خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص28%

خلافة الرسول بين الشورى والنص مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 133

خلافة الرسول بين الشورى والنص
  • البداية
  • السابق
  • 133 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46878 / تحميل: 6760
الحجم الحجم الحجم
خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

فلمّا تجنّب الخلفاء مبدأ الشورى ومبدأ النصّ والاستخلاف معاً، واختاروا مبدأ القهر والاستيلاء والتغلّب بالسيف، قبلنا به واحداً من طرق الخلافة!

فكم بين الشورى، والتغلّب بالسيف؟!

إنّ إقرار مبدأ التغلّب بالسيف لَيُعدّ أكبر انتكاسة لمبدأ الشورى!

وإذا كانت الشورى مستمدّة من القرآن، فمن أين استمدّت قاعدة التغلّب بالسيف؟!

وثَمَّ سؤال أشدّ إحراجاً من هذا:

فإذا كانت الشورى هي القاعدة الشرعية المستمدّة من القرآن، فماذا عن عهود الخلافة التي لم تتمّ وفق هذه القاعدة؟!

وحين لم يتوفّر الجواب الذي ينقذ هذه النظرية من هذا المأزق الكبير، رأينا أنّ المهرب الوحيد هو أن نبرِّر جميع صور الخلافة التي تحقّقت في الواقع: فمرّةً بعقد رجل واحد ومتابعة أربعة، ومرّة بنصّ من الخليفة السابق، ومرّة في ستّة يجتمعون لانتخاب أحدهم، ومرّة بالقهر والاستيلاء، حتّى أدّى هذا المبدأ الاَخير إلى أن تصبح الخلافة وراثة بحتة لا أثر للدِين فيها.

مصير شروط الاِمامة:

إنّ هذه الطريقة في تبرير الاَمر الواقع لم تسقط الشورى وحدها، بل أسقطت معها أهمّ شروط الاِمامة الواجبة لصحّة عقدها، والتي منها:

٤١

١ - العدالة: إذ قالوا أوّلاً في بناء نظرية الخلافة: لاتنعقد إمامة الفاسق؛ لاَنّ المراد من الاِمام مراعاة النظر للمسلمين، والفاسق لم ينظر لنفسه في أمر دينه، فكيف ينظر في مصلحة غيره(١) ؟!

وقالوا: إنّ هذا الفسق يمنع من انعقاد الاِمامة، ومن استدامتها، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها(٢) .

٢ - الاجتهاد: إذ عدّوا في شروط الاِمام: أن يكون من أفضلهم في العلم والدين، والمراد بالعلم هو العلم المؤدّي إلى الاجتهاد في النوازل والاَحكام، فلاتنعقد إمامة غير العالم بذلك، لاَنّه محتاج لاَنْ يصرّف الاُمور على النهج القويم ويُجريها على السراط المستقيم، ولاَنْ يعلم الحدود ويستوفي الحقوق ويفصل الخصومات بين الناس، وإذا لم يكن عالماً مجتهداً لم يقدر على ذلك(٣) .

لكن سرعان ما انهار هذان الشرطان حين تغلّب على الخلافة رجال لم يكن فيهم شيء منها، لا العدالة، ولا العلم المؤدّي إلى الاجتهاد..

قال الفرّاء: قد روي عن أحمد ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل، فقال: (ومن غلبهم بالسيف حتّى صار خليفةً وسمّي أمير المؤمنين، فلا يحلّ لاَحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه، برّاً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين)(٤) !

____________________

(١) مآثر الاِنافة ١: ٣٦، الاَحكام السلطانية - للماوردي -: ٦، الاَحكام السلطانية - للفرّاء -:٢٠.

(٢) الاَحكام السلطانية - للماوردي -: ١٧.

(٣) مآثر الاِنافة ١: ٣٧، الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: ٢٠.

(٤) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: ٢٠.

٤٢

وقال القلقشندي: ( إن لم يكن الخليفة المتغلّب بالقهر والاستيلاء جامعاً لشرائط الخلافة، بأن كان فاسقاً أو جاهلاً، فوجهان لاَصحابنا الشافعية، أصحّهما: انعقاد إمامته أيضاً )(١) !

التبرير:

إنّ مثل هذا الرأي الذي ينقض شرائط الخلافة بعد أن نقض أساسها، لابُدّ له من تبرير مقبول.

والتبرير الذي قدّمته هذه النظرية هنا هو: (الاضطرار)!

لاَنّا لو قلنا: لاتنعقد إمامته، لزم ذلك بطلان أحكامه كلّها المالية والمدنيّة، فيتعيّن على الخليفة الذي يأتي بعده وفق الشروط الشرعية أن يقيم الحدود ثانياً، ويستوفي الزكاة والجزية ثانياً، وهكذا(٢) .

والضرورة أيضاً تقتضي صحّة خلافته: لحفظ نظام الشريعة، وتنفيذ أحكامها(٣) ، ولاَنّه لابُدّ للمسلمين من حاكم(٤) .

إذن قبولها على هذه الصورة يستدعي السعي الدائم لاِزاحتها وإرجاع الاَمر إلى صيغته الشرعية متى ما وجدت الاُمّة سبيلاً إلى ذلك.

هذا ماذهب إليه الشيخ محمّد رشيد رضا وقد استعرض هذه الآراء، فقال: ( معنى هذا أنّ سلطة التغلّب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند

____________________

(١) مآثر الاِنافة ١: ٥٨.

(٢) اُنظر: مآثر الاِنافة ١: ٥٨.

(٣) مآثر الاِنافة ١: ٧١.

(٤) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: ٢٤.

٤٣

الضرورة، تنفذ بالقهر، وتكون أدنى من الفوضى!

ومقتضاه أنّه يجب السعي دائماً لاِزالتها عند الاِمكان، ولايجوز أن توطّن الاَنفس على دوامها، ولا أن تجعل كالكرة بين المتغلّبين يتقاذفونها، ويتلقّفونها كما فعلت الاُمم التي كانت مظلومة وراضية بالظلم )(١) .

لكنَّ الواقع كان على العكس من ذلك، فقد حرّموا دائماً الخروج على السلطان الجائر والفاسق، وعدّوا أيّ محاولة من هذا القبيل من الفتن التي نهى عنها الدين وحرّم الدخول فيها..

يقول الزرقاني: ( أمّا أهل السُنّة فقالوا: الاختيار أن يكون الامام فاضلاً عادلاً محسناً. فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائر أوْلى من الخروج عليه، لِما فيه من استبدال الخوف بالاَمن، وإهراق الدماء، وشنّ الغارات، والفساد، وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه )(٢) !

كما ثبت عن أحمد بن حنبل أنّه قال: (الصبر تحت لواء السلطان على ماكان منه من عدلٍ أو جور، ولايُخرَج على الاُمراء بالسيف وإنْ جاروا)(٣) .

استعرض الشيخ أبو زهرة هذين القولين، ثمّ قال: ( وهذا هو المنقول عن أئمّة أهل السُنّة؛ مالك، والشافعي، وأحمد )(٤) .

____________________

(١) الخلافة: ٤٥، عنه: نظام الحكم والاِدارة في الاِسلام: ١٢٦.

(٢) شرح الموطّأ ٢: ٢٩٢، عنه: المذاهب الاِسلامية: ١٥٥.

(٣) المذاهب الاِسلامية: ١٥٥.

(٤) المذاهب الاِسلامية: ١٥٥.

٤٤

فهل ينسجم هذا الاعتقاد مع أحكام الاضطرار والاِكراه؟!

لقد طعن الشيخ محمّد رشيد رضا هذه العقيدة في الصميم حين قال:

«وقد عُني الملوك المستبدّون بجذب العلماء إليهم بسلاسل الذهب والفضّة والرُتَب والمناصب، وكان غيرهم أشدّ انجذاباً، ووضع هؤلاء العلماء الرسميّون قاعدة لاُمرائهم ولاَنفسهم هدموا بها القواعد التي قام بها أمرُ الدِين والدنيا في الاِسلام، وهي: أنّه يجوز أن يكون أولياء الاُمور فاقدين للشروط الشرعية التي دلّ على وجوبها واشتراطها الكتاب والسُنّة، وإنْ صرّح بها أئمّة الاُصول والفقه، فقالوا: يجوز، إذا فُقِدَ الحائزون لتلك الشروط.

مثال ذلك: إنّه يشترط فيهم العلم المعبَّر عنه بالاجتهاد، وقد صرّح هؤلاء بجواز تقليد الجاهل، وعدّوه من الضرورة، وأطلق الكثيرون هذا القول، وجرى عليه العمل. وذلك من توسيد الاَمر إلى غير أهله الذي يقرّب خطوات ساعة هلاك الاُمة، ومن علاماتها: ذهاب الاَمانة، وظهور الخيانة.. ولا خيانة أشدّ من توسيد الاَمر إلى الجاهلين..

روى مسلم وأبو داوود حديث ابن عبّاس: ( من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أوْلى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسُنّة نبيّه، فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين )(١) .

وطعنها أيضاً في قوله: ( ما أفسد على هذه الاُمّة أمرها وأضاع عليها ملكها إلاّ جعل طاعة هؤلاء الجبّارين الباغين واجبة شرعاً على الاِطلاق،

____________________

(١) تفسير المنار ٥: ٢١٥ - ٢١٦ باختصار.

٤٥

وجعل التغلّب أمراً شرعيّاً كمبايعة أهل الحلّ والعقد للاِمام الحقّ، وجعل عهد كلّ متغلّب باغٍ إلى ولده أو غيره من عصبته حقّاً شرعياً وأصلاً مرعياً لذاته )(١) !

وهذه حقيقة تاريخية، وليست دعوى مجازفٍ أو متهاون.

صورتان:

صورتان نقف عندهما يسيراً بعد هذا الشوط المضني، لنواصل بعدهما المشوار..

الصورة الاَولى: مذهب عظماء السَلَف؟!

لقد أسقط مذهب الكثير من عظماء السلف وأشرافهم فلا يُذكر لهم اسم، ولايُشرَك لهم قول في هذه النظرية.

فلا ذكر للسبط الشهيد الاِمام الحسين بن عليّ ( ع ) وثورته(٢) ... ولا لمئات المهاجرين والاَنصار وبقيّة الصحابة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونهضتهم على يزيد بن معاوية(٣) .. ولا عبد الله بن الزبير.. ولا الشهيد زيد بن عليّ بن

____________________

(١) الخلافة: ٥١، عنه: نظرية الحكم والاِدارة في الاِسلام: ١٢٦.

(٢) قُتل الاِمام الحسين عليه السلام مع نيّف وسبعين من أهل البيت والتابعين وفيهم الصحابي أنس بن الحارث الذي روى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إنّ ابني هذا - يعني الحسين - يُقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد منكم ذلك فلينصره» البداية والنهاية ٨: ٢٠١، أُسد الغابة، والاِصابة: ترجمة أنس بن الحارث.

(٣) قُتل منهم ثمانون صحابياً ولم يبق بدريّ بعد ذلك، وقتل من قريش والاَنصار سبع مئة، ومن التابعين والعرب والموالي عشرة آلاف، وأُبيحت المدينة ثلاثة أيّام وانتُهكت الاَعراض حتّى ولدت الاَبكار لايُعرَف من أولدَهنّ!

أُنظر تفاصيل وقعة الحرّة في أحداث سنة ٦٣ هـ في: المنتظم لابن الجوزي، تاريخ الطبري، وانظر تاريخ الخلفاء للسيوطي: ١٩٥.

٤٦

الحسين ( ع ).. ولا الصحابي سليمان بن صُرَد الخزاعي ومن معه أصحاب ثورة التوّابين.. ولا القُرّاء في الكوفة وثورتهم!

كما أُسقط أيضاً مذهب أبي حنيفة من بين أئمّة أهل السُنّة، وذلك لاَنّه - كما جاء في غير واحدٍ من المصادر - كان يساند الثائرين على خلفاء الزور فساند زيد الشهيد ابن الإمام زين العابدين عليه السلام وساند ثورات أولاد الامام الحسن عليه السلام حتّى مات في السجن وهو على موالاتهم، وكان يسمّي خلفاء بني أمية وبني العباس (اللصوص)(١) !

كلّ أُولئك أُسقطوا من هذه النظرية، فأُخرجوا عن دائرة أهل السُنّة!!

لقد بالغ بعض كبار المتكلّمين باسم أهل السُنّة في النَيْل من أُولئك العظماء الاَشراف، ووجوه القوم وكبارهم، ولعلّ من أشهرهم ابن تيميّة الذي ذهلته العصبية حتّى تمرّد على جميع الضوابط الدينية والقيم الخُلقية، فوصف نهضة سيّد شباب أهل الجنّة سبط الرسول وريحانته بأنّها فساد كبير! ولايرضى بها الله ورسوله! وكذا وصف نهضة بقيّة المهاجرين والاَنصار في المدينة المنوّرة، ثمّ بالغ في إعذار يزيد في التصدّي لهم وقتلهم جميعاً لاَجل حفظ ملكه؛ ولم ينكر على يزيد إلاّ أنّه أباح المدينة ثلاثة أيام(٢) .

وقال في هذا الاَمر أيضاً: ( ممّا يتعلّق بهذا الباب أن يُعلَم أنّ الرجل العظيم في العلم والدِين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم

____________________

(١) اُنظر: الملل والنحل ١: ١٤٠، الكشاف للزمخشري: عند تفسيره الآية ١٢٤ من سورة البقرة( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) .

(٢) اُنظر: منهاج السُنّة ٢: ٢٤١ - ٢٤٣ و ٢٥٣، الوصيّة الكبرى: ٥٤.

٤٧

القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظنّ ونوع من الهوى الخفيّ، فيحصل بسبب ذلك ما لاينبغي اتّباعه فيه وإنْ كان من أولياء الله المتّقين، ومثل هذا إذا وقع صار فتنة )(١) !!

تُرى لماذا كان ابن تيميّة أعلم بمداخل الفتنة وأبعد عن الهوى الخفيّ من أُولئك العظماء من الصحابة وأهل البيت؟! هل لاَنّه رضي إمامةَ الفاجر والجاهل، ورفضَها أُولئك؟!

هكذا تُلقي هذه النظرية بنفسها في مأزقٍ حرج حين تُعرِض عن ذلك الاَثر الضخم من آثار عظماء السَلَف وأئمّتهم.

الصورة الثانية: الخارج المأجور

مازال إظهار الخلاف للحاكم محرَّماً، والخروج عليه فتنةً وفساداً كبيراً، مازال هذا الحكم ثابتاً لا يتزحزح..

إذن لماذا أصبح الخارج على الاِمام، مرّةً واحدة فقط في تاريخ الاِمامة، مأجوراً؟!

حين كان الاِمام هو عليٌّ بن أبي طالب، أخصّ الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكثرهم علماً وجهاداً وأوْلاهم بالعدل، عندئذٍ فقط حقَّ للناس أن يخرجوا على الاِمام!

وسوف لايكون خروجهم - هذه المرّة - فتنة وفساداً، بل هو اجتهاد، وهم مأجورون عليه، مثابون لاَجله وإن أخطأوا!!

____________________

(١) منهاج السُنّة ٢: ٢٤٥.

٤٨

إنّها صور لو عرضتَ أيّاً منها على تلك النظرية لوجدت فتقاً لايُرتَق إلاّ بتكلّفٍ ظاهر، والتواءٍ سافر.

٤٩

٥٠

النص

٥١

٥٢

ضرورة النصّ بين الخليفة والنبيّ:

لانزاع بينهم في ثبوت حقّ الخليفة في النصّ على مَن يخلفه، ولافي نفوذ هذا النصّ؛ لاَنّ الاِمام أحقّ بالخلافة، فكان اختياره فيها أمضى، ولا يتوقّف ذلك على رضى أهل الحلّ والعقد(١) .

وإنّما صار ذلك للخليفة خوفاً من وقوع الفتنة واضطراب الاُمّة(٢) .

فمن أجل ذلك كان بعض الصحابة يراجع عمر ويسأله أن ينصّ على من يخلفه(٣) .

تُرى، لماذا لا يكون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أوْلى بالتفكير في ذلك، وبرعاية هذه المصلحة؟!

إنّه الرحمة المهداة، بلا شكّ.. أليس من تمام الرحمة وجمالها أن يُجنّب أُمّته المحذور من الاختلاف بعده؟!

لقد أحبّ أُمّته وحرص عليها( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) (٤) .

وأيضاً: فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أنّنا سوف لاننتظر بعده نبيّاً يُعيد نظمَ أمرنا!

____________________

(١) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: ١٠، الاَحكام السلطانية - للبغوي -: ٢٥ - ٢٦.

(٢) الفِصَل ٤: ١٦٩، تاريخ الاُمم الاِسلامية - للخضري -: ١: ١٩٦.

(٣) الكامل في التاريخ ٣: ٦٥.

(٤) التوبة ٩: ١٢٨.

٥٣

لقد بصر ابن حزم بذلك، فحاول أن يتداركه، فقال: وجدنا عقد الاِمامة يصحّ بوجوه: أوّلها وأصحّها وأفضلها أن يعهد الاِمام الميّت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته، سواء جعل ذلك في صحّته أو عند موته، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي بكر، وكما فعل أبو بكر بعمر، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز.

قال: وهذا هو الوجه الذي نختاره، ونكره غيره، لِما في هذا الوجه من اتّصال الاِمامة، وانتظام أمر الاِسلام وأهله، ورفع مايتخوّف من الاختلاف والشغب ممّا يُتوَقّع في غيره من بقاء الاُمّة فوضى، ومن انتشار الاَمر وحدوث الاَطماع(١) .

لقد لحظ ابن حزم أكثر من ثغرة في تلك النظرية ( الشورى )، فأظهر مهارةً في محاولة رتقها، بأنْ جمع بين الضرورات الدينية والعقلية والاجتماعية وبين الاَمر الواقع، ليخرج بصيغة أكثر تماسكاً.

فتَرْكُ الاُمّة دون تعيين وليّ الاَمر الذي يخلف زعيمها يعني بقاء الاُمّة فوضى، وتشتّت أمرها، وظهور الاَطماع في الخلافة لا محالة.. وهذا ممّا ينبغي أن يدركه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيبادر إلى تلافيه، ولو في مرضه الذي توفّي فيه.

وتعيين الخليفة بهذه الطريقة سيضمن اتّصال الاِمامة، وانتظام أمر الاِسلام.

وإذا كان أبو بكر قد أدرك ذلك فنصَّ على مَن يخلفه، وأدركه أيضاً

____________________

(١) الفِصَل ٤: ١٦٩.

٥٤

عمر، وأدركه سليمان بن عبد الملك، فكيف نظنّ بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قد أغفل ذلك؟!

إنّها إثارات جادّة دفعته إلى حلٍّ وحيد يمكنه أن ينقذ هذه النظرية، كما ينقذ الاَمر الواقع بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتمثّل هذا الحلّ عنده بنصّ النبيّ على أبي بكر بالخلافة!

إذن فلا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد ترك هذا الاَمر للاُمّة، أو تركها فوضى، ولا كانت بيعة أبي بكر فلتة!

إنّها أُطروحة متينة، كفيلة بقطع النزاع، لو تمّت..!

ولكنّها - للاَسف - لم تكن سوى مجازفة، فمن البديهي عندئذٍ أن تكون عاجزةً عن تحقيق الاَمل المنشود منها!

فلا هي تداركت تلك النظرية وعالجت ثغراتها، ولا هي أنقذت الاَمر الواقع!

وذلك لسبب بسيط، وهو أنّ النصّ على أبي بكر لم يثبت، بل لم يدّعِ وجوده أحد، بل تسالمت الاُمّة على عدمه.

فمن أراد أن يثبت مثل هذا النصّ على أبي بكر بالخصوص، فعليه أن ينفي حادثة السقيفة جملةً وتفصيلاً.

عليه أن يكذّب بكلّ ماثبت نقله في الصحاح من كلام أبي بكر وعمر وعليٍّ والعبّاس والزبير في الخلافة..

عليه أن يهدم بعد ذلك كلّ ماقامت عليه نظرية أهل السُنّة في الاِمامة، فلم تُبْنَ هذه النظرية أوّلاً إلاّ على أصل واحد، وهو البيعة لاَبي بكر بتلك

٥٥

الطريقة التي تمّت في السقيفة وبعدها!!

عليه أن ينفي ماصرّحوا به من (الاِجماع على أنّ النصّ منتفٍ في حقّ أبي بكر)(١) !

ولم يكن هذا الطرح منسجماً مع هذه المدرسة ومبادئها، وإنّما هو محاولة لسدّ ثغراتها، ومقابلة للاِلحاح الذي تُقدّمه النظرية الاُخرى القائمة على أساس النصّ، ولقطع دابر النزاع، كما ذكر ابن حزم.

إنّه كان مقتنعاً بضرورة النصّ، ولكنّه أراد نصّاً منسجماً مع الاَمر الواقع، وإنْ لم يسعفه الدليل!!

إقرار بقدر من النصّ:

لم يختف النصّ إلى الاَبد في هذه النظرية، والشورى هنا ليست مطلقة العنان، فليس لاَهل الحلّ والعقد أن ينتخبوا من شاءوا بلا قيد.

إنّ هناك حدّاً تلتزمه الشورى، وهذا الحدّ إنّما رسمه النصّ الثابت.

قالوا: إنّ من شرط الاِمامة: النَسَب القرشي، فلا تنعقد الاِمامة بدونه.. وعلّلوا ذلك بالنصّ الثابت فيه، فقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «الاَئمّة من قريش».

وقال: «قدّموا قريشاً ولا تتقدّموها». وليس مع هذا النصّ المسلَّم شبهةٌ لمنازع، ولا قول لمخالف(٢) .

____________________

(١) شرح المقاصد ٥: ٢٥٥، ومصادر أُخرى.

(٢) الاَحكام السلطانية - للماوردي -: ٦.

٥٦

واشترطوا لهذا القرشي أن يكون قرشيّاً من الصميم، من بني النضر بن كنانة، تصديقاً للنصّ(١) .

وقال أحمد: (لا يكون من غير قريش خليفة)(٢) .

واستدلّوا على تواتر هذا النصّ بتراجع الاَنصار وتسليمهم الخلافة للمهاجرين القرشيّين حين احتجّوا عليهم بهذا النصّ في السقيفة(٣) .

وقال ابن خلدون: ( بقي الجمهور على القول باشتراطها - أي القرشية - وصحّة الخلافة للقرشيّ ولو كان عاجزاً عن القيام بأُمور المسلمين )(٤) .

وهكذا ثبت النصّ الشرعي، وثبت تواتره، وثبت الاِجماع عليه.

وحين تراجع بعضهم عن الالتزام بهذا النصّ - كأبي بكر الباقلاّني - فسّر ابن خلدون سرّ تراجعه، وردّ عليه، فقال: لمّا ضعف أمر قريش، وتلاشت عصبيّتهم بما نالهم من الترف والنعيم، وبما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الاَرض، عجزوا بذلك عن أمر الخلافة وتغلّبت عليهم الاَعاجم، فاشتبه ذلك على كثير من المحقّقين حتّى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشية، وعوّلوا على ظواهر في ذلك مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اسمعوا وأطيعوا وإنْ وليَ عليكم عبدٌ حبشي»(٥) .

____________________

(١) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: ٢٠، الفِصَل ٤: ٨٩، مآثر الاِنافة ١: ٣٧، مقدّمة ابن خلدون: ٢١٤ فصل ٢٦.

(٢) الاَحكام السلطانية - للفرّاء -: ٢٠.

(٣) الفِصَل ٤: ٨٩.

(٤) المقدّمة: ٢١٥.

(٥) والخوارج أيضاً احتجّوا بهذا حين لم يجدوا بينهم قرشياً يسندون إليه الزعامة فيهم!

٥٧

قال: وهذا لاتقوم به حجّة في ذلك، لاَنّه خرج مخرج التمثيل، للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة(١) .

وثبت النصّ واستقرّ، ولا غرابة، فهو نصّ صحيح، بل متواتر.

وهو فوق ذاك ينطوي على فائدة أُخرى، فهو النصّ الذي يعزّز أركان هذه النظرية، إذ يضفي الشرعية على الخلافة في كافة عهودها، ابتداءً من أوّل عهود الخلافة! وانتهاءً بآخر خلفاء بني العبّاس، فهذا كلّ مايتّسع له لفظ القرشيّة هنا.

لمّا تغلب معاوية بالسيف بلغه أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص يُحدِّث أنّه سيكون ملك من قحطان، فهبّ معاوية غضباً فجمع الناس وخطبهم قائلاً: أمّا بعد، فإنّه بلغني أنّ رجالاً منكم يحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله ولاتؤثر عن رسول الله، أُولئك جهّالكم! فإيّاكم والاَمانيّ التي تضلّ أهلها، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إنّ هذا الاَمر في قريش، لايعاديهم أحد إلاّ كبّه الله في النار على وجهه»(٢) .

وقفة مع هذا النصّ:

عرف المهاجرون القرشيّون الثلاثة - أبو بكر وعمر وأبو عبيدة - هذا النصّ فاحتجّوا به على الاَنصار في السقيفة، فأذعن الاَنصار، وعاد القرشيّون بالخلافة، أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ مالت عن أبي عبيدة، لا لعدم كفاءته وهو القرشيّ المهاجر، بل لاَنّه قد توفّي في خلافة عمر، فلمّا حضرت عمر الوفاة تأسّف عليه، وقال: (لو كان أبو عبيدة حيّاً

____________________

(١) مقدّمة ابن خلدون: ٢١٤ - ٢١٥ فصل ٢٦.

(٢) صحيح البخاري - كتاب الاَحكام - باب ٢ | ٦٧٢٠.

٥٨

لولّيتهُ)(١) .. والاَمر ماضٍ مع النصّ.

ولكن حين لم يكن أبو عبيدة حيّاً كاد ذلك المبدأ - النصّ - أن ينهار، وكاد ذلك النصّ المتواتر أن يُنسى، كلّ ذلك على يد الرجل الذي كان من أوّل المحتجّين به على الاَنصار، عمر بن الخطاب! إنّه لمّا لم يجد أبا عبيدة حيّاً، قال: (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيتُه)(٢) .

ولمّا لم يكن سالم حيّاً، قال: (لو كان معاذ بن جبل حيّاً لولّيتُه)(٣) .

فهل كان سالم قرشياً؟! أم كان معاذ كذلك؟!

أمّا سالم: فأصله من إصْطَخْر، من بلاد فارس، وكان مولىً لاَبي حذيفة(٤) !

وأمّا مُعاذ: فهو رجل من الاَنصار الّذين أغار عليهم القرشيّون الثلاثة في السقيفة، وفيهم عمر، واحتجّوا عليهم بأنّ الاَئمّة من قريش، وهيهات أن ترضى العرب بغير قريش! هذا الكلام قاله عمر في خطابه للاَنصار في السقيفة، ثمّ واصل خطابه قائلاً: (ولنا بذلك الحجّة الظاهرة، مَن نازعنا سلطانَ محمّد ونحن أولياؤه وعشيرتُه، إلاّ مُدْلٍ بباطلٍ، أو متجانفٍ لاِثم، أو متورّط في هَلَكة)(٥) ؟!

إنّ تعدّد هذه المواقف المختلفة أضفى كثيراً من الغموض على عقيدة

____________________

(١) مسند أحمد ١: ١٨، الكامل في التاريخ ٣: ٦٥، صفة الصفوة ١: ٣٦٧، سير أعلام النبلاء ١: ١٠.

(٢) الكامل في التاريخ ٣: ٦٥، صفة الصفوة ١: ٢٨٣، طبقات ابن سعد ٣: ٣٤٣.

(٣) مسند أحمد ١: ١٨، صفة الصفوة ١: ٤٩٤، طبقات ابن سعد ٣: ٥٩٠، سير أعلام النبلاء ١: ١٠.

(٤) سير أعلام النبلاء ١: ١٦٧.

(٥) راجع: الكامل في التاريخ ٢: ٣٢٩ - ٣٣٠، الاِمامة والسياسة: ١٢ - ١٦.

٥٩

عمر في الخلافة، ممّا يزيد في إرباك نظرية الخلافة والاِمامة إذا ماأرادت أن تُساير جميع المواقف، من هنا اضطرّوا إلى الضرب على اختلافات عمر حفاظاً على صورة أكثر تماسكاً لهذه النظرية، كلّ ذلك لاَجل تثبيت هذا المبدأ القائم على النصّ الشرعي: «الاَئمّة من قريش».

واضح إذن كيف تمّ الانتصار للنصّ على الرأي المخالف!

وواضح أيضاً كيف كان قد تمّ الانتصار لمبدأ النصّ على مبدأ الشورى، وذلك حين رأى الخليفة ضرورة النصّ على من يخلفه، هذا بغض النظر عن السر الذي ذكرناه في طرح نظرية الشورى!

فدخل النصّ إذن في قمّة النظام السياسي!

إذن، ثبت لدينا نصّ صريح صحيح وفاعل في هذه النظرية، وهو الحديث الشريف «الاَئمّة من قريش» وقد أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن والسير بألفاظ مختلفة.

ضرورة التخصيص في النصّ:

١ - إنّ قراءةً سريعة في تاريخنا السياسي والاجتماعي توقفنا على حقيقة أنّ النصّ المتقدّم «الاَئمّة من قريش» بمفرده لايحقق للاِمامة الاَمل المنشود منها في حراسة الدين والمجتمع.

وأوّل من لمس هذه الحقيقة هم الصحابة أنفسهم منذ انتهاء عصر الخلفاء الاَربعة، ثمّ أصبحت الحقيقة أكثر وضوحاً لدى من أدرك ثاني ملوك بني أُميّة - يزيد بن معاوية - ومَن بعده.

ففي صحيح البخاري: لمّا كان النزاع دائراً بين مروان بن الحكم وهو

٦٠

بالشام، وعبد الله بن الزبير وهو بمكّة، انطلق جماعة إلى الصحابي أبي برزة الاَسلمي رضي الله عنه فقالوا له: ياأبا برزة، ألا ترى ماوقع فيه الناس؟! فقال: إنّي أحتسب عند الله أنّي أصبحتُ ساخطاً على أحياء قريش، إنّ ذاك الذي بالشام والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا، وإنّ الذي بمكّة والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا(1) !!

2 - وأهمّ من هذا أنّه ثمّة نصوص صحيحة توجب تضييق دائرة النصّ المتقدّم..

لقد حذّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الاغترار بالنسب القرشي وحسب، وأنذر بأنّ ذلك سيؤدّي إلى هلاك الاُمّة وتشتّت أمرها!

ففي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «هَلَكَةُ أُمّتي على يَدَي غلمةٍ من قريش»(2) .

كيف إذن سيتمّ التوفيق بين النصّين: «الاَئمّة من قريش» و «هَلَكة أُمّتي على يدي غلمة من قريش»؟!

أليس لقائل أن يقول: ماهو ذنب الاُمّة؟! إنّها التزمت نصّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

____________________

(1) صحيح البخاري - الفتن - باب 20 | 6695.

(2) صحيح البخاري - الفتن - باب 3 | 6649، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13: 7 -8. ومما يثير الدهشة أن تجد هذه الاَحاديث وأكثر منها في آل أبي سفيان وآل مروان، تجدها في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير تحت عنوان (إخباره صلى الله عليه وآله وسلّم لما وقع من الفتن من بني هاشم بعد موته)!! 6: 255 - ط. دار التراث العربي - سنة 1992 م، و 6: 227 - ط. مكتبة المعارف - سنة 1988 م. علماً أنّه وضعها وفق ترتيبه التاريخي في أحداث العهد الاَموي!! ولعل المتهم في هذا ناسخ أمويّ الهوى غاضه ذكر بني أُمية في هذا العنوان فقلبه على بني هاشم!

٦١

«الاَئمّة من قريش» فقادها هذا النصّ إلى هذا المصير حين ذُبح خيار الاُمّة بسيوف قريش أنفسهم!

أليس النصّ هو المسؤول؟!

حاشا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يضع أُمّته على حافة هاوية، وهو الذي كان قد استنقذها من الهاوية.

إنّهم أرادوا أن يحفظوا الرسول بحفظ جميع الصحابة وإضفاء الشرعية حتّى على المواقف المتناقضة تجاه القضيّة الواحدة، فوقعوا في مافرّوا منه!

بل وقعوا في ماهو أكبر منه حين صار النصّ النبويّ هو المسؤول عمّا آل إليه أمر الاُمّة من فتن، ثمّ هَلَكة!

فهؤلاء الغلمة إنّما يكون هلاك الاُمّة على أيديهم عندما يملكون أمر الاُمّة، لكنّ الاُمّة إنْ رضيت بهم فإنّما كان اتّباعاً للنصّ الاَوّل «الاَئمّة من قريش» فهل يكون هذا إلاّ إغراء؟!

حاشا لرسول الله أن يكون ذلك منه، وإنّما هو من علامات التهافت في هذه النظرية التي أغضت عن كلّ ماورد في السُنّة ممّا يفيد تخصيص ماورد في حقّ قريش.

نوعان من التخصيص:

ورد في السُنّة نوعان من التخصيص في أمر قريش؛ تخصيص سلب، وتخصيص إيجاب.

٦٢

1 - تخصيص السلب: ثمّة نصوص صريحة تستثني قوماً من قريش، فتبعدهم عن دائرة التكريم، ناهيك عن التقديم: قال ابن حجر الهيتمي: في الحديث المرويّ بسندٍ حَسَن أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «شرّ قبائل العرب: بنو أُميّة وبنو حنيفة وثقيف».

قال: وفي الحديث الصحيح - قال الحاكم: على شرط الشيخين - عن أبي برزة رضي الله عنه أنّه قال: ( كان أبغض الاَحياء - أو الناس - إلى رسول الله بنو أُميّة )(1) .

والذي ورد في ذمّ آل الحَكَم - أبو مروان - خاصّة كثير ومشهور.

فهل يصحّ أن تُسند الاِمامة إلى شرّ قبائل العرب، وأبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!

ومن دقائق النصّ الاَوّل إقرانه بني أُميّة ببني حنيفة، وبنو حنيفة هم قوم مسيلمة الكذّاب!!

فإذا أصبح هؤلاء هم الحكّام في الواقع فعلينا أن نشهد أنّ هذا الواقع منحرف عن النصّ، بدلاً من أن نسعى لتبريره وإخضاعه للنصّ.

2 - تخصيص الاِيجاب: الحديث الذي ميّز قريشاً بالاصطفاء على سائر القبائل لم يقف عند دائرة قريش الكبرى، بل خصّ منها طائفةً بعينها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ الله اصطفى كنانة من وُلد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»(2) .

____________________

(1) تطهير الجنان واللسان: 30.

(2) صحيح مسلم - كتاب الفضائل - | 1.

٦٣

وهذا تقديم لبني هاشم على سائر قريش..

ساق ابن تيميّة هذا الحديث الصحيح، وأضاف قائلاً: وفي السنن أنّه شكا إليه العبّاسُ أنّ بعض قريش يحقّرونَهم! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «والذي نفسي بيده لايدخلون الجنّة حتّى يحبّوكم لله ولقرابتي» وإذا كانوا أفضل الخلائق، فلا ريب أنّ أعمالهم أفضل الاَعمال.. ففاضلهم أفضل من كلّ فاضل من سائر قبائل قريش والعرب، بل وبني إسرائيل وغيرهم(1) .

وليس المقام مقام تفضيل وحسب، بل إنّ قريشاً لا يصحّ لها إيمان مالم تحبّ بني هاشم حُبّين: لله، ولقرابة الرسول!

فهل يصحّ أن تكون قريش كلّها سواء في حقّ التقدّم والاِمامة، وفيها بنو هاشم الّذين رفعهم النصّ إلى أعلى منزلة، وفيها بنو أُميّة الّذين خفضهم النصّ إلى أردى الرتب؟!

إذا كان الواقع قد آل إلى هذه الحال، فعلينا أن نشهد أنّه واقع منحرف عن النصّ، لا أن نسعى إلى تبريره.

نتيجة البحث:

ممّا تقدّم يبدو بكّل وضوح أنّنا هنا قد أخفقنا في تحقيق نظرية منسجمة متماسكة في موضوع الاِمامة، وأنّ السبب الحقيقي لهذا الاِخفاق هو متابعة الاَمر الواقع والسعي لتبريره وجعله مصدراً رئيساً في وصف النظام السياسي.

وتلك الوجوه المتناقضة كلّها من المستحيل أن تجتمع في نظرية

____________________

(1) ابن تيميّة، رأس الحسين: 200 - 201 مطبوع مع استشهاد الحسين - للطبري.

٦٤

واحدة، فتكون نظرية منسجمة وذات تصوّر واضح ومحدّد ومفهوم.

هذا كلّه، وبقدر مايثيره من شكوك حول صلاحية هذه النظرية، فإنّه يرجّح الرأي الآخر الذي يذهب إلى اعتماد النصّ الشرعي في تعيين خليفة الرسول.

إلى هذه النتيجة أيضاً خلص الدكتور أحمد محمود صبحي وهو يدرس نظرية الاِمامة، إذ قال: (أمّا من الناحية الفكرية فلم يقدّم أهل السُنّة نظرية متماسكة في السياسة تُحدّد مفاهيم البيعة والشورى وأهل الحلّ والعقد، فضلاً عن هوّة ساحقة تفصل بين النظر والتطبيق، أو بين ماهو شرعي وبين ما يجري في الواقع.

لقد ظهرت نظريات أهل السُنّة في السياسة في عصر متأخّر بعد أن استقرّ قيام الدولة الاِسلامية على الغَلَبة.. كما جاء أكثرها لمجرّد الردّ على الشيعة.. والتمس بعضها استنباط حكم شرعي من أُسلوب تولّي الخلفاء الثلاثة الاَوائل.

وإنّ الهوّة الساحقة بين تشريع الفقهاء وبين واقع الخلفاء، فضلاً عن تهافت كثير من هذه الآراء وإخفاقها في استنباط قاعدة شرعية، هو ما مكّن للرأي المعارض - القول بالنصّ - ممثّلاً في حزب الشيعة)(1) .

____________________

(1) الزيدية: 35 - 37.

٦٥

٦٦

الرجوع

إلى النصوص المباشرة في تعيين الخليفة

لقد أحسّ الكثير من المتكلّمين وأصحاب الحديث إذن بالحاجة إلى النصّ في تعيين أوّل الخلفاء على الاَقلّ، لتتّخذ الاَدوار اللاحقة له شرعيّتها من شرعيّته.

وليس غريباً أن تتعدّد أوجه الاستدلال بتعدّد المتكلّمين وتعدّد أساليبهم، وتعدّد النصوص التي يعتمدونها، وكثيراً ما يتعلّق المتكلّمون بما يشفع لمذاهبهم وإنْ كانوا يلمحون فيه علامات الوضع!

وسوف يدور الحوار هنا في اتّجاهين توزّعت عليهما النصوص المطروحة في هذا الباب..

٦٧

٦٨

الاتجاه الاَوّل: النصوص الدالّة على خلافة أبي بكر:

لقد عرض بعض المتكلّمين في تثبيت خلافة أبي بكر نصوصاً من القرآن ونصوصاً من السُنّة، نستعرض أهمّها بتركيز وإيجاز مبتدئين بنصوص السُنّة لكونها أكثر تصريحاً، ولاَنّ النصوص القرآنية اعتُمِدت في تصحيح خلافته لا في إثبات النصّ عليه.

أوّلاً - نصوص من السُنّة:

النصّ الاَوّل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي توفّي فيه: «مُروا أبا بكر فليصلّ بالناس».

فرأى بعضهم في هذا الحديث نصّاً على الخلافة وإن كان خفياً؛ لعدم الفصل بين إمامة الصلاة والاِمامة العامّة.

واستدلّوا لذلك بقول بعض الصحابة لاَبي بكر: إرتضاك رسول الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟! وأهمّ شيء في هذا القول الاَخير أن ينسب إلى عليّ بن أبي طالب(1) !!

غير أنّ جملةً من الاِثارات تحيط بهذا النصّ وبهذه الواقعة، قد تبتلع كلّ ما يُبنى عليهما من استنتاجات:

الاِثارة الاُولى: إنّ القول بعدم الفصل بين إمامة الصلاة والاِمامة العامة

____________________

(1) شرح المواقف 8: 365.

٦٩

قول غريب، وأغرب منه قول الجرجاني: (لا قائل بالفصل)(1) !

فابن حزم يقطع بأنّ هذا قياساً باطلاً، ويقول: (أمّا من أدّعى أنّه إنّما قُدِّم قياساً على تقديمه إلى الصلاة، فباطل بيقين؛ لاَنّه ليس كلّ من استحقّ الاِمامة في الصلاة يستحقّ الاِمامة في الخلافة، إذ يستحقّ الاِمامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً، ولايستحقّ الخلافة إلاّ قرشيّ، فكيف والقياس كلّه باطل)(2) ؟!

والشيخ أبو زهرة ينتقد هذا النوع من القياس ووجه الاستدلال به، فيقول: ( اتّخذ بعض الناس من هذا - النصّ - إشارة إلى إمامة أبي بكر العامّة للمسلمين، وقال قائلهم: (لقد رضيه عليه السلام لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا) ولكنّه لزوم ماليس بلازم؛ لاَنّ سياسة الدنيا غير شؤون العبادة، فلا تكون الاِشارة واضحة.. وفوق ذلك فإنّه لم يحدث في اجتماع السقيفة، الذي تنافس فيه المهاجرون والاَنصار في شأن القبيل الذي يكون منه الخليفة، أن احتجّ أحد المجتمعين بهذه الحجّة، ويظهر أنّهم لم يعقدوا تلازماً بين إمامة الصلاة وإمرة المسلمين )(3) .

والذي يُستشفّ من كلامه استبعاد صحّة نسبة هذا الكلام إلى الاِمام عليّ عليه السلام؛ فهذه النسبة لاتحتمل الصحّة، لِما ثبت في الصحاح من أنّ عليّاً عليه السلام لم يبايع إلاّ بعد ستّة أشهر(4) ، كما أنّ الصحيح المشهور عن

____________________

(1) شرح المواقف 8: 365.

(2) الفِصَل 4: 109.

(3) المذاهب الاِسلامية: 37.

(4) صحيح البخاري - باب غزوة خيبر | 3998، صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسِيَر 3: 1380 | 52، السنن الكبرى - للبيهقي - 6: 300، تاريخ الطبري 3: 202، الكامل في التاريخ 2: 331.

٧٠

عليّ عليه السلام خلاف ذلك، فجوابه كان حين بلغه احتجاج المهاجرين بأنّ قريشاً هم قوم النبيّ وأوْلى الناس به، قال عليه السلام: «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة»(1) !

الاِثارة الثانية: إنّ إمامة الصلاة وفقاً لفقه هذه المدرسة لايترتّب عليها أيّ فائدة في التفضيل والتّقديم، فالفقه هنا يُجيز مطلقاً إمامة المفضول على الفاضل، بل يُجيز إمامة الفاسق والجائر لاَهل التقوى والصلاح، « صلّوا وراء كلّ برٍّ وفاجر »!

الاِثارة الثالثة: أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة والنسائي: أنّ عبد الرحمن بن عوف قد صلّى إماماً بالمسلمين وكان فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(2) . وهذه الرواية أثبت ممّا ورد في تقديم أبي بكر - كما سيأتي - فالحجّة فيها إذن لعبد الرحمن بن عوف أظهر، فتقديمه أوْلى وفقاً لذلك القياس(3) .

الاِثارة الرابعة: في صحيح البخاري: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤمّ المهاجرين الاَوّلين وأصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد قباء، وفيهم: أبو بكر، وعمر، وأبو سلمة، وعامر بن ربيعة(4) .

وكان عمرو بن العاص أميراً على جيش ذات السلاسل، وكان يؤمّهم

____________________

(1) نهج البلاغة: 97 الخطبة 67، واُنظر: الاِمامة والسياسة - لابن قتيبة -: 11.

(2) مسند أحمد 4: 248 - 251، صحيح مسلم: الطهارة - باب المسح على الناصية والعمامة، سنن أبي داود: المسح على الخفّين | 149 و 152، سنن ابن ماجة: |1236، سنن النسائي: الطهارة | 112.

(3) أُنظر: ابن الجوزي، آفة أصحاب الحديث: 99.

(4) صحيح البخاري: كتاب الاَحكام | 6754.

٧١

في الصلاة حتّى صلّى بهم بعض صلواته وهو جنب، وفيهم: أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة(1) .

فهل يُستدلّ من هذا أنّ سالماً وعمرو بن العاص أفضل من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، وأوْلى بالخلافة منهم؟!

الاِثارة الخامسة: نتابعها في النقاط التالية:

أ - ثبت في جميع طرق هذا الحديث بروايته التامّة أنّه بعد أن افتتح أبو بكر الصلاة، خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتهادى بين رجلين - عليّ والفضل بن العبّاس - فصلّى بهم إماماً وتأخّر أبو بكر عن موضعه مؤتمّاً بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن يمينه.

أثبت ذلك تحقيقاً أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب صنّفه لهذا الغرض، فقسّمه إلى ثلاثة أبواب: فجعل الباب الاَوّل في إثبات خروج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى تلك الصلاة وتأخيره أبا بكر عن إمامتها، وخصّص الباب الثاني في بيان إجماع الفقهاء على ذلك، فذكر منهم: أبا حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأثبت في الباب الثالث وَهَن الاَخبار التي وردت بتقدّم أبي بكر في تلك الصلاة، ووصف القائلين بها بالعناد واتّباع الهوى(2) !

وقال العسقلاني: تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدلّ على أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان هو الاِمام في تلك الصلاة(3) .

____________________

(1) سيرة أبن هشام 4: 272، البداية والنهاية 4: 312.

(2) أبو الفرج ابن الجوزي، آفة أصحاب الحديث - الباب الاَوّل، والثاني، والثالث.

(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 2: 123.

٧٢

ومن هنا قال بعضهم: متى نظرنا إلى آخر الحديث احتجنا إلى أن نطلب للحديث مخرجاً من النقص والتقصير، وذلك أنّ آخره: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا وجد إفاقةً وأحسّ بقوّة خرج حتّى أتى المسجد وتقدّم فنحّى أبا بكر عن مقامه وقام في موضعه. فلو كانت إمامة أبي بكر بأمره صلى الله عليه وآله وسلم لَتَركه على إمامته وصلّى خلفه، كما صلّى خلف عبد الرحمن بن عوف(1) .

ب - ممّا يعزّز القول المتقدّم ماورد عن ابن عبّاس من أنّه قبل أن يؤذّن بلال لتلك الصلاة قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «أُدعوا عليّاً». فقالت عائشة: لو دعوت أبا بكر! وقالت حفصة: لو دعوت عمر! وقالت أُمّ الفضل: لو دعوت العبّاس! فلمّا اجتمعوا رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه فلم ير عليّاً(2) !!

ج - ويشهد لذلك كلّه ماثبت عن عليّ عليه السلام من أنّه كان يقول: «إنّ عائشة هي التي أمرت بلالاً أن يأمر أباها لِيُصَلّ بالناس؛ لاَنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليصلِّ بهم أحدهم ولم يعيّن»!! وكان عليٌّ عليه السلام يذكر هذا لاَصحابه في خلواته كثيراً، ويقول عليه السلام: «إنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل: إنّكنّ لَصُويحبات يوسف إلاّ إنكاراً لهذه الحال، وغضباً منها لاَنّها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما، وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب»(3) .

فهذه صور منسجمة ومتماسكة لاتُبقي أثراً للاستفادة من هذا النصّ أو تلك الواقعة، ويمكن أن يضاف إليها ملاحظات أُخر ذات قيمة لايُستهان بها:

____________________

(1) ابن الاِسكافي، المعيار والموازنة: 41 - 42.

(2) مسند أحمد 1: 356، وأخرجه الطبري في تاريخه 3: 196 ولم يذكر فيه قول أُمّ الفضل.

(3) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 9: 197.

٧٣

منها: الاختلاف الشديد والتعارض بين روايات هذه الواقعة، وقد صرّح بهذا ابن حجر العسقلاني، ثمّ حاول التوفيق بينها بعد جهد(1) .

ومنها: ملاحظة بعض نقّاد الحديث أنّ هذا الحديث لم يصحّ إلاّ من طريق عائشة، لذا لم تقم حجّته(2) .

ومنها: أنّ ابن عبّاس قد طعن هذا الحديث طعناً عبقريّاً لم يتنبّه له الرواة، إذ كانت عائشة تقول في روايتها لهذا الحديث: (خرج النبيّ يتهادى بين رجلين، أحدهما الفضل بن العبّاس) ولاتذكر الرجل الآخر، فلمّا عرض أحدهم حديثها على عبد الله بن عبّاس، قال له ابن عبّاس: فهل تدري مَن الرجل الذي لم تُسَمِّ عائشة؟

قال: لا.

قال ابن عبّاس: هو عليّ بن أبي طالب، ولكن عائشة لاتطيبُ نفساً له بخير(3) !

الاِثارة السادسة: أثبت جلُّ أصحاب التاريخ والسِيَر أنّ أبا بكر كان أيّام مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاَخير هذا، مأموراً بالخروج في جيش أُسامة، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يشدّد كثيراً بين الآونة والاُخرى على التعجيل في إنفاذ هذا الجيش.. فكيف ينسجم هذا مع الاَمر بتقديمه في الصلاة؟! ناهيك عن قصد الاِشارة إلى استخلافه!

____________________

(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 2: 122 - 123.

(2) المعيار والموازنة: 41.

(3) عبد الرزّاق، المصنّف 5: 429 - 430، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 2: 123.

٧٤

لقد أدرك ابن تيميّة مابين الاَمرين من منافاة وتعارض صريحين، فنفى نفياً قاطعاً كون أبي بكر ممّن سُمّي في بعثة أُسامة(1) !!

لكنّ مثل هذا النفي لاينقذ الموقف، خصوصاً وأنّ ابن تيميّة لم يقدّم برهاناً ولا شبهةً في إثبات دعواه، فيما جاء ذِكر أبي بكر في مَن سُمّي في ذلك الجيش في مصادر عديدة وهامّة، أصحابها جميعاً من القائلين بصحّة تقدّم أبي بكر(2) .

أمّا نفي ذلك، أو تحرّج بعض المؤرّخين عن ذِكره، فإنّما مرجعه إلى الاختيار الشخصي في مساندة المذهب، لاغير، حين أدركوا بيقين أنّ شيئاً ممّا استدلّوا به على إمامته سوف لايتمّ لو كان أبو بكر في مَن سُمّي في جيش أُسامة، إذ هو مأمور بمغادرة المدينة المنوّرة أيّام وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تحت إمرة أُسامة بن زيد الشابّ ابن الثمان عشرة سنة(3) !

نصوص أُخر:

لم يقف القائلون بالنصّ عند النصّ المتقدّم، بل رجعوا إلى مارأوا فيه نصّاً جليّاً على الخلافة، لكنّها في الحقيقة نصوص تثير على نفسها بنفسها شكوكاً كثيرة لاتُبقي احتمالاً لصحّتها، شكوكاً تثيرها الاَسانيد والمتون معاً.. وأهمّ هذه النصوص:

____________________

(1) ابن تيميّة، منهاج السُنّة 3: 213.

(2) الطبقات الكبرى 4: 66، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8: 124، تهذيب تاريخ دمشق 2: 395 و 3: 218، مختصر تاريخ دمشق 4: 248 رقم 237 و 5: 129 رقم 56 ترجمة أُسامة بن زيد وأيّوب بن هلال، تاريخ اليعقوبي 2: 77، تاريخ الخميس 2: 172، شرح نهج البلاغة 1: 159 و 220 و 9: 197.

(3) الطبقات الكبرى 4: 66.

٧٥

1 - إنّ أمرأةً سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: يا رسول الله، أرأيتَ إنْ جئتُ فلم أجدك؟ - كأنّها تُريد الموت - فقال: «فإن لم تجديني فأتي أبا بكر»(1) .

وهذا الحديث متّحد عند الشيخين في سلسلة واحدة، وهي: إبراهيم ابن سعد، عن أبيه، عن محمّد بن جُبير بن مطعم، عن أبيه جُبير بن مطعم: أنّ أمرأةً سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...

فلم يروه من الصحابة إلاّ جُبير بن مطعم، ولم يروه عن جُبير إلاّ ولده محمّد، ولم يروه عن محمّد غير سعد (وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف) ولم يروه عن سعد غير ولده إبراهيم! ثمّ أخذه الرواة عن إبراهيم بن سعد!

مناقشة الاِسناد: نظرة واحدة في هذا الاِسناد، بعيداً عن التقليد، تُحبط الآمال التي يمكن أن تُعقد عليه:

فجبير بن مطعم: من الطلقاء، وهو صاحب أبي بكر، تعلّم منه الاَنساب وأخبار قريش(2) ، وكانت عائشة تُسمّى له وتُذكر له قبل أن يتزوّجها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم(3) ، وذكره بعضهم في المؤلّفة قلوبهم. وكان شريفاً في قومه بني نوفل وهم حلفاء بني أُميّة في الجاهلية والاِسلام. وهو أحد الخمسة الّذين اقترحهم عمرو بن العاص على أبي موسى الاَشعري

____________________

(1) أخرجه البخاري ومسلم في باب فضائل أبي بكر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7: 14 - 15، صحيح مسلم بشرح النووي 8: 154، وانظر: تثبيت الاِمامة وترتيب الخلافة: 90 رقم 56.

(2) ترجمة جبير بن مطعم في: سير أعلام النبلاء 3: 95 رقم 18، الاِصابة 1: 226 رقم 1092.

(3) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 14: 22.

٧٦

للمشورة في التحكيم - وهم: جبير بن مطعم، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وأبو الجهم بن حذيفة، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام بن المغيرة - وكلّهم مائل عن عليّ عليه السلام، فابن الزبير وعبد الرحمن بن الحرث كانا في أصحاب الجَمل الّذين قاتلوا عليّاً في البصرة، وعبدالله بن عمرو مع أبيه عمرو بن العاص في أصحاب معاوية، وجبير وأبو الجهم من مسلمة الفتح هواهما مع بني أُميّة(1) !

محمّد بن جبير بن مطعم: وهو القائل لعبد الملك بن مروان وقد سأله: هل كنّا نحن وأنتم - يعني أُميّة ونوفل - في حلف الفضول(2) ؟ فقال له محمّد بن جُبير بن مطعم: لا والله يا أمير المؤمنين، لقد خرجنا نحن وأنتم منه، ولم تكن يدنا ويدكم إلاّ جميعاً في الجاهلية والاِسلام(3) !

وقد اعتزل محمّد عليّاً والحسن عليهما السلام في حربهما مع معاوية، فلمّا تمّ الصلح كان محمّد ممثَّلاً في وفد المدينة إلى معاوية للبيعة(4) .

وأمّا سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: فقد كان قاضياً لبعض ملوك بني أُميّة على المدينة(5) .

وأمّا ولده إبراهيم بن سعد: فهو صاحب العُود والغناء، كان يعزف

____________________

(1) راجع تراجمهم في: الاستيعاب، وأُسد الغابة، والاِصابة، ومختصر تاريخ دمشق، وسير أعلام النبلاء.

(2) حلف الفضول: حلف جمع بني هاشم وزُهرة وتَيم، اجتمعوا عند عبد الرحمن بن جدعان فتحالفوا جميعاً على دفع الظلم واسترداد الحقّ من الظالم وإعادته إلى صاحبه المظلوم.

(3) الاَغاني 17: 295.

(4) أُنظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13: 98.

(5) تاريخ بغداد 6: 83، الاَغاني 15: 329.

٧٧

ويغنّي، جاءه أحد أصحاب الحديث ليأخذ عنه، فوجده يغنّي، فتركه وانصرف، فأقسم إبراهيم ألاّ يحدّث بحديث إلاّ غنّى قبله! وعمل والياً على بيت المال ببغداد لهارون الرشيد(1) .

هذا النصّ، الذي جاء بهذه السلسلة الوحيدة، هو الذي رأى فيه ابن حزم وغيره نصّاً جليّاً على خلافة أبي بكر(2) ! غير أنّ الجرجاني والتفتازاني لم يذكراه، فيما ذكرا نصوصاً كثيرة أضعف منه سنداً، وأقلّ منه دلالة(3) !

مناقشة المتن: وخطوة أُخرى إلى الاَمام في التحقيق تضعنا أمام صورة أكثر وضوحاً حيث تُرينا كيف حلّ هذا الحديث محلّ الحديث الصحيح الوارد في عليّ عليه السلام بعين هذا المتن!

لمّا حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت صفيّة أُمّ المؤمنين: يا رسول الله، لكلّ امرأةٍ من نسائك أهل تلجأ إليهم، وإنّك أجليت أهلي، فإنْ حَدَثَ حَدَثٌ فإلى مَن؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إلى عليّ بن أبي طالب». أخرجه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح(4) .

إنّ الظروف السياسية الغالبة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحتى عصر

____________________

(1) تاريخ بغداد 6: 81 - 86، الاَعلام 1: 40.

(2) الفِصَل 4: 108. انظر أيضاً: تثبيت الاِمامة وترتيب الخلافة: 90 - 91 رقم 56، نظام الخلافة بين أهل السُنّة والشيعة: 39.

(3) أُنظر: الجرجاني، شرح المواقف 8: 364 - 365، التفتازاني، شرح المقاصد 5: 263 -367.

(4) مسند أحمد 6: 300، مجمع الزوائد 9: 113.

٧٨

تدوين جوامع الحديث، هي السبب الوحيد في ظهور الحديث الاَول ودخوله في كتب الشيخين وغيرهما دون الحديث الثاني!

2 - قالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه: «ادعي لي أبا بكر أباك، وأخاكِ، حتّى أكتب كتاباً، فإنّي أخاف أن يتمنّى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أوْلى، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر»(1) .

أسند مسلم هذا الحديث كما يلي: عبيدالله بن سعيد، عن يزيد بن هارون، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.

فقد ظهر إبراهيم بن سعد في هذا الحديث أيضاً، وهو صاحب الحديث المتقدّم، صاحب العود والغناء، صاحب هارون الرشيد.

أمّا الزهري وعروة وعائشة فهم من أشدّ الناس ميلاً وانحرافاً عن عليّ عليه السلام، وموقفهم من الخلافة ومن عليّ عليه السلام خاصّة وبني هاشم عامّة معروف جدّاً!

وأورده البخاري من طريق آخر ينتهي أيضاً إلى عائشة، فهي وحدها رأس هذا الحديث في جميع طرقه!

ولعلّ أقوى مايُثار هنا: أنّ هذه الاَحاديث قد رواها الشيخان، فكيف يمكن طعنها والشكّ فيها؟!

وما أيسر الجواب لمن تجرّد للحقيقة دون سواها، الحقيقة التي كشف

____________________

(1) صحيح البخاري - كتاب الاَحكام - باب الاستخلاف 6 | 6791، صحيح مسلم - باب فضائل أبي بكر 5 | 2387 والنصّ منه.

٧٩

عنها النقاب مؤرّخون وأئمّة لاشك في وثاقتهم وصدقهم:

- قال نفطويه في تاريخه: ( إنّ أكثر الاَحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة اختُلِقت في أيّام بني أُميّة تقرّباً إليهم في مايظنّون أنّهم يُرغِمون به أُنوف بني هاشم )!

- وقال المدائني في كتابه في الاَحداث: ( فرُوِيَتْ أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة، لا حقيقة لها.. حتّى انتقلت تلك الاَخبار والاَحاديث إلى الديّانين الّذين لايستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنّها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة مارووها ولا تديّنوا بها )!

- وقال الاِمام الباقر عليه السلام: «حتّى صار الرجل الذي يُذكر بالخير، ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً، يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض مَن قد سلفَ من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت وقعت، وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من رواها ممّن لم يُعرف بالكذب ولابقلّة ورع»(1) !

فليس بمستنكَرٍ إذن أن تنفذ هذه الاَخبار إلى الصحيحين وغيرهما.. فمن أين يأتي الاستنكار وهم مارووها إلاّ وهم يعتقدون صحّتها؟!

وهذا الحديث بالذات ممّا شهد المعتزلة بأنّ البكرية وضعته في مقابل الحديث المرويّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه: «ائتوني بدواةٍ وبياض أكتب لكم كتاباً لاتضلّوا بعده أبداً» فاختلفوا عنده، وقال قوم منهم: لقد غلبه

____________________

(1) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 11: 43 - 46.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133