خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص57%

خلافة الرسول بين الشورى والنص مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 133

خلافة الرسول بين الشورى والنص
  • البداية
  • السابق
  • 133 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46857 / تحميل: 6760
الحجم الحجم الحجم
خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ولا يكتفي ابن الأثير بهذا العرض دون التنظير الدلالي ويختار لذلك قوله تعالى : ـ

( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٤٤ ) ) (١) .

ويعقب بقوله : « إنك لم تجد ما وجدته لهذه الألفاظ من المزية الظاهرة لا لأمر يرجع إلىٰ تركيبها ، وإنه لم يعرض لها هذا الحسن إلا من حيث لاقت الأولىٰ بالثانية ، والثالثة بالرابعة وكذلك إلى آخرها » (٢) .

ويتعرض لدلالة اللفظ الواحد في تركيبين مختلفين ، فتجد اللفظ مستكرهاً في تركيب ، وهو نفسه مستحسناً في تركيب آخر ويضرب لذلك مثالاً فيقول : ـ

« وسأضرب لك مثالاً يشهد بصحة ما ذكرته ، وهو أنه قد جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن ، وبيت من الشعر ، فجاءت جزلة متينة في القرآن ، وفي الشعر ركيكة ضعيفة ، فأثّر التركيب فيها هذين الوصفين الضدين ، أما الآية فهي قوله تعالى : ـ

( فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ ) (٣) .

وأما بيت الشعر فهو قول أبي الطيب المتنبي(٤) :

تلذ له المروءة وهي تؤذي

ومن يعشق يلذ له الغرام

وهذا البيت من أبيات المعاني الشريفة إلا أن لفظة : « تؤذي » قد جاءت فيه وفي الآية من القرآن فحطت من قدر البيت لضعف تركيبها ، وحسن موقعها في تركيب الآية »(٥) .

________________

(١) سورة هود : ٤٤.

(٢) ابن الأثير ، المثل السائر : ١ / ٢١٤.

(٣) سورة الأحزاب : ٥٣.

(٤) المتنبي ، ديوان المتنبي : ٤ / ٧٥.

(٥) ابن الأثير ، المثل السائر : ١ / ٢١٤.

٤١

والذي يؤخذ على ابن الأثير في هذا المقام وغيره من مواطن إفاضاته البلاغية والنقدية والدلالية هو نسبته جميع المفاهيم وإن سبق إليها من هو قبله وادعاؤه التنبيه عليها وإن نبه غيره ، ولا يعلل منه هذا إلا بعدم قراءة جهود السابقين ، وهو بعيد على شخصيته العلمية المتمرسة ، وأما ببخس الناس أشياءهم ، وهذا ما لا يحمد عليه عالم جليل مثله ، وإلا فقد رأيت قبل وريقات أن عبد القاهر قد خطط بل وجدد لما أبداه هنا ابن الأثير.

٩ ـ وهذا حازم القرطاجني ( ت : ٦٨٤ ه‍ ) بكثرة إضاءته وتنويره في منهاج البلغاء ، نجده يؤكد الحقائق الدلالية السابقة لعصره ، وعنده أنها من المسلمات حتى أنه ليقارن بين دلالة المعاني والألفاظ ويعبر عنهما بصورة ذهنية ، وهو إنما يحقق في ذلك من أجل أن يتفرغ لإتمام اللفظ بالمعنى وإتمام المعنى باللفظ ، في تصور جملي متتابع ، فيقول : ـ

« إن المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان. فكل شيء له وجود خارج الذهن وأنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه ، فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك ، أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة في أفهام السامعين وأذهانهم »(١) .

فهو يرىٰ تشخيص اللفظ للصورة الذهنية عند إدراكها بما يحقق الدلالة المركزية التي يتعارف عليها الاجتماع اللغوي ، أو العرف التبادري العام بما يسمى الآن الدلالة الاجتماعية ، اللغوية ، المركزية ، وهي تسميات لمسمىٰ واحد.

١٠ ـ ونجد السيوطي ( ت : ٩١١ ه‍ ) وهو كثير النقل عمن سبقه ، وكتاباته لا تعبر عن جهده الشخصي في الاستنتاج بل قد تعبر عن جهده الشخصي في الاختيار ، وله في هذا الاختيار مذاهب ومذاهب ، قد ينسب بعضها إلى أهلها وقد يحشر بعضها في جملة آرائه ، وقد ينقلها نقلاً حرفياً ،

________________

(١) حازم القرطاجني ، منهاج البلغاء : ١٨.

٤٢

ولكنك تظنها له ، وهو في هذا المجال كذلك ، نجده يتنقل هنا وهناك لاستقراء المناسبة القائمة بين اللفظ ومدلوله ، في مجالات شتى فيقول : ـ

« نقل أهل أصول الفقه عن عباد بن سليمان الصيمري من المعتزلة أنه ذهب إلى أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع أن يضع وإلا لكان تخصيص الاسم المعين ترجيحاً من غير مرجح »(١) .

وهذا رأي جملة من الأصوليين ، ولما كان ما يعنيه هو رأي اللغويين فإنه يدع الأصوليين إليهم ، فيبين وجهة نظرهم في هذه الحالة ومن ثم يعقد مقارنة بين الرأيين لاستجلاء الفروق بين الأمرين :

« وأما أهل اللغة والعربية فقد كانوا يطبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني ، ولكن الفرق بين مذهبهم ومذهب عباد ، أن عباداً يراها ذاتية موجبة بخلافهم »(٢) .

وهو ينقل عمن يرىٰ « أنه يعرف مناسبة الألفاظ لمعانيها ، ويربط بين دلالة الصوت والمعنى ، فسئل ما مسمىٰ ( أدغاغ ) وهو بالفارسية الحجر ، فقال : أجد فيه يبساً شديداً أو أراه الحجر »(٣) .

وقد يكون النقل لهذا التنظير مبالغاً فيه ، ولكن المهم في الموضوع إدراك المناسبة على المستوىٰ النظري ، وأنها مفهومة ومفروغ عن إثباتها حتى أصبحت من الهضم لديهم أن يتلمسوا ذلك في لغات أخرى وما أثبتناه هنا عن السيوطي مستخرج من صحيفة واحدة فما ظنك باستقراء آرائه.

ومن الطريف أن ينتصر جاسبرسن ( ١٨٦٠ ـ ١٩٤٣ م ) إلى آراء العلماء العرب القدامىٰ في كشف الصلة بين الألفاظ ودلالتها واستنباط المناسبة بينهما إلا أنه حذر من المغالاة والاطراد في هذا الرأي إلا أنه يؤكد على جانب مهم من آرائهم فيما يتعلق بمصادر الأصوات فقد تسمى حركات

________________

(١) السيوطي ، المزهر في اللغة : ٤٧.

(٢) المصدر نفسه : ٤٧.

(٣) المصدر نفسه : ٤٧.

٤٣

الإنسان بما ينبعث عنها من أصوات ، فيطلق صوت الشيء على الشيء نفسه(١) .

ولما كان القرآن الكريم يمثل الذروة البيانية في الموروث البلاغي عند العرب ، يبتعد عن النمط الجاهلي في ألفاظه ويستقل استقلالاً تاماً في مداليله فلا أثر فيه لبيئة أو إقليمية أو زمنية ، فهو المحور الرئيس لدىٰ البحث الدلالي باعتباره نصاً عربياً ذا طابع إعجازي وكتاباً إلهياً ذا منطق عربي ، فقد توافرت فيه الدلائل والإمارات والبينات لتجلية هذا البحث والتنظير له تطبيقاً في لمح أبعاد الدلالة الفنية.

وليس في هذا التنظير إحصاء أو استقصاء ، فلذلك عمل مستقل به قيد البحث بعنوان : « دلالة الألفاظ في القرآن الكريم » ولكنه هنا على سبيل الأنموذج المتأصل لمبحث الدلالة ، كمقدمة للمبحث الأُم ، وهو جزء ضئيل مما أفاده علماؤنا العرب ، فلا تطلبن مني التفصيل في موضوع مقتضب أو الأطناب في بحث موجز.

جاء هذا التنظير كشفاً لنظرية البحث الدلالي لا غير ، تدور حول محوره ، وتتفيّأ ظلاله ، وليست استقطاباً لما أورده القرآن العظيم في هذا المجال فهو متطاول ينهض بموضوع ضخم وحده.

________________

(١) إبراهيم أنيس ، دلالة الألفاظ : ٦٨ وما بعدها.

٤٤

٤٥

٤٦

وفي ضوء ما تقدم من كشف وممارسة ، فقد لمسنا في مجموعة التركيبة اللفظية للقرآن الكريم لغة اجتماعية ذات طابع دلالي خاص ، تستمد نشاطها البنائي من بنيات بلاغية متجانسة حتى عادت لغة مسيطرة في عمقها الدلالي لدىٰ عامة الناس في الفهم الأولي ، وعند خاصة العلماء في المعاني الثانوية ، وتوافر حضورها في الذهن العربي المجرد حضوراً تكاملياً ، بعيداً عن الإبهام ، والغموض والمعميات ولا مجال للألغاز في تصرفاتها ولا أرضية للمخلّفات الجاهلية في ثروتها ، تبتعد عن الوحشي الغريب ، وتقترب من السهل الممتنع ذلك من خلال التعامل اللغوي الموجه للفرد والأمة مما فرز حالة حضارية متميزة تعنى بالجهد الفني تلبية للحاجة الإنسانية الضرورية في التقاء الفكر بالواقع واللغة بالعاطفة والشكل بالمحتوى دون تعقيد ثقافي يجر إلى تكوينات متنافرة.

وعلىٰ الرغم من توقف جملة من علمائنا الأوائل عن الخوض في حديث المداليل في القرآن الكريم ، فإن القرآن يبقىٰ ذا دلالة أصلية ، وما معاملتهم له إلا دليل تورع وتحرج عن الفتوىٰ بغير مراد الدلالة حتى وإن أدركوها إجمالاً.

كان الأصمعي ـ وهو إمام أهل اللغة ـ لا يفسر شيئاً من غريب القرآن وحكي عنه أنه سئل عن قوله سبحانه :( قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ) (١) فسكت وقال : هذا في القرآن ثم ذكر قولاً لبعض العرب في جاريةٍ لقوم أرادوا بيعها :

________________

(١) سورة يوسف : ٣٠.

٤٧

أتبيعونها ، وهي لكم شغاف ولم يزد على ذلك ، أو نحو من هذا الكلام »(١) .

ولو تجاوزنا حدود العلماء والنقاد العرب ، إلى القادة والسلف الصالح لوجدنا الأمر متميزاً في احترام النص القرآني ، ومحاطاً بهالة متألقة من التقديس ، فلقد قال الإمام علي7 مجاهراً : « وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه وبيت لا تهدم أركانه ، وعز لا تهزم أعوانه »(٢) .

وهو تعبير حي عن حماية القرآن وصيانته ، وتبيان لحجج القرآن ودلالته.

وقد كان عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) ـ وهو من الفصاحة في ذروة السنام والغارب ـ يقرأ قوله عزّ وجلّ :( وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ( ٣١) ) (٣) فلا يعرفه فيراجع نفسه ويقول : ما الأبّ ؟ ثم يقول : إن هذا تكلف منك يا ابن الخطاب »(٤) .

وكان ابن عباس; وهو ترجمان القرآن ووارث علمه يقول : لا أعرف حناناً ولا غسلين ولا الرقيم(٥) .

ولا يعني التحرج في كشف الدلالة القرآنية عدم وضوح الرؤية ، أو انعدام المراد بل على العكس أحياناً ، فقد أجمع النقاد على سلامة النظم القرآني ، وتواضعوا على إعجازه ، بل اعتبروا استعمال القرآن لأفصح الألفاظ بأحسن المواقع متضمنة أسلم المعاني وأعلى الوجوه دلالة ، من مخائل الإعجاز القرآن ، حتى أوضح الخطابي ( ت : ٣٨٨ ه‍ ) هذا العلم بقوله : « واعلم أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف متضمناً أصح المعاني »(٦) .

________________

(١) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : ٣٤.

(٢) ظ : ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة : ٨ / ٢٧٣.

(٣) سورة عبس : ٣١.

(٤) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : ٣٦.

(٥) المصدر نفسه : ٣٦.

(٦) المصدر نفسه : ٢٧.

٤٨

وقد اعتبر الخطابي نفسه اختيار اللفظ المناسب للموقع المناسب عمود البلاغة القرآنية فقال : الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه : أما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام ، وأما ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة وذلك أن في الكلام ألفاظاً متقاربة في المعاني ، يحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب كالعلم والمعرفة ، والحمد والشكر ، وبلىٰ ونعم ، وذلك وذاك ، ومن وعن ، ونحوهما من الأسماء والأفعال والحروف والصفات مما سنذكر تفصيله فيما بعد ، والأمر فيها وفي ترتيبها عند علماء أهل اللغة بخلاف ذلك ، لأن كل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها ، وإن كانا قد يشركان في بعضهما »(١) .

واستناداً إلى هذا المفهوم الدقيق في التمييز بين دلالة لفظ ولفظ ، وفروق قول عن قول ، فإننا نشير هنا على سبيل الأنموذج التمييز في القرآن إلى ثلاث خصائص مهمة في الدلالة تتجلىٰ في ثلاث ظواهر بيّنة :

الظاهرة الأولى :

إن اختيار القرآن للألفاظ في دلالتها إنما جاء متناسقاً مع مقتضيات الحال وطبيعة المناسبة وقد يكون ذلك التناسق صادراً لجهات متعددة تؤخذ بعين الاعتبار لدىٰ تجديد القرآن لمراد الاستعمال في الحالات الوصفية والتشبيهية والتمثيلية والتقديرية مما نستطيع التنظير له بما يلي :

أ ـ ما أراد به القرآن صيغة معينة لحالة معينة تستوعب غيرها ولا يستوعبها غيرها ، فإنه يعمد إلى اختيار اللفظ الدقيق لهذه الغاية فيتبناه دون سواه من الألفاظ المقاربة أو الموافقة أو الدارجة كما في قوله تعالى :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ( ٣٩) ) (٢) .

________________

(١) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : ٢٩.

(٢) سورة النور : ٣٩.

٤٩

وقد يسد غيرها في معنىً ساذج  متعارف لا معنى دلالي متميز ، فالله تعالىٰ أراد الظمآن بكل ما تحمله الكلمة في تضاعيفها الأولية والثانوية من دلالات خاصة بها فلا تسد مسدها ـ مثلاً ـ كلمة الرائي ، لأنّ الرائي قد يرىٰ السراب من بعيد وهو ليس بحاجة إليه ، فلا يتكلف إلا الخداع البصري أما الظمآن فإنه يكد ويكدح ويناضل من أجل الوصول إلى الماء حتى إذا وصل إليه وإذا بما حسبه ماءً قد وجده سراباً ، فكانت الحسرة أعظم والحاجة أشد ولم يبرد غليلاً ، ولم يدرك أملاً.

قال أبو هلال العسكري ( ت : ٣٩٥ تقريباً ) : « فلو قال يحسبه الرائي ماءً لم يقع قوله ( الظمآن ) لأن الظمآن أشد فاقة إليه وأعظم حرصاً عليه(١) .

ب ـ وما أراد به القرآن الاتساع المترامي ، فإنه يختار له الألفاظ الدالة على هذا الاتساع بكل شمولية واستيعاب فحينما نتدارس بإجلال قوله تعالى :

( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( ٦) ) (٢) .

فسنجد عمومية الألفاظ وشموليتها مما يتناسب مع عمومية المعاني وتطاولها ، ويتواكب مع استقرار كل الجزئيات وعدم تناهيها ، وذلك من أعاجيب القرآن وطرائفه ، وهذه الألفاظ في هذه الآية هي : دابة ، الأرض ، الله ، رزقها ، مستقرها ، مستودعها ، كل ، كتاب.

هذه الألفاظ في تراصفها وتقاطرها تفيد عموماً لا خصوص معه وتتجه نحو الإطلاق فلا تقييد ، كما سنرىٰ في هذا العرض : ـ

الدابة تستوعب مجموعة عامة مركبة من خلق الله مما دبَّ وهب ودرج من الانس والجن والطير والأنعام والوحوش والهوام وكائنات لا نعرفها ، ومخلوقات لا نتصورها ، أرأيت عمومية وشمولية كهذا في دلالة لفظ واحد عليه مع عدم إمكان حصر ملايين النسمات في ضوئه.

والأرض هذه الكرة الفسيحة بجبالها ووهادها ومفاوزها وأشجارها

________________

(١) العسكري ، كتاب الصناعتين : ٢٤٦.

(٢) سورة هود : ٦.

٥٠

وأنهارها وآبارها ، داخلها وخارجها ، ظاهرها وباطنها كلها عوالم مترامية الأطراف واسمها الأرض ، هذا اللفظ البسيط الساذج المتداول ، ولكنها بقاع العالم وأصقاع الدنيا ومحيطات الكون.

ولفظ الجلالة في إشارته لذاته القدسية التي لا تحد بزمان ولا مكان ، ولا تنظر بأين أو كم أو كيف ، ولا تمثل بجسم أو كائن أو تشخيص يتناهى لله كل متناهٍ ، ولا يدركه نظر أو بعد ولا يسمو إليه فكر أو عقل ، دال على ذاته بذاته ، ومتعالٍ عن سائر مخلوقاته.

والرزق بمختلف أصنافه ، وعلى كثرة سبله وطرقه عام لا خاص ، ومطلق لا مقيد في الملبوس والمأكول والمشروب والمدّخر والمقتنى ، بل في الأولاد إن كانت من الرزق ، والصحة أعظم هبة ومنحة يهبها الله تعالى لعباده فهي من الرزق الحسن العظيم ولا نريد تحديد اللفظ وتصنيفه ، أو توسيعه وتحميله ما لا يتسع إليه ، ولكن جميع هذا الرزق على فضفاضيته في حرز متكامل ، ونظام دقيق يشمل هذه الكائنات المتعددة بحسب احتياجاتها المتكاثرة ، وشؤونها المتنوعة غير المحصورة إلى كل هذه الخلائق يصل هذا الرزق وهو مكفول لكل نسمة حسب حاجتها على ما توجبه الحكمة العليا وتقتضيه مصلحة العباد في تفاوت أو تقدير ، وسعة إملاء من أجل تنظيم مسيرة العالم في استدرار المعايش وتحقيق معنى الاستخلاف على الأرض.

والمستقر بالنسبة لهذا الكائنات قد يراد به موضع القرار أو حيث تأوي إليه من الأرض أو ما يستقر عليه عملها واللفظ عام ولا مانع من إرادة هذه المعاني كافة ، بل ومفاهيمها عامة.

والمستودع بالنسبة للكائنات ذاتها ، قد يراد به الموضع الذي أودعها الله فيه وهو أصلاب الآباء وأرحام الأمهات أو هو مستودعها الأخير حين تموت ، فتموت لتبعث أو ما يؤول أليه مصيرها نتيجة عملها ، واللفظ عام ، ولا مانع من استيعابه هذه المعاني(١) .

________________

(١) ظ : في كلمتي : مستقر ومستودع ، الطبرسي ، مجمع البيان : ٣ / ١٤٤.

٥١

وكل لفظ يدل على العموم بل هو من أدوات العموم ليتساوىٰ المعنى العام مع اللفظ العام.

والكاتب جامع مانع في إحصائية استقصائية لأعمال الخلائق وتصريف شؤونها ، وهو اللوح المحفوظ الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

إن آية واحدة من كتاب الله ترتفع بنا إلى المستوىٰ الدلالي المتطور في جملة ألفاظها ، فكيف بسورة منه يا ترىٰ وأين موقعنا من آياته وسوره كافة.

ح‍ ـ وما أراد به الإيحاء الخاص الكامن وراء دلالة اللفظ فإنه يختار بذاته لتلك الدلالة بذلك الإيحاء ولو دققت النظر في استعمال لفظ « زرتم » في سورة التكاثر( حَتَّىٰ زُرْتُمُ المَقَابِرَ ( ٢) ) (١) لتبين لنا أن القرآن لم يستعمل الزيارة إلا في هذه الآية وإنه استعمل مادتها في آيات أُخر ، وهذا الاستعمال يوحي بدلالة حسبة قد لا ينبئ عنها ظاهر اللفظ ، ومركزي المعنى بقدر ما يصوره إيحائي التعبير الدقيق ، ويبدو أن أعرابياً مرهف الحس قد التفت إلى هذا الملحظ الشاخص فقال حينما سمع الآية على فطرته الصحراوية ، وبوحي من بداوته الصافية قال : ـ

« بعث القوم للقيامة ورب الكعبة ، فإن الزائر منصرف لا مقيم »(٢) ، لقد وضع هذا الإعرابي يده على حسٍّ بلاغي عميق ، أدرك فلسفة تخير هذا اللفظ دون سواه ، بعيداً عن الفهم التقليدي والوعي القاصر في ترددات الناس بصورة الزيارة وكيفيتها ومؤداها لأنه في استعمال الزيارة عدة احتمالات فقد يأتي بمعنىٰ الموت وقد يعبر عن الموت بالزيارة ، وقد يراد غير هذا وذاك ، في إيحاء باهر جديد يضع القرآن له أصلاً مبتكراً في عالمي النقد الأدبي والبيان العربي.

تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن في هذا المقام : ـ

________________

(١) سورة التكاثر : ٢.

(٢) أبو حيان ، البحر المحيط : ٨ / ٥٠٧.

٥٢

« وفي التعبير عن الموت بالزيارة ملحظ بياني بالغ القوة فاستعمال الزيارة بهذا المعنى صريح الإيحاء بأن الإقامة في القبر ليست إقامة دائمة ، وإنما نحن فيها زائرون ، وسوف تنتهي الزيارة حتماً إلى بعث وحساب وجزاء ، وهذا الإيحاء ينفرد به لفظ « زرتم » دون غيره ، فلا يمكن أن يؤديه لفظ آخر كأن قال : « قبرتم أو سكنتم المقابر ، أو انتهيتم إليها ، أو أقمتم بها إلى غير ذلك من ألفاظ تشترك كلها في الدلالة على ضجعة القبر ، ولكن يعوزها سر التعبير الدال على أنها زيارة ، أي إقامة موقتة ، يعقبها بعث ونشور »(١) .

الظاهرة الثانية :

إن هذا الاختيار للألفاظ ذاتها ، بل الألفاظ منضمة إلى المعاني ، بحيث لا يتحقق المعنى المراد إلا بهذا اللفظ دون سواه ، بغض النظر عن الاعتبارات البديعية الأخرى فلا الألفاظ ذات أولوية على حساب المعاني ولا المعاني ذات أولوية على حساب الألفاظ.

القرآن الكريم فضلاً عن كونه نصاً إعجازياً لا طاقة لنا على إدراك خصائصه الفنية على الوجه الأكمل ، فإنه نص أدبي باهر تتوافر فيه سمات أرقى نص عربي وصل إلينا دون ريب. ومن هنا فإننا نختلف مع جملة من العلماء الذين يرون عناية القرآن بالألفاظ ناجمة عن العناية بأصناف البديع ، وفنون المحسنات اللفظية المتوافرة في القرآن ، ومع توافر هذه الفنون في القرآن فإنها غير مقصودة لذاتها ، وإنما جاءت بتناسقها ضرورة بيانية يقتضيها جمال القول ، وهذه الضرورة نفسها لم تكن متكلفة ولا ذات نزعة مفروضة كما هي الحال في الأسجاع المتناثره هنا وهناك في النثر العربي القديم ، فإنها أريدت في النصوص الأدبية هكذا ، سواء أحققت الغرض المعنوي أم لم تحققه إطلاقاً ، لأن المهمة في مثل هذه اللوحات مهمة لفظية فحسب حتى أنها لتثقل النص بمحسنات يزداد معها النص انصرافاً عن الديباجة والذائقة الفنية وتزداد معه النفس تبعاً لهذا الانصراف عزوفاً أو نفوراً.

________________

(١) بنت الشاطئ التفسير البياني للقرآن : ١ / ٢٠٦.

٥٣

أما بالنسبة للقرآن العظيم فإن هذه الظاهرة مدفوعة أصلاً إذا ليس في القرآن مهمة لفظية على وجه ، ومهمة معنوية على وجه آخر بل هما مقترنان معاً في أداء المراد من كلامه تعالى دون النظر إلى جزء على حساب جزء غيره ، فالتصور فيه دفعي جملي مرة واحدة دون تردد أو إمهال ، وحسبك ما تشاهده في جميع أصناف المحسنات البديعية الواردة في القرآن ، وفي طليعتها السجع وانتظام الفواصل وتوافقها دليلاً على صحة هذا الرأي ، وطبيعي أن نهاية الفقرات والسجع في النثر العربي ، تقابله الفواصل في القرآن الكريم وهي تسمية اختيارها جهابذة الفن ، وعلماء الصناعة تكريماً للقرآن عن مقايسته بسواه.

إذن هذه الفواصل على تقاطرها وتواردها في النصوص القرآنية وقد يرتفع بعضها إلى سور متكاملة لا سيّما القصار كالإخلاص ، والقدر ، والناس ، والجحد ، والعصر ، والكوثر الخ.

وهناك سور متوسطة الطول والقصر وقد تناوبها السجع من أولها إلى آخرها كما هي الحال ـ على سبيل الأنموذج في سورة الأعلى.

إن هذه السورة ولنتبرك بذكرها كاملةً : ـ

« بسم الله الرحمن الرحيم »

( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ( ١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ( ٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ( ٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ المَرْعَىٰ ( ٤) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ ( ٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ ( ٦) إِلا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ( ٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ ( ٨) فَذَكِّرْ إِن نَفَعَتِ الذِّكْرَىٰ ( ٩) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ ( ١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى ( ١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَىٰ ( ١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَىٰ ( ١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ( ١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ ( ١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ( ١٦) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ( ١٧) إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَىٰ ( ١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ( ١٩) ) ».

مما وقف عنده العرب موقف المتحير المتعجب بوقت واحد فهي على وتيرة واحدة في فاصلة متساوية تختتم بالألف ، ومن أولها إلى نهايتها ، ولو شئت أن تغير أية كلمة من هذه الفواصل ، وتضع ما يلائمها بدلها في سبيل تغيير صيغة الفاصلة لما استطعت أن تحقق الدلالة اللفظية

٥٤

التي حققها القرآن الكريم ، وما يقال في جميع السور والآيات الأخرىٰ ، وبالنسبة للصنوف البديعية كافة.

وهنا ـ ونحن في هذا السياق ـ أود أن أشير إلى صيغة تنسجم مع هذا العرف الذي نتحدث عنه بإيجاز ، هذه الصّيغة هي كلمة « المقابر » في قوله تعالى :( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ( ١) حَتَّىٰ زُرْتُمُ المَقَابِرَ ( ٢) ) (١) لا أدعي أن اتفاق الفاصلة عند الراء في كلمتي التكاثر والمقابر ، تفرضه طبيعة النسق القرآني في التعبير المسجوع كما يتخيل ، بدليل أنه ينتقل منه فوراً إلى فاصلة تقف عند النون دون التفات إلى الصيغة الأولى الساربة في طريقها فيقول :( كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ١) ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ٢) ) (٢) ، فإذا جاز له الانتقال بها جاز له الانتقال فيما قبلها مباشرة كما هو ظاهر ، بل إن هذا اللفظ « المقابر » يفرض نفسه فرضاً قاطعاً ، وذلك أن هذا الإنسان المتناسي الطاغي المتكاثر بأمواله ولذاته ، وشهواته ، ومدخراته ، ونسائه ، وأولاده ، ودوره ، وقصوره وخدمه وحشمه ، وإداراته وشؤونه ، وهذا كله تكاثر قد يصحبه التفاخر ، والتنابز ، والتنافر ، إن هذا مما يناسبه « المقابر » وهي جمع مقبرة ، والمقبرة الواحدة لا سيّما المترامية الأطراف مرعبة هائلة. فإذا ضممنا مقبرة أخرى ومقبرة مثلها ازددنا إيحاشاً ورعباً وفزعاً ، فإذا أصبحت مقابر عديدة ، تضاعف الرعب والرهب ، إذن هذا التكاثر الشهواني في كل شيء ، يناسبه ويوافقه الجمع المليوني للقبور ، لتصبح مقابرَ لا قبوراً ولو قيل في غير القرآن بمساواة القبور للمقابر في الدلالة لما سد هذا الشاغر الدلالي شيء آخر من الألفاظ.

وتعقب الدكتورة بنت الشاطئ على هذا الإدراك فتقول : « وقد تجد الصيغة البلاغية في استعمال المقابر هنا مجرد ملائمة صوتية للتكاثر ، وقد يحس أهل هذه الصنعة ونحن معهم فيها ، نسق الإيقاع ، وانسجام النغم لكن أهذا كل ما في استعمال للفظ « المقابر » في آية التكاثر ؟.

الذي أراه أن وراء هذا الملحظ البلاغي اللفظي ملحظاً بيانياً يتصل

________________

(١) سورة التكاثر : ١ ـ ٢.

(٢) سورة التكاثر : ٣ ـ ٤.

٥٥

بالمعنى : فالمقابر جمع مقبرة ، وهي مجتمع القبور واستعمالها هنا ملائم معنوياً لهذا التكاثر ، دال على مصير ما يتكالب عليه المتكاثرون من متاع دنيوي فإن هناك حيث مجتمع القبور ومحتشد الرمم ومساكن الموتى على اختلاف أعمارهم ، وطبقاتهم ، ودرجاتهم ، وأزمنتهم ، وهذه الدلالة من السعة والعموم والشمول لا يمكن أن يقوم لفظ « القبور » بما هي جمع لقبر ، فبقدر ما بين قبر ومقبرة من تفاوت يتجلى إيثار البيان القرآني « المقابر » على « القبور » حين يتحدث عن غاية ما يتكاثر به المتكاثرون ، وحين بلغت إلى مصيره هذه الحشود من ناس يلهيهم تكاثرهم عن الاعتبار بتلكم المقابر التي هي مجتمع الموتى ومساكن الراحلين الفانين »(١) .

هذا العرض يكشف أن دلالة اللفظ لا تتحكم بها الفاصلة كما تحكمت بها المعاني الإضافية ، واقتضاها البعد البياني في استيعاب المراد من وجوهه المختلفة ، وجوانبه كافة ، وذلك من دلائل إعجاز القرآن ، في جمعه بين الصيغة الجمالية للشكل ، والدلالة الإيحائية في المعنى.

الظاهرة الثالثة :

إن اختيار هذه الألفاظ إنما اتّجه بالخطاب إلى سكان الأرض الذين يهمهم أمرها ليتعرفوا على ما فيها عقلياً ، ويتطلعوا إلى كشف أسرارها علمياً ، بحسب الذائقة الفطرية الخالصة التي تبدو بأدنى تأمل وتلبث وترصد ، وهنا نضع أيدينا على جملة من التعابير القرآنية بألفاظ لها دلالتها الهامشية إن لم نقل المركزية في كثير من الأبعاد النقدية والبلاغية زائداً العلمية :

أ ـ ففي قوله تعالى : ـ( أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) (٢) .

يتجلى موقع « أطراف » « ننقصها » في التعبير ، فالأطراف توحي بنظرة شمولية لشكل الأرض ، و « ننقصها » توحي بفكرة آلية عن طبيعة

________________

(١) بنت الشاطئ ، التفسير البياني : ١ / ٢٠٧ وما بعدها.

(٢) سورة الأنبياء : ٤٤.

٥٦

انتقاص الأطراف وهاتان حقيقتان علميتان بنظرية دحو القطبين وحركتهما يوضحهما قوله تعالى : ـ

( لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( ٤٠) ) (١) .

ب ـ وفي قوله تعالى :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ( ٣٩) ) (٢) .

« ففي هذه الصورة الأخاذة يتجلى سطح الصحراء العربية المنبسطة ، والخداع الوهمي للسراب ، فنحن هنا أمام عناصر مجاز عربي النوع ، فأرض الصحراء وسماؤها قد طبعا عليه انعكاسهما حين نستخدم خداع السراب المغم ، لنؤكد بما تلقيه من خلال تبدد الوهم الهائل ، لدى إنسان مخدوع ، ينكشف في نهاية حياته غضب الله الشديد في موضوع السراب الكاذب سراب الحياة »(٣) ، فلفظ « سراب » استقطب مركزياً دلالته من خلال البيئة العربية المشاهدة المحسوسة ، وكما يتلاشىٰ هذا السراب فجأة ، وينطفي تلألؤه بغتة ، فكذلك ما أمله هؤلاء الكافرون بأعمالهم الخادعة ، متماثلة معه في خداع البصر وانطماس الأثر ، فلو عطفنا دلالة « الظمآن » الإيحائية ، لوجدنا الظمآن في تطلبه للماء ، ووصوله إلى السراب يقضي حسرة أشد ، وفاقة أعظم ، وحاجة متواصلة ، ولكنه يصطدم بالحقيقة الكبرىٰ وهي الله تعالىٰ ، فيوفّيه حسابه ، دون معادلات معروفة ، فلا المراد حقق ، ولا الحياة استبقى ولا الثواب استقصى ، وإنما هي حسرات في حسرات.

ح‍ ـ ولو تتبعنا مآل هؤلاء الكافرين في خيبة آمالهم وخسران أعمالهم ، لوجدنا الصورة المتقابلة مع تلك الصورة بقوله تعالى : ـ

( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ

________________

(١) سورة يس : ١٤.

(٢) سورة النور : ٣٩.

(٣) مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : ٣٥٥.

٥٧

بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ( ٤٠) ) (١) ، ليتضح في التصوير القرآني عظم الدلالة من خلال هيأتين متقابلتين ونموذجين مختلفين ، فبعد أن أوضحت الصورة الفنية الأولىٰ الشعاع الكاذب في السراب والالتماع الخلب في البيداء ، عقبت ذلك بنقيض الشعاع والالتماع وبعد تصوير الخيبة من الظفر بالسناء ، عقبته بالظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض والفوقيات المتراكبة طبقاً عن طبق فهي ظلمات في بحر لا قعر له ، عميق غزير المياه ، تحوطه الأمواج المتدافعة ، والسحب الثقال ، والظلمات المتعاقبة في ثلاثة مظاهر من ظلام الليل ، وظلام الغمام ، وظلام البحر حتى ليخطؤه تمييز يده ، فلا يرىٰ ذلك إلا بعد عسر وحرج ، أو لا يرىٰ ذلك أصلاً ، وأنىٰ له الرؤية ، وقد انغمس في ظلمات الكفر وارتطم بمتاهات الضلال ، فانعدمت الرؤية وانطمست البصيرة ، فهو في شبهات لا نجاة معها ، ومن لم يقدر له الخلاص من الله فلا خلاص له »(٢) .

يقول الأستاذ مالك بن نبي عن هذه الآية : ـ

« فهذا المجاز يترجم على عكس سابقه عن صورة لا علاقة لها بالوسط الجغرافي للقرآن ، بل لا علاقة لها بالمستوىٰ العقلي أو المعارف البحرية في العصر الجاهلي وإنما هي في مجموعها منتزعة من بعض البلدان الشمالية التي يلفها الضباب ، ولا يمكن للمرء أن يتصورها إلا في النواحي كثيفة الضباب في الدنيا الجديدة ، فلو افترضنا أن النبي رأىٰ في شبابه منظر البحر فلن يعدو الأمر شواطئ البحر الأحمر أو الأبيض ومع تسليمنا بهذا الفرض فلسنا ندري كيف كان يمكن أن يرىٰ الصورة المظلمة التي صورتها الآية المذكورة ؟ وفي الآية فضلاً عن الوصف الخارجي الذي يعرض المجاز المذكور سطر خاص بل سطران : أولهما : الإشارة الشفافة إلى تراكب الأمواج ، والثاني : هو الإشارة إلى الظلمات المتكاتفة في أعماق البحار ، وهاتان العبارتان تستلزمان معرفة علمية بالظواهر الخاصة بقاع

________________

(١) سورة النور : ٤٠.

(٢) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : ٢٨١ ـ ٢٨٢.

٥٨

البحر ، وهي معرفة لم تُعرف للبشرية إلا بعد معرفة جغرافية المحيطات ، ودراسة البصريات الطبيعية ، وغني عن البيان أن نقول : إن العصر القرآني كان يجهل كلية تراكب الأمواج ، وظاهرة امتصاص الضوء واختفائه في عمق معين في الماء ، وعلى ذلك فما كان لنا أن ننسب هذا المجاز إلى عبقرية صنعتها الصحراء ولا إلى ذات إنسانية صاغتها بيئة قاريّة »(١) .

هذه الظواهر الثلاث في دلالة الألفاظ ، توصلنا إلى المنهج الدلالي الأم في استكناه أصول الدلالة وهذا المنهج الأصل هو القرآن الكريم بحق.

ومن هذا المنطلق فقد وجدنا الخطابي ( ت : ٣٨٨ ه‍ ) بالذات عالماً ودلالياً فيما أورده من افتراضات ، وما أثبته من تطبيقات بالنسبة لجملة من ألفاظ القرآن الكريم بتقرير أنها لم تقع ـ ما زعموا توهماً ـ في أحسن وجوه البيان وأفصحها ، لمخالفتها لوضعي الجودة والموقع المناسب عند أصحاب اللغة ، وذلك كدعوىٰ افتراضية ، يتعقبها بالرد والكشف والدفاع.

والألفاظ هي كما يلي نذكرها ونعقبها في آياتها في موارد اختيارها من قبل الخطابي نفسه ليرد عليها فيما بعد : ـ

١ ـ فأكله ، من قوله تعالىٰ :( فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) يوسف / ١٧.

٢ ـ كيل ، من قوله تعالىٰ :( ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) يوسف / ٦٥.

٣ ـ امشوا ، من قوله تعالىٰ :( وَانطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا ( ٦) ) ، ص / ٦.

٤ ـ هلك ، من قوله تعالىٰ :( هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ( ٢٩) ) ، الحاقة / ٢٩.

٥ ـ لحب ، من قوله تعالىٰ :( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( ٨) ) ، العاديات / ٨.

٦ ـ فاعلون ، من قوله تعالىٰ :( وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ( ٤) ) ، المؤمنون / ٤.

٧ ـ سيجعل ، من قوله تعالىٰ :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ

________________

(١) مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : ٣٥٦.

٥٩

لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا ( ٩٦) ) مريم / ٩٦.

٨ ـ ردف ، من قوله تعالىٰ :( قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ( ٧٢) ) النمل / ٧٢.

أ ـ( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلحَادٍ بِظُلْمٍ ) الحج / ٢٥.

ب ـ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ ) الأحقاف / ٣٣.

هذه النماذج التي أبانها الخطابي تعقب عادة بالحجج المدعاة أولاً فيوردها ، ولكنه يفندها واحدة كما سنرى(١) .

فقد ذهبوا في فعل السباع خصوصاً إلى الافتراس ، وأما الأكل فهو عام لا يختص به نوع من الحيوان.

وقالوا ما اليسير والعسير من الكيل والاكتيال وما وجه اختصاصه به ؟

وقد زعموا بأن المشي في هذا ليس بأبلغ الكلام ، ولو قيل بدل ذلك أن امضوا وانطلقوا لما كان أبلغ وأحسن وأدعوا إنما يستعمل لفظ الهلاك ، في الأعيان والأشخاص كقوله :

هلك زيد ، فأما الأمور التي هي معان وليست بأعيان ولا أشخاص فلا يكادون يستعملونه فيها ...

وأنت لا تسمع فصيحاً يقول : أنا لحب زيد شديد وإنما وجه الكلام وصحته أن يقال : أنا شديد الحب لزيدٍ وللمال.

ولا يقول أحد من الناس فعل زيد الزكاة ، وإنما يقال زكّى الرجل ماله

ومن الذي يقول : جعلت لفلان وداً بمعنى أحببته ؟ وإنما يقول : وددته وأحببته.

________________

(١) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : ٣٨ وما بعدها.

٦٠

بالشام، وعبد الله بن الزبير وهو بمكّة، انطلق جماعة إلى الصحابي أبي برزة الاَسلمي رضي الله عنه فقالوا له: ياأبا برزة، ألا ترى ماوقع فيه الناس؟! فقال: إنّي أحتسب عند الله أنّي أصبحتُ ساخطاً على أحياء قريش، إنّ ذاك الذي بالشام والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا، وإنّ الذي بمكّة والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا(١) !!

٢ - وأهمّ من هذا أنّه ثمّة نصوص صحيحة توجب تضييق دائرة النصّ المتقدّم..

لقد حذّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الاغترار بالنسب القرشي وحسب، وأنذر بأنّ ذلك سيؤدّي إلى هلاك الاُمّة وتشتّت أمرها!

ففي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «هَلَكَةُ أُمّتي على يَدَي غلمةٍ من قريش»(٢) .

كيف إذن سيتمّ التوفيق بين النصّين: «الاَئمّة من قريش» و «هَلَكة أُمّتي على يدي غلمة من قريش»؟!

أليس لقائل أن يقول: ماهو ذنب الاُمّة؟! إنّها التزمت نصّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

____________________

(١) صحيح البخاري - الفتن - باب ٢٠ | ٦٦٩٥.

(٢) صحيح البخاري - الفتن - باب ٣ | ٦٦٤٩، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ١٣: ٧ -٨. ومما يثير الدهشة أن تجد هذه الاَحاديث وأكثر منها في آل أبي سفيان وآل مروان، تجدها في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير تحت عنوان (إخباره صلى الله عليه وآله وسلّم لما وقع من الفتن من بني هاشم بعد موته)!! ٦: ٢٥٥ - ط. دار التراث العربي - سنة ١٩٩٢ م، و ٦: ٢٢٧ - ط. مكتبة المعارف - سنة ١٩٨٨ م. علماً أنّه وضعها وفق ترتيبه التاريخي في أحداث العهد الاَموي!! ولعل المتهم في هذا ناسخ أمويّ الهوى غاضه ذكر بني أُمية في هذا العنوان فقلبه على بني هاشم!

٦١

«الاَئمّة من قريش» فقادها هذا النصّ إلى هذا المصير حين ذُبح خيار الاُمّة بسيوف قريش أنفسهم!

أليس النصّ هو المسؤول؟!

حاشا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يضع أُمّته على حافة هاوية، وهو الذي كان قد استنقذها من الهاوية.

إنّهم أرادوا أن يحفظوا الرسول بحفظ جميع الصحابة وإضفاء الشرعية حتّى على المواقف المتناقضة تجاه القضيّة الواحدة، فوقعوا في مافرّوا منه!

بل وقعوا في ماهو أكبر منه حين صار النصّ النبويّ هو المسؤول عمّا آل إليه أمر الاُمّة من فتن، ثمّ هَلَكة!

فهؤلاء الغلمة إنّما يكون هلاك الاُمّة على أيديهم عندما يملكون أمر الاُمّة، لكنّ الاُمّة إنْ رضيت بهم فإنّما كان اتّباعاً للنصّ الاَوّل «الاَئمّة من قريش» فهل يكون هذا إلاّ إغراء؟!

حاشا لرسول الله أن يكون ذلك منه، وإنّما هو من علامات التهافت في هذه النظرية التي أغضت عن كلّ ماورد في السُنّة ممّا يفيد تخصيص ماورد في حقّ قريش.

نوعان من التخصيص:

ورد في السُنّة نوعان من التخصيص في أمر قريش؛ تخصيص سلب، وتخصيص إيجاب.

٦٢

١ - تخصيص السلب: ثمّة نصوص صريحة تستثني قوماً من قريش، فتبعدهم عن دائرة التكريم، ناهيك عن التقديم: قال ابن حجر الهيتمي: في الحديث المرويّ بسندٍ حَسَن أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «شرّ قبائل العرب: بنو أُميّة وبنو حنيفة وثقيف».

قال: وفي الحديث الصحيح - قال الحاكم: على شرط الشيخين - عن أبي برزة رضي الله عنه أنّه قال: ( كان أبغض الاَحياء - أو الناس - إلى رسول الله بنو أُميّة )(١) .

والذي ورد في ذمّ آل الحَكَم - أبو مروان - خاصّة كثير ومشهور.

فهل يصحّ أن تُسند الاِمامة إلى شرّ قبائل العرب، وأبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!

ومن دقائق النصّ الاَوّل إقرانه بني أُميّة ببني حنيفة، وبنو حنيفة هم قوم مسيلمة الكذّاب!!

فإذا أصبح هؤلاء هم الحكّام في الواقع فعلينا أن نشهد أنّ هذا الواقع منحرف عن النصّ، بدلاً من أن نسعى لتبريره وإخضاعه للنصّ.

٢ - تخصيص الاِيجاب: الحديث الذي ميّز قريشاً بالاصطفاء على سائر القبائل لم يقف عند دائرة قريش الكبرى، بل خصّ منها طائفةً بعينها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ الله اصطفى كنانة من وُلد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»(٢) .

____________________

(١) تطهير الجنان واللسان: ٣٠.

(٢) صحيح مسلم - كتاب الفضائل - | ١.

٦٣

وهذا تقديم لبني هاشم على سائر قريش..

ساق ابن تيميّة هذا الحديث الصحيح، وأضاف قائلاً: وفي السنن أنّه شكا إليه العبّاسُ أنّ بعض قريش يحقّرونَهم! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «والذي نفسي بيده لايدخلون الجنّة حتّى يحبّوكم لله ولقرابتي» وإذا كانوا أفضل الخلائق، فلا ريب أنّ أعمالهم أفضل الاَعمال.. ففاضلهم أفضل من كلّ فاضل من سائر قبائل قريش والعرب، بل وبني إسرائيل وغيرهم(١) .

وليس المقام مقام تفضيل وحسب، بل إنّ قريشاً لا يصحّ لها إيمان مالم تحبّ بني هاشم حُبّين: لله، ولقرابة الرسول!

فهل يصحّ أن تكون قريش كلّها سواء في حقّ التقدّم والاِمامة، وفيها بنو هاشم الّذين رفعهم النصّ إلى أعلى منزلة، وفيها بنو أُميّة الّذين خفضهم النصّ إلى أردى الرتب؟!

إذا كان الواقع قد آل إلى هذه الحال، فعلينا أن نشهد أنّه واقع منحرف عن النصّ، لا أن نسعى إلى تبريره.

نتيجة البحث:

ممّا تقدّم يبدو بكّل وضوح أنّنا هنا قد أخفقنا في تحقيق نظرية منسجمة متماسكة في موضوع الاِمامة، وأنّ السبب الحقيقي لهذا الاِخفاق هو متابعة الاَمر الواقع والسعي لتبريره وجعله مصدراً رئيساً في وصف النظام السياسي.

وتلك الوجوه المتناقضة كلّها من المستحيل أن تجتمع في نظرية

____________________

(١) ابن تيميّة، رأس الحسين: ٢٠٠ - ٢٠١ مطبوع مع استشهاد الحسين - للطبري.

٦٤

واحدة، فتكون نظرية منسجمة وذات تصوّر واضح ومحدّد ومفهوم.

هذا كلّه، وبقدر مايثيره من شكوك حول صلاحية هذه النظرية، فإنّه يرجّح الرأي الآخر الذي يذهب إلى اعتماد النصّ الشرعي في تعيين خليفة الرسول.

إلى هذه النتيجة أيضاً خلص الدكتور أحمد محمود صبحي وهو يدرس نظرية الاِمامة، إذ قال: (أمّا من الناحية الفكرية فلم يقدّم أهل السُنّة نظرية متماسكة في السياسة تُحدّد مفاهيم البيعة والشورى وأهل الحلّ والعقد، فضلاً عن هوّة ساحقة تفصل بين النظر والتطبيق، أو بين ماهو شرعي وبين ما يجري في الواقع.

لقد ظهرت نظريات أهل السُنّة في السياسة في عصر متأخّر بعد أن استقرّ قيام الدولة الاِسلامية على الغَلَبة.. كما جاء أكثرها لمجرّد الردّ على الشيعة.. والتمس بعضها استنباط حكم شرعي من أُسلوب تولّي الخلفاء الثلاثة الاَوائل.

وإنّ الهوّة الساحقة بين تشريع الفقهاء وبين واقع الخلفاء، فضلاً عن تهافت كثير من هذه الآراء وإخفاقها في استنباط قاعدة شرعية، هو ما مكّن للرأي المعارض - القول بالنصّ - ممثّلاً في حزب الشيعة)(١) .

____________________

(١) الزيدية: ٣٥ - ٣٧.

٦٥

٦٦

الرجوع

إلى النصوص المباشرة في تعيين الخليفة

لقد أحسّ الكثير من المتكلّمين وأصحاب الحديث إذن بالحاجة إلى النصّ في تعيين أوّل الخلفاء على الاَقلّ، لتتّخذ الاَدوار اللاحقة له شرعيّتها من شرعيّته.

وليس غريباً أن تتعدّد أوجه الاستدلال بتعدّد المتكلّمين وتعدّد أساليبهم، وتعدّد النصوص التي يعتمدونها، وكثيراً ما يتعلّق المتكلّمون بما يشفع لمذاهبهم وإنْ كانوا يلمحون فيه علامات الوضع!

وسوف يدور الحوار هنا في اتّجاهين توزّعت عليهما النصوص المطروحة في هذا الباب..

٦٧

٦٨

الاتجاه الاَوّل: النصوص الدالّة على خلافة أبي بكر:

لقد عرض بعض المتكلّمين في تثبيت خلافة أبي بكر نصوصاً من القرآن ونصوصاً من السُنّة، نستعرض أهمّها بتركيز وإيجاز مبتدئين بنصوص السُنّة لكونها أكثر تصريحاً، ولاَنّ النصوص القرآنية اعتُمِدت في تصحيح خلافته لا في إثبات النصّ عليه.

أوّلاً - نصوص من السُنّة:

النصّ الاَوّل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي توفّي فيه: «مُروا أبا بكر فليصلّ بالناس».

فرأى بعضهم في هذا الحديث نصّاً على الخلافة وإن كان خفياً؛ لعدم الفصل بين إمامة الصلاة والاِمامة العامّة.

واستدلّوا لذلك بقول بعض الصحابة لاَبي بكر: إرتضاك رسول الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟! وأهمّ شيء في هذا القول الاَخير أن ينسب إلى عليّ بن أبي طالب(١) !!

غير أنّ جملةً من الاِثارات تحيط بهذا النصّ وبهذه الواقعة، قد تبتلع كلّ ما يُبنى عليهما من استنتاجات:

الاِثارة الاُولى: إنّ القول بعدم الفصل بين إمامة الصلاة والاِمامة العامة

____________________

(١) شرح المواقف ٨: ٣٦٥.

٦٩

قول غريب، وأغرب منه قول الجرجاني: (لا قائل بالفصل)(١) !

فابن حزم يقطع بأنّ هذا قياساً باطلاً، ويقول: (أمّا من أدّعى أنّه إنّما قُدِّم قياساً على تقديمه إلى الصلاة، فباطل بيقين؛ لاَنّه ليس كلّ من استحقّ الاِمامة في الصلاة يستحقّ الاِمامة في الخلافة، إذ يستحقّ الاِمامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً، ولايستحقّ الخلافة إلاّ قرشيّ، فكيف والقياس كلّه باطل)(٢) ؟!

والشيخ أبو زهرة ينتقد هذا النوع من القياس ووجه الاستدلال به، فيقول: ( اتّخذ بعض الناس من هذا - النصّ - إشارة إلى إمامة أبي بكر العامّة للمسلمين، وقال قائلهم: (لقد رضيه عليه السلام لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا) ولكنّه لزوم ماليس بلازم؛ لاَنّ سياسة الدنيا غير شؤون العبادة، فلا تكون الاِشارة واضحة.. وفوق ذلك فإنّه لم يحدث في اجتماع السقيفة، الذي تنافس فيه المهاجرون والاَنصار في شأن القبيل الذي يكون منه الخليفة، أن احتجّ أحد المجتمعين بهذه الحجّة، ويظهر أنّهم لم يعقدوا تلازماً بين إمامة الصلاة وإمرة المسلمين )(٣) .

والذي يُستشفّ من كلامه استبعاد صحّة نسبة هذا الكلام إلى الاِمام عليّ عليه السلام؛ فهذه النسبة لاتحتمل الصحّة، لِما ثبت في الصحاح من أنّ عليّاً عليه السلام لم يبايع إلاّ بعد ستّة أشهر(٤) ، كما أنّ الصحيح المشهور عن

____________________

(١) شرح المواقف ٨: ٣٦٥.

(٢) الفِصَل ٤: ١٠٩.

(٣) المذاهب الاِسلامية: ٣٧.

(٤) صحيح البخاري - باب غزوة خيبر | ٣٩٩٨، صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسِيَر ٣: ١٣٨٠ | ٥٢، السنن الكبرى - للبيهقي - ٦: ٣٠٠، تاريخ الطبري ٣: ٢٠٢، الكامل في التاريخ ٢: ٣٣١.

٧٠

عليّ عليه السلام خلاف ذلك، فجوابه كان حين بلغه احتجاج المهاجرين بأنّ قريشاً هم قوم النبيّ وأوْلى الناس به، قال عليه السلام: «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة»(١) !

الاِثارة الثانية: إنّ إمامة الصلاة وفقاً لفقه هذه المدرسة لايترتّب عليها أيّ فائدة في التفضيل والتّقديم، فالفقه هنا يُجيز مطلقاً إمامة المفضول على الفاضل، بل يُجيز إمامة الفاسق والجائر لاَهل التقوى والصلاح، « صلّوا وراء كلّ برٍّ وفاجر »!

الاِثارة الثالثة: أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة والنسائي: أنّ عبد الرحمن بن عوف قد صلّى إماماً بالمسلمين وكان فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(٢) . وهذه الرواية أثبت ممّا ورد في تقديم أبي بكر - كما سيأتي - فالحجّة فيها إذن لعبد الرحمن بن عوف أظهر، فتقديمه أوْلى وفقاً لذلك القياس(٣) .

الاِثارة الرابعة: في صحيح البخاري: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤمّ المهاجرين الاَوّلين وأصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد قباء، وفيهم: أبو بكر، وعمر، وأبو سلمة، وعامر بن ربيعة(٤) .

وكان عمرو بن العاص أميراً على جيش ذات السلاسل، وكان يؤمّهم

____________________

(١) نهج البلاغة: ٩٧ الخطبة ٦٧، واُنظر: الاِمامة والسياسة - لابن قتيبة -: ١١.

(٢) مسند أحمد ٤: ٢٤٨ - ٢٥١، صحيح مسلم: الطهارة - باب المسح على الناصية والعمامة، سنن أبي داود: المسح على الخفّين | ١٤٩ و ١٥٢، سنن ابن ماجة: |١٢٣٦، سنن النسائي: الطهارة | ١١٢.

(٣) أُنظر: ابن الجوزي، آفة أصحاب الحديث: ٩٩.

(٤) صحيح البخاري: كتاب الاَحكام | ٦٧٥٤.

٧١

في الصلاة حتّى صلّى بهم بعض صلواته وهو جنب، وفيهم: أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة(١) .

فهل يُستدلّ من هذا أنّ سالماً وعمرو بن العاص أفضل من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، وأوْلى بالخلافة منهم؟!

الاِثارة الخامسة: نتابعها في النقاط التالية:

أ - ثبت في جميع طرق هذا الحديث بروايته التامّة أنّه بعد أن افتتح أبو بكر الصلاة، خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتهادى بين رجلين - عليّ والفضل بن العبّاس - فصلّى بهم إماماً وتأخّر أبو بكر عن موضعه مؤتمّاً بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن يمينه.

أثبت ذلك تحقيقاً أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب صنّفه لهذا الغرض، فقسّمه إلى ثلاثة أبواب: فجعل الباب الاَوّل في إثبات خروج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى تلك الصلاة وتأخيره أبا بكر عن إمامتها، وخصّص الباب الثاني في بيان إجماع الفقهاء على ذلك، فذكر منهم: أبا حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأثبت في الباب الثالث وَهَن الاَخبار التي وردت بتقدّم أبي بكر في تلك الصلاة، ووصف القائلين بها بالعناد واتّباع الهوى(٢) !

وقال العسقلاني: تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدلّ على أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان هو الاِمام في تلك الصلاة(٣) .

____________________

(١) سيرة أبن هشام ٤: ٢٧٢، البداية والنهاية ٤: ٣١٢.

(٢) أبو الفرج ابن الجوزي، آفة أصحاب الحديث - الباب الاَوّل، والثاني، والثالث.

(٣) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٢: ١٢٣.

٧٢

ومن هنا قال بعضهم: متى نظرنا إلى آخر الحديث احتجنا إلى أن نطلب للحديث مخرجاً من النقص والتقصير، وذلك أنّ آخره: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا وجد إفاقةً وأحسّ بقوّة خرج حتّى أتى المسجد وتقدّم فنحّى أبا بكر عن مقامه وقام في موضعه. فلو كانت إمامة أبي بكر بأمره صلى الله عليه وآله وسلم لَتَركه على إمامته وصلّى خلفه، كما صلّى خلف عبد الرحمن بن عوف(١) .

ب - ممّا يعزّز القول المتقدّم ماورد عن ابن عبّاس من أنّه قبل أن يؤذّن بلال لتلك الصلاة قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «أُدعوا عليّاً». فقالت عائشة: لو دعوت أبا بكر! وقالت حفصة: لو دعوت عمر! وقالت أُمّ الفضل: لو دعوت العبّاس! فلمّا اجتمعوا رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه فلم ير عليّاً(٢) !!

ج - ويشهد لذلك كلّه ماثبت عن عليّ عليه السلام من أنّه كان يقول: «إنّ عائشة هي التي أمرت بلالاً أن يأمر أباها لِيُصَلّ بالناس؛ لاَنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليصلِّ بهم أحدهم ولم يعيّن»!! وكان عليٌّ عليه السلام يذكر هذا لاَصحابه في خلواته كثيراً، ويقول عليه السلام: «إنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل: إنّكنّ لَصُويحبات يوسف إلاّ إنكاراً لهذه الحال، وغضباً منها لاَنّها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما، وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب»(٣) .

فهذه صور منسجمة ومتماسكة لاتُبقي أثراً للاستفادة من هذا النصّ أو تلك الواقعة، ويمكن أن يضاف إليها ملاحظات أُخر ذات قيمة لايُستهان بها:

____________________

(١) ابن الاِسكافي، المعيار والموازنة: ٤١ - ٤٢.

(٢) مسند أحمد ١: ٣٥٦، وأخرجه الطبري في تاريخه ٣: ١٩٦ ولم يذكر فيه قول أُمّ الفضل.

(٣) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ٩: ١٩٧.

٧٣

منها: الاختلاف الشديد والتعارض بين روايات هذه الواقعة، وقد صرّح بهذا ابن حجر العسقلاني، ثمّ حاول التوفيق بينها بعد جهد(١) .

ومنها: ملاحظة بعض نقّاد الحديث أنّ هذا الحديث لم يصحّ إلاّ من طريق عائشة، لذا لم تقم حجّته(٢) .

ومنها: أنّ ابن عبّاس قد طعن هذا الحديث طعناً عبقريّاً لم يتنبّه له الرواة، إذ كانت عائشة تقول في روايتها لهذا الحديث: (خرج النبيّ يتهادى بين رجلين، أحدهما الفضل بن العبّاس) ولاتذكر الرجل الآخر، فلمّا عرض أحدهم حديثها على عبد الله بن عبّاس، قال له ابن عبّاس: فهل تدري مَن الرجل الذي لم تُسَمِّ عائشة؟

قال: لا.

قال ابن عبّاس: هو عليّ بن أبي طالب، ولكن عائشة لاتطيبُ نفساً له بخير(٣) !

الاِثارة السادسة: أثبت جلُّ أصحاب التاريخ والسِيَر أنّ أبا بكر كان أيّام مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاَخير هذا، مأموراً بالخروج في جيش أُسامة، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يشدّد كثيراً بين الآونة والاُخرى على التعجيل في إنفاذ هذا الجيش.. فكيف ينسجم هذا مع الاَمر بتقديمه في الصلاة؟! ناهيك عن قصد الاِشارة إلى استخلافه!

____________________

(١) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٢: ١٢٢ - ١٢٣.

(٢) المعيار والموازنة: ٤١.

(٣) عبد الرزّاق، المصنّف ٥: ٤٢٩ - ٤٣٠، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٢: ١٢٣.

٧٤

لقد أدرك ابن تيميّة مابين الاَمرين من منافاة وتعارض صريحين، فنفى نفياً قاطعاً كون أبي بكر ممّن سُمّي في بعثة أُسامة(١) !!

لكنّ مثل هذا النفي لاينقذ الموقف، خصوصاً وأنّ ابن تيميّة لم يقدّم برهاناً ولا شبهةً في إثبات دعواه، فيما جاء ذِكر أبي بكر في مَن سُمّي في ذلك الجيش في مصادر عديدة وهامّة، أصحابها جميعاً من القائلين بصحّة تقدّم أبي بكر(٢) .

أمّا نفي ذلك، أو تحرّج بعض المؤرّخين عن ذِكره، فإنّما مرجعه إلى الاختيار الشخصي في مساندة المذهب، لاغير، حين أدركوا بيقين أنّ شيئاً ممّا استدلّوا به على إمامته سوف لايتمّ لو كان أبو بكر في مَن سُمّي في جيش أُسامة، إذ هو مأمور بمغادرة المدينة المنوّرة أيّام وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تحت إمرة أُسامة بن زيد الشابّ ابن الثمان عشرة سنة(٣) !

نصوص أُخر:

لم يقف القائلون بالنصّ عند النصّ المتقدّم، بل رجعوا إلى مارأوا فيه نصّاً جليّاً على الخلافة، لكنّها في الحقيقة نصوص تثير على نفسها بنفسها شكوكاً كثيرة لاتُبقي احتمالاً لصحّتها، شكوكاً تثيرها الاَسانيد والمتون معاً.. وأهمّ هذه النصوص:

____________________

(١) ابن تيميّة، منهاج السُنّة ٣: ٢١٣.

(٢) الطبقات الكبرى ٤: ٦٦، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٨: ١٢٤، تهذيب تاريخ دمشق ٢: ٣٩٥ و ٣: ٢١٨، مختصر تاريخ دمشق ٤: ٢٤٨ رقم ٢٣٧ و ٥: ١٢٩ رقم ٥٦ ترجمة أُسامة بن زيد وأيّوب بن هلال، تاريخ اليعقوبي ٢: ٧٧، تاريخ الخميس ٢: ١٧٢، شرح نهج البلاغة ١: ١٥٩ و ٢٢٠ و ٩: ١٩٧.

(٣) الطبقات الكبرى ٤: ٦٦.

٧٥

١ - إنّ أمرأةً سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: يا رسول الله، أرأيتَ إنْ جئتُ فلم أجدك؟ - كأنّها تُريد الموت - فقال: «فإن لم تجديني فأتي أبا بكر»(١) .

وهذا الحديث متّحد عند الشيخين في سلسلة واحدة، وهي: إبراهيم ابن سعد، عن أبيه، عن محمّد بن جُبير بن مطعم، عن أبيه جُبير بن مطعم: أنّ أمرأةً سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...

فلم يروه من الصحابة إلاّ جُبير بن مطعم، ولم يروه عن جُبير إلاّ ولده محمّد، ولم يروه عن محمّد غير سعد (وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف) ولم يروه عن سعد غير ولده إبراهيم! ثمّ أخذه الرواة عن إبراهيم بن سعد!

مناقشة الاِسناد: نظرة واحدة في هذا الاِسناد، بعيداً عن التقليد، تُحبط الآمال التي يمكن أن تُعقد عليه:

فجبير بن مطعم: من الطلقاء، وهو صاحب أبي بكر، تعلّم منه الاَنساب وأخبار قريش(٢) ، وكانت عائشة تُسمّى له وتُذكر له قبل أن يتزوّجها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم(٣) ، وذكره بعضهم في المؤلّفة قلوبهم. وكان شريفاً في قومه بني نوفل وهم حلفاء بني أُميّة في الجاهلية والاِسلام. وهو أحد الخمسة الّذين اقترحهم عمرو بن العاص على أبي موسى الاَشعري

____________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم في باب فضائل أبي بكر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٧: ١٤ - ١٥، صحيح مسلم بشرح النووي ٨: ١٥٤، وانظر: تثبيت الاِمامة وترتيب الخلافة: ٩٠ رقم ٥٦.

(٢) ترجمة جبير بن مطعم في: سير أعلام النبلاء ٣: ٩٥ رقم ١٨، الاِصابة ١: ٢٢٦ رقم ١٠٩٢.

(٣) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ١٤: ٢٢.

٧٦

للمشورة في التحكيم - وهم: جبير بن مطعم، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وأبو الجهم بن حذيفة، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام بن المغيرة - وكلّهم مائل عن عليّ عليه السلام، فابن الزبير وعبد الرحمن بن الحرث كانا في أصحاب الجَمل الّذين قاتلوا عليّاً في البصرة، وعبدالله بن عمرو مع أبيه عمرو بن العاص في أصحاب معاوية، وجبير وأبو الجهم من مسلمة الفتح هواهما مع بني أُميّة(١) !

محمّد بن جبير بن مطعم: وهو القائل لعبد الملك بن مروان وقد سأله: هل كنّا نحن وأنتم - يعني أُميّة ونوفل - في حلف الفضول(٢) ؟ فقال له محمّد بن جُبير بن مطعم: لا والله يا أمير المؤمنين، لقد خرجنا نحن وأنتم منه، ولم تكن يدنا ويدكم إلاّ جميعاً في الجاهلية والاِسلام(٣) !

وقد اعتزل محمّد عليّاً والحسن عليهما السلام في حربهما مع معاوية، فلمّا تمّ الصلح كان محمّد ممثَّلاً في وفد المدينة إلى معاوية للبيعة(٤) .

وأمّا سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: فقد كان قاضياً لبعض ملوك بني أُميّة على المدينة(٥) .

وأمّا ولده إبراهيم بن سعد: فهو صاحب العُود والغناء، كان يعزف

____________________

(١) راجع تراجمهم في: الاستيعاب، وأُسد الغابة، والاِصابة، ومختصر تاريخ دمشق، وسير أعلام النبلاء.

(٢) حلف الفضول: حلف جمع بني هاشم وزُهرة وتَيم، اجتمعوا عند عبد الرحمن بن جدعان فتحالفوا جميعاً على دفع الظلم واسترداد الحقّ من الظالم وإعادته إلى صاحبه المظلوم.

(٣) الاَغاني ١٧: ٢٩٥.

(٤) أُنظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري ١٣: ٩٨.

(٥) تاريخ بغداد ٦: ٨٣، الاَغاني ١٥: ٣٢٩.

٧٧

ويغنّي، جاءه أحد أصحاب الحديث ليأخذ عنه، فوجده يغنّي، فتركه وانصرف، فأقسم إبراهيم ألاّ يحدّث بحديث إلاّ غنّى قبله! وعمل والياً على بيت المال ببغداد لهارون الرشيد(١) .

هذا النصّ، الذي جاء بهذه السلسلة الوحيدة، هو الذي رأى فيه ابن حزم وغيره نصّاً جليّاً على خلافة أبي بكر(٢) ! غير أنّ الجرجاني والتفتازاني لم يذكراه، فيما ذكرا نصوصاً كثيرة أضعف منه سنداً، وأقلّ منه دلالة(٣) !

مناقشة المتن: وخطوة أُخرى إلى الاَمام في التحقيق تضعنا أمام صورة أكثر وضوحاً حيث تُرينا كيف حلّ هذا الحديث محلّ الحديث الصحيح الوارد في عليّ عليه السلام بعين هذا المتن!

لمّا حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت صفيّة أُمّ المؤمنين: يا رسول الله، لكلّ امرأةٍ من نسائك أهل تلجأ إليهم، وإنّك أجليت أهلي، فإنْ حَدَثَ حَدَثٌ فإلى مَن؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إلى عليّ بن أبي طالب». أخرجه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح(٤) .

إنّ الظروف السياسية الغالبة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحتى عصر

____________________

(١) تاريخ بغداد ٦: ٨١ - ٨٦، الاَعلام ١: ٤٠.

(٢) الفِصَل ٤: ١٠٨. انظر أيضاً: تثبيت الاِمامة وترتيب الخلافة: ٩٠ - ٩١ رقم ٥٦، نظام الخلافة بين أهل السُنّة والشيعة: ٣٩.

(٣) أُنظر: الجرجاني، شرح المواقف ٨: ٣٦٤ - ٣٦٥، التفتازاني، شرح المقاصد ٥: ٢٦٣ -٣٦٧.

(٤) مسند أحمد ٦: ٣٠٠، مجمع الزوائد ٩: ١١٣.

٧٨

تدوين جوامع الحديث، هي السبب الوحيد في ظهور الحديث الاَول ودخوله في كتب الشيخين وغيرهما دون الحديث الثاني!

٢ - قالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه: «ادعي لي أبا بكر أباك، وأخاكِ، حتّى أكتب كتاباً، فإنّي أخاف أن يتمنّى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أوْلى، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر»(١) .

أسند مسلم هذا الحديث كما يلي: عبيدالله بن سعيد، عن يزيد بن هارون، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.

فقد ظهر إبراهيم بن سعد في هذا الحديث أيضاً، وهو صاحب الحديث المتقدّم، صاحب العود والغناء، صاحب هارون الرشيد.

أمّا الزهري وعروة وعائشة فهم من أشدّ الناس ميلاً وانحرافاً عن عليّ عليه السلام، وموقفهم من الخلافة ومن عليّ عليه السلام خاصّة وبني هاشم عامّة معروف جدّاً!

وأورده البخاري من طريق آخر ينتهي أيضاً إلى عائشة، فهي وحدها رأس هذا الحديث في جميع طرقه!

ولعلّ أقوى مايُثار هنا: أنّ هذه الاَحاديث قد رواها الشيخان، فكيف يمكن طعنها والشكّ فيها؟!

وما أيسر الجواب لمن تجرّد للحقيقة دون سواها، الحقيقة التي كشف

____________________

(١) صحيح البخاري - كتاب الاَحكام - باب الاستخلاف ٦ | ٦٧٩١، صحيح مسلم - باب فضائل أبي بكر ٥ | ٢٣٨٧ والنصّ منه.

٧٩

عنها النقاب مؤرّخون وأئمّة لاشك في وثاقتهم وصدقهم:

- قال نفطويه في تاريخه: ( إنّ أكثر الاَحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة اختُلِقت في أيّام بني أُميّة تقرّباً إليهم في مايظنّون أنّهم يُرغِمون به أُنوف بني هاشم )!

- وقال المدائني في كتابه في الاَحداث: ( فرُوِيَتْ أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة، لا حقيقة لها.. حتّى انتقلت تلك الاَخبار والاَحاديث إلى الديّانين الّذين لايستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنّها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة مارووها ولا تديّنوا بها )!

- وقال الاِمام الباقر عليه السلام: «حتّى صار الرجل الذي يُذكر بالخير، ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً، يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض مَن قد سلفَ من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت وقعت، وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من رواها ممّن لم يُعرف بالكذب ولابقلّة ورع»(١) !

فليس بمستنكَرٍ إذن أن تنفذ هذه الاَخبار إلى الصحيحين وغيرهما.. فمن أين يأتي الاستنكار وهم مارووها إلاّ وهم يعتقدون صحّتها؟!

وهذا الحديث بالذات ممّا شهد المعتزلة بأنّ البكرية وضعته في مقابل الحديث المرويّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه: «ائتوني بدواةٍ وبياض أكتب لكم كتاباً لاتضلّوا بعده أبداً» فاختلفوا عنده، وقال قوم منهم: لقد غلبه

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ١١: ٤٣ - ٤٦.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133