خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص28%

خلافة الرسول بين الشورى والنص مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 133

خلافة الرسول بين الشورى والنص
  • البداية
  • السابق
  • 133 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46868 / تحميل: 6760
الحجم الحجم الحجم
خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

بالشام، وعبد الله بن الزبير وهو بمكّة، انطلق جماعة إلى الصحابي أبي برزة الاَسلمي رضي الله عنه فقالوا له: ياأبا برزة، ألا ترى ماوقع فيه الناس؟! فقال: إنّي أحتسب عند الله أنّي أصبحتُ ساخطاً على أحياء قريش، إنّ ذاك الذي بالشام والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا، وإنّ الذي بمكّة والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا(١) !!

٢ - وأهمّ من هذا أنّه ثمّة نصوص صحيحة توجب تضييق دائرة النصّ المتقدّم..

لقد حذّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الاغترار بالنسب القرشي وحسب، وأنذر بأنّ ذلك سيؤدّي إلى هلاك الاُمّة وتشتّت أمرها!

ففي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «هَلَكَةُ أُمّتي على يَدَي غلمةٍ من قريش»(٢) .

كيف إذن سيتمّ التوفيق بين النصّين: «الاَئمّة من قريش» و «هَلَكة أُمّتي على يدي غلمة من قريش»؟!

أليس لقائل أن يقول: ماهو ذنب الاُمّة؟! إنّها التزمت نصّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

____________________

(١) صحيح البخاري - الفتن - باب ٢٠ | ٦٦٩٥.

(٢) صحيح البخاري - الفتن - باب ٣ | ٦٦٤٩، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ١٣: ٧ -٨. ومما يثير الدهشة أن تجد هذه الاَحاديث وأكثر منها في آل أبي سفيان وآل مروان، تجدها في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير تحت عنوان (إخباره صلى الله عليه وآله وسلّم لما وقع من الفتن من بني هاشم بعد موته)!! ٦: ٢٥٥ - ط. دار التراث العربي - سنة ١٩٩٢ م، و ٦: ٢٢٧ - ط. مكتبة المعارف - سنة ١٩٨٨ م. علماً أنّه وضعها وفق ترتيبه التاريخي في أحداث العهد الاَموي!! ولعل المتهم في هذا ناسخ أمويّ الهوى غاضه ذكر بني أُمية في هذا العنوان فقلبه على بني هاشم!

٦١

«الاَئمّة من قريش» فقادها هذا النصّ إلى هذا المصير حين ذُبح خيار الاُمّة بسيوف قريش أنفسهم!

أليس النصّ هو المسؤول؟!

حاشا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يضع أُمّته على حافة هاوية، وهو الذي كان قد استنقذها من الهاوية.

إنّهم أرادوا أن يحفظوا الرسول بحفظ جميع الصحابة وإضفاء الشرعية حتّى على المواقف المتناقضة تجاه القضيّة الواحدة، فوقعوا في مافرّوا منه!

بل وقعوا في ماهو أكبر منه حين صار النصّ النبويّ هو المسؤول عمّا آل إليه أمر الاُمّة من فتن، ثمّ هَلَكة!

فهؤلاء الغلمة إنّما يكون هلاك الاُمّة على أيديهم عندما يملكون أمر الاُمّة، لكنّ الاُمّة إنْ رضيت بهم فإنّما كان اتّباعاً للنصّ الاَوّل «الاَئمّة من قريش» فهل يكون هذا إلاّ إغراء؟!

حاشا لرسول الله أن يكون ذلك منه، وإنّما هو من علامات التهافت في هذه النظرية التي أغضت عن كلّ ماورد في السُنّة ممّا يفيد تخصيص ماورد في حقّ قريش.

نوعان من التخصيص:

ورد في السُنّة نوعان من التخصيص في أمر قريش؛ تخصيص سلب، وتخصيص إيجاب.

٦٢

١ - تخصيص السلب: ثمّة نصوص صريحة تستثني قوماً من قريش، فتبعدهم عن دائرة التكريم، ناهيك عن التقديم: قال ابن حجر الهيتمي: في الحديث المرويّ بسندٍ حَسَن أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «شرّ قبائل العرب: بنو أُميّة وبنو حنيفة وثقيف».

قال: وفي الحديث الصحيح - قال الحاكم: على شرط الشيخين - عن أبي برزة رضي الله عنه أنّه قال: ( كان أبغض الاَحياء - أو الناس - إلى رسول الله بنو أُميّة )(١) .

والذي ورد في ذمّ آل الحَكَم - أبو مروان - خاصّة كثير ومشهور.

فهل يصحّ أن تُسند الاِمامة إلى شرّ قبائل العرب، وأبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!

ومن دقائق النصّ الاَوّل إقرانه بني أُميّة ببني حنيفة، وبنو حنيفة هم قوم مسيلمة الكذّاب!!

فإذا أصبح هؤلاء هم الحكّام في الواقع فعلينا أن نشهد أنّ هذا الواقع منحرف عن النصّ، بدلاً من أن نسعى لتبريره وإخضاعه للنصّ.

٢ - تخصيص الاِيجاب: الحديث الذي ميّز قريشاً بالاصطفاء على سائر القبائل لم يقف عند دائرة قريش الكبرى، بل خصّ منها طائفةً بعينها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ الله اصطفى كنانة من وُلد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»(٢) .

____________________

(١) تطهير الجنان واللسان: ٣٠.

(٢) صحيح مسلم - كتاب الفضائل - | ١.

٦٣

وهذا تقديم لبني هاشم على سائر قريش..

ساق ابن تيميّة هذا الحديث الصحيح، وأضاف قائلاً: وفي السنن أنّه شكا إليه العبّاسُ أنّ بعض قريش يحقّرونَهم! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «والذي نفسي بيده لايدخلون الجنّة حتّى يحبّوكم لله ولقرابتي» وإذا كانوا أفضل الخلائق، فلا ريب أنّ أعمالهم أفضل الاَعمال.. ففاضلهم أفضل من كلّ فاضل من سائر قبائل قريش والعرب، بل وبني إسرائيل وغيرهم(١) .

وليس المقام مقام تفضيل وحسب، بل إنّ قريشاً لا يصحّ لها إيمان مالم تحبّ بني هاشم حُبّين: لله، ولقرابة الرسول!

فهل يصحّ أن تكون قريش كلّها سواء في حقّ التقدّم والاِمامة، وفيها بنو هاشم الّذين رفعهم النصّ إلى أعلى منزلة، وفيها بنو أُميّة الّذين خفضهم النصّ إلى أردى الرتب؟!

إذا كان الواقع قد آل إلى هذه الحال، فعلينا أن نشهد أنّه واقع منحرف عن النصّ، لا أن نسعى إلى تبريره.

نتيجة البحث:

ممّا تقدّم يبدو بكّل وضوح أنّنا هنا قد أخفقنا في تحقيق نظرية منسجمة متماسكة في موضوع الاِمامة، وأنّ السبب الحقيقي لهذا الاِخفاق هو متابعة الاَمر الواقع والسعي لتبريره وجعله مصدراً رئيساً في وصف النظام السياسي.

وتلك الوجوه المتناقضة كلّها من المستحيل أن تجتمع في نظرية

____________________

(١) ابن تيميّة، رأس الحسين: ٢٠٠ - ٢٠١ مطبوع مع استشهاد الحسين - للطبري.

٦٤

واحدة، فتكون نظرية منسجمة وذات تصوّر واضح ومحدّد ومفهوم.

هذا كلّه، وبقدر مايثيره من شكوك حول صلاحية هذه النظرية، فإنّه يرجّح الرأي الآخر الذي يذهب إلى اعتماد النصّ الشرعي في تعيين خليفة الرسول.

إلى هذه النتيجة أيضاً خلص الدكتور أحمد محمود صبحي وهو يدرس نظرية الاِمامة، إذ قال: (أمّا من الناحية الفكرية فلم يقدّم أهل السُنّة نظرية متماسكة في السياسة تُحدّد مفاهيم البيعة والشورى وأهل الحلّ والعقد، فضلاً عن هوّة ساحقة تفصل بين النظر والتطبيق، أو بين ماهو شرعي وبين ما يجري في الواقع.

لقد ظهرت نظريات أهل السُنّة في السياسة في عصر متأخّر بعد أن استقرّ قيام الدولة الاِسلامية على الغَلَبة.. كما جاء أكثرها لمجرّد الردّ على الشيعة.. والتمس بعضها استنباط حكم شرعي من أُسلوب تولّي الخلفاء الثلاثة الاَوائل.

وإنّ الهوّة الساحقة بين تشريع الفقهاء وبين واقع الخلفاء، فضلاً عن تهافت كثير من هذه الآراء وإخفاقها في استنباط قاعدة شرعية، هو ما مكّن للرأي المعارض - القول بالنصّ - ممثّلاً في حزب الشيعة)(١) .

____________________

(١) الزيدية: ٣٥ - ٣٧.

٦٥

٦٦

الرجوع

إلى النصوص المباشرة في تعيين الخليفة

لقد أحسّ الكثير من المتكلّمين وأصحاب الحديث إذن بالحاجة إلى النصّ في تعيين أوّل الخلفاء على الاَقلّ، لتتّخذ الاَدوار اللاحقة له شرعيّتها من شرعيّته.

وليس غريباً أن تتعدّد أوجه الاستدلال بتعدّد المتكلّمين وتعدّد أساليبهم، وتعدّد النصوص التي يعتمدونها، وكثيراً ما يتعلّق المتكلّمون بما يشفع لمذاهبهم وإنْ كانوا يلمحون فيه علامات الوضع!

وسوف يدور الحوار هنا في اتّجاهين توزّعت عليهما النصوص المطروحة في هذا الباب..

٦٧

٦٨

الاتجاه الاَوّل: النصوص الدالّة على خلافة أبي بكر:

لقد عرض بعض المتكلّمين في تثبيت خلافة أبي بكر نصوصاً من القرآن ونصوصاً من السُنّة، نستعرض أهمّها بتركيز وإيجاز مبتدئين بنصوص السُنّة لكونها أكثر تصريحاً، ولاَنّ النصوص القرآنية اعتُمِدت في تصحيح خلافته لا في إثبات النصّ عليه.

أوّلاً - نصوص من السُنّة:

النصّ الاَوّل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي توفّي فيه: «مُروا أبا بكر فليصلّ بالناس».

فرأى بعضهم في هذا الحديث نصّاً على الخلافة وإن كان خفياً؛ لعدم الفصل بين إمامة الصلاة والاِمامة العامّة.

واستدلّوا لذلك بقول بعض الصحابة لاَبي بكر: إرتضاك رسول الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟! وأهمّ شيء في هذا القول الاَخير أن ينسب إلى عليّ بن أبي طالب(١) !!

غير أنّ جملةً من الاِثارات تحيط بهذا النصّ وبهذه الواقعة، قد تبتلع كلّ ما يُبنى عليهما من استنتاجات:

الاِثارة الاُولى: إنّ القول بعدم الفصل بين إمامة الصلاة والاِمامة العامة

____________________

(١) شرح المواقف ٨: ٣٦٥.

٦٩

قول غريب، وأغرب منه قول الجرجاني: (لا قائل بالفصل)(١) !

فابن حزم يقطع بأنّ هذا قياساً باطلاً، ويقول: (أمّا من أدّعى أنّه إنّما قُدِّم قياساً على تقديمه إلى الصلاة، فباطل بيقين؛ لاَنّه ليس كلّ من استحقّ الاِمامة في الصلاة يستحقّ الاِمامة في الخلافة، إذ يستحقّ الاِمامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً، ولايستحقّ الخلافة إلاّ قرشيّ، فكيف والقياس كلّه باطل)(٢) ؟!

والشيخ أبو زهرة ينتقد هذا النوع من القياس ووجه الاستدلال به، فيقول: ( اتّخذ بعض الناس من هذا - النصّ - إشارة إلى إمامة أبي بكر العامّة للمسلمين، وقال قائلهم: (لقد رضيه عليه السلام لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا) ولكنّه لزوم ماليس بلازم؛ لاَنّ سياسة الدنيا غير شؤون العبادة، فلا تكون الاِشارة واضحة.. وفوق ذلك فإنّه لم يحدث في اجتماع السقيفة، الذي تنافس فيه المهاجرون والاَنصار في شأن القبيل الذي يكون منه الخليفة، أن احتجّ أحد المجتمعين بهذه الحجّة، ويظهر أنّهم لم يعقدوا تلازماً بين إمامة الصلاة وإمرة المسلمين )(٣) .

والذي يُستشفّ من كلامه استبعاد صحّة نسبة هذا الكلام إلى الاِمام عليّ عليه السلام؛ فهذه النسبة لاتحتمل الصحّة، لِما ثبت في الصحاح من أنّ عليّاً عليه السلام لم يبايع إلاّ بعد ستّة أشهر(٤) ، كما أنّ الصحيح المشهور عن

____________________

(١) شرح المواقف ٨: ٣٦٥.

(٢) الفِصَل ٤: ١٠٩.

(٣) المذاهب الاِسلامية: ٣٧.

(٤) صحيح البخاري - باب غزوة خيبر | ٣٩٩٨، صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسِيَر ٣: ١٣٨٠ | ٥٢، السنن الكبرى - للبيهقي - ٦: ٣٠٠، تاريخ الطبري ٣: ٢٠٢، الكامل في التاريخ ٢: ٣٣١.

٧٠

عليّ عليه السلام خلاف ذلك، فجوابه كان حين بلغه احتجاج المهاجرين بأنّ قريشاً هم قوم النبيّ وأوْلى الناس به، قال عليه السلام: «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة»(١) !

الاِثارة الثانية: إنّ إمامة الصلاة وفقاً لفقه هذه المدرسة لايترتّب عليها أيّ فائدة في التفضيل والتّقديم، فالفقه هنا يُجيز مطلقاً إمامة المفضول على الفاضل، بل يُجيز إمامة الفاسق والجائر لاَهل التقوى والصلاح، « صلّوا وراء كلّ برٍّ وفاجر »!

الاِثارة الثالثة: أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة والنسائي: أنّ عبد الرحمن بن عوف قد صلّى إماماً بالمسلمين وكان فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(٢) . وهذه الرواية أثبت ممّا ورد في تقديم أبي بكر - كما سيأتي - فالحجّة فيها إذن لعبد الرحمن بن عوف أظهر، فتقديمه أوْلى وفقاً لذلك القياس(٣) .

الاِثارة الرابعة: في صحيح البخاري: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤمّ المهاجرين الاَوّلين وأصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد قباء، وفيهم: أبو بكر، وعمر، وأبو سلمة، وعامر بن ربيعة(٤) .

وكان عمرو بن العاص أميراً على جيش ذات السلاسل، وكان يؤمّهم

____________________

(١) نهج البلاغة: ٩٧ الخطبة ٦٧، واُنظر: الاِمامة والسياسة - لابن قتيبة -: ١١.

(٢) مسند أحمد ٤: ٢٤٨ - ٢٥١، صحيح مسلم: الطهارة - باب المسح على الناصية والعمامة، سنن أبي داود: المسح على الخفّين | ١٤٩ و ١٥٢، سنن ابن ماجة: |١٢٣٦، سنن النسائي: الطهارة | ١١٢.

(٣) أُنظر: ابن الجوزي، آفة أصحاب الحديث: ٩٩.

(٤) صحيح البخاري: كتاب الاَحكام | ٦٧٥٤.

٧١

في الصلاة حتّى صلّى بهم بعض صلواته وهو جنب، وفيهم: أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة(١) .

فهل يُستدلّ من هذا أنّ سالماً وعمرو بن العاص أفضل من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، وأوْلى بالخلافة منهم؟!

الاِثارة الخامسة: نتابعها في النقاط التالية:

أ - ثبت في جميع طرق هذا الحديث بروايته التامّة أنّه بعد أن افتتح أبو بكر الصلاة، خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتهادى بين رجلين - عليّ والفضل بن العبّاس - فصلّى بهم إماماً وتأخّر أبو بكر عن موضعه مؤتمّاً بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن يمينه.

أثبت ذلك تحقيقاً أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب صنّفه لهذا الغرض، فقسّمه إلى ثلاثة أبواب: فجعل الباب الاَوّل في إثبات خروج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى تلك الصلاة وتأخيره أبا بكر عن إمامتها، وخصّص الباب الثاني في بيان إجماع الفقهاء على ذلك، فذكر منهم: أبا حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأثبت في الباب الثالث وَهَن الاَخبار التي وردت بتقدّم أبي بكر في تلك الصلاة، ووصف القائلين بها بالعناد واتّباع الهوى(٢) !

وقال العسقلاني: تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدلّ على أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان هو الاِمام في تلك الصلاة(٣) .

____________________

(١) سيرة أبن هشام ٤: ٢٧٢، البداية والنهاية ٤: ٣١٢.

(٢) أبو الفرج ابن الجوزي، آفة أصحاب الحديث - الباب الاَوّل، والثاني، والثالث.

(٣) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٢: ١٢٣.

٧٢

ومن هنا قال بعضهم: متى نظرنا إلى آخر الحديث احتجنا إلى أن نطلب للحديث مخرجاً من النقص والتقصير، وذلك أنّ آخره: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا وجد إفاقةً وأحسّ بقوّة خرج حتّى أتى المسجد وتقدّم فنحّى أبا بكر عن مقامه وقام في موضعه. فلو كانت إمامة أبي بكر بأمره صلى الله عليه وآله وسلم لَتَركه على إمامته وصلّى خلفه، كما صلّى خلف عبد الرحمن بن عوف(١) .

ب - ممّا يعزّز القول المتقدّم ماورد عن ابن عبّاس من أنّه قبل أن يؤذّن بلال لتلك الصلاة قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «أُدعوا عليّاً». فقالت عائشة: لو دعوت أبا بكر! وقالت حفصة: لو دعوت عمر! وقالت أُمّ الفضل: لو دعوت العبّاس! فلمّا اجتمعوا رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه فلم ير عليّاً(٢) !!

ج - ويشهد لذلك كلّه ماثبت عن عليّ عليه السلام من أنّه كان يقول: «إنّ عائشة هي التي أمرت بلالاً أن يأمر أباها لِيُصَلّ بالناس؛ لاَنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليصلِّ بهم أحدهم ولم يعيّن»!! وكان عليٌّ عليه السلام يذكر هذا لاَصحابه في خلواته كثيراً، ويقول عليه السلام: «إنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل: إنّكنّ لَصُويحبات يوسف إلاّ إنكاراً لهذه الحال، وغضباً منها لاَنّها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما، وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب»(٣) .

فهذه صور منسجمة ومتماسكة لاتُبقي أثراً للاستفادة من هذا النصّ أو تلك الواقعة، ويمكن أن يضاف إليها ملاحظات أُخر ذات قيمة لايُستهان بها:

____________________

(١) ابن الاِسكافي، المعيار والموازنة: ٤١ - ٤٢.

(٢) مسند أحمد ١: ٣٥٦، وأخرجه الطبري في تاريخه ٣: ١٩٦ ولم يذكر فيه قول أُمّ الفضل.

(٣) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ٩: ١٩٧.

٧٣

منها: الاختلاف الشديد والتعارض بين روايات هذه الواقعة، وقد صرّح بهذا ابن حجر العسقلاني، ثمّ حاول التوفيق بينها بعد جهد(١) .

ومنها: ملاحظة بعض نقّاد الحديث أنّ هذا الحديث لم يصحّ إلاّ من طريق عائشة، لذا لم تقم حجّته(٢) .

ومنها: أنّ ابن عبّاس قد طعن هذا الحديث طعناً عبقريّاً لم يتنبّه له الرواة، إذ كانت عائشة تقول في روايتها لهذا الحديث: (خرج النبيّ يتهادى بين رجلين، أحدهما الفضل بن العبّاس) ولاتذكر الرجل الآخر، فلمّا عرض أحدهم حديثها على عبد الله بن عبّاس، قال له ابن عبّاس: فهل تدري مَن الرجل الذي لم تُسَمِّ عائشة؟

قال: لا.

قال ابن عبّاس: هو عليّ بن أبي طالب، ولكن عائشة لاتطيبُ نفساً له بخير(٣) !

الاِثارة السادسة: أثبت جلُّ أصحاب التاريخ والسِيَر أنّ أبا بكر كان أيّام مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاَخير هذا، مأموراً بالخروج في جيش أُسامة، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يشدّد كثيراً بين الآونة والاُخرى على التعجيل في إنفاذ هذا الجيش.. فكيف ينسجم هذا مع الاَمر بتقديمه في الصلاة؟! ناهيك عن قصد الاِشارة إلى استخلافه!

____________________

(١) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٢: ١٢٢ - ١٢٣.

(٢) المعيار والموازنة: ٤١.

(٣) عبد الرزّاق، المصنّف ٥: ٤٢٩ - ٤٣٠، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٢: ١٢٣.

٧٤

لقد أدرك ابن تيميّة مابين الاَمرين من منافاة وتعارض صريحين، فنفى نفياً قاطعاً كون أبي بكر ممّن سُمّي في بعثة أُسامة(١) !!

لكنّ مثل هذا النفي لاينقذ الموقف، خصوصاً وأنّ ابن تيميّة لم يقدّم برهاناً ولا شبهةً في إثبات دعواه، فيما جاء ذِكر أبي بكر في مَن سُمّي في ذلك الجيش في مصادر عديدة وهامّة، أصحابها جميعاً من القائلين بصحّة تقدّم أبي بكر(٢) .

أمّا نفي ذلك، أو تحرّج بعض المؤرّخين عن ذِكره، فإنّما مرجعه إلى الاختيار الشخصي في مساندة المذهب، لاغير، حين أدركوا بيقين أنّ شيئاً ممّا استدلّوا به على إمامته سوف لايتمّ لو كان أبو بكر في مَن سُمّي في جيش أُسامة، إذ هو مأمور بمغادرة المدينة المنوّرة أيّام وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تحت إمرة أُسامة بن زيد الشابّ ابن الثمان عشرة سنة(٣) !

نصوص أُخر:

لم يقف القائلون بالنصّ عند النصّ المتقدّم، بل رجعوا إلى مارأوا فيه نصّاً جليّاً على الخلافة، لكنّها في الحقيقة نصوص تثير على نفسها بنفسها شكوكاً كثيرة لاتُبقي احتمالاً لصحّتها، شكوكاً تثيرها الاَسانيد والمتون معاً.. وأهمّ هذه النصوص:

____________________

(١) ابن تيميّة، منهاج السُنّة ٣: ٢١٣.

(٢) الطبقات الكبرى ٤: ٦٦، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٨: ١٢٤، تهذيب تاريخ دمشق ٢: ٣٩٥ و ٣: ٢١٨، مختصر تاريخ دمشق ٤: ٢٤٨ رقم ٢٣٧ و ٥: ١٢٩ رقم ٥٦ ترجمة أُسامة بن زيد وأيّوب بن هلال، تاريخ اليعقوبي ٢: ٧٧، تاريخ الخميس ٢: ١٧٢، شرح نهج البلاغة ١: ١٥٩ و ٢٢٠ و ٩: ١٩٧.

(٣) الطبقات الكبرى ٤: ٦٦.

٧٥

١ - إنّ أمرأةً سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: يا رسول الله، أرأيتَ إنْ جئتُ فلم أجدك؟ - كأنّها تُريد الموت - فقال: «فإن لم تجديني فأتي أبا بكر»(١) .

وهذا الحديث متّحد عند الشيخين في سلسلة واحدة، وهي: إبراهيم ابن سعد، عن أبيه، عن محمّد بن جُبير بن مطعم، عن أبيه جُبير بن مطعم: أنّ أمرأةً سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...

فلم يروه من الصحابة إلاّ جُبير بن مطعم، ولم يروه عن جُبير إلاّ ولده محمّد، ولم يروه عن محمّد غير سعد (وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف) ولم يروه عن سعد غير ولده إبراهيم! ثمّ أخذه الرواة عن إبراهيم بن سعد!

مناقشة الاِسناد: نظرة واحدة في هذا الاِسناد، بعيداً عن التقليد، تُحبط الآمال التي يمكن أن تُعقد عليه:

فجبير بن مطعم: من الطلقاء، وهو صاحب أبي بكر، تعلّم منه الاَنساب وأخبار قريش(٢) ، وكانت عائشة تُسمّى له وتُذكر له قبل أن يتزوّجها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم(٣) ، وذكره بعضهم في المؤلّفة قلوبهم. وكان شريفاً في قومه بني نوفل وهم حلفاء بني أُميّة في الجاهلية والاِسلام. وهو أحد الخمسة الّذين اقترحهم عمرو بن العاص على أبي موسى الاَشعري

____________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم في باب فضائل أبي بكر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٧: ١٤ - ١٥، صحيح مسلم بشرح النووي ٨: ١٥٤، وانظر: تثبيت الاِمامة وترتيب الخلافة: ٩٠ رقم ٥٦.

(٢) ترجمة جبير بن مطعم في: سير أعلام النبلاء ٣: ٩٥ رقم ١٨، الاِصابة ١: ٢٢٦ رقم ١٠٩٢.

(٣) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ١٤: ٢٢.

٧٦

للمشورة في التحكيم - وهم: جبير بن مطعم، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وأبو الجهم بن حذيفة، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام بن المغيرة - وكلّهم مائل عن عليّ عليه السلام، فابن الزبير وعبد الرحمن بن الحرث كانا في أصحاب الجَمل الّذين قاتلوا عليّاً في البصرة، وعبدالله بن عمرو مع أبيه عمرو بن العاص في أصحاب معاوية، وجبير وأبو الجهم من مسلمة الفتح هواهما مع بني أُميّة(١) !

محمّد بن جبير بن مطعم: وهو القائل لعبد الملك بن مروان وقد سأله: هل كنّا نحن وأنتم - يعني أُميّة ونوفل - في حلف الفضول(٢) ؟ فقال له محمّد بن جُبير بن مطعم: لا والله يا أمير المؤمنين، لقد خرجنا نحن وأنتم منه، ولم تكن يدنا ويدكم إلاّ جميعاً في الجاهلية والاِسلام(٣) !

وقد اعتزل محمّد عليّاً والحسن عليهما السلام في حربهما مع معاوية، فلمّا تمّ الصلح كان محمّد ممثَّلاً في وفد المدينة إلى معاوية للبيعة(٤) .

وأمّا سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: فقد كان قاضياً لبعض ملوك بني أُميّة على المدينة(٥) .

وأمّا ولده إبراهيم بن سعد: فهو صاحب العُود والغناء، كان يعزف

____________________

(١) راجع تراجمهم في: الاستيعاب، وأُسد الغابة، والاِصابة، ومختصر تاريخ دمشق، وسير أعلام النبلاء.

(٢) حلف الفضول: حلف جمع بني هاشم وزُهرة وتَيم، اجتمعوا عند عبد الرحمن بن جدعان فتحالفوا جميعاً على دفع الظلم واسترداد الحقّ من الظالم وإعادته إلى صاحبه المظلوم.

(٣) الاَغاني ١٧: ٢٩٥.

(٤) أُنظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري ١٣: ٩٨.

(٥) تاريخ بغداد ٦: ٨٣، الاَغاني ١٥: ٣٢٩.

٧٧

ويغنّي، جاءه أحد أصحاب الحديث ليأخذ عنه، فوجده يغنّي، فتركه وانصرف، فأقسم إبراهيم ألاّ يحدّث بحديث إلاّ غنّى قبله! وعمل والياً على بيت المال ببغداد لهارون الرشيد(١) .

هذا النصّ، الذي جاء بهذه السلسلة الوحيدة، هو الذي رأى فيه ابن حزم وغيره نصّاً جليّاً على خلافة أبي بكر(٢) ! غير أنّ الجرجاني والتفتازاني لم يذكراه، فيما ذكرا نصوصاً كثيرة أضعف منه سنداً، وأقلّ منه دلالة(٣) !

مناقشة المتن: وخطوة أُخرى إلى الاَمام في التحقيق تضعنا أمام صورة أكثر وضوحاً حيث تُرينا كيف حلّ هذا الحديث محلّ الحديث الصحيح الوارد في عليّ عليه السلام بعين هذا المتن!

لمّا حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت صفيّة أُمّ المؤمنين: يا رسول الله، لكلّ امرأةٍ من نسائك أهل تلجأ إليهم، وإنّك أجليت أهلي، فإنْ حَدَثَ حَدَثٌ فإلى مَن؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إلى عليّ بن أبي طالب». أخرجه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح(٤) .

إنّ الظروف السياسية الغالبة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحتى عصر

____________________

(١) تاريخ بغداد ٦: ٨١ - ٨٦، الاَعلام ١: ٤٠.

(٢) الفِصَل ٤: ١٠٨. انظر أيضاً: تثبيت الاِمامة وترتيب الخلافة: ٩٠ - ٩١ رقم ٥٦، نظام الخلافة بين أهل السُنّة والشيعة: ٣٩.

(٣) أُنظر: الجرجاني، شرح المواقف ٨: ٣٦٤ - ٣٦٥، التفتازاني، شرح المقاصد ٥: ٢٦٣ -٣٦٧.

(٤) مسند أحمد ٦: ٣٠٠، مجمع الزوائد ٩: ١١٣.

٧٨

تدوين جوامع الحديث، هي السبب الوحيد في ظهور الحديث الاَول ودخوله في كتب الشيخين وغيرهما دون الحديث الثاني!

٢ - قالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه: «ادعي لي أبا بكر أباك، وأخاكِ، حتّى أكتب كتاباً، فإنّي أخاف أن يتمنّى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أوْلى، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر»(١) .

أسند مسلم هذا الحديث كما يلي: عبيدالله بن سعيد، عن يزيد بن هارون، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.

فقد ظهر إبراهيم بن سعد في هذا الحديث أيضاً، وهو صاحب الحديث المتقدّم، صاحب العود والغناء، صاحب هارون الرشيد.

أمّا الزهري وعروة وعائشة فهم من أشدّ الناس ميلاً وانحرافاً عن عليّ عليه السلام، وموقفهم من الخلافة ومن عليّ عليه السلام خاصّة وبني هاشم عامّة معروف جدّاً!

وأورده البخاري من طريق آخر ينتهي أيضاً إلى عائشة، فهي وحدها رأس هذا الحديث في جميع طرقه!

ولعلّ أقوى مايُثار هنا: أنّ هذه الاَحاديث قد رواها الشيخان، فكيف يمكن طعنها والشكّ فيها؟!

وما أيسر الجواب لمن تجرّد للحقيقة دون سواها، الحقيقة التي كشف

____________________

(١) صحيح البخاري - كتاب الاَحكام - باب الاستخلاف ٦ | ٦٧٩١، صحيح مسلم - باب فضائل أبي بكر ٥ | ٢٣٨٧ والنصّ منه.

٧٩

عنها النقاب مؤرّخون وأئمّة لاشك في وثاقتهم وصدقهم:

- قال نفطويه في تاريخه: ( إنّ أكثر الاَحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة اختُلِقت في أيّام بني أُميّة تقرّباً إليهم في مايظنّون أنّهم يُرغِمون به أُنوف بني هاشم )!

- وقال المدائني في كتابه في الاَحداث: ( فرُوِيَتْ أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة، لا حقيقة لها.. حتّى انتقلت تلك الاَخبار والاَحاديث إلى الديّانين الّذين لايستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنّها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة مارووها ولا تديّنوا بها )!

- وقال الاِمام الباقر عليه السلام: «حتّى صار الرجل الذي يُذكر بالخير، ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً، يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض مَن قد سلفَ من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت وقعت، وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من رواها ممّن لم يُعرف بالكذب ولابقلّة ورع»(١) !

فليس بمستنكَرٍ إذن أن تنفذ هذه الاَخبار إلى الصحيحين وغيرهما.. فمن أين يأتي الاستنكار وهم مارووها إلاّ وهم يعتقدون صحّتها؟!

وهذا الحديث بالذات ممّا شهد المعتزلة بأنّ البكرية وضعته في مقابل الحديث المرويّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه: «ائتوني بدواةٍ وبياض أكتب لكم كتاباً لاتضلّوا بعده أبداً» فاختلفوا عنده، وقال قوم منهم: لقد غلبه

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ١١: ٤٣ - ٤٦.

٨٠

الوجع، حسبنا كتاب الله(1) !

وممّا يشهد لهذا القول، بل يجعله يقيناً لا شكّ فيه، ماثبت عن ابن عبّاس في وصف اختلافهم عند النبيّ ( ص ) الذي حال دون كتابة ذلك الكتاب، فقد كان ابن عبّاس يصف هذا الحديث بأنّه (الرزيّة، كلّ الرزيّة) ويذكره فيقول: (يوم الخميس، وما يوم الخميس! قالوا: وما يوم الخميس؟! قال: اشتدّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعه فقال: «ائتوني أكتب لكم كتاباً لاتضلّوا بعدي» فتنازعوا، وماينبغي عند نبيٍّ تنازع! وقالوا: ماشأنهُ! أهَجَر؟ استفهموه!! فقال: «دعوني، فالذي أنا فيه خير» قال ابن عباس: إن الرزيّة كلّ الرزيّة ماحال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، من اختلافهم ولغطهم). ويبكي حتّى يبلّ دمعُه الحصى(2) .

فلو كان الاَمر كما وصفه الحديث المنسوب إلى عائشة «يأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر» لم تكن ثمّة رزية يبكي لها ابن عبّاس كلّ هذا البكاء ويتوجّع كلّ هذا التوجّع.

إنّ بكاء ابن عبّاس وتوجّعه الشديد لهذا الحديث لهو دليلٌ لاشيء أوضح منه على أنّ الذي أراده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك الكتاب لم يتحقّق، بل تحقّق شيء آخر غيره لم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أراده ولا أشار إليه أدنى إشارة.

وتزداد هذه الحقيقة رسوخاً حين ندرك أنّ ابن عبّاس هو واحد من

____________________

(1) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 11: 49.

(2) صحيح البخاري - كتاب المرضى - باب 17 | 5345 وفيه أن الذي اعترض على الرسول هو عمر، صحيح مسلم - كتاب الوصيّة | 15 و 21 و 22، مسند أحمد 1: 324، السيرة النبوية - للذهبي -: 384، البداية والنهاية 5: 248.

٨١

سادة بني هاشم الّذين لم يبايعوا لاَبي بكر إلاّ بعد ستّة أشهر(1) !

فمع هذه الثوابت لايبقى احتمال لصحّة الحديث المنسوب إلى عائشة!

3 - حديث: «اقتدوا باللَّذَين مِن بعدي، أبي بكر وعمر».

أخرجه الترمذي وابن ماجة(2) ، واعتمده كثيرون في إثبات النصّ على أبي بكر وعمر، أو في إثبات صحّة خلافتهما(3) .

لكنّ ابن حزم استهجن كثيراً الاستدلالَ بهذه الرواية، وعدّه عيباً يترصّدُ أمثالَه الخصوم، فقال مانصّه: (ولو أنّنا نستجيز التدليس والاَمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً، أو أبلسوا أسفاً، لاحتججنا بما روي « اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر وعمر » ولكنّه لايصحّ، ويُعيذنا الله من الاحتجاج بما لايصحّ)(4) .

4 - نصوص أُخر نُسبت إلى عليّ عليه السلام، إمعاناً في سدّ الثغرات، وقطع الطريق على الخصم، استبعد المحبّ الطبري صحّة شيءٍ منها لتخلّف عليٍّ عن بيعة أبي بكر ستّة أشهر، ونسبته إلى نسيان الحديث في مثل هذه المدّة أمر بعيد(5) .

____________________

(1) السنن الكبرى 6: 300، تاريخ الطبري 3: 208، مروج الذهب 2: 316، الكامل في التاريخ 2: 331، جامع الاُصول 4: 482.

(2) سنن الترمذي - مناقب أبي بكر 5 | 3662، سنن ابن ماجة 1: 97.

(3) شرح المواقف 8: 364، شرح المقاصد 5: 266، تثبيت الاِمامة: 92 رقم 59.

(4) الفِصَل 4: 108.

(5) الرياض النضرة: 48 - 49.

٨٢

وهذا حقٌّ يؤيّده ما اشتهر عن عليّ عليه السلام من ذِكر حقّه في الخلافة(1) .

هذه جملة مااعتمدوه من النصوص الحديثية في النصّ على أبي بكر وتقديمه.

ثانياً - نصوص من القرآن الكريم:

1 - قوله تعالى:( وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ ) (2) .

قالوا: الخطاب هنا للصحابة، فوجب أن يوجد في جماعة منهم خلافة يتمكّن بها الدين، ولم يوجد على هذه الصفة إلاّ خلافة الخلفاء الاَربعة، فهي التي وعد الله بها(3) . حتّى صرّح بعضهم بأنّ الآية نازلة فيهم، أو في أبي بكر وعمر خاصّةً(4) .

وهذا الاستدلال ضعّفه المفسّرون بأمرين:

الاَوّل: إنّ المراد في هذه الآية هو (الوعد لجميع الاُمّة في ملك الاَرض كلّها تحت كلمة الاِسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: «زُوِيَتْ لي الاَرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلك أُمّتي مازُوِيَ لي منها»). وأنّ (الصحيح في هذه الآية أنّها في استخلاف الجمهور،

____________________

(1) سيأتي في هذا البحث.

(2) سورة النور 24: 55.

(3) شرح المواقف 8: 364، شرح المقاصد 5: 265.

(4) تفسير القرطبي 12: 195.

٨٣

واستخلافهم هو أن يملّكهم البلاد ويجعلهم أهلها...

ألا ترى إلى إغزاء قريش المسلمين في أُحد وغيرها، وخاصّةً الخندق، حتّى أخبر الله تعالى عن جميعهم فقال:( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ) (1) . ثمّ إنّ الله ردّ الكافرين لم ينالوا خيراً، وأمّن المؤمنين وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وهو المراد بقوله:( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ) . وقوله:( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) يعني بني إسرائيل، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر، وأورثهم أرضهم وديارهم.. وهكذا كان الصحابة مستضعَفين خائفين، ثمّ إنّ الله تعالى أمّنهم ومكّنهم وملّكهم، فصحّ أنّ الآية عامّة لاُمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم غير مخصوصة، إذ التخصيص لايكون إلاّ بخبر ممّن يجب له التسليم، ومن الاَصل المعلوم التمسّك بالعموم)(2) .

والثاني: ماذكروه في سبب نزول الآية، فإنّه منطبق تماماً على ماذُكر آنفاً، لايُساعد على تخصيصها في الخلفاء الاَربعة أو بعضهم، وإنْ كان فيه مايفيد تخصيصها بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه(3) .

ففي رواية البراء، قال: فينا نزلت ونحن في خوف شديد.

____________________

(1) سورة الاَحزاب 33: 10 و 11.

(2) تفسير القرطبي 12: 196 - 197، تفسير الشوكاني (فتح القدير) 4: 47. وانظر أيضاً: الميزان في تفسير القرآن 15: 167.

(3) كما تقدّم في آخر الكلام المنقول عن القرطبي، وهو ماذهب إليه محمّد جواد مغنية في تفسيره الكاشف 5: 436.

٨٤

وفي رواية أبي العالية، يصف حال أصحاب الرسول وهم خائفون، يُمسون في السلاح ويُصبحون في السلاح، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله الآية، فأظهر الله نبيّه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح.

ومثلها رواية أُبيّ بن كعب، وقوله في رواية ثانية عنه: لمّا نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم( وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) الآية، بشّر هذه الاُمّة بالسَنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الاَرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب(1) .

أمّا رواية عبد بن حُميد عن عطيّة ففيها تخصيص آخر مخالف للتخصيص المذكور في الخلفاء الاَربعة، إذ قال عطيّة: هم أهل بيتٍ هاهنا! وأشار بيده إلى القِبلة(2) .

وفي هذا عطف على ماذهب إليه غالب مفسّري الشيعة من أنّ المراد بالّذين آمنوا وعملوا الصالحات هنا: النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والاَئمّة من أهل بيته عليهم السلام. وأنّ هذه الآية تبشّر بالمهدي الموعود من أهل البيت ودولته(3) .

فمع هذا القول، أو مع ظهور ما تقدم من إفادتها العموم، لا يبقى وجه للتمسّك بها هنا.

2 - قوله تعالى( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ

____________________

(1) الدر المنثور 6: 215 - 216.

(2) الدر المنثور 6: 216.

(3) مجمع البيان 4: 152، الميزان 15: 166 - 167، الاِفصاح في الاِمامة: 102.

٨٥

شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّـهُ أَجْرًا حَسَنًا ) (1) . فقد جعل الداعي مفترض الطاعة، والمراد به أبو بكر وعمر وعثمان، فوجبت طاعتهم بنصّ القرآن، وإذ قد وجبت طاعتهم فرضاً فقد صحّت إمامتهم وخلافتهم(2) .

والصحيح الذي يوافق تاريخ نزول الآية الكريمة، ويوافق الوقائع، هو ماذكره الرازي من أنّ الداعي هو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم(3) ، إذ كانت الآية المذكورة نازلة في الحديبية بلا خلاف، وهي في سنة ستّ للهجرة، وبعدها غزا النبيّ هوازن وثقيف وهم أُولو بأس شديد، في وقعة حنين الشهيرة وذلك بعد فتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة، وفتح مكّة هو الآخر دعوة إلى قتال قوم أُولي بأس شديد قاتَلوا الاِسلام وأهله حتّى أظهره الله عليهم في الفتح، ثمّ كانت غزوة مؤتة الشديدة، ثمّ غزوة تبوك وهي المعروفة بجيش العسرة، التي استهدفت محاربة الروم على مشارف الشام، ثمّ دعاهم مرّةً أُخرى لقتال الروم في جيش أُسامة الذي جهّزه وأمر بإنفاذه وشدّد على ذلك في مرضه الذي توفّي فيه.

فكيف يقال إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يَدْعُهُم إلى قتال بعد نزول الآية؟!

ولاَجل الفرار من هذا المأزق ذهبوا إلى آية سورة التوبة النازلة في المخلَّفين:( فَإِن رَّجَعَكَ اللَّـهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا

____________________

(1) سورة الفتح 48: 16.

(2) الفِصَل 4: 109 - 110، شرح المواقف 8: 364، شرح المقاصد 5: 266.

(3) تفسير الرازي 28: 92 - 93.

٨٦

مَعَ الْخَالِفِينَ ) (1) .

قال ابن حزم بعد أن ذكر هذه الآية ما نصّه: ( وكان نزول سورة براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شكّ التي تخلّف فيها الثلاثة المعذورون الّذين تاب الله عليهم في سورة براءة، ولم يغزُ عليه السلام بعد غزوة تبوك إلى أن مات. وقال تعالى أيضاً:( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّـهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّـهُ مِن قَبْلُ ) (2) فبيّن أنّ العرب لايغزون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد تبوك )(3) !

وهذا أوّل التهافت! فالآية الثانية، آية سورة الفتح، نزلت في الحديبية سنة ستّ للهجرة بلا خلاف، أي قبل تبوك بثلاث سنين! ويتّضح التهافت جليّاً حين يواصل القول مباشرةً: (ثمّ عطف سبحانه وتعالى عليهم إثر منعه إيّاهم من الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغلق باب التوبة فقال تعالى:( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) فأخبر تعالى أنّهم سيدعوهم غير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى قومٍ يقاتلونهم أو يُسلمون)(4) .

وهكذا قلب ترتيب الآيات، فقدّم آية التوبة النازلة بعد تبوك سنة تسع، وأخّر آية الفتح النازلة في الحديبية سنة ستّ، ليتّفق له مايريد!!

____________________

(1) سورة التوبة 9: 83.

(2) سورة الفتح 48: 15.

(3) الفِصَل 4: 109.

(4) الفِصَل 4: 109.

٨٧

وهذا هو الخطأ الاَوّل، فكيف يكون مانزل سنة تسع من الهجرة مقدَّماً على مانزل سنة ستّ؟!

وأمّا الخطأ الثاني فليس بأقلّ ظهوراً من الاَوّل: فآية سورة الفتح النازلة في الحديبية في السنة السادسة قد جاء فيها الاِخبار عن وقوع الدعوة، وتعليق الثواب والعقاب بالطاعة والعصيان منهم، فنصّ الآية يقول:( سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ... ) وقد وقعت الدعوة منه صلى الله عليه وآله وسلم حقّاً في حُنين ومؤتة وتبوك.

أمّا آية سورة التوبة في المخلَّفين المنافقين فقد أغلقت عليهم طريق التوبة ومنعت خروجهم مع النبيّ ومع غيره أيضاً، إذ كيف يدعوهم أبو بكر أو عمر إلى جهاد الكفّار وهم قد شهد عليهم الله ورسوله بالكفر والموت على الضلال؟! فقال تعالى في تلك الآية نفسها:( فَإِن رَّجَعَكَ اللَّـهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ) (1) .

وهذا صريح في حكم الله تعالى عليهم بالكفر وقت نزول الآيات، وأنّهم يموتون على الكفر والضلال، وأكّد ذلك بقوله في الآية التالية مباشرة:( وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) (2) .

____________________

(1) سورة التوبة 9: 83 - 84.

(2) سورة التوبة 9: 85.

٨٨

فهؤلاء إذن المقطوع بكفرهم وموتهم على الكفر، غير أُولئك الّذين ذكرتهم سورة الفتح ووعدتهم بالثواب إنْ هم استجابوا للداعي!

ثمّة التفاتة هامّة جدّاً، وهي: أنّه في ذات الواقعة التي نزلت فيها الآية الاُولى:( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّـهُ أَجْرًا حَسَنًا ... ) أي في الحديبية ذاتها، قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لوفد قريش: «يا معشر قريش، لَتنتهنَّ أو لَيبعثنَّ اللهُ عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن قلبه على الاِيمان» قالوا: من هو يا رسول الله؟ فقال أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «خاصف النَعل» وكان قد أعطى عليّاً نعلاً يخصفها.

أخرجه الترمذي والنسائي وابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة(1) .

ونحو هذا تماماً قاله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لوفد ثقيف، قال: «لَتُسلمُنَّ أو لاَبعثنَّ عليكم رجلاً منّي - أو قال: مثل نفسي - ليضربنّ أعناقكم، وليسبينّ ذراريكم، وليأخذنّ أموالكم» قال عمر: فو الله ماتمنّيت الاِمارة إلاّ يومئذٍ، فجعلتُ أنصب صدري رجاء أن يقول: هو هذا. فالتفتَ إلى عليٍّ فأخذ بيده وقال: «هو هذا، هو هذا»(2) .

ونحوه ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه واقعٌ بعده، فقال: «إنّ منكم من يقاتل

____________________

(1) سنن الترمذي 5 | 3715، سنن النسائي 5 | 8416، كتاب الخصائص - بتخريج الاَثري | 30، المصنّف، ابن أبي شيبة - فضائل عليّ - 7 | 18.

(2) أخرجه: عبد الرزّاق، المصنّف 11: 226 | 20389، المصنّف، ابن أبي شيبة - فضائل عليّ - 7 | 23 و 30، النسائي، السنن - كتاب الخصائص - | 8457، ابن عبد البرّ، الاستيعاب 3: 46.

٨٩

على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله» فاستشرف له القوم، وفيهم أبو بكر وعمر، فقال أبو بكر: أنا هو؟ قال: «لا». قال عمر: أنا هو؟ قال: «لا، ولكن خاصف النعل» وكان عليٌّ يخصف نعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم(1) .

وهذه نصوص اجتمعت صراحةً على نفي وإثبات:

نفت صراحةً أن يكون الداعي أبو بكر أو عمر..

وأثبتت صراحةً أنّ الداعي بعد الرسول ( ص ) هو الإمام عليّ ( ع )!

وبعد وجود هذه النصوص الموثّقة المتضافرة فلا مسوِّغ للرجوع إلى مداخلات المتكلّمين.

____________________

(1) مسند أحمد 3: 82، الاحسان بترتيب صحيح ابن حبان 9: 46 رقم 6898، المصنف، ابن أبي شيبة - فضائل عليّ - 7 / 19، المستدرك 3: 123، البداية والنهاية 7: 398.

٩٠

الاتجاه الثاني: النصوص الصحيحة الحاكمة

نصوص أيقن بها طائفة من الصحابة، على رأسهم عليّ، يقيناً لا يسمح أن يتسرّب إلى مدلولها شكّ.. يقيناً دفع عليّاً عليه السلام أن يردّ بدهشة على من دعاه لتعجيل البيعة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً: «ومن يطلب هذا الاَمر غيرنا»(1) ؟!

لكنّ تسارع الاَحداث تلك الاَثناء، وإحكام القبضة، لم يتركا لشيء من تلك النصوص موقعاً يرتجى، أمّا حين تحقّقت بارقة أمل يوم اجتماع الاَصحاب الستّة للشورى ولم يُبَتّ في الاَمر بعد، فلم يتوانَ عليٌّ عليه السلام عن التذكير بطائفة منها(2) .

وبعد أن تمّت له البيعة كانت الاَذهان أكثر استعداداً للاِصغاء، وأوسع فسحةً للتأمّل.. فبالغ في التذكير ببعضها، نصّاً أو دلالةً، حتّى امتلاَت بها خطبه الطوال والقصار، وكان لايخلو تذكيره أحياناً من تقريع، ظاهر.. أو خفيّ!

وبواحد من مواقفه نستهلّ هذه الطائفة من النصوص:

1 - قوله ( ص ): «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه»:

خطب الإمام عليٌّ عليه السلام في الناس، فقال: أنشدُ اللهَ مَن سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

____________________

(1) الاِمامة والسياسة: 12.

(2) أُنظر: الاستيعاب بحاشية الاِصابة 3: 35، شرح نهج البلاغة 6: 167 - 168.

٩١

يقول يوم غدير خُمّ: «مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه» لَما قام فشهد!

فقام اثنا عشر بدرياً، فقالوا: نشهد أنّا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خُمّ: «ألستُ أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم»؟ قلنا: بلى، يا رسول الله.

قال: «فمَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عادا»(1) .

وحديث غدير خمّ لم يرد في مسند أحمد أكثر منه طُرُقاً إلاّ حديثاً واحداً(2) ! أمّا في كتاب (السُنّة) لابن أبي عاصم ( ت /287 هـ) وتاريخ ابن كثير، فلا يضاهيه حديث(3) !! ورواه غيرهم بأسانيد صحيحة، كالترمذي وابن ماجة، والنسائي، وابن أبي شيبة، والحاكم(4) . ونَصَّ الذهبي على تواتره(5) .

____________________

(1) مسند أحمد 1، 84 و 88 و 118 و 119 - مرّتان -، سنن النسائي - كتاب الخصائص - | 8542، البداية والنهاية 5: 229 - 232 و 7: 383 - 385 من نحو عشرين طريقاً.

(2) أخرج أحمد حديث الغدير من تسع عشرة طريقاً، المسند 1: 84 و 88 و 118 - ثلاث مرّات - و 119 - مرّتان - و 152 و 331، و 4: 281 و 368 و 370 و 372 - مرّتان - و 5: 347 و 358 و 361 و 362 و 419.

ولا يضاهيه إلاّ حديث «مَن كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار» فقد خرّجه من نحو 25 طريقاً.

(3) أُنظر: البداية والنهاية 5: 228 - 233 و 7: 383 - 386، فقد خرّجه من نحو 40 طريقاً، بما فيها طرق حديث المناشدة المتقدّمة.

(4) سنن الترمذي 5 | 3713، سنن ابن ماجة 1 | 116 و 121، الخصائص - للنسائي بتخريج الاَثري - | 80 و 82 - 85 و 90 و 95 و 153، المصنّف، ابن أبي شيبة - باب فضائل عليّ - 7 | 9 و 10 و 29 و 55، المستدرك 3: 109 - 110.

(5) أُنظر: البداية والنهاية 5: 233.

٩٢

لكن بعد هذا جاء دور المتكلّمين، فبذلوا جهوداً مضنيةً في تأويله وصرفه عن معناه، بل تجريده من كلّ معنىً!!

فحين رأوا أنّ الاِقرار بدلالته على الولاية العامّة يفضي إلى إدانة التاريخ وتخطئة كثير من الصحابة، ذهبوا إلى تأويله بمجرّد النصرة والمحبّة، فيكون معنى الحديث: يا معشر المؤمنين، إنّكم تحبّونني أكثر من أنفسكم، فمن يحبّني يحبّ عليّاً، اللّهمّ أحبّ من أحبّه، وعادِ من عاداه(1) !

وحين رأوا أنّ جماعة من الصحابة قد عادَوه وحاربوه، ومنهم: عائشة وطلحة والزبير، وأنّ آخرين قد أسّسوا دينهم ودنياهم على بغضه، ومنهم: معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة ومروان وعبد الله بن الزبير.. ذهبوا إلى حقّ هؤلاء في الاجتهاد مقابل ذلك النصّ، فهم معذورون وإن أخطأوا، بل مأجورون أجراً واحداً لاَجل اجتهادهم(2) !!

وهكذا أصبح الخروج على نصوص الشريعة حتّى في مثل تلك الطرق السافرة، اجتهاداً يُثاب صاحبه، وليس بينه وبين الآخر الذي تمسّك بالشريعة وقاتل دونها إلاّ فرق الاَجر! فالذي قاتل الشريعة له نصف أجر الذي قاتل دونها!!

لقد كان الاَوْلى بهم أن يتابعوا سُنّة الرسول، ويوقِّروا نصّه الشريف الثابت عنه، بدلاً من إفراطهم في متابعة الاَمر الواقع الذي ظهر فيه اختلاف كثير..

____________________

(1) الآلوسي، روح المعاني 6: 195 وما بعدها.

(2) أُنظر: الفِصَل في الملل والنحل 4: 161 و 163، البداية والنهاية 7: 290، الباعث الحثيث: 182.

٩٣

فالحقّ أنّ هذا نصٌّ صريح في ولاية الإمام عليٍّ عليه السلام، لا يحتمل شيئاً من تلك التأويلات التي ما كانت لتظهر لولا الانحياز للاَمر الواقع ومناصرته.

وممّا يزيد في ظهور هذا النصّ نصوص أُخرى تشهد له وتبيّنه، كما نرى في النصوص الآتية:

2 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي». حديث صحيح(1) ؟.

3 - ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم في عليّ: «إنّه منّي وأنا منه، وهو وليّكم بعدي.. إنّه منّي وأنا منه وهو وليّكم بعدي» يكرّرها(2) .

4 - ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعليٍّ: «أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي». أو: «أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة»(3) .

وبعد اليقين بصحّة هذه الاحاديث، لايمكن أن تفسّر بحسب ظاهرها فتدين الواقع التاريخي!

فلمّا أرادوا تفسير الولاية هنا أيضاً بالنصرة والمحبّة، نظير ما في قوله تعالى:( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (4) ، صدمهم قوله: «بعدي» الذي لا يمكن أن يتشابه معناه!

____________________

(1) مسند أحمد 4: 437 - 438، سنن الترمذي 5 | 3712، الخصائص - للنسائي بتخريج الاَثري - | 65 و 86، المصنّف، ابن أبي شيبة - فضائل عليّ - 7 | 58، الاِحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9: 41 | 6890.

(2) مسند أحمد 5: 356، الخصائص - بتخريج الاَثري: | 87.

(3) مسند أحمد 1: 331، الخصائص - بتخريج الاَثري: | 23، المستدرك 3: 134.

(4) سورة التوبة 9: 71.

٩٤

ولمّا كانت قدسية الرجال أعظم من قدسية النصّ، رغم ثبوت صحّته عندهم، شهروا سيف التكذيب، فقالوا: إسناده صحيح مع نكارة في متنه لشذوذ كلمة ( بعدي )!

ولمّا أرادوا البرهان على هذه النكارة والشذوذ فمن اليسير جدّاً أن يرموا بها «شيعيّاً» ورد في إسناد بعضها(1) !

لكن من البديهي أنّ مثل هذا البرهان الاَخير يحتاج إلى توثيق، خصوصاً إزاء حديث يرِد بأسانيد صحيحة متعدّدة، فكيف وثّقوه؟!

ليتهم لم يوثّقوه، ليتهم تركوه مجازفةً كمجازفات الكثير من أصحاب الاَذواق!!

قالوا في توثيقه: يؤيّده أنّ الاِمام أحمد روى هذا الحديث من عدّة طرق ليست في واحدة منها هذه الزيادة(2) !

إنّها مقالةُ مَن لايخشى فضيحة التحقيق!!

فالنصوص الثلاثة التي ذكرناها لهذا الحديث، وفي جميعها كلمة ( بعدي ) جميعها في مسند أحمد(3) !

وأغرب من هذا أنّ المحقّق الذي ينقل قولهم المتقدّم ويعتمده، يخرّج بعضها على مسند أحمد نفسه(4) !!

____________________

(1) علماً أنّ التشيّع في مصطلحهم: هو تفضيل عليٍّ على عثمان، لا غير، والطعن على ملوك بني أُميّة!

(2) أُنظر: أبا إسحاق الاَثري في تخريجه الحديث 60 من كتاب (الخصائص).

(3) مسند أحمد 1: 331، 4: 438، 5: 356. وقد ذكرناها في تخريج النصوص كلٌّ في محلّه.

(4) الاَثري، كتاب (الخصائص) للنسائي | 87.

٩٥

ومرّة أُخرى ينهار ذلك البرهان وتوثيقه أمام الحديث الذي رواه أحمد في مسنده وفيه قوله ( ص ): «أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي»(1) ، وليس في إسناده واحد من أُولئك (الشيعة) الّذين اتُّهِموا به! بل اتّفق على صحّته الحاكم والذهبي والاَلباني(2) !

إنّ هذه الدلائل ليست فقط تثبت صحّة قوله «بعدي»، إنّما تثبت أيضاً أنّ الرواية التي وردت في مسند أحمد أو غيره وليس فيها كلمة «بعدي» إنّما قام (بتهذيبها) أنصار التاريخ الّذين نصروه حتّى في أوج انحرافه عن السُنّة..

كيف لا؟! وهي إدانة صريحة لمساره المنحرف الذي صار عقيدةً يتديّنون بها، ويضلِّلون مَن خالفهم فيها!

5 - الحديث الذي غاب عن (السنن) وأظهره أصحاب التاريخ والتفسير:

قوله ( ص ): « إنّ هذا أخي، ووصيّي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا»(3) .

فإذا كان الذي دهش قريشاً في جاهليّتها هو أن يؤمر أبو طالب بأن

____________________

(1) مسند أحمد 1: 331 من حديث ابن عبّاس.

(2) المستدرك 3: 133 - 134 وتلخيصه للذهبي في الصفحة ذاتها، كتاب السُنّة لابن أبي عاصم - بتخريج الاَلباني -: 552.

(3) تاريخ الطبري 2: 217، الكامل في التاريخ 2: 62 - 64، السيرة الحلبية 1: 461، شرح نهج البلاغة 13: 210 و 244 وصحّحه، مختصر تاريخ دمشق - لابن عساكر -، ابن منظور 17: 310 - 311، تفسير البغوي (معالم التنزيل) 4: 278، تفسير الخازن 3: 371 - 372 نقلاً عن سيرة ابن إسحاق، المنتخب من كنز العمّال - بهامش مسند أحمد - 5: 41 - 42.

٩٦

يسمع لابنه ويطيع(1) ، فقد دهشها بعد الاِسلام أن يؤمر كلّ الصحابة بذلك!

قال ابن كثير: ذكروا في إسناد هذا الحديث عبد الغفّار بن القاسم، وهو كذّاب، شيعي، اتّهمه عليّ بن المديني بوضع الحديث، وضعّفه الباقون(2) .

لكنّ أبو مريم، عبد الغفّار بن القاسم، قد حفظ له التاريخ غير ما ذكر ابن كثير!

حفظ لنا خلاصة سيرته، وصلته بالحديث، ومنزلته فيه، ثمّ حفظ علّة تركهم حديثه:

قال ابن حجر العسقلاني: (كان - أبو مريم - ذا اعتناء بالعلم وبالرجال.. وقال شعبة: لم أرَ أحفظ منه.. وقال ابن عديّ: سمعتُ ابن عقدة يثني على أبي مريم ويُطريه، ويجاوز الحدّ في مدحه، حتّى قال: لو ظُهر على أبي مريم مااجتمع الناس إلى شعبة)(3) !!

إذن لاَمرٍ ما لم يُظهَر على أبي مريم! قال البخاري: عبد الغفّار بن القاسم ليس بالقويّ عندهم.. حدّث بحديث بُرَيدة «عليٌّ مولى مَن كنتُ مولاه»(4) !

____________________

(1) حين قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لعليّ، قام الناس يضحكون ويقولون لاَبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع!

(2) البداية والنهاية 3: 38 - 39.

(3) لسان الميزان 4: 42 رقم 123.

(4) لسان الميزان 4: 43.

٩٧

لكنّ حديث بريدة هذا قد أخرجه ابن كثير نفسه من طريق آخر وصفه بأنّه إسناد جيّد قويّ، رجاله كلّهم ثقات(1) !

ذلك هو أبو مريم!

6 - خلاصة وصيّة النبيّ لاُمّته في حفظ رسالته، قال ( ص ): «ألا أيُّها الناس، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب، وأنا تاركٌ فيكم الثَقَلَين: أوّلهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به.. وأهل بيتي، أُذكّركم الله في أهل بيتي، أُذكّركم الله في أهل بيتي، أُذكّركم الله في أهل بيتي»(2) .

- «إنّي تاركٌ فيكم ماإنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الاَرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض.. فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(3) .

- «إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب الله، وأهل بيتي...»(4) .

تلك خلاصة رسالة السماء... ومفتاح المسار الصحيح الذي أراده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لشريعته.

وهذا كلام لا يختلف في فهمه عامّيٌّ وبليغ.. فمن أين يأتيه التأويل؟!

إنّه لو قُدِّر أن تتحقّق الخلافة لعليٍّ أوّلاً، لَما ارتاب أحد في هذا النصّ

____________________

(1) البداية والنهاية 5: 228.

(2) صحيح مسلم 4 | 2308 من عدّة طرق.

(3) سنن الترمذي 5 | 3788، مسند أحمد 3: 17.

(4) مسند أحمد 5: 182 و 189.

٩٨

الصريح الصحيح.. لكنّ اختلاف المسار الجديد عنه، وتقديس الرجال، هما وراء كلّ ما نراه من ارتياب وتجاهل لنصّ لا شيء أدلّ منه على تعيين أئمّة المسلمين، خلفاء الرسول!!

إنّ أغرب ما جاء في (تعطيل) هذا النصّ قولٌ متهافتٌ ابتدعه ابن تيميّة حين قال: (إنّ الحديث لم يأمر إلاّ باتّباع الكتاب، وهو لم يأمر باتّباع العترة، ولكن قال: أُذكّركم الله في أهل بيتي)(1) !

فقط وفقط، ولا كلمة واحدة!!

ولهذا القول المتهافت مقلِّدون، والمقلِّد لا يقدح في ذهنه ما يقدح في أذهان البسطاء حتّى ليعيد على شيخه السؤال: أين الثقل الثاني إذن؟! أين الخليفة الثاني إذن، والنبيّ يقول «الثقلين.. خليفتين»؟! ومَن هذان اللذان لن يفترقا حتّى يردا الحوضَ معاً؟!

«كتاب الله» و «عترتي أهل بيتي» إنّهما المحوران اللذان سيمثّلان محلّ القُطب في مسار الاِسلام الاَصيل غداً بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وليس بعد هذا الحديث، وحديث غدير خمّ، مايستدعي البحث عن نصوص أُخر لمن شاء أن يؤمن بالنصوص..

الخطاب الجامع.. مفترق الطرق:

في حديث صحيح، جمع الخطاب وأوجز:

قال الصحابي زيد بن أرقم: لمّا دفع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من حجّة الوداع ونزل

____________________

(1) منهاج السُنّة 4: 85، الفرقان بين الحقّ والباطل: 139.

٩٩

غدير خمّ، أمر بدوحاتٍ فقُمِمْن(1) ، ثمّ قال: «كأنّي دُعيتُ فأجبتُ، وإنّي تارك فيكم الثَقَلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي. فانظروا كيف تخلفوني فيهما! فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض».

ثمّ قال: «إنّ الله مولاي، وأنا وليّ كلّ مؤمن» ثمّ أخذ بيد عليّ رضي الله عنه، فقال: «مَن كنتُ وليّه فهذا وليّه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه».

قال أبو الطفيل: قلتُ لزيد: سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!

قال: نعم، وإنّه ما كان في الدوحات أحد إلاّ رآه بعينه وسمعه بأُذنيه(2)

ص.

هذا الخطاب، على نحو مائة ألف من المسلمين شهدوا حجّة الوداع، وعند مفترق طرقهم إلى مدائنهم، لم يعِشِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعده إلاّ نحو ثمانين يوماً(3) ، ليكون هذا الخطاب ذاته بعد اليوم الثمانين مفترق الطرق بين المسلمين، وحتّى اليوم!!

ثمانون يوماً لا تكفي لنسيانه!!

____________________

(1) أي: كُنِسْنَ.

(2) أخرجه: النسائي، السنن 5 | 8464، الاَثري، تخريج خصائص عليّ عليه السلام | 76 وذكر له عدّة مصادر، منها: مسند أحمد 1: 118، البزّار | 2538 - 2539، وابن أبي عاصم: 1365، والحاكم، المستدرك 3: 109، وأخرجه ابن كثير، البداية والنهاية 5: 228 وقال: قال شيخنا الذهبي: هذا حديث صحيح، وأخرجه اليعقوبي، التاريخ 2: 112.

(3) كانت خطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في غدير خمّ يوم 18 ذي الحجّة سنة 10 هـ، ووفاته صلى الله عليه وآله وسلم يوم 2 أو 12 ربيع الاَوّل من سنة 11 هـ، حسب اليعقوبي والطبري والكليني، أو 28 صفر، حسب الطبرسي.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133