوا عن دائرة أهل السُنّة!!

لقد بالغ بعض كبار المتكلّمين باسم أهل السُنّة في النَيْل من أُولئك العظماء الاَشراف، ووجوه القوم وكبارهم، ولعلّ من أشهرهم ابن تيميّة الذي ذهلته العصبية حتّى تمرّد على جميع الضوابط الدينية والقيم الخُلقية، فوصف نهضة سيّد شباب أهل الجنّة سبط الرسول وريحانته بأنّها فساد كبير! ولايرضى بها الله ورسوله! وكذا وصف نهضة بقيّة المهاجرين والاَنصار في المدينة المنوّرة، ثمّ بالغ في إعذار يزيد في التصدّي لهم وقتلهم جميعاً لاَجل حفظ ملكه؛ ولم ينكر على يزيد إلاّ أنّه أباح المدينة ثلاثة أيام(٢) .

وقال في هذا الاَمر أيضاً: ( ممّا يتعلّق بهذا الباب أن يُعلَم أنّ الرجل العظيم في العلم والدِين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم

____________________

(١) اُنظر: الملل والنحل ١: ١٤٠، الكشاف للزمخشري: عند تفسيره الآية ١٢٤ من سورة البقرة( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) .

(٢) اُنظر: منهاج السُنّة ٢: ٢٤١ - ٢٤٣ و ٢٥٣، الوصيّة الكبرى: ٥٤.

٤٧

القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظنّ ونوع من الهوى الخفيّ، فيحصل بسبب ذلك ما لاينبغي اتّباعه فيه وإنْ كان من أولياء الله المتّقين، ومثل هذا إذا وقع صار فتنة )(١) !!

تُرى لماذا كان ابن تيميّة أعلم بمداخل الفتنة وأبعد عن الهوى الخفيّ من أُولئك العظماء من الصحابة وأهل البيت؟! هل لاَنّه رضي إمامةَ الفاجر والجاهل، ورفضَها أُولئك؟!

هكذا تُلقي هذه النظرية بنفسها في مأزقٍ حرج حين تُعرِض عن ذلك الاَثر الضخم من آثار عظماء السَلَف وأئمّتهم.

الصورة الثانية: الخارج المأجور

مازال إظهار الخلاف للحاكم محرَّماً، والخروج عليه فتنةً وفساداً كبيراً، مازال هذا الحكم ثابتاً لا يتزحزح..

إذن لماذا أصبح الخارج على الاِمام، مرّةً واحدة فقط في تاريخ الاِمامة، مأجوراً؟!

حين كان الاِمام هو عليٌّ بن أبي طالب، أخصّ الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكثرهم علماً وجهاداً وأوْلاهم بالعدل، عندئذٍ فقط حقَّ للناس أن يخرجوا على الاِمام!

وسوف لايكون خروجهم - هذه المرّة - فتنة وفساداً، بل هو اجتهاد، وهم مأجورون عليه، مثابون لاَجله وإن أخطأوا!!

____________________

(١) منهاج السُنّة ٢: ٢٤٥.

٤٨

إنّها صور لو عرضتَ أيّاً منها على تلك النظرية لوجدت فتقاً لايُرتَق إلاّ بتكلّفٍ ظاهر، والتواءٍ سافر.

٤٩

٥٠

النص

٥١

٥٢

ضرورة النصّ بين الخليفة والنبيّ:

لانزاع بينهم في ثبوت حقّ الخليفة في النصّ على مَن يخلفه، ولافي نفوذ هذا النصّ؛ لاَنّ الاِمام أحقّ بالخلافة، فكان اختياره فيها أمضى، ولا يتوقّف ذلك على رضى أهل الحلّ والعقد(١) .

وإنّما صار ذلك للخليفة خوفاً من وقوع الفتنة واضطراب الاُمّة(٢) .

فمن أجل ذلك كان بعض الصحابة يراجع عمر ويسأله أن ينصّ على من يخلفه(٣) .

تُرى، لماذا لا يكون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أوْلى بالتفكير في ذلك، وبرعاية هذه المصلحة؟!

إنّه الرحمة المهداة، بلا شكّ.. أليس من تمام الرحمة وجمالها أن يُجنّب أُمّته المحذور من الاختلاف بعده؟!

لقد أحبّ أُمّته وحرص عليها( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) (٤) .

وأيضاً: فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أنّنا سوف لاننتظر بعده نبيّاً يُعيد نظمَ أمرنا!

____________________

(١) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: ١٠، الاَحكام السلطانية - للبغوي -: ٢٥ - ٢٦.

(٢) الفِصَل ٤: ١٦٩، تاريخ الاُمم الاِسلامية - للخضري -: ١: ١٩٦.

(٣) الكامل في التاريخ ٣: ٦٥.

(٤) التوبة ٩: ١٢٨.

٥٣

لقد بصر ابن حزم بذلك، فحاول أن يتداركه، فقال: وجدنا عقد الاِمامة يصحّ بوجوه: أوّلها وأصحّها وأفضلها أن يعهد الاِمام الميّت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته، سواء جعل ذلك في صحّته أو عند موته، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي بكر، وكما فعل أبو بكر بعمر، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز.

قال: وهذا هو الوجه الذي نختاره، ونكره غيره، لِما في هذا الوجه من اتّصال الاِمامة، وانتظام أمر الاِسلام وأهله، ورفع مايتخوّف من الاختلاف والشغب ممّا يُتوَقّع في غيره من بقاء الاُمّة فوضى، ومن انتشار الاَمر وحدوث الاَطماع(١) .

لقد لحظ ابن حزم أكثر من ثغرة في تلك النظرية ( الشورى )، فأظهر مهارةً في محاولة رتقها، بأنْ جمع بين الضرورات الدينية والعقلية والاجتماعية وبين الاَمر الواقع، ليخرج بصيغة أكثر تماسكاً.

فتَرْكُ الاُمّة دون تعيين وليّ الاَمر الذي يخلف زعيمها يعني بقاء الاُمّة فوضى، وتشتّت أمرها، وظهور الاَطماع في الخلافة لا محالة.. وهذا ممّا ينبغي أن يدركه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيبادر إلى تلافيه، ولو في مرضه الذي توفّي فيه.

وتعيين الخليفة بهذه الطريقة سيضمن اتّصال الاِمامة، وانتظام أمر الاِسلام.

وإذا كان أبو بكر قد أدرك ذلك فنصَّ على مَن يخلفه، وأدركه أيضاً

____________________

(١) الفِصَل ٤: ١٦٩.

٥٤

عمر، وأدركه سليمان بن عبد الملك، فكيف نظنّ بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قد أغفل ذلك؟!

إنّها إثارات جادّة دفعته إلى حلٍّ وحيد يمكنه أن ينقذ هذه النظرية، كما ينقذ الاَمر الواقع بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتمثّل هذا الحلّ عنده بنصّ النبيّ على أبي بكر بالخلافة!

إذن فلا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد ترك هذا الاَمر للاُمّة، أو تركها فوضى، ولا كانت بيعة أبي بكر فلتة!

إنّها أُطروحة متينة، كفيلة بقطع النزاع، لو تمّت..!

ولكنّها - للاَسف - لم تكن سوى مجازفة، فمن البديهي عندئذٍ أن تكون عاجزةً عن تحقيق الاَمل المنشود منها!

فلا هي تداركت تلك النظرية وعالجت ثغراتها، ولا هي أنقذت الاَمر الواقع!

وذلك لسبب بسيط، وهو أنّ النصّ على أبي بكر لم يثبت، بل لم يدّعِ وجوده أحد، بل تسالمت الاُمّة على عدمه.

فمن أراد أن يثبت مثل هذا النصّ على أبي بكر بالخصوص، فعليه أن ينفي حادثة السقيفة جملةً وتفصيلاً.

عليه أن يكذّب بكلّ ماثبت نقله في الصحاح من كلام أبي بكر وعمر وعليٍّ والعبّاس والزبير في الخلافة..

عليه أن يهدم بعد ذلك كلّ ماقامت عليه نظرية أهل السُنّة في الاِمامة، فلم تُبْنَ هذه النظرية أوّلاً إلاّ على أصل واحد، وهو البيعة لاَبي بكر بتلك

٥٥

الطريقة التي تمّت في السقيفة وبعدها!!

عليه أن ينفي ماصرّحوا به من (الاِجماع على أنّ النصّ منتفٍ في حقّ أبي بكر)(١) !

ولم يكن هذا الطرح منسجماً مع هذه المدرسة ومبادئها، وإنّما هو محاولة لسدّ ثغراتها، ومقابلة للاِلحاح الذي تُقدّمه النظرية الاُخرى القائمة على أساس النصّ، ولقطع دابر النزاع، كما ذكر ابن حزم.

إنّه كان مقتنعاً بضرورة النصّ، ولكنّه أراد نصّاً منسجماً مع الاَمر الواقع، وإنْ لم يسعفه الدليل!!

إقرار بقدر من النصّ:

لم يختف النصّ إلى الاَبد في هذه النظرية، والشورى هنا ليست مطلقة العنان، فليس لاَهل الحلّ والعقد أن ينتخبوا من شاءوا بلا قيد.

إنّ هناك حدّاً تلتزمه الشورى، وهذا الحدّ إنّما رسمه النصّ الثابت.

قالوا: إنّ من شرط الاِمامة: النَسَب القرشي، فلا تنعقد الاِمامة بدونه.. وعلّلوا ذلك بالنصّ الثابت فيه، فقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «الاَئمّة من قريش».

وقال: «قدّموا قريشاً ولا تتقدّموها». وليس مع هذا النصّ المسلَّم شبهةٌ لمنازع، ولا قول لمخالف(٢) .

____________________

(١) شرح المقاصد ٥: ٢٥٥، ومصادر أُخرى.

(٢) الاَحكام السلطانية - للماوردي -: ٦.

٥٦

واشترطوا لهذا القرشي أن يكون قرشيّاً من الصميم، من بني النضر بن كنانة، تصديقاً للنصّ(١) .

وقال أحمد: (لا يكون من غير قريش خليفة)(٢) .

واستدلّوا على تواتر هذا النصّ بتراجع الاَنصار وتسليمهم الخلافة للمهاجرين القرشيّين حين احتجّوا عليهم بهذا النصّ في السقيفة(٣) .

وقال ابن خلدون: ( بقي الجمهور على القول باشتراطها - أي القرشية - وصحّة الخلافة للقرشيّ ولو كان عاجزاً عن القيام بأُمور المسلمين )(٤) .

وهكذا ثبت النصّ الشرعي، وثبت تواتره، وثبت الاِجماع عليه.

وحين تراجع بعضهم عن الالتزام بهذا النصّ - كأبي بكر الباقلاّني - فسّر ابن خلدون سرّ تراجعه، وردّ عليه، فقال: لمّا ضعف أمر قريش، وتلاشت عصبيّتهم بما نالهم من الترف والنعيم، وبما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الاَرض، عجزوا بذلك عن أمر الخلافة وتغلّبت عليهم الاَعاجم، فاشتبه ذلك على كثير من المحقّقين حتّى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشية، وعوّلوا على ظواهر في ذلك مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اسمعوا وأطيعوا وإنْ وليَ عليكم عبدٌ حبشي»(٥) .

____________________

(١) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: ٢٠، الفِصَل ٤: ٨٩، مآثر الاِنافة ١: ٣٧، مقدّمة ابن خلدون: ٢١٤ فصل ٢٦.

(٢) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: ٢٠.

(٣) الفِصَل ٤: ٨٩.

(٤) المقدّمة: ٢١٥.

(٥) والخوارج أيضاً احتجّوا بهذا حين لم يجدوا بينهم قرشياً يسندون إليه الزعامة فيهم!

٥٧

قال: وهذا لاتقوم به حجّة في ذلك، لاَنّه خرج مخرج التمثيل، للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة(١) .

وثبت النصّ واستقرّ، ولا غرابة، فهو نصّ صحيح، بل متواتر.

وهو فوق ذاك ينطوي على فائدة أُخرى، فهو النصّ الذي يعزّز أركان هذه النظرية، إذ يضفي الشرعية على الخلافة في كافة عهودها، ابتداءً من أوّل عهود الخلافة! وانتهاءً بآخر خلفاء بني العبّاس، فهذا كلّ مايتّسع له لفظ القرشيّة هنا.

لمّا تغلب معاوية بالسيف بلغه أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص يُحدِّث أنّه سيكون ملك من قحطان، فهبّ معاوية غضباً فجمع الناس وخطبهم قائلاً: أمّا بعد، فإنّه بلغني أنّ رجالاً منكم يحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله ولاتؤثر عن رسول الله، أُولئك جهّالكم! فإيّاكم والاَمانيّ التي تضلّ أهلها، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إنّ هذا الاَمر في قريش، لايعاديهم أحد إلاّ كبّه الله في النار على وجهه»(٢) .

وقفة مع هذا النصّ:

عرف المهاجرون القرشيّون الثلاثة - أبو بكر وعمر وأبو عبيدة - هذا النصّ فاحتجّوا به على الاَنصار في السقيفة، فأذعن الاَنصار، وعاد القرشيّون بالخلافة، أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ مالت عن أبي عبيدة، لا لعدم كفاءته وهو القرشيّ المهاجر، بل لاَنّه قد توفّي في خلافة عمر، فلمّا حضرت عمر الوفاة تأسّف عليه، وقال: (لو كان أبو عبيدة حيّاً

____________________

(١) مقدّمة ابن خلدون: ٢١٤ - ٢١٥ فصل ٢٦.

(٢) صحيح البخاري - كتاب الاَحكام - باب ٢ | ٦٧٢٠.

٥٨

لولّيتهُ)(١) .. والاَمر ماضٍ مع النصّ.

ولكن حين لم يكن أبو عبيدة حيّاً كاد ذلك المبدأ - النصّ - أن ينهار، وكاد ذلك النصّ المتواتر أن يُنسى، كلّ ذلك على يد الرجل الذي كان من أوّل المحتجّين به على الاَنصار، عمر بن الخطاب! إنّه لمّا لم يجد أبا عبيدة حيّاً، قال: (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيتُه)(٢) .

ولمّا لم يكن سالم حيّاً، قال: (لو كان معاذ بن جبل حيّاً لولّيتُه)(٣) .

فهل كان سالم قرشياً؟! أم كان معاذ كذلك؟!

أمّا سالم: فأصله من إصْطَخْر، من بلاد فارس، وكان مولىً لاَبي حذيفة(٤) !

وأمّا مُعاذ: فهو رجل من الاَنصار الّذين أغار عليهم القرشيّون الثلاثة في السقيفة، وفيهم عمر، واحتجّوا عليهم بأنّ الاَئمّة من قريش، وهيهات أن ترضى العرب بغير قريش! هذا الكلام قاله عمر في خطابه للاَنصار في السقيفة، ثمّ واصل خطابه قائلاً: (ولنا بذلك الحجّة الظاهرة، مَن نازعنا سلطانَ محمّد ونحن أولياؤه وعشيرتُه، إلاّ مُدْلٍ بباطلٍ، أو متجانفٍ لاِثم، أو متورّط في هَلَكة)(٥) ؟!

إنّ تعدّد هذه المواقف المختلفة أضفى كثيراً من الغموض على عقيدة

____________________

(١) مسند أحمد ١: ١٨، الكامل في التاريخ ٣: ٦٥، صفة الصفوة ١: ٣٦٧، سير أعلام النبلاء ١: ١٠.

(٢) الكامل في التاريخ ٣: ٦٥، صفة الصفوة ١: ٢٨٣، طبقات ابن سعد ٣: ٣٤٣.

(٣) مسند أحمد ١: ١٨، صفة الصفوة ١: ٤٩٤، طبقات ابن سعد ٣: ٥٩٠، سير أعلام النبلاء ١: ١٠.

(٤) سير أعلام النبلاء ١: ١٦٧.

(٥) راجع: الكامل في التاريخ ٢: ٣٢٩ - ٣٣٠، الاِمامة والسياسة: ١٢ - ١٦.

٥٩

عمر في الخلافة، ممّا يزيد في إرباك نظرية الخلافة والاِمامة إذا ماأرادت أن تُساير جميع المواقف، من هنا اضطرّوا إلى الضرب على اختلافات عمر حفاظاً على صورة أكثر تماسكاً لهذه النظرية، كلّ ذلك لاَجل تثبيت هذا المبدأ القائم على النصّ الشرعي: «الاَئمّة من قريش».

واضح إذن كيف تمّ الانتصار للنصّ على الرأي المخالف!

وواضح أيضاً كيف كان قد تمّ الانتصار لمبدأ النصّ على مبدأ الشورى، وذلك حين رأى الخليفة ضرورة النصّ على من يخلفه، هذا بغض النظر عن السر الذي ذكرناه في طرح نظرية الشورى!

فدخل النصّ إذن في قمّة النظام السياسي!

إذن، ثبت لدينا نصّ صريح صحيح وفاعل في هذه النظرية، وهو الحديث الشريف «الاَئمّة من قريش» وقد أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن والسير بألفاظ مختلفة.

ضرورة التخصيص في النصّ:

١ - إنّ قراءةً سريعة في تاريخنا السياسي والاجتماعي توقفنا على حقيقة أنّ النصّ المتقدّم «الاَئمّة من قريش» بمفرده لايحقق للاِمامة الاَمل المنشود منها في حراسة الدين والمجتمع.

وأوّل من لمس هذه الحقيقة هم الصحابة أنفسهم منذ انتهاء عصر الخلفاء الاَربعة، ثمّ أصبحت الحقيقة أكثر وضوحاً لدى من أدرك ثاني ملوك بني أُميّة - يزيد بن معاوية - ومَن بعده.

ففي صحيح البخاري: لمّا كان النزاع دائراً بين مروان بن الحكم وهو

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133