خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص28%

خلافة الرسول بين الشورى والنص مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 133

خلافة الرسول بين الشورى والنص
  • البداية
  • السابق
  • 133 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46850 / تحميل: 6760
الحجم الحجم الحجم
خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الوجع، حسبنا كتاب الله(١) !

وممّا يشهد لهذا القول، بل يجعله يقيناً لا شكّ فيه، ماثبت عن ابن عبّاس في وصف اختلافهم عند النبيّ ( ص ) الذي حال دون كتابة ذلك الكتاب، فقد كان ابن عبّاس يصف هذا الحديث بأنّه (الرزيّة، كلّ الرزيّة) ويذكره فيقول: (يوم الخميس، وما يوم الخميس! قالوا: وما يوم الخميس؟! قال: اشتدّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعه فقال: «ائتوني أكتب لكم كتاباً لاتضلّوا بعدي» فتنازعوا، وماينبغي عند نبيٍّ تنازع! وقالوا: ماشأنهُ! أهَجَر؟ استفهموه!! فقال: «دعوني، فالذي أنا فيه خير» قال ابن عباس: إن الرزيّة كلّ الرزيّة ماحال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، من اختلافهم ولغطهم). ويبكي حتّى يبلّ دمعُه الحصى(٢) .

فلو كان الاَمر كما وصفه الحديث المنسوب إلى عائشة «يأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر» لم تكن ثمّة رزية يبكي لها ابن عبّاس كلّ هذا البكاء ويتوجّع كلّ هذا التوجّع.

إنّ بكاء ابن عبّاس وتوجّعه الشديد لهذا الحديث لهو دليلٌ لاشيء أوضح منه على أنّ الذي أراده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك الكتاب لم يتحقّق، بل تحقّق شيء آخر غيره لم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أراده ولا أشار إليه أدنى إشارة.

وتزداد هذه الحقيقة رسوخاً حين ندرك أنّ ابن عبّاس هو واحد من

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ١١: ٤٩.

(٢) صحيح البخاري - كتاب المرضى - باب ١٧ | ٥٣٤٥ وفيه أن الذي اعترض على الرسول هو عمر، صحيح مسلم - كتاب الوصيّة | ١٥ و ٢١ و ٢٢، مسند أحمد ١: ٣٢٤، السيرة النبوية - للذهبي -: ٣٨٤، البداية والنهاية ٥: ٢٤٨.

٨١

سادة بني هاشم الّذين لم يبايعوا لاَبي بكر إلاّ بعد ستّة أشهر(١) !

فمع هذه الثوابت لايبقى احتمال لصحّة الحديث المنسوب إلى عائشة!

٣ - حديث: «اقتدوا باللَّذَين مِن بعدي، أبي بكر وعمر».

أخرجه الترمذي وابن ماجة(٢) ، واعتمده كثيرون في إثبات النصّ على أبي بكر وعمر، أو في إثبات صحّة خلافتهما(٣) .

لكنّ ابن حزم استهجن كثيراً الاستدلالَ بهذه الرواية، وعدّه عيباً يترصّدُ أمثالَه الخصوم، فقال مانصّه: (ولو أنّنا نستجيز التدليس والاَمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً، أو أبلسوا أسفاً، لاحتججنا بما روي « اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر وعمر » ولكنّه لايصحّ، ويُعيذنا الله من الاحتجاج بما لايصحّ)(٤) .

٤ - نصوص أُخر نُسبت إلى عليّ عليه السلام، إمعاناً في سدّ الثغرات، وقطع الطريق على الخصم، استبعد المحبّ الطبري صحّة شيءٍ منها لتخلّف عليٍّ عن بيعة أبي بكر ستّة أشهر، ونسبته إلى نسيان الحديث في مثل هذه المدّة أمر بعيد(٥) .

____________________

(١) السنن الكبرى ٦: ٣٠٠، تاريخ الطبري ٣: ٢٠٨، مروج الذهب ٢: ٣١٦، الكامل في التاريخ ٢: ٣٣١، جامع الاُصول ٤: ٤٨٢.

(٢) سنن الترمذي - مناقب أبي بكر ٥ | ٣٦٦٢، سنن ابن ماجة ١: ٩٧.

(٣) شرح المواقف ٨: ٣٦٤، شرح المقاصد ٥: ٢٦٦، تثبيت الاِمامة: ٩٢ رقم ٥٩.

(٤) الفِصَل ٤: ١٠٨.

(٥) الرياض النضرة: ٤٨ - ٤٩.

٨٢

وهذا حقٌّ يؤيّده ما اشتهر عن عليّ عليه السلام من ذِكر حقّه في الخلافة(١) .

هذه جملة مااعتمدوه من النصوص الحديثية في النصّ على أبي بكر وتقديمه.

ثانياً - نصوص من القرآن الكريم:

١ - قوله تعالى:( وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ ) (٢) .

قالوا: الخطاب هنا للصحابة، فوجب أن يوجد في جماعة منهم خلافة يتمكّن بها الدين، ولم يوجد على هذه الصفة إلاّ خلافة الخلفاء الاَربعة، فهي التي وعد الله بها(٣) . حتّى صرّح بعضهم بأنّ الآية نازلة فيهم، أو في أبي بكر وعمر خاصّةً(٤) .

وهذا الاستدلال ضعّفه المفسّرون بأمرين:

الاَوّل: إنّ المراد في هذه الآية هو (الوعد لجميع الاُمّة في ملك الاَرض كلّها تحت كلمة الاِسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: «زُوِيَتْ لي الاَرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلك أُمّتي مازُوِيَ لي منها»). وأنّ (الصحيح في هذه الآية أنّها في استخلاف الجمهور،

____________________

(١) سيأتي في هذا البحث.

(٢) سورة النور ٢٤: ٥٥.

(٣) شرح المواقف ٨: ٣٦٤، شرح المقاصد ٥: ٢٦٥.

(٤) تفسير القرطبي ١٢: ١٩٥.

٨٣

واستخلافهم هو أن يملّكهم البلاد ويجعلهم أهلها...

ألا ترى إلى إغزاء قريش المسلمين في أُحد وغيرها، وخاصّةً الخندق، حتّى أخبر الله تعالى عن جميعهم فقال:( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ) (١) . ثمّ إنّ الله ردّ الكافرين لم ينالوا خيراً، وأمّن المؤمنين وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وهو المراد بقوله:( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ) . وقوله:( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) يعني بني إسرائيل، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر، وأورثهم أرضهم وديارهم.. وهكذا كان الصحابة مستضعَفين خائفين، ثمّ إنّ الله تعالى أمّنهم ومكّنهم وملّكهم، فصحّ أنّ الآية عامّة لاُمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم غير مخصوصة، إذ التخصيص لايكون إلاّ بخبر ممّن يجب له التسليم، ومن الاَصل المعلوم التمسّك بالعموم)(٢) .

والثاني: ماذكروه في سبب نزول الآية، فإنّه منطبق تماماً على ماذُكر آنفاً، لايُساعد على تخصيصها في الخلفاء الاَربعة أو بعضهم، وإنْ كان فيه مايفيد تخصيصها بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه(٣) .

ففي رواية البراء، قال: فينا نزلت ونحن في خوف شديد.

____________________

(١) سورة الاَحزاب ٣٣: ١٠ و ١١.

(٢) تفسير القرطبي ١٢: ١٩٦ - ١٩٧، تفسير الشوكاني (فتح القدير) ٤: ٤٧. وانظر أيضاً: الميزان في تفسير القرآن ١٥: ١٦٧.

(٣) كما تقدّم في آخر الكلام المنقول عن القرطبي، وهو ماذهب إليه محمّد جواد مغنية في تفسيره الكاشف ٥: ٤٣٦.

٨٤

وفي رواية أبي العالية، يصف حال أصحاب الرسول وهم خائفون، يُمسون في السلاح ويُصبحون في السلاح، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله الآية، فأظهر الله نبيّه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح.

ومثلها رواية أُبيّ بن كعب، وقوله في رواية ثانية عنه: لمّا نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم( وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) الآية، بشّر هذه الاُمّة بالسَنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الاَرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب(١) .

أمّا رواية عبد بن حُميد عن عطيّة ففيها تخصيص آخر مخالف للتخصيص المذكور في الخلفاء الاَربعة، إذ قال عطيّة: هم أهل بيتٍ هاهنا! وأشار بيده إلى القِبلة(٢) .

وفي هذا عطف على ماذهب إليه غالب مفسّري الشيعة من أنّ المراد بالّذين آمنوا وعملوا الصالحات هنا: النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والاَئمّة من أهل بيته عليهم السلام. وأنّ هذه الآية تبشّر بالمهدي الموعود من أهل البيت ودولته(٣) .

فمع هذا القول، أو مع ظهور ما تقدم من إفادتها العموم، لا يبقى وجه للتمسّك بها هنا.

٢ - قوله تعالى( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ

____________________

(١) الدر المنثور ٦: ٢١٥ - ٢١٦.

(٢) الدر المنثور ٦: ٢١٦.

(٣) مجمع البيان ٤: ١٥٢، الميزان ١٥: ١٦٦ - ١٦٧، الاِفصاح في الاِمامة: ١٠٢.

٨٥

شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّـهُ أَجْرًا حَسَنًا ) (١) . فقد جعل الداعي مفترض الطاعة، والمراد به أبو بكر وعمر وعثمان، فوجبت طاعتهم بنصّ القرآن، وإذ قد وجبت طاعتهم فرضاً فقد صحّت إمامتهم وخلافتهم(٢) .

والصحيح الذي يوافق تاريخ نزول الآية الكريمة، ويوافق الوقائع، هو ماذكره الرازي من أنّ الداعي هو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم(٣) ، إذ كانت الآية المذكورة نازلة في الحديبية بلا خلاف، وهي في سنة ستّ للهجرة، وبعدها غزا النبيّ هوازن وثقيف وهم أُولو بأس شديد، في وقعة حنين الشهيرة وذلك بعد فتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة، وفتح مكّة هو الآخر دعوة إلى قتال قوم أُولي بأس شديد قاتَلوا الاِسلام وأهله حتّى أظهره الله عليهم في الفتح، ثمّ كانت غزوة مؤتة الشديدة، ثمّ غزوة تبوك وهي المعروفة بجيش العسرة، التي استهدفت محاربة الروم على مشارف الشام، ثمّ دعاهم مرّةً أُخرى لقتال الروم في جيش أُسامة الذي جهّزه وأمر بإنفاذه وشدّد على ذلك في مرضه الذي توفّي فيه.

فكيف يقال إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يَدْعُهُم إلى قتال بعد نزول الآية؟!

ولاَجل الفرار من هذا المأزق ذهبوا إلى آية سورة التوبة النازلة في المخلَّفين:( فَإِن رَّجَعَكَ اللَّـهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا

____________________

(١) سورة الفتح ٤٨: ١٦.

(٢) الفِصَل ٤: ١٠٩ - ١١٠، شرح المواقف ٨: ٣٦٤، شرح المقاصد ٥: ٢٦٦.

(٣) تفسير الرازي ٢٨: ٩٢ - ٩٣.

٨٦

مَعَ الْخَالِفِينَ ) (١) .

قال ابن حزم بعد أن ذكر هذه الآية ما نصّه: ( وكان نزول سورة براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شكّ التي تخلّف فيها الثلاثة المعذورون الّذين تاب الله عليهم في سورة براءة، ولم يغزُ عليه السلام بعد غزوة تبوك إلى أن مات. وقال تعالى أيضاً:( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّـهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّـهُ مِن قَبْلُ ) (٢) فبيّن أنّ العرب لايغزون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد تبوك )(٣) !

وهذا أوّل التهافت! فالآية الثانية، آية سورة الفتح، نزلت في الحديبية سنة ستّ للهجرة بلا خلاف، أي قبل تبوك بثلاث سنين! ويتّضح التهافت جليّاً حين يواصل القول مباشرةً: (ثمّ عطف سبحانه وتعالى عليهم إثر منعه إيّاهم من الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغلق باب التوبة فقال تعالى:( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) فأخبر تعالى أنّهم سيدعوهم غير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى قومٍ يقاتلونهم أو يُسلمون)(٤) .

وهكذا قلب ترتيب الآيات، فقدّم آية التوبة النازلة بعد تبوك سنة تسع، وأخّر آية الفتح النازلة في الحديبية سنة ستّ، ليتّفق له مايريد!!

____________________

(١) سورة التوبة ٩: ٨٣.

(٢) سورة الفتح ٤٨: ١٥.

(٣) الفِصَل ٤: ١٠٩.

(٤) الفِصَل ٤: ١٠٩.

٨٧

وهذا هو الخطأ الاَوّل، فكيف يكون مانزل سنة تسع من الهجرة مقدَّماً على مانزل سنة ستّ؟!

وأمّا الخطأ الثاني فليس بأقلّ ظهوراً من الاَوّل: فآية سورة الفتح النازلة في الحديبية في السنة السادسة قد جاء فيها الاِخبار عن وقوع الدعوة، وتعليق الثواب والعقاب بالطاعة والعصيان منهم، فنصّ الآية يقول:( سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ... ) وقد وقعت الدعوة منه صلى الله عليه وآله وسلم حقّاً في حُنين ومؤتة وتبوك.

أمّا آية سورة التوبة في المخلَّفين المنافقين فقد أغلقت عليهم طريق التوبة ومنعت خروجهم مع النبيّ ومع غيره أيضاً، إذ كيف يدعوهم أبو بكر أو عمر إلى جهاد الكفّار وهم قد شهد عليهم الله ورسوله بالكفر والموت على الضلال؟! فقال تعالى في تلك الآية نفسها:( فَإِن رَّجَعَكَ اللَّـهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ) (١) .

وهذا صريح في حكم الله تعالى عليهم بالكفر وقت نزول الآيات، وأنّهم يموتون على الكفر والضلال، وأكّد ذلك بقوله في الآية التالية مباشرة:( وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) (٢) .

____________________

(١) سورة التوبة ٩: ٨٣ - ٨٤.

(٢) سورة التوبة ٩: ٨٥.

٨٨

فهؤلاء إذن المقطوع بكفرهم وموتهم على الكفر، غير أُولئك الّذين ذكرتهم سورة الفتح ووعدتهم بالثواب إنْ هم استجابوا للداعي!

ثمّة التفاتة هامّة جدّاً، وهي: أنّه في ذات الواقعة التي نزلت فيها الآية الاُولى:( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّـهُ أَجْرًا حَسَنًا ... ) أي في الحديبية ذاتها، قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لوفد قريش: «يا معشر قريش، لَتنتهنَّ أو لَيبعثنَّ اللهُ عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن قلبه على الاِيمان» قالوا: من هو يا رسول الله؟ فقال أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «خاصف النَعل» وكان قد أعطى عليّاً نعلاً يخصفها.

أخرجه الترمذي والنسائي وابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة(١) .

ونحو هذا تماماً قاله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لوفد ثقيف، قال: «لَتُسلمُنَّ أو لاَبعثنَّ عليكم رجلاً منّي - أو قال: مثل نفسي - ليضربنّ أعناقكم، وليسبينّ ذراريكم، وليأخذنّ أموالكم» قال عمر: فو الله ماتمنّيت الاِمارة إلاّ يومئذٍ، فجعلتُ أنصب صدري رجاء أن يقول: هو هذا. فالتفتَ إلى عليٍّ فأخذ بيده وقال: «هو هذا، هو هذا»(٢) .

ونحوه ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه واقعٌ بعده، فقال: «إنّ منكم من يقاتل

____________________

(١) سنن الترمذي ٥ | ٣٧١٥، سنن النسائي ٥ | ٨٤١٦، كتاب الخصائص - بتخريج الاَثري | ٣٠، المصنّف، ابن أبي شيبة - فضائل عليّ - ٧ | ١٨.

(٢) أخرجه: عبد الرزّاق، المصنّف ١١: ٢٢٦ | ٢٠٣٨٩، المصنّف، ابن أبي شيبة - فضائل عليّ - ٧ | ٢٣ و ٣٠، النسائي، السنن - كتاب الخصائص - | ٨٤٥٧، ابن عبد البرّ، الاستيعاب ٣: ٤٦.

٨٩

على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله» فاستشرف له القوم، وفيهم أبو بكر وعمر، فقال أبو بكر: أنا هو؟ قال: «لا». قال عمر: أنا هو؟ قال: «لا، ولكن خاصف النعل» وكان عليٌّ يخصف نعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم(١) .

وهذه نصوص اجتمعت صراحةً على نفي وإثبات:

نفت صراحةً أن يكون الداعي أبو بكر أو عمر..

وأثبتت صراحةً أنّ الداعي بعد الرسول ( ص ) هو الإمام عليّ ( ع )!

وبعد وجود هذه النصوص الموثّقة المتضافرة فلا مسوِّغ للرجوع إلى مداخلات المتكلّمين.

____________________

(١) مسند أحمد ٣: ٨٢، الاحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٩: ٤٦ رقم ٦٨٩٨، المصنف، ابن أبي شيبة - فضائل عليّ - ٧ / ١٩، المستدرك ٣: ١٢٣، البداية والنهاية ٧: ٣٩٨.

٩٠

الاتجاه الثاني: النصوص الصحيحة الحاكمة

نصوص أيقن بها طائفة من الصحابة، على رأسهم عليّ، يقيناً لا يسمح أن يتسرّب إلى مدلولها شكّ.. يقيناً دفع عليّاً عليه السلام أن يردّ بدهشة على من دعاه لتعجيل البيعة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً: «ومن يطلب هذا الاَمر غيرنا»(١) ؟!

لكنّ تسارع الاَحداث تلك الاَثناء، وإحكام القبضة، لم يتركا لشيء من تلك النصوص موقعاً يرتجى، أمّا حين تحقّقت بارقة أمل يوم اجتماع الاَصحاب الستّة للشورى ولم يُبَتّ في الاَمر بعد، فلم يتوانَ عليٌّ عليه السلام عن التذكير بطائفة منها(٢) .

وبعد أن تمّت له البيعة كانت الاَذهان أكثر استعداداً للاِصغاء، وأوسع فسحةً للتأمّل.. فبالغ في التذكير ببعضها، نصّاً أو دلالةً، حتّى امتلاَت بها خطبه الطوال والقصار، وكان لايخلو تذكيره أحياناً من تقريع، ظاهر.. أو خفيّ!

وبواحد من مواقفه نستهلّ هذه الطائفة من النصوص:

١ - قوله ( ص ): «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه»:

خطب الإمام عليٌّ عليه السلام في الناس، فقال: أنشدُ اللهَ مَن سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

____________________

(١) الاِمامة والسياسة: ١٢.

(٢) أُنظر: الاستيعاب بحاشية الاِصابة ٣: ٣٥، شرح نهج البلاغة ٦: ١٦٧ - ١٦٨.

٩١

يقول يوم غدير خُمّ: «مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه» لَما قام فشهد!

فقام اثنا عشر بدرياً، فقالوا: نشهد أنّا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خُمّ: «ألستُ أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم»؟ قلنا: بلى، يا رسول الله.

قال: «فمَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عادا»(١) .

وحديث غدير خمّ لم يرد في مسند أحمد أكثر منه طُرُقاً إلاّ حديثاً واحداً(٢) ! أمّا في كتاب (السُنّة) لابن أبي عاصم ( ت /٢٨٧ هـ) وتاريخ ابن كثير، فلا يضاهيه حديث(٣) !! ورواه غيرهم بأسانيد صحيحة، كالترمذي وابن ماجة، والنسائي، وابن أبي شيبة، والحاكم(٤) . ونَصَّ الذهبي على تواتره(٥) .

____________________

(١) مسند أحمد ١، ٨٤ و ٨٨ و ١١٨ و ١١٩ - مرّتان -، سنن النسائي - كتاب الخصائص - | ٨٥٤٢، البداية والنهاية ٥: ٢٢٩ - ٢٣٢ و ٧: ٣٨٣ - ٣٨٥ من نحو عشرين طريقاً.

(٢) أخرج أحمد حديث الغدير من تسع عشرة طريقاً، المسند ١: ٨٤ و ٨٨ و ١١٨ - ثلاث مرّات - و ١١٩ - مرّتان - و ١٥٢ و ٣٣١، و ٤: ٢٨١ و ٣٦٨ و ٣٧٠ و ٣٧٢ - مرّتان - و ٥: ٣٤٧ و ٣٥٨ و ٣٦١ و ٣٦٢ و ٤١٩.

ولا يضاهيه إلاّ حديث «مَن كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار» فقد خرّجه من نحو ٢٥ طريقاً.

(٣) أُنظر: البداية والنهاية ٥: ٢٢٨ - ٢٣٣ و ٧: ٣٨٣ - ٣٨٦، فقد خرّجه من نحو ٤٠ طريقاً، بما فيها طرق حديث المناشدة المتقدّمة.

(٤) سنن الترمذي ٥ | ٣٧١٣، سنن ابن ماجة ١ | ١١٦ و ١٢١، الخصائص - للنسائي بتخريج الاَثري - | ٨٠ و ٨٢ - ٨٥ و ٩٠ و ٩٥ و ١٥٣، المصنّف، ابن أبي شيبة - باب فضائل عليّ - ٧ | ٩ و ١٠ و ٢٩ و ٥٥، المستدرك ٣: ١٠٩ - ١١٠.

(٥) أُنظر: البداية والنهاية ٥: ٢٣٣.

٩٢

لكن بعد هذا جاء دور المتكلّمين، فبذلوا جهوداً مضنيةً في تأويله وصرفه عن معناه، بل تجريده من كلّ معنىً!!

فحين رأوا أنّ الاِقرار بدلالته على الولاية العامّة يفضي إلى إدانة التاريخ وتخطئة كثير من الصحابة، ذهبوا إلى تأويله بمجرّد النصرة والمحبّة، فيكون معنى الحديث: يا معشر المؤمنين، إنّكم تحبّونني أكثر من أنفسكم، فمن يحبّني يحبّ عليّاً، اللّهمّ أحبّ من أحبّه، وعادِ من عاداه(١) !

وحين رأوا أنّ جماعة من الصحابة قد عادَوه وحاربوه، ومنهم: عائشة وطلحة والزبير، وأنّ آخرين قد أسّسوا دينهم ودنياهم على بغضه، ومنهم: معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة ومروان وعبد الله بن الزبير.. ذهبوا إلى حقّ هؤلاء في الاجتهاد مقابل ذلك النصّ، فهم معذورون وإن أخطأوا، بل مأجورون أجراً واحداً لاَجل اجتهادهم(٢) !!

وهكذا أصبح الخروج على نصوص الشريعة حتّى في مثل تلك الطرق السافرة، اجتهاداً يُثاب صاحبه، وليس بينه وبين الآخر الذي تمسّك بالشريعة وقاتل دونها إلاّ فرق الاَجر! فالذي قاتل الشريعة له نصف أجر الذي قاتل دونها!!

لقد كان الاَوْلى بهم أن يتابعوا سُنّة الرسول، ويوقِّروا نصّه الشريف الثابت عنه، بدلاً من إفراطهم في متابعة الاَمر الواقع الذي ظهر فيه اختلاف كثير..

____________________

(١) الآلوسي، روح المعاني ٦: ١٩٥ وما بعدها.

(٢) أُنظر: الفِصَل في الملل والنحل ٤: ١٦١ و ١٦٣، البداية والنهاية ٧: ٢٩٠، الباعث الحثيث: ١٨٢.

٩٣

فالحقّ أنّ هذا نصٌّ صريح في ولاية الإمام عليٍّ عليه السلام، لا يحتمل شيئاً من تلك التأويلات التي ما كانت لتظهر لولا الانحياز للاَمر الواقع ومناصرته.

وممّا يزيد في ظهور هذا النصّ نصوص أُخرى تشهد له وتبيّنه، كما نرى في النصوص الآتية:

٢ - قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي». حديث صحيح(١) ؟.

٣ - ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم في عليّ: «إنّه منّي وأنا منه، وهو وليّكم بعدي.. إنّه منّي وأنا منه وهو وليّكم بعدي» يكرّرها(٢) .

٤ - ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعليٍّ: «أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي». أو: «أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة»(٣) .

وبعد اليقين بصحّة هذه الاحاديث، لايمكن أن تفسّر بحسب ظاهرها فتدين الواقع التاريخي!

فلمّا أرادوا تفسير الولاية هنا أيضاً بالنصرة والمحبّة، نظير ما في قوله تعالى:( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (٤) ، صدمهم قوله: «بعدي» الذي لا يمكن أن يتشابه معناه!

____________________

(١) مسند أحمد ٤: ٤٣٧ - ٤٣٨، سنن الترمذي ٥ | ٣٧١٢، الخصائص - للنسائي بتخريج الاَثري - | ٦٥ و ٨٦، المصنّف، ابن أبي شيبة - فضائل عليّ - ٧ | ٥٨، الاِحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٩: ٤١ | ٦٨٩٠.

(٢) مسند أحمد ٥: ٣٥٦، الخصائص - بتخريج الاَثري: | ٨٧.

(٣) مسند أحمد ١: ٣٣١، الخصائص - بتخريج الاَثري: | ٢٣، المستدرك ٣: ١٣٤.

(٤) سورة التوبة ٩: ٧١.

٩٤

ولمّا كانت قدسية الرجال أعظم من قدسية النصّ، رغم ثبوت صحّته عندهم، شهروا سيف التكذيب، فقالوا: إسناده صحيح مع نكارة في متنه لشذوذ كلمة ( بعدي )!

ولمّا أرادوا البرهان على هذه النكارة والشذوذ فمن اليسير جدّاً أن يرموا بها «شيعيّاً» ورد في إسناد بعضها(١) !

لكن من البديهي أنّ مثل هذا البرهان الاَخير يحتاج إلى توثيق، خصوصاً إزاء حديث يرِد بأسانيد صحيحة متعدّدة، فكيف وثّقوه؟!

ليتهم لم يوثّقوه، ليتهم تركوه مجازفةً كمجازفات الكثير من أصحاب الاَذواق!!

قالوا في توثيقه: يؤيّده أنّ الاِمام أحمد روى هذا الحديث من عدّة طرق ليست في واحدة منها هذه الزيادة(٢) !

إنّها مقالةُ مَن لايخشى فضيحة التحقيق!!

فالنصوص الثلاثة التي ذكرناها لهذا الحديث، وفي جميعها كلمة ( بعدي ) جميعها في مسند أحمد(٣) !

وأغرب من هذا أنّ المحقّق الذي ينقل قولهم المتقدّم ويعتمده، يخرّج بعضها على مسند أحمد نفسه(٤) !!

____________________

(١) علماً أنّ التشيّع في مصطلحهم: هو تفضيل عليٍّ على عثمان، لا غير، والطعن على ملوك بني أُميّة!

(٢) أُنظر: أبا إسحاق الاَثري في تخريجه الحديث ٦٠ من كتاب (الخصائص).

(٣) مسند أحمد ١: ٣٣١، ٤: ٤٣٨، ٥: ٣٥٦. وقد ذكرناها في تخريج النصوص كلٌّ في محلّه.

(٤) الاَثري، كتاب (الخصائص) للنسائي | ٨٧.

٩٥

ومرّة أُخرى ينهار ذلك البرهان وتوثيقه أمام الحديث الذي رواه أحمد في مسنده وفيه قوله ( ص ): «أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي»(١) ، وليس في إسناده واحد من أُولئك (الشيعة) الّذين اتُّهِموا به! بل اتّفق على صحّته الحاكم والذهبي والاَلباني(٢) !

إنّ هذه الدلائل ليست فقط تثبت صحّة قوله «بعدي»، إنّما تثبت أيضاً أنّ الرواية التي وردت في مسند أحمد أو غيره وليس فيها كلمة «بعدي» إنّما قام (بتهذيبها) أنصار التاريخ الّذين نصروه حتّى في أوج انحرافه عن السُنّة..

كيف لا؟! وهي إدانة صريحة لمساره المنحرف الذي صار عقيدةً يتديّنون بها، ويضلِّلون مَن خالفهم فيها!

٥ - الحديث الذي غاب عن (السنن) وأظهره أصحاب التاريخ والتفسير:

قوله ( ص ): « إنّ هذا أخي، ووصيّي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا»(٣) .

فإذا كان الذي دهش قريشاً في جاهليّتها هو أن يؤمر أبو طالب بأن

____________________

(١) مسند أحمد ١: ٣٣١ من حديث ابن عبّاس.

(٢) المستدرك ٣: ١٣٣ - ١٣٤ وتلخيصه للذهبي في الصفحة ذاتها، كتاب السُنّة لابن أبي عاصم - بتخريج الاَلباني -: ٥٥٢.

(٣) تاريخ الطبري ٢: ٢١٧، الكامل في التاريخ ٢: ٦٢ - ٦٤، السيرة الحلبية ١: ٤٦١، شرح نهج البلاغة ١٣: ٢١٠ و ٢٤٤ وصحّحه، مختصر تاريخ دمشق - لابن عساكر -، ابن منظور ١٧: ٣١٠ - ٣١١، تفسير البغوي (معالم التنزيل) ٤: ٢٧٨، تفسير الخازن ٣: ٣٧١ - ٣٧٢ نقلاً عن سيرة ابن إسحاق، المنتخب من كنز العمّال - بهامش مسند أحمد - ٥: ٤١ - ٤٢.

٩٦

يسمع لابنه ويطيع(١) ، فقد دهشها بعد الاِسلام أن يؤمر كلّ الصحابة بذلك!

قال ابن كثير: ذكروا في إسناد هذا الحديث عبد الغفّار بن القاسم، وهو كذّاب، شيعي، اتّهمه عليّ بن المديني بوضع الحديث، وضعّفه الباقون(٢) .

لكنّ أبو مريم، عبد الغفّار بن القاسم، قد حفظ له التاريخ غير ما ذكر ابن كثير!

حفظ لنا خلاصة سيرته، وصلته بالحديث، ومنزلته فيه، ثمّ حفظ علّة تركهم حديثه:

قال ابن حجر العسقلاني: (كان - أبو مريم - ذا اعتناء بالعلم وبالرجال.. وقال شعبة: لم أرَ أحفظ منه.. وقال ابن عديّ: سمعتُ ابن عقدة يثني على أبي مريم ويُطريه، ويجاوز الحدّ في مدحه، حتّى قال: لو ظُهر على أبي مريم مااجتمع الناس إلى شعبة)(٣) !!

إذن لاَمرٍ ما لم يُظهَر على أبي مريم! قال البخاري: عبد الغفّار بن القاسم ليس بالقويّ عندهم.. حدّث بحديث بُرَيدة «عليٌّ مولى مَن كنتُ مولاه»(٤) !

____________________

(١) حين قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لعليّ، قام الناس يضحكون ويقولون لاَبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع!

(٢) البداية والنهاية ٣: ٣٨ - ٣٩.

(٣) لسان الميزان ٤: ٤٢ رقم ١٢٣.

(٤) لسان الميزان ٤: ٤٣.

٩٧

لكنّ حديث بريدة هذا قد أخرجه ابن كثير نفسه من طريق آخر وصفه بأنّه إسناد جيّد قويّ، رجاله كلّهم ثقات(١) !

ذلك هو أبو مريم!

٦ - خلاصة وصيّة النبيّ لاُمّته في حفظ رسالته، قال ( ص ): «ألا أيُّها الناس، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب، وأنا تاركٌ فيكم الثَقَلَين: أوّلهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به.. وأهل بيتي، أُذكّركم الله في أهل بيتي، أُذكّركم الله في أهل بيتي، أُذكّركم الله في أهل بيتي»(٢) .

- «إنّي تاركٌ فيكم ماإنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الاَرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض.. فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(٣) .

- «إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب الله، وأهل بيتي...»(٤) .

تلك خلاصة رسالة السماء... ومفتاح المسار الصحيح الذي أراده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لشريعته.

وهذا كلام لا يختلف في فهمه عامّيٌّ وبليغ.. فمن أين يأتيه التأويل؟!

إنّه لو قُدِّر أن تتحقّق الخلافة لعليٍّ أوّلاً، لَما ارتاب أحد في هذا النصّ

____________________

(١) البداية والنهاية ٥: ٢٢٨.

(٢) صحيح مسلم ٤ | ٢٣٠٨ من عدّة طرق.

(٣) سنن الترمذي ٥ | ٣٧٨٨، مسند أحمد ٣: ١٧.

(٤) مسند أحمد ٥: ١٨٢ و ١٨٩.

٩٨

الصريح الصحيح.. لكنّ اختلاف المسار الجديد عنه، وتقديس الرجال، هما وراء كلّ ما نراه من ارتياب وتجاهل لنصّ لا شيء أدلّ منه على تعيين أئمّة المسلمين، خلفاء الرسول!!

إنّ أغرب ما جاء في (تعطيل) هذا النصّ قولٌ متهافتٌ ابتدعه ابن تيميّة حين قال: (إنّ الحديث لم يأمر إلاّ باتّباع الكتاب، وهو لم يأمر باتّباع العترة، ولكن قال: أُذكّركم الله في أهل بيتي)(١) !

فقط وفقط، ولا كلمة واحدة!!

ولهذا القول المتهافت مقلِّدون، والمقلِّد لا يقدح في ذهنه ما يقدح في أذهان البسطاء حتّى ليعيد على شيخه السؤال: أين الثقل الثاني إذن؟! أين الخليفة الثاني إذن، والنبيّ يقول «الثقلين.. خليفتين»؟! ومَن هذان اللذان لن يفترقا حتّى يردا الحوضَ معاً؟!

«كتاب الله» و «عترتي أهل بيتي» إنّهما المحوران اللذان سيمثّلان محلّ القُطب في مسار الاِسلام الاَصيل غداً بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وليس بعد هذا الحديث، وحديث غدير خمّ، مايستدعي البحث عن نصوص أُخر لمن شاء أن يؤمن بالنصوص..

الخطاب الجامع.. مفترق الطرق:

في حديث صحيح، جمع الخطاب وأوجز:

قال الصحابي زيد بن أرقم: لمّا دفع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من حجّة الوداع ونزل

____________________

(١) منهاج السُنّة ٤: ٨٥، الفرقان بين الحقّ والباطل: ١٣٩.

٩٩

غدير خمّ، أمر بدوحاتٍ فقُمِمْن(١) ، ثمّ قال: «كأنّي دُعيتُ فأجبتُ، وإنّي تارك فيكم الثَقَلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي. فانظروا كيف تخلفوني فيهما! فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض».

ثمّ قال: «إنّ الله مولاي، وأنا وليّ كلّ مؤمن» ثمّ أخذ بيد عليّ رضي الله عنه، فقال: «مَن كنتُ وليّه فهذا وليّه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه».

قال أبو الطفيل: قلتُ لزيد: سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!

قال: نعم، وإنّه ما كان في الدوحات أحد إلاّ رآه بعينه وسمعه بأُذنيه(٢)

ص.

هذا الخطاب، على نحو مائة ألف من المسلمين شهدوا حجّة الوداع، وعند مفترق طرقهم إلى مدائنهم، لم يعِشِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعده إلاّ نحو ثمانين يوماً(٣) ، ليكون هذا الخطاب ذاته بعد اليوم الثمانين مفترق الطرق بين المسلمين، وحتّى اليوم!!

ثمانون يوماً لا تكفي لنسيانه!!

____________________

(١) أي: كُنِسْنَ.

(٢) أخرجه: النسائي، السنن ٥ | ٨٤٦٤، الاَثري، تخريج خصائص عليّ عليه السلام | ٧٦ وذكر له عدّة مصادر، منها: مسند أحمد ١: ١١٨، البزّار | ٢٥٣٨ - ٢٥٣٩، وابن أبي عاصم: ١٣٦٥، والحاكم، المستدرك ٣: ١٠٩، وأخرجه ابن كثير، البداية والنهاية ٥: ٢٢٨ وقال: قال شيخنا الذهبي: هذا حديث صحيح، وأخرجه اليعقوبي، التاريخ ٢: ١١٢.

(٣) كانت خطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في غدير خمّ يوم ١٨ ذي الحجّة سنة ١٠ هـ، ووفاته صلى الله عليه وآله وسلم يوم ٢ أو ١٢ ربيع الاَوّل من سنة ١١ هـ، حسب اليعقوبي والطبري والكليني، أو ٢٨ صفر، حسب الطبرسي.

١٠٠

ودواعي الذكرى التي أحاطت به لا تسمح بتناسيه!!

لكن لم يحدّثنا التاريخ أنّ أحداً قد ذكره في تلك الاَيّام الحاسمة التي ينبغي ألاّ تعيد الاَذهان إلى شيء قبله، فهو النصّ الذي يملأ ذلك الفراغ، ويسكن له ذلك الهيجان، وتنقطع دونه الاَمانيّ، أو فرص الاجتهاد..

«إنّي يوشك أن أُدعى فأُجيب..

وإنّي تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي..

مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه..».

والعهدُ، بعدُ، قريبٌ، جدُّ قريب..

فإذا وجدنا اليوم من لم يؤمن بالنصّ على خليفة النبيّ ( ص )، فليس لاَنّ النبيّ لم يَقُلْه، بل لاَنّ الناس يومئذٍ لم يذكروه!!

7 - قوله ( ص ):«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي».

حديث متواتر لا خلاف فيه(1) ، لكنّ الكلام في تأويله، وما أغنانا عن التأويل الذي ما أبقى من النصّ إلاّ حروفه!!

غريب جدّاً ما ذهب إليه المتأوَّلون من أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يَقُلْهُ إلاّ تطييباً لخاطر عليٍّ وترغيباً له في البقاء في المدينة لمّا أرجف به المنافقون وقالوا: خلّفك مع النساء والصبيان! وليس فيه من تشابه المنزلتين إلاّ

____________________

(1) مسند أحمد 1: 173 و 175 و 182 و 184 و 331، صحيح البخاري - فضائل عليّ - | 3503، صحيح مسلم - فضائل عليّ - | 2404، مصنّف ابن أبي شيبة - فضائل عليّ - 7: 496 | 11 - 15.

١٠١

القرابة(1) !

غريب في نسبة هذه الاغراض إلى حديث نبويّ ظاهر، إلى حديث النبيّ ( ص ) الذي لا يقول إلاّ حقّاً، ومع عليٍّ ( ع ) بالذات، ربيب النبيّ وبطل الملاحم!!

وغريب في تناسي القرآن، وكأنّ القرآن لم يذكر شيئاً من منزلة هارون من موسى!!

وغريب في الغفلة عمّا يضفيه هذا التأويل إلى الإمام عليّ ( ع ) وسعد وابن عبّاس، على الاَقلّ، من سذاجة في التفكير وقصور في الفهم!!

ألم يكن الإمام عليٌّ ( ع ) يعرف قرابته من رسول الله ( ص ) قبل ذلك اليوم؟!

أم كان سعد لم يتمنّ إلاّ هذه القرابة وهو يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في عليٍّ ثلاث خصال لئن يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليَّ من حمر النعم، سمعته يقول: «إنّه منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي...»(2) ؟! فهل فهم منه القرابة، لا غير؟!

أم كان ابن عبّاس لا يريد إلاّ القرابة حين يذكر لعليٍّ ( ع ) عشر خصال ليست لاَحدٍ من الناس، فيعدّ فيها هذا الحديث(3) ؟! فهل كان النبيّ ( ص ) ليس له ابن عمّ إلاّ عليّ ( ع )؟!

____________________

(1) ابن حزم، الفِصَل 4: 94، ابن تيميّة، منهاج السُنّة 4: 87 - 88.

(2) صحيح مسلم - فضائل عليّ - | 32، الخصائص - بتخريج الاَثري - | ح 9 و 10 و 43 و 52، المصنّف، ابن أبي شيبة - فضائل عليّ - | 15.

(3) مسند أحمد 1:331، الخصائص - بتخريج الاَثري - | 23، المستدرك 3: 132 - 133 - ويأتي لاحقاً.

١٠٢

لقد كان لابن عبّاس من قرابة النبيّ ( ص ) مثل مالعليّ عليه السلام فكلاهما ابن عمّه صلى الله عليه وآله وسلم!! ويساويهما في هذه القرابة كلّ أولاد أبي طالب وأولاد العبّاس وأولاد أبي لهب!

ولا يخفى أيضاً أنّ قرابة عليٍّ للرسول ليست كقرابة هارون لموسى ( صلوات الله عليهم أجمعين )، فليست هي المعنيّة في النصّ قطعاً..

وغريب أن يخفى على هؤلاء ما هو ظاهر لمن هو دونهم: فقوله ( ص ): «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» ظاهر في عمومه واستيعابه جميع مصاديق تلك المنزلة، ومن هنا استثنى النبوّة، فقال ( ص ): «إلاّ أنّه لانبيَّ بعدي» فلمّا استثنى النبوّة فقد نصّ على ثبات المصاديق الاُخر، وهي: ( الوزارة والخلافة ).

فلو لم يرد النصّ إلاّ في غزوة تبوك، لَما أفاد ذلك تخصيصه بتلك الغزوة مادام الحديث نصّاً في العموم.

ولقد ورد هذا النصّ نفسه في غير غزوة تبوك أيضاً، كما رواه ابن حبّان وغيره في خبر المؤاخاة في السنة الاَولى من الهجرة النبوية(1) .

8 - قوله ( ص ): «يكون بعدي اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش».

متواتر، لانزاع فيه(2) !

____________________

(1) السيرة النبوية، لابن حبّان: 149، وصحّحه سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواصّ: 23 نقله عن الاِمام أحمد في المناقب، وقال: رجاله ثقات.

(2) صحيح البخاري - الاَحكام | 8461، صحيح مسلم - الاِمارة - | 1821 و 1822، مسند أحمد 1: 398 و 406، سنن أبي داود | 4280، سنن الترمذي - كتاب الفتن 4 | 2223، مصابيح السُنّة 4 | 4680. لذا فإنّ قول الدكتور النشّار، نشأة الفكر الفلسفي في الاِسلام 1: 448 و 2: 218: (إنّ فكرة 12 خليفة لا وجود لها في الاِسلام) إنّما هي كبوة فارس!

١٠٣

أهل البيت أوّلاً:

يقول ابن تيميّة: إنّ بني هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل بني آدم، كما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله في الحديث الصحيح: «إنّ الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش»..

ويمكن أن يضاف إلى هذا كثير:

أ - «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي، فأذهِب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام )، ولا أحد سواهم، ذلك حين نزل قوله تعالى:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (1) فأدار عليهم الكساء وقال فيهم قوله المتّفق عليه هذا(2) !

ب - «نحن بنو عبد المطّلب سادة أهل الجنّة: أنا، وحمزة، وعليّ، وجعفر، والحسن، والحسين، والمهديّ»(3) .

جـ - «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة»(4) .

____________________

(1) الاحزاب 33: 33.

(2) صحيح مسلم - فضائل الصحابة - | 2424، سنن الترمذي | 3205 و 3787 و 3871، مسند أحمد 4: 107 و 6: 291 و 304، مصابيح السُنّة 4: 183 | 4796، أسباب النزول: 200، وسائر كتب التفسير عند هذه الآية من سورة الاَحزاب.

(3) سنن ابن ماجة 2 | 4087.

(4) مسند أحمد 3: 3 و 62 و 64 و 80 و 82.

١٠٤

د - «المهديّ من عترتي، من وُلْد فاطمة»(1) .

فلم يبق في الاَمر أدنى غموض، بعد تقديم بني هاشم الصريح، وتقديم أهل البيت خاصّة على سائر بني هاشم، وصراحة النصوص المتقدّمة، لا سيّما الغدير والولاية والثقلين، وببساطة كبساطة هذا الدين الحنيف، وبعيداً عن شطط التأويل بُعد هذا الدِين عن التعقيد والتنطُّع، تبدو عندئذٍ كم هي ظاهرةٌ إمامة اثني عشر سيّداً من سادة أهل البيت عليهم السلام.. وتحديداً: أوّلهم عليّ، فالحسن، فالحسين، وآخرهم المهديّ (عليهم السلام).

ومن لحظ الاضطراب الشديد والتهافت الذي وقع فيه شرّاح الصحاح عند حديث الخلفاء الاثني عشر(2) ، ازداد يقيناً في اختصاص سادة أهل البيت بهذا الحديث، دون سواهم.

وقد اهتدى إلى هذا المعنى بعض من شرح الله صدره للاِسلام من أهل الكتاب لمّا رأوا في أسفارهم الخبر عن اثني عشر إماماً يكونون بعد النبيّ العظيم من وُلْد إسماعيل(3) ، فناقضهم ابن كثير، نقلاً عن شيخه ابن تيميّة، ليجعل هؤلاء العظماء هم الخلفاء الّذين يعدّون فيهم معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك وهشام، أو الّذين لا يدرون من هُم(4) .

____________________

(1) سنن أبي داود | 4284، تاريخ البخاري 3: 346، مصابيح السُنّة | 4211.

(2) أُنظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13: 180 - 183، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 15: 212 - 213، صحيح مسلم بشرح النووي 12: 201 - 203، البداية والنهاية 6: 278 - 281.

(3) العهد القديم - سفر التكوين - إصحاح 17: آية 20.

(4) أُنظر: البداية والنهاية 6: 280.

١٠٥

وأهل البيت أوّلاً:

لو لم يكن ثمّة نصّ في الاِمامة، وكان للاُمّة أن تُرشّح لها أهلها، وبعد ما تقدّم في تفضيل بني هاشم، وأهل البيت خاصّة، فهم الاَوْلى بالاِمامة بلا منازع.

وأهل البيت أوّلاً:

لو كانت الخلافة محصورة في قريش، إمّا لنصّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أو لقول المهاجرين في السقيفة، (أنّ قريشاً أولياؤه وعشيرته)، (وقومه أوْلى به)، (وهيهات أن يجتمع سيفان في غمد)، (ولا تمتنع العرب أن تولّي أمرها مَن كانت النبوّة فيهم).

وأخيراً: (فمَن ينازعنا سلطان محمّد ونحن أولياؤه وعشيرته، إلاّ مُدلٍ بباطلٍ، أو متجانف لاِثمٍ، أو متورّط في هَلَكة)(1) ؟!

فإنّ هذا كلّه لا يرشّح أحداً قبل بني هاشم، فإذا كان قومه أوْلى به فلا ينازعهم إلاّ ظالم، فما من أحد أوْلى به من بني هاشم، ثمّ أهل البيت خاصّة!

فبنو هاشم، دون سواهم من بطون قريش، هم المعنيّون بآية الاِنذار في بدء الدعوة النبوية:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (2) .

وبنو هاشم هم المعنيّون بالمحاصرة في شعب أبي طالب ثلاث سنين، وليس معهم إلاّ بني المطّلب، أمّا بطون قريش الاُخر، تَيم وعديّ

____________________

(1) أُنظر: الاِمامة والسياسة: 12 - 16، الكامل في التاريخ 2: 329 - 330.

(2) سورة الشعراء 26: 214.

١٠٦

وأُميّة ومخزوم وزهرة وغيرها، فهم الّذين تحالفوا على محاصرة عشيرة محمّد الاَقربين، بني هاشم وبني المطّلب!!

فهل خفي هذا على أحد، لو خفيت عليه النصوص؟!

فالذي جادل في النصوص ودَفَعها بأنّها لو صحّت، أو لو أفادت الخلافة، لَمّا خفيت على عظماء الصحابة وجمهورهم.. عليه أن يقف أمام هذه الحقيقة، كيف خفيت عليهم؟!

سلوك النبيّ في ابلاغ إمامة عليّ:

عمليّاً كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يمارس إعداد الإمام عليّ ( ع ) لخلافته، ومنذ بدء الدعوة، ويُظهر لصحبه وللناس أنّه ينصبه لذلك، عملاً مشفوعاً بالقول أحياناً، مصرحاً بين الحين والحين بأنّ ذلك من الله تعالى وبأمره..

منذ البدء، نشأ عليٌّ ( ع ) في بيت النبيّ ( ص ) يتبعه اتّباع الظلّ، حتّى بُعث صلى الله عليه وآله وسلم فكان عليٌّ أوّل من آمن به مع زوجته خديجة(1) .

وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يخرج إلى البيت الحرام ليصلّي فيه، فيصحبه عليٌّ ( ع ) وخديجة فيصلّيان خلفه، على مرأىً من الناس، ولم يكن على الاَرض من يصلّي تلك الصلاة غيرهم(2) .

____________________

(1) الطبقات الكبرى 3: 21، سيرة ابن هشام 1: 228، كتاب الاَوائل: 91 - 93، البدء والتاريخ 4: 145، السيرة النبوية، ابن حبّان: 67، جوامع السيرة، ابن حزم: 45، السيرة النبوية، الذهبي: 70، الاِصابة 4: 269.

(2) مسند أحمد 1: 209، المستدرك 3: 183 وتلخيصه للذهبي، الخصائص - بتخريج الاَثري - | 2 و 3، تاريخ الطبري 2: 311، مجمع الزوائد 9: 103.

١٠٧

وكان الإمام عليٌّ ( ع ) يصف أيّامه تلك، فيقول: «وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حِجره وأنا ولد، يضمّني إلى صدره... وكان يمضغُ الشيء ثمّ يُلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قول، ولا خَطلةً في فِعل... ولقد كنتُ أتّبعه اتّباع الفصيل أثَرَ أُمّه، يرفعُ لي في كلّ يوم من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنةٍ بحِراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الاِسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة...»(1) .

ويوم أنذر عشيرته الاَقربين، رفع شأن عليٍّ عليهم جميعاً، وخصّه بمنزلة لا يشركه فيها غيره.

ويوم هجرته إلى المدينة، اختار عليّاً يبيت في فراشه، ثمّ يؤدّي ما كان عند النبيّ ( ص ) من أمانات، ثمّ يهاجر بمن بقي من نساء بني هاشم.

ثمّ اختصّه بمصاهرته في خير بناته سيّدة نساء العالمين(2) ، بعد أن تقدّم لخطبتها أبو بكر ثمّ عمر فردّهما صلى الله عليه وآله وسلم(3) ! وقال لها: «زوّجتك أقدم أُمّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً»(4) .

وآخى بين المهاجرين والاَنصار، ثمّ اصطفى عليّاً ( ع ) لنفسه فقال له: «أنت

____________________

(1) نهج البلاغة - شرح صبحي الصالح -: 300 - 301 خطبة 192.

(2) الخصائص - بتخريج الاَثري - | 127 و 128 و 129.

(3) الخصائص - بتخريج الاَثري - | 120.

(4) مسند أحمد 5: 26.

١٠٨

أخي في الدنيا والآخرة»، أو: «أنت أخي وأنا أخوك»(1) . فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيّد المرسلين وإمام المتّقين ورسول ربّ العالمين الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد، والإمام عليّ بن أبي طالب ( ع )، أخوَين(2) .

وفي سائر حروبه كان لواؤه صلى الله عليه وآله وسلم أو راية المهاجرين بيد الامام عليٍّ عليه السلام(3) .

وفي خيبر بعث أبا بكرٍ براية، فرجع ولم يصنع شيئاً، فبعث بها عمر، فرجع ولم يصنع بها شيئاً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لاُعطينَّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، لا يخزيه الله أبداً، ولا يرجع حتّى يفتح عليه» فدعا عليّاً ( ع ) ودفع إليه الراية ودعا له، فكان الفتح على يديه(4) .

وفي عبارة بعضهم: بعث أبا بكر فسار بالناس فانهزم حتّى رجع إليه، وبعث عمر فانهزم بالناس حتّى انتهى إليه(5) . وفي عبارة بعضهم: فعاد يُجبِّن أصحابه ويجبّنونه(6) !

ويقول صلى الله عليه وآله وسلم لاَصحابه: «إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله» فيستشرفون له، كلٌّ يقول: أنا هو؟ وفيهم أبو بكر

____________________

(1) مسند أحمد 1: 230، سنن الترمذي 5 | 3720، مصابيح السُنّة 4 | 4769، الطبقات الكبرى 3: 22، البداية والنهاية 7: 371، دلائل النبوّة - للبيهقي - 4: 209.

(2) سيرة ابن هشام 2: 109.

(3) الاِصابة 2: 30 ترجمة سعد بن عبادة.

(4) المصنّف لابن أبي شيبة - فضائل علي - 7 | 17، سنن النسائي 5 | 8402، الخصائص - بتخريج الاَثري - | 14 وصحّحه، المستدرك 3: 37 وصحّحه ووافقه الذهبي، سيرة ابن هشام 3: 216، تاريخ الطبري 3: 12، الكامل في التاريخ 2: 219، البداية والنهاية 7: 373.

(5) ابن أبي شيبة، المصنّف 7: 497 | 17 فضائل عليّ.

(6) الحاكم والذهبي، المستدرك 3: 37 وتلخيصه.

١٠٩

وعمر، فيقول: «لا، لا، لكنّه عليّ»(1) .

ويبعث أبا بكر بسورة براءة أميراً على الحجّ، ثمّ يبعث خلفه الإمام عليّاً ( ع ) فيأخذها منه، فيعود أبو بكر إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: أحَدَث فيَّ شيءٌّ، يارسول الله؟!

فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: «لا، ولكنّي أُمرتُ ألاّ يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي»(2) !

وكان لبعض الاَصحاب أبواب شارعة في المسجد، فقال لهم ( ص ): «سدّوا هذه الاَبواب، إلاّ باب عليّ»(3) .

وكان الصحابة عنده في المسجد، فدخل عليٌّ ( ع )، فلمّا دخل خرجوا، فلمّا خرجوا تلاوموا! فرجعوا، فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: «والله ما أنا أدخلته وأخرجتكم، بل الله أدخله وأخرجكم»(4) .

ودعاه يوم الطائف يناجيه، فقال بعضهم: لقد طال نجواه مع ابن عمّه!!

____________________

(1) مسند أحمد 3: 82، صحيح ابن حبّان 9: 46 | 6898، المصنّف لابن أبي شيبة - فضائل عليّ - 7 | 19، البداية والنهاية 7: 398.

(2) مسند أحمد 1: 3 و 331 و 3: 212 و 283 و 4: 164 و 165، سنن الترمذي 5 | 3719، سنن النسائي 5 | 8461، الخصائص - بتخريج الاَثري - | 23 و 72 و 73 وصحّحها جميعاً، البداية والنهاية 7: 374 و 394، تفسير الطبري 10: 46.

(3) مسند أحمد 1: 331، سنن الترمذي 5 | 3722، الخصائص - بتخريج الاَثري - | 23 و 41، البداية والنهاية 7: 374 و 379، فتح الباري 7: 13، الاِصابة 4: 270.

(4) الخصائص - بتخريج الاَثري - | 38.

١١٠

فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: «ما أنا انتجيته، ولكنّ الله انتجاه»(1) .

في حجّة الوداع أشركه في هديه، دون غيره من أصحابه أو ذوي قرباه(2) .

وفيها خطب خطبته الشهيرة في عليٍّ وأهل البيت عليهم السلام بغدير خمّ، وتقدّم نصّها آنفاً.

وخصّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مدّة حياته الشريفة بمنزلةٍ ليست لاَحد! خصّه بساعةٍ من السحر يأتيه فيها كلّ ليلة(3) .

وإذ نزل قوله تعالى:( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ ) (4) كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يأتي باب عليٍّ صلاة الغداة كلّ يوم، ويقول: «الصلاة، رحمكم الله، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً»(5) .

وحين يُتوَفّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخصُّ عليّاً بميراثه دون عمّه العباس، فسُئل وُلْدُ العبّاس عن ذلك فقالوا: إنّ عليّاً كان أوّلنا به لحوقاً، وأشدّنا به لصوقاً(6) .

وغير هذا كثير، وقد عرفه الصحابة في حياة الرسول ( ص )..

____________________

(1) سنن الترمذي 5 / 3726، مصابيح السنة 4 / 4773، جامع الاصول 9 / 6493، البداية والنهاية 7: 369.

(2) الكامل في التاريخ 2: 302، وانظر حجة الوداع في سائر كتب السنن المفصّلة.

(3) الخصائص - بتخريج الأثري - / 112 - 113، وخرجه على النسائي وابن ماجة وابن خزيمة من وجوه.

(4) طه 20: 132.

(5) تفسير القرطبي 11: 174، تفسير الرازي 22: 137، روح المعاني 16: 284 والنصّ عنه.

(6) السنن الكبرى 5: 139 / 8493 و 8494.

١١١

الصحابة والمعرفة بالتعيين:

سمع الصحابة وشهدوا نصوص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسلوكه في نصب الإمام عليٍّ عليه السلام وتعيينه لخلافته مباشرةً، فأدركوا ذلك ووعوه، حتّى ظهر في أقوال بعضهم، وظهر عند آخرين قولاً وعملاً.

فاشتهر عن بعضهم تمنّيه أن لو كانت له واحدة من تلك الخصال التي خُصَّ بها عليٌّ عليه السلام، كما عُرف ذلك عن: عمر بن الخطّاب، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الله بن عمر(1) .

واشتهر عن آخرين متابعتهم له حتّى عُرفوا في ذلك العهد بشيعة عليّ ( ع )، منهم: أبو ذرّ، وعمّار، وسلمان، والمقداد(2) .

بل كان عامّة المهاجرين والاَنصار لا يشكّون في أنّ عليّاً عليه السلام هو صاحب الاَمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(3) .

وأبو بكر سمع بنفسه قول ابنته عائشة لرسول الله ( ص ) بصوت عال: «والله لقد علمتُ أنّ عليّاً أحبّ إليك من أبي»! فأهوى إليها ليلطمها، وقال: ياابنة فلانة، أراكِ ترفعين صوتك على رسول الله(4) .

____________________

(1) منهاج السُنّة 3: 11 - 12، المستدرك 3: 125، مجمع الزوائد 9: 130، الصواعق المحرقة: 127 باب 9 فصل 1، تاريخ الخلفاء: 161.

(2) أبو حاتم الرازي: كتاب الزينة: 259 تحقيق عبد الله سلّوم السامرّائي، محمّد كرد علي: خطط الشام، تاريخ ابن خلدون 3: 214 - 215.

(3) الاستيعاب 3: 55، تاريخ اليعقوبي 2: 124، تاريخ الطبري 3: 202، الكامل في التاريخ 2: 335، شرح نهج البلاغة 6: 21.

(4) أخرجه النسائي بإسناد صحيح في السنن الكبرى 5: 139 | 8495.

١١٢

قال معاوية بن أبي سفيان في رسالته إلى محمّد بن أبي بكر، وهي الرسالة التي أشار إليها الطبري ثمّ قال: ( كرهتُ ذِكرها لاُمور لا تحتملها العامّة(1) ! قال فيها معاوية مخاطباً محمّد بن أبي بكر: «قد كنّا وأبوك معنا في حياة نبيّنا نرى حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا، وفضله مبرَّزاً علينا»(2) .

وشهيرةٌ كلمة عمر بن الخطّاب يوم غدير خمّ: «هنيئاً لك يابن أبي طالب، أصبحتَ مولى كلّ مؤمن ومؤمنة»(3) .

علماً أنّ هذه الكلمة «مولى» و «وليّ» لم تُعرف لاَحد من الصحابة إلاّ لعليٍّ عليه السلام في جملة من الاَحاديث النبويّة الشريفة كما تقدّم آنفاً.

بل في القرآن أيضاً:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (4) .

قال الآلوسي: ( غالب الاَخباريّين على أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب(5) ، وعليه شِبهُ إجماعٍ لدى المفسِّرين(6) ، وطائفة من أصحاب

____________________

(1) تاريخ الطبري 4: 557.

(2) مروج الذهب 3: 21، وقعة صِفّين: 118 - 120، شرح نهج البلاغة 3: 188. وللرسالة تتمّة تأتي في محلّها من بحث لاحق.

(3) مسند أحمد 4: 281، تفسير الرازي 12: 49 - 50، سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواصّ: 29 - 30.

(4) سورة المائدة 5: 55.

(5) روح المعاني 6: 167.

(6) معالم التنزيل - للبغوي - 2: 272، الكشّاف 1: 649، تفسير الرازي 12: 26، تفسير أبي السعود 2: 52، تفسير النسفي 1: 420، تفسير البيضاوي 1: 272، فتح القدير - للشوكاني - 2: 53، أسباب النزول - للواحدي -: 114، لباب النقول - للسيوطي -: 93.

١١٣

الحديث )(1) .

وهذا كلّه كان يعرفه الصحابة من المهاجرين والاَنصار خاصّة لقربهم من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن قول محمّد بن أبي بكر في رسالته إلى معاوية، يصف عليّاً عليه السلام: (وهو وارث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصيّه، وأبو وُلْده، أوّل الناس له اتّباعاً، وأقربهم به عهداً، يخبره بسرّه، ويُطلعه على أمره)(2) .

وعبد الله بن عبّاس، حبر الاُمّة، يصفه أيضاً لمعاوية، فيسميّه (سيّد الاَوصياء)(3) .

والحسن السبط عليه السلام خطب خطبته الاُولى بعد وفاة أبيه فذكر: «عليّاً خاتم الاَوصياء»(4) .

وخزيمة بن ثابت، ذو الشهادتين، يصفه لعائشة، فيقول:

وصيّ رسول الله من دون أهلِه * وأنتِ على ما كان مِن ذاكَ شاهِدَهْ(5)

وهكذا ثبت لقب (الوصي) لعليٍّ عليه السلام عن عدد من الصحابة غير من ذكرنا، منهم: أبو ذر الغفاري، وحذيفة بن اليمان، وعمرو بن الحمق

____________________

(1) أخرجه: عبد الرزّاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والخطيب في (المتّفق والمفترق). أُنظر: فتح القدير - للشوكاني - 2: 53.

(2) مروج الذهب 3: 21، وقعة صِفّين: 118، شرح نهج البلاغة 3: 188.

(3) مروج الذهب 3: 8.

(4) مجمع الزوائد 9: 146.

(5) شرح نهج البلاغة 1: 143 - 150.

١١٤

الخزاعي، وحُجر بن عَدي ( حجر الخير )، وأبو الهيثم بن التيّهان وغيرهم(1) ؟.

فكما عرفوه «وليّاً» عرفوه «وصيّاً» أيضاً، وذو الشهادتين حين أدلى، في حديثه المتقدّم، بشهادتيه على أنّ عليّاً وصيّ النبيّ، لم يقف عند هذا الحدّ، بل ألزم عائشة أيضاً الشهادة على ذلك.

إذن لم يكن لقب «الوصيّ» محدَثاً كما صوّره بعض الدارسين الّذين أغفلوا شهادة التاريخ ثمّ أسقطوا نزعاتهم الشخصية على المفاهيم، وعلى التاريخ كلّه، فصوّروا «الوصيّ» وكأنّه من صنع اليهود، ومنهم انتقل إلى المسلمين(2) »؟، عن طريق عبد الله بن سبأ المزعوم أو غيره(3) ، أو هو من صنع الشيعة ابتدعه هشام بن الحكم ( ت /191 هـ) ولم يكن معروفاً قبله لا من ابن سبأ ولا من غيره(4) ! فالاَشعار والنصوص المتقدّمة المحفوظة عن الصحابة سبقت ميلاد هشام بن الحكم بنحو ثمانين سنة!

كلاّ، بل ذاك ممّا عرفه الصحابة أو بعضهم لعليٍّ ( ع )، وحفظه تاريخهم، لهم أو عليهم!

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2: 171، وقعة صفين: 103 - 104، شرح نهج البلاغة 3: 81 - 82، وأيضاً 1: 143 - 150، فصل (ما ورد في وصايا عليّ من الشِعر) أورد فيه أربعاً وعشرين مقطوعةً للصحابة والتابعين، ثمّ قال: والاَشعار التي تتضمّن هذه اللفظة كثيرة جدّاً، تجلّ عن الحصر، وتعظم عن الاِحصاء والعدّ.

وانظر أيضاً: الكامل - للمبرّد - 2: 170 - 171 في رثاء عليّ بن أبي طالب.

(2) د. مصطفى حلمي، نظام الخلافة: 157.

(3) كما نقله الكشّي في رجاله، ترجمة عبد الله بن سبأ.

(4) د. محمّد عمارة، الخلافة ونشأة الاَحزاب الاِسلامية: 155.

١١٥

ربّما يقال إنّ في تلك المصادر نزعة شيعية، والشيعة ليس من حقّهم أن يساهموا في كتابة التاريخ، بل ليس من حقّهم أن يكتبوا تاريخهم الخاصّ أيضاً!

لكن هل يقال هذا في ابن حجر العسقلاني؟!

ففي شرحه لصحيح البخاري يُثبت ابن حجر أنّ (الشيعة) كانوا يتداولون أحاديث الوصيّة، فنهضت عائشة في مواجهة ذلك التيّار بحديثها الذي أثبته البخاري، تقول فيه إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لمّا نزل به الموت ورأسه على فخذي غُشِيَ عليه ثمّ أفاق، فقال: «اللّهمّ الرفيق الاَعلى» فكانت آخر كلمة تكلّم بها «اللّهمّ الرفيق الاَعلى».

قال العسقلاني نقلاً عن الزهري في ما يرويه عن جماعة من أهل العلم فيهم عروة بن الزبير: كأنّ عائشة أشارت إلى ما أشاعته الرافضة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم أوصى إلى عليٍّ ( ع ) بالخلافة وأن يوفي ديونه(1) !

لكن لا العسقلاني ولا الزهري ولا جماعة أهل العلم يشاءون أن يتقدّموا في التحقيق خطوة واحدة إلى الاَمام؛ لاَنّ الخطوة اللاحقة سوف تنفض أيديهم ممّا وضعه فيها حديث عائشة!

فالسيّدة أُمّ سَلَمة أقسمت على كذب الحديث المرويّ عن عائشة، حين أقسمت أنّ آخر الناس عهداً بالنبيّ هو عليّ بن أبي طالب! قالت: (والذي أحلف به، إنْ كان عليٌّ لاَقرب الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عُدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداةً بعد غداة يقول: «جاء عليّ»؟ مراراً، فجاء

____________________

(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8: 122.

١١٦

بعد، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب وكنتُ من أدناهم إلى الباب، فأكبّ عليه عليٌّ، فجعل يُسارّه ويناجيه، ثمّ قُبض صلى الله عليه وآله وسلم من يومه ذاك وكان أقرب الناس به عهداً)(1) .

فالصحابة كانوا يعرفون ذلك وإنْ أنكرته عائشة، فدخل حديثها صحيح البخاري دون حديث أُمّ سلمة الذي كان رجاله من رجال الصحيح!

والحوارات التي أدارها عمر بن الخطّاب مع ابن عبّاس هي الاُخرى حوارات كاشفة عن هذا المعنى:

ففي أحدها: يكشف عمر عن معرفته بذلك فيقول: (لقد كان النبيّ يَربَع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه، فمنعتُ من ذلك، إشفاقاً وحيطةً على الاِسلام! وربِّ هذه البَنيّة لا تجتمع عليه قريش أبداً).

أمّا ابن عبّاس فيؤكّد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد نصّ على عليٍّ ( ع )، وأنّه سمع ذلك من عليٍّ والعبّاس(2) .

وفي أُخرى: يؤكّد عمر إرادة قريش، فيقول: كرهت قريش أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة فتجخفوا جخفاً(3) ، فنظرتْ قريش لنفسها فاختارت!!

____________________

(1) مسند أحمد 6: 300، وصحّحه الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 112.

(2) شرح نهج البلاغة 12: 21 عن أحمد بن أبي طاهر في (تاريخ بغداد).

(3) الجخف: التكبّر.

١١٧

لكنّ ابن عبّاس يحمل على هذه الحجّة حملاً عنيفاً، متسلّحاً بآي القرآن هذه المرّة، فيقول: (أمّا قولك: كرهت قريش! فإنّ الله تعالى قال لقوم:( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (1) .

وأمّا قولك: إنّا كنّا نجخف! فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة، لكنّا قوم أخلاقنا مشتقّة من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال له الله تعالى:( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (2) وقال له:( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (3) .

وأمّا قولك: فإنّ قريشاً اختارت! فإنّ الله تعالى يقول:( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (4) .

وقد علمتَ يا أمير المؤمنين أنّ الله اختار من خَلقه لذلك مَن اختار! فلو نظرتْ قريش من حيث نظر الله لها لَوُفِّقَت وأصابت)!!

ولهذا الحوار مصادره المهمّة أيضاً(5) .

وهذه هي نظريّة النصّ في إطارها التامّ:( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) ، وإنّ الله اختار مِن خلقه لهذا الاَمر مَن اختار..

والحوار الطويل الذي أداره عثمان أيّام خلافته مع ابن عبّاس، يكشف

____________________

(1) سورة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم 47: 9.

(2) سورة القلم 68: 4.

(3) سورة الشعراء 26: 215.

(4) سورة القصص 28: 68.

(5) تاريخ الطبري 4: 223، الكامل في التاريخ 3: 63 - 65، شرح نهج البلاغة 12: 53 - 54.

١١٨

عن وضوح تامّ لهذه القضيّة، إذ يختم عثمان حديثه بقوله: (ولقد علمتُ أنّ الاَمر لكم، ولكنّ قومكم دفعوكم عنه، واختزلوه دونكم)!

فأكّد ابن عبّاس هذا المعنى في جوابه، وذكر العلّة فيه كما يراها، ويرى أنّها لم تكن خفيّةً أيضاً على عثمان، فيقول: (أمّا صَرفُ قومِنا عنّا الاَمرَ فعن حسدٍ قد والله عرفتَه...)(1) .

هذا كلّه وكثير غيره عرفه الصحابة، وحفظه التاريخ، لهم أو عليهم!

فحقَّ إذن لقائل أن يقول: إنّ غالبية المسلمين حين توفّي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانوا مع الاتّجاه الذي يمثّله الامام عليٌّ بن أبي طالب ( ع ) وأصحابه، لاَنّ النبيّ ( ص ) كان زعيم هذا الاتّجاه(2) .

لقد كان عامّة المهاجرين والاَنصار لا يشكّون في أنّ الامام علياً هو صاحب الاَمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

النصّ في حديث عليّ:

واضح جدّاً في قراءة تلك الحقبة من التاريخ أنّ عليّاً عليه السلام هو أكثر مَن تبنّى إظهار النصوص والاِشارات الدالّة على اختياره من الله لخلافة الرسول، أو النصّ عليه بالاسم.

فكلماته دالّة على ثبوت الخلافة له بعد الرسول بلا فصل، وأنّ انتقال

____________________

(1) أخرجه الزبير بن بكّار في (الموفّقيّات)، وعنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 9: 9.

(2) أحمد عبّاس صالح، مجلّة (الكاتب) القاهرية - يناير 1965 م، وعنه محمّد جواد مغنية، الشيعة في الميزان: 431.

١١٩

الخلافة إلى غيره كان بغير حقّ، بل استئثار وغلَبَة، بل كلماته نصوص صريحة في هذه المعاني كما سنرى هنا.

في حقّه خاصّة:

الامام عليّ عليه السلام هو الذي أعاد إلى الاَذهان أحاديث نبويّةً تبرز حقّه في الخلافة بلا منازع، لم يكن مأذوناً بها أيّام الخلفاء، إذ منعوا من الحديث إلاّ ما كان في فريضة، يريدون بها الاَحكام وفروع العبادات:

1 - فقد جمع الناس أيّام خلافته فخطبهم خطبته المنقولة بالتواتر، يناشد فيها أصحاب رسول الله مَن سمع منهم رسولَ الله بغدير خمّ يخطب فيقول: «مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه» إلاّ قام فشهد(1) .

2 - وعليٌّ ( ع ) هو الذي أعاد نشر حديث آخر يقدّمه على أبي بكر وعمر خاصّة، إذ أخبر النبيّ أنّ مِن أصحابه مَن يقاتل بعده على تأويل القرآن كما قاتل هو صلى الله عليه وآله وسلم على تنزيله، فتمنّى أبو بكر أن يكون هو ذلك الرجل، فلم يصدّق النبيّ أُمنيّته، بل قال له «لا»! فتمنّى ذلك عمر لنفسه فلم يكن أحسن حظّاً من أبي بكر، ثمّ قطع النبيّ الاَمانيّ كلّها حين أخبرهم أنّه عليٌّ، لا غير(2) !

هذه الاَحاديث وغيرها وإنْ رُويت عن غيره إلاّ أنّ روايتها عنه امتازت بكونها خُطَباً على جمهور الناس، لا حديثاً لواحد أو لبضعة نفر، وهذا أبلغ في التأكيد على حقّه الثابت له، وأيقن بأنّ كثيراً من الصحابة كانوا يعرفونه ولا يجهلونه!

____________________

(1) تقدّم مع مصادره، راجع صفحة 91.

(2) سنن الترمذي 5 | 3715، السنن الكبرى - للنساني - 5 | 8416. وقد تقدّم.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133