• البداية
  • السابق
  • 219 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 17734 / تحميل: 4380
الحجم الحجم الحجم
الإمامة والقيادة

الإمامة والقيادة

مؤلف:
ISBN: 964-319-021-8
العربية

فما موقفنا من هذه الإنقلابات ومن يفعلها ، بشرط أن يكون موقفا متسقاً مع تاريخنا وإسلامنا ، لأننا إذا آمنا بما فعله معاوية ، ثم أدانت أجيالنا الإنقلابات العسكرية كطريق للوصول الى السلطة وأخذ القيادة ، وقعنا في تناقض يعطي من قام بالإنقلاب فرصة ليقول : والله أسوتي في ذلك معاوية ، وأنتم لستم بأعلم منه ولا تعتقدون بخطئة. فماذا نقول له ؟

ثالثاً : أننا لا نستطيع اعتبار طريقة معاوية شكلاً من أشكال الإسلام ، ثم في نفس الوقت نؤمن بعدم شرعية النظم التي تركبنا ، خصوصاً في الدول العربية ، لأن كل هذه النظم في حقيقة الأمر امتداد لنظام معاوية تستمد منه شرعيتها في الإستيلاء على قيادة الأمة ، وتقتدي به.

وقد يقول أحدنا : يا عزيزي إن عدم شرعيتها في أنها لا تطبق الإسلام ولا تحكم بما أنزل الله ، فأقول : قد فعلها النميري من قبل وضياء الحق ، فهل صارت نظمهما إسلامية ؟ وأين الإسلام الذي طبقوه ، ولماذا لم يستمر بعدهم.

١٢١

إن هذه الجنينية في التفكير ـ التي تزعم أن الحاكم إذا شرع في تطبيق الإسلام ، وجب علينا أن ندعوه أمير المؤمنين بصرف النظر عن طريقة وصوله الى القيادة ـ لو تمسكنا بها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، لأن الشرعية شيء آخر ولها معايير مختلفة ، وهو ما قد أشير اليه في الباب القادم.

نحن إذن أمام معضلة وعلينا حلها : إما أن يكون أسلوب معاوية وأفعاله خطأ ، وبالتالي فالأنظمة التي تركبنا اليوم في العالم العربي والإسلامي خطأ وغير شرعية. وإما أن نعتقد صحة طريق معاوية ، ولا نستطيع أن نمس هذه الأنظمة بسوء ، وتكون كلها على صواب وشرعية ، وإياكم وأن تفتحوا فمكم بكلمة ضدها.

يقول معاوية لسفيان بن عوف الغامدي أحدقادته العسكريين ، وقد بعثه ليغير على المسلمين في العراق :

( إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم ، وتفرح كل من له هوى فينا منهم ، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر ، فاقتل كل من لقيته ممن ليس على رأيك ، وأخرب كل

١٢٢

ما مررت به من القرى ، وأحرب الأموال فإن حرب الأموال شبيه بالقتل ، وهو أوجع للقلب )(١) .

هذا مثل من آلاف الأقوال والسياسات التي أثرت عن معاوية ، وحفظتها لنا كتب التاريخ ، فماذا لو اقتدى بها حكامنا ، أنغضب ونسب ونلعن ؟ وإذا قالوا : إن لنا في معاوية أسوة حسنة وقد سبقنا إليها ومعه أكثر الصحابة ، وما اعترض عليه أحد من كبارهم وهم أهل العقد والحل ، فماذا نقول لهم ؟

وإذا راق للبعض أن يقولوا إن الجيل الأول كانوا صحابة ، أما نحن فلسنا بصحابة. قلنا أفنزلت الشريعة سواء للكل وفي كل العصور ؟ أم استثني الصحابة من أحكامها ؟ أم أن لدينا شريعيتن أحدهما للصحابة والجيل الأول والثانية للمسلمين من الدرجات الثانية والعاشرة أمثالنا ؟ فإن كان لدينا دليل على أن ما ينطبق علينا لا ينطبق على الصحابة فأين هو ، هاتوه ففيه حل جميع المعضلات.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الشافعي : ٢ / ٨٥ ـ ٨٦.

١٢٣

إن وصول معاوية إلى قيادة خير أمة لم يكن غير نتيجة منطقية لأزمة القيادة التي ألقى الأمة والدولة في دوامتها نفر من كبار الجيل الأول ، لاعتبارات آخر ما فيها مصلحة الدين والدولة ، فظلت مخالفاتهم تتعاظم يوماً بعد يوم حتى وجد المسلمون أنفسهم بين أنياب بني أمية ، ومنذ ذلك الحين ونحن نتوارث هذه السياسات ، يحكمنا بها الطواغيت ، فيركبوننا ويقضون علينا مآربهم ، ونستكين لهم بهذه السياسات ، لا فرق بين ماضينا وحاضرنا ، فما نراه اليوم ليس إلا صورة عصرية مما ارتكبه الأوائل ومارسه السلف ، وليس من سبيل الى إصلاح الحاضر إلا بالوقوف موقفاً محدداً من هذا الماضي ، ورفض ما خالف ومن خالف فيه أحكام الإسلام ، وهي واضحة جلية من أجل أن نعرف رأسنا من أرجلنا ، على الأقل قبل قليل من يوم القيامة.

لكن مصيبتنا السوداء أننا نعيش على فتات ماضينا ، نلوك حوادثه ، ونمضغ سيرة السلف دون أن نزيل عنها ما علق بها ، فيتحول كل هذا في دمائنا أفيوناً وبلادةً ، دون أن نحس ، لأن

١٢٤

هذه الوقائع قد حولت الى معتقدات تقدم لنا ملفوفة في أوراق إسلامية ، حملت أسماء مشاهير ، وما طبعت إلا في مطابع السلطة.

هذه هي وقائع تاريخنا التي صاغ على أساسها فلاسفتنا ومفكرونا ما صبوه فينا من فكر سياسي. وليتهم تركوا لنا الخيار لنزن ما يقولونه وما يقوله المعارضون للسلطة ، بل شنوها حرباً شعواء على من عارض السلطان ، ورموهم بما ليس فيهم ، وكفروهم ، فإذا المسلم اليوم لا يطيق أن يسمع رأياً معارضاً ، ولا يرى بين المسلمين مسلماً إلا نفسه وفرقته ، ولا يرى الإسلام والعقيدة الصحيحة إلا في أقوال ابن فلان وابن فلان ، فاتسعت الشقة بين من يعارضون ( فكر السلطة ) ونظرياتها في الحكم والسياسة ، وبين الأغلبية العظمى التي تردد بلا وعي ( فكر السلطة ) وتريد في نفس الوقت أن تصل الى السلطة وتسقط الأنظمة وتبيد الطواغيت.

* *

١٢٥
١٢٦

فكرنا السياسي إسلامي أم سلطوي ؟

هذه الأحداث التي ذكرناها في الفصل السابق باختصار ، هي أهم جزء في تاريخنا السياسي ، ومن هنا فليس بمستغرب أن تكون هي الأعمدة التي قام عليها صرح ما لدينا من فكر سياسي ودستوري نسبناه للإسلام.

كما أن هذه الاحداث العظيمة كان لها أسوأ الاثر على كيان الأمة الواحدة ـ وهي خير أمة ـ لأنها قسمتها ثلاثة قطاعات :

قطاع استولى على السلطة ـ بهذه أو تلك من الطرق ـ على النحو الذي رأيناه ، وبالممارسات التي سجلتها لنا كتب الحديث والتاريخ. وقطاع آخر معه شيء آخر كان ينبغي سماعه ودراسته ولا زال. وهؤلاء حرموا حق التعبير عن أنفسهم في شكل كيان

١٢٧

سياسي مستقل ، وحوصروا إعلامياً واقتصادياً ، ثم قتلوا وشردوا وذاقوا الأمرين ، فبقوا في زوايا التاريخ متمسكين بما عندهم ، ثابتين عليه معارضين لكل النظم ، شاعرين بأن الحق معهم لكنه سلب ، فكان ذلك سبب انهيار الدولة.

وقطاع ثالث رأى تنافس القطاع الأول ، واستئثاره على الآخرين ، فظل ينظر الى الكبار وأفعالهم وممارساتهم ، ويتأسف لها ولا يبدي رأياً ، وساعده على الإعتزال قوة شوكة الكبار من الفريق الأول ، وعدم اشراكهم له في شيء له فيه حق. وهؤلاء هم العامة من الناس.

وظل الوضع على هذا. نعم كان من هم في السلطة يشعرون بخطر المعارضين ، لكنهم لم يقاوموهم فكرة بفكرة ، إذ جعلتهم قوة الحكم والسلطان في غير حاجة لفكر متين ، فأسفر ذلك عن أمور :

الأول : أن الفكر السياسي عند أهل السنة بدأ متأخراً جداً إذا قورن بفكر شيعة أهل البيت الذين بقوا في المعارضة. ولما قرر علماؤنا أن يكتبوا في السياسة والدستور وجدوا أن هذا العلم قد

١٢٨

تبلور واستوى ووضعت مصطلحاته ـ في غفلة منهم ـ على يد أنصار أهل البيت المعارضين ، فلما شمروا عن سواعدهم وسيقانهم ليخوضوا في هذا البحر ، وتكلموا فيه ، جاء كلامهم سطحياً وكتاباتهم غير مؤصلة.

الثاني : أن علم السياسة عندنا أهل السنة ، ما كان يملك نظرية سياسية واضحة قائمة برأسها يتخذها أساسا لما يريد أن يتكلم فيه ، ومن ثم جاءت كتابات من كتبوا فيه رد فعل لآراء المعارضين ، فبدت كأنها إجابات ـ مجرد إجابات ـ لرد أقوالهم ، وسد الخانات بأي شكل وأي كلام.

وأول من تكلموا في هذا العلم عندنا كالماوردي ، وأبي يعلى ، وابن العربي المالكي ، وابن خلدون ، والجويني ، وغيرهم ، عاشوا في حدود القرنين الرابع والخامس الهجري ، وكان الآخرون قد سبقوهم بأربعة قرون على الأقل هي نفس الفارق في النضج السياسي اليوم بين أتباع المدرستين.

الثالث : أن هؤلاء العلماءلم يحاولوا تأسيس نظرية مختلفة ، ولكن نحوا منحى خطيراً للغاية اذ أسسوا كتاباتهم على أربعة أسس :

١٢٩

الأول : المصادقة على الأمر الواقع ، واعتبار أن نتائج الأحداث التي وقعت هي عين ما كان ينبغي أن يكون ، بل وهي الاسلام ونظريته السياسية.

الثاني : أنهم في تأييد ذلك فتشوا في القرآن والحديث عن نصوص فأولوها تارةً ولووا أعناقها تارة ليلائموا بينها وبين الأحداث ، بصرف النظر عن موقف الاسلام الحقيقي.

وهذه العملية التي مارسوها لأسلمة وقائع ونتائج ربما كانت غير إسلامية أجبرتهم على تفصيل حلل وأثواب من الأدلة الواهية ، فأدى ذلك الى أمرين ، الأول : إضفاء القداسة على أحداث التاريخ البشري الخاص بتلك الحقبة ، فاعتبرناه عبر أجيال طويلة جزءً من الدين له قداسته واحترامه بكل ما فيه ، ولو كان مخالفا للدين في بعض الأحيان. والثاني : أن كتاباتهم ـ أودعنا نقول ما قدموه من نظرية سياسية إسلامية ـ جاءت تبريرية تهيئ للحكام ـ كل الحكام صالحهم وفاسدهم ـ أدلة شرعية لتبرير أفعاله ، ولعل لافتة ( الاجتهاد ) التي لصقوها على أفعال الحكام جميعاً منذ وفاة

١٣٠

الرسول عليه وآله الصلاة والسلام حتى العصر العباسي هي أوضح نموذج لهذه الأدلة التبريرية ، مع التغاضي عن موقف الاسلام الصحيح خلال كل هذه الممارسة.

وحملنا معنا هذا كله في أوردتنا وشرايينا ، وتناقلته خلايانا الوراثية عبر قرون وقرون ، فإذا بحكام اليوم يرتكبون الأخطاء ، فتوقع المعاهدات اللاإسلامية مثلاً ، أو تستدعي قوات الإحتلال من هنا وهناك ، ثم تجدنا نتساءل بين أنفسنا : وما حكم الاسلام في هذا ؟

وتجدهم ـ وهم أصلاً حكام وأنظمة غير شرعية ـ يلجؤون الى العلماء ـ إن صح تسميتهم بهذا ـ ويطلبون منهم التبريرات ، فإذا بمشايخنا يخرجون من بطون الكتب ما شاءوا ويفصلون للافعال غير الإسلامية أثواباً إسلامية ، مزينة بآيات من القرآن وأحاديث الرسول.

إنها عملية متصلة منذ قديم ، فكما فعلوا في الماضي يفعل أمثالهم في الحاضر. فإن قلتم إن أهل الحاضر يقلدون أسلافهم ، قلنا فمن كان قدوة الأسلاف ؟

١٣١

إن المسألة معكوسة تماماً ليس فيها تقليد بل هي مدرسة فكرية ، واتجاه سياسي توارثناه ، لأن طبيعة الفكر السياسي عندنا تبريرية ، هدفها التعايش مع الواقع ومع كل الأنظمة أياً كان نوعها.

الثالث : أنهم فهموا الشرعية القانونية بمفهوم سقيم ـ وإن كان له مؤيدوه في العصر الحاضر ـ فاعتبروا التمكن هو الشرعية ، والقيادة المتمكنة هي القيادة الشرعية ، بصرف النظر عن طريق تمكنها ، وأسلوب وصولها. فإذا وصل رجل ما ـ أي رجل ـ الى مركز القيادة ، وتمكن من أعنة الحكم ، فهو حاكم شرعي وقيادة شرعية نتعامل معها على النحو الذي يأمر به الاسلام ، فيصبح واجبنا السمع والطاعة ، ويصبح أسلوب وصوله إسلامياً.

وهذا سفه فكري ، لأن الشرعية في جميع قوانين الأرض والسماء غير التمكن ، فالشرعية تقوم على مواصفات إن وجدت أصبح الشيء شرعياً ، وإن لم تتوافر هذه المواصفات فلا يصبح الشيء أو النظام شرعياً ، مهما بلغ حجم التأييد فيما بعد ، لأن وجود الشيء بالفعل لا يعني شرعيته.

١٣٢

ولو سلمنا بوجهة نظر هؤلاء كان علينا الإعتراف بأن كل الأنظمة التي تركبنا اليوم شرعية لا غبار عليها ، لأنها متمكنة من السلطة ، وهذا رأي فاسد.

على أن ضمير الأمة ووجدانها الاجتماعي والديني ظل يرفض هذه النظرية ـ ولا زال ـ ومن هنا وجدنا في العصور الأولى من كان يعرف اصطلاحاً ب‍ ( الامام بالفعل ) و ( الامام بالحق ) فالأول هو الشخص المتمكن من السلطة فعلاً ولديه القوة ، والثاني هو الإمام الشرعي الذي كان ينبغي وجوده في السلطة ولم يحصل ، وعادة ما كان الناس يوالون الثاني ويلتفون حوله ويحترمونه ، رغم كونه لا حول له ولا قوة.

وأمثلة هذا في السير والتاريخ كثيرة لا داعي لذكرها هنا فإني أخشى الإطالة.

إن السلطة ـ أي سلطة ـ حقيقة واقعية ملموسة وموجودة أمام الناس بأشكال مختلفة ، لكن شرعيتها ليست في مجرد كونها كذلك أو في وجودها الفعلي في حيز الزمان والمكان ، بل في كونها

١٣٣

جاءت بالطريق الشرعي وتمثل الإرادة العامة لأفراد المجتمع ، والعقل العام للمجتمع من حيث هو مجموعة أفراد ينتمون الى نظرية ما ، بشكل أو آخر.

وكان من نتائج الاقتصار على اعتبار الشرعية مرادفاً لمجرد الوجود مهما كانت طريقة تحقيق هذا الوجود ، أن وقع الإنفصام بين المجتمع وبين السلطة على مدى تاريخنا الإسلامي. ولا زلنا نرى هذا الإنفصام حقيقة شاخصة أمامنا ، لأن المذهب السياسي هو بعينه لم يتغير بعد ، ويعتمد ـ كما كان من قبل ـ على المعيار الصوري للشرعية لا المعيار الموضوعي لها. فهناك دساتير رسمية أقرتها وتقرها المجالس النيابية المختلفة المنتخبة ، وهناك هيئات تشريعية تسن القوانين وتضع القواعد ، وهناك أحزاب وصحف ومنابر ، لكن هذا كله غير مبني على المعيار الموضوعي للشرعية ، وهو ما يعتمد على أمرين ، أولهما : أن يكون هذا كله نابعاً من العقل العام والإرادة العامة للمجتمع ، فما أسهل تلفيق الدساتير وطبخ القوانين وتزوير الإنتخابات والإستفتاءات

١٣٤

وثانيهما ـ وهو الأهم ـ أن تكون خلف هذا كله نظرية هي في ذاتها شرعية ، فإن كانت هناك نظرية شرعية ، أو قل مشروعة ، ثم اتخذت إجراءات شكلية لتسيير الأمور لا يتوفر فيها المعيار الموضوعي للشرعية ، أدَّى ذلك الى مهالك أقلها انفصام المجتمع وعقله ومزاجه العام عن السلطة الحاكمة ، فتصبح هى في واد والشعب في واد.

الرابع : أنهم وضعوا لأسلمة الأحداث والإجراءات التي رأيناها وإضفاء الشرعية عليها أساساً واهياً هو عدم اعتراض الناس أو من أسموهم اصطلاحاً بالجمهور. أي أن سكوت أفراد المجتمع على شيء يعنى شرعيته ، وهو أساس مختل ، لأن أسباب السكوت قد تكثر وتتنوع ، فربما سكت الناس بسبب الإنفصام بينهم وبين السلطة ، أو بحكم القوة ، أو بفعل الخوف ، أو ربما الجهل ، أو سلبية التعبير عن الرفض ، أو ربما غير ذلك ، وهذا كله يتشكل في هيئة سكوت.

فالسكوت إذن ليس دليلاً على الرضا أبداً.

١٣٥

ثم اذا أخذنا بهذه القاعدة الآن كان علينا التسليم بشرعية كل النظم التي تركبنا ، لأن الناس أو على الأقل الأغلبية الساحقة ساكتة لا تتحرك ضدها.

وأساس السكوت هذا تعتمد عليه هذه الأنظمة في إثبات شرعيتها للعالم الخارجي ، وكلنا يعرف أسباب السكوت ، لكنه يؤمن بعدم شرعيتها.

هذا النقد ليس تجنياً

هذا النقد المختصر لمذهب من كتبوا لنا في التاريخ والسياسة منذ القدم ، ونسبوا مقالاتهم للاسلام ليس تجنياً عليهم ، ولا من باب تحويل الحبة الى قبة ، بل هو بالفعل منهج مدون مطبق ، وفي سبيل إثباته أستعرض هنا شيئاً من آراء بعضهم فيما يخص موضوع الكتاب ـ أي القيادة أو ما أطلقوا عليه اصطلاح الإمامة والخلافة ـ وهو موضوع واحد فقط من موضوعات علم السياسة. فالقيادة عندهم ( تنعقد من وجهي أحدهما باختيار أهل الحل والعقد ، والثاني بعهد الإمام من قبل. فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم

١٣٦

على مذاهب شتى. فقالت طائفة لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ، ليكون الرضا به عاماً والتسليم لإمامته إجماعاً ، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها ، ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.

وقالت طائفة أخرى : أقل ما تنعقد به الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها ، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين أحدهما أن بيعة أبي بكررضي‌الله‌عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ، ثم تابعهم الناس فيها وهم : عمر بن الخطاب وأبوعبيدة بن الجراح وأسيد بن حضير وبشير بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم.

والثاني : أن عمررضي‌الله‌عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة ، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة.

وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ، ليكونوا حاكماً وشاهدين ، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين.

١٣٧

قالت طائفة أخرى تنعقد بواحد.(١)

وأوضح امام الحرمين عبد الملك الجويني هذه النقطة فقال ( لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع بل تنعقد الإمامة وإن لم نجمع الأمة على عقدها. والدليل عليه أن الإمامة لما عقدت لأبي بكر ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين ، ولم يتأن لانتشار الأخبار الى من نأى من الصحابة في الأقطار ، ولم ينكر عليه منكر ، ولم يحمله على التريث حامل ، فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة ، لم يثبت عدد معدود ولا حد محدود ، فالوجه الحكم بأن الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحل والعقد )(٢) .

وقال القرطبي في معرض تفسيره لقوله تعالى( إني جاعل في الأرض خليفة ) فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت ودليلنا أن عمر عقد البيعة لأبي بكر ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك قال الإمام أبو المعالي : من انعقدت له

__________________

(١) الأحكام السلطانية للماوردي : ص ٥٠٤.

(٢) الإرشاد للجويني : ص ٤٢٤ ، مصر ١٣٦٩ ه‍.

١٣٨

الإمامة بعقد واحد فقد لزمت ، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر ، قال : وهذا مجمع عليه(١) ( وكرر نفس الكلام القاضي عضد الدين الايجى )(٢) .

( وأما انعقاد الامامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الاجماع على جوازه ، ووقع الإتفاق على صحته لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما. أحدهما : أن أبابكررضي‌الله‌عنه عهد بها الى عمررضي‌الله‌عنه ، فأثبت المسلمون إمامته بعهده ، والثاني : أن عمررضي‌الله‌عنه عهد بها الى أهل الشورى ، فقبلت الجماعة دخولهم فيها ، وهم أعيان العصر اعتقاداً بصحة العهد بها والصحيح : أن بيعته منعقدة ، وأن الرضا بها غير معتبر ، لأن بيعة عمررضي‌الله‌عنه لم تتوقف على رضا الصحابة ، ولأن الإمام أحق بها )(٣) .

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٢ ، مصر ١٣٨٧ ه‍.

(٢) المواقف : ٨ / ٣٥١ ـ ٣٥٣ ، مصر ١٣٢٥.

(٣) الماوردي : ص ٨.

١٣٩

( وان كان ولي العهد ولداً أو والداً فقد اختلف في جواز انفراده بعقد البيعة )(١) وساق الماوردي ثلاثة آراء بعضها يجيز بلا شرط ، وبعضها يجيز بشرط ، والحاصل : أنه يجوز عقد الإمام البيعة لولده ووالده. ( فأما عقدها لأخيه ومن قاربه من عصبته ومناسبه ، فكعقدها للبعداء الأجانب في جواز تفرده بها )(٢) أي لا إشكال فيه.

( ولو عهد الخليفة الى اثنين أو أكثر ، ورتب الخلافة فيهم فقال : الخليفة بعدي فلان ، فإن مات فالخليفة بعد موته فلان فالخليفة بعده فلان ، جاز ، وكانت الخلافة منتقلة الى الثلاثة على ما رتبها فقد عمل بذلك في الدولتين ( يقصد بني أمية وبني العباس ) من لم ينكر عليه أحد من علماء العصر ، هذا سليمان بن عبدالملك عهد الى عمر بن عبدالعزيز ، ثم من بعده الى يزيد بن عبد الملك وقد رتبها الرشيدرضي‌الله‌عنه ( كذا ) في

__________________

(١) نفس المصدر ، نفس الصفحة.

(٢) نفس المصدر ، ص ٩.

١٤٠