الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ١

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة0%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 198

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: الصفحات: 198
المشاهدات: 85635
تحميل: 5560


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 198 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85635 / تحميل: 5560
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء 1

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يصبح نجساً شرعاً بالموت. ويستفاد من ظاهر الأدلّة أنّ علّة النجاسة هي الموت. وعلى هذا الأساس، فكلّ شخصٍ لامست يده جسد الميت، ينبغي له أن يغسلها ويغتسل لمس ّالميت. يقول صاحب الجواهر: المستثنى من هذه القاعدة الكليّة أجساد المعصومينعليه‌السلام والشهداء. ففيما يخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورد حديث(٧٢) يدلّ على أنّه طاهر مطَهَّر، وتوجد رواية بهذا المعنى حول الزهراءعليه‌السلام (٧٣) ، ويتمّ في غيرهما من المعصومينعليه‌السلام ، بعدم القول بالفصل، وبالقطع بالاشتراك في العلّة، ولظهور ما دلّ على سقوط الغسل للشهيد(٧٤) بعدم نجاسته بهذا الموت، إكرامً وتعظيماً له من الله الّذي لا يعدّ الشهداء أمواتاً(٧٥) ؛ حيث يقول القرآن الكريم:( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الّذين قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (٧٦) .

ــــــــــــــ

٧٢ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج٢، ص٩٢٨.

٧٣ ـ النوري الطبرسي، مُستدرَك الوسائل ومستنبَط المسائل، ج٢، ص٤٢، الباب٧ من أبواب الحيض، الحديث ١٦.

٧٤ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج٢، ص٦٩٨، الباب ١٤ من أبواب غسل الميت، ٧٠١.

٧٥ ـ النجفي، محمد حسن، جواهر الكلام، ج٥، ص٣٠٧.

٧٦ ـ سورة آل عمران: الآية ١٦٩.

١٢١

٢ ـ ٨ ـ إرث الجد للأب والجد للأم: حين يجتمع أجداد المتوفى لأبيه مع أجداده لأمه، كيف ينبغي قسمة التركة بينهم؟

يستفاد من تحديد ميراث الجدّين للأب والأم من نصوص الروايات؛ الّتي تجعل الجد بمنزلة الأخ والجدة بمنزلة الأخت(٧٧) .

يقول صاحب الجواهر(٧٨) : من الروايات الواردة بشأن ميراث الأبناء والأخوات والأخوة، وكذلك من علّة الأفضليّة؛ الّتي منحت للرجال على النساء، يمكن إدراك أنّ عدم وجوب الجهاد على النساء وضرورة إعطائها النفقة... هو الّذي أوجد الفوارق في كيفيّة قسمة الإرث بين الرجال والنساء. والنتيجة المترتّبة على ذلك، أنّه في مقابل ما يتحمّله الرجال من نفقات النساء، ينبغي أن تُراعى هنا أيضاً حقوق الرجال في قسمة الإرث. فضلا ًعن أنّ الروايات الّتي تجعل الجَدَّين بمنزلة الأخت والأخ تفيد هذا الحكم أيضاً. وعلى هذا، فبإدراك المِلاك يمكن أن يُفهَم أن سهم الجد سيكون كسهم الأخ، وسهم الجدة كسهم الأخت في الإرث.

ــــــــــــــ

٧٧ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج١٧، ص٤٤٧، الباب٦، من أبواب ميراث الإخوّة والأجداد.

٧٨ ـ النجفي، محمد حسن، جواهر الكلام، ج٣٩، ص١٥٥.

١٢٢

٢ ـ ٩ ـ فسخ عقد الزواج بكشف العيب: عندما يعقد الرجل والمرأة عقد الوفاء لبعضهما في سبيل تكوين أسرة، فإنّ المفترض بهذا العقد أن يلعب فيه الصدق دوراً أساسيّاً، فتُكشَف جميع التفاصيل، من أجل استمرار هذه العلاقة وديمومة هذا العقد. وعلى هذا، فإنْ كانت هناك قضايا ومعضلات أو حقائق معينة، يمكن أن تكون ـ في حالة انكشافها ـ عائقاً يحول دون استمرار الزواج، ففي هذه الحالة، إذا أخفاها الرجل أو المرأة وأتمّ عقد الزواج(٧٩) ، وبعد عقده ظهرت تلك الحقائق، يمكن للطرف الّذي وقع عليه الضرر، أن يفسخ هذا العقد.

وقد ذُكرت أمثلة عدّة للعيوب الّتي توجب جواز فسخ العقد، ومنها الجنون. فلو كان أحد الزوجين مجنوناً، وأخفى هذا الأمر عن الآخر خلال العقد، ثُمّ انكشف ذلك بعد الزواج، يَحقّ حينئذ للطرف المتضرِّر أن يفسخ عقد الزواج. لكن إذا كان كل من الرجل والمرأة فيه عيب، ترى هل يكون من حق الاثنين ـ الرجل والمرأة ـ أن يفسخا العقد، أم أنّه لا يحقّ لكليهما الفسخ؟؛ بسبب كونهما لم يتضررا، وهما متساويان في وجود العيب؟، يقول صاحب الجواهر: إنّ القول بأنّ لكليهما الحق في الفسخ، لا يخلو من إشكال؛ باعتبار ظهور النص(٨٠) في اشتراط تضرّر أحد الزوجين بوجود العيب في الآخر، بينما في حالة وجود العيب في كلا الزوجين ـ خاصة في الأمور المتعلقة بالمضاجعة ـ لن يتضرّر أيّ منهما؛ لاشتراكهما في وجود العيب(٨١) .

٢ ـ ١٠ ـ وطء الفتاة غير البالغة: في الموثَّقة عن أبي جعفرعليه‌السلام (٨٢) : أنّه ورد عن الإمام عـليّعليه‌السلام قوله:((لا توطأ فتاة لأقل من عشر سنين)) ، وقد استنبط الفقهاء من هذه الرواية، أنّ علّة عدم جواز المضاجعة، هي عدم اكتمال نضج الجهاز التناسلي. ومن ناحيّة أخرى، لمّا لم تكن لديها القدرة على تحمل مشاق الحمل، فسيلحِقُ هذا العمل أفدح الأضرار النفسيّة والجسديّة بتلك الفتاة الّتي لم تبلغ

ــــــــــــــ

٧٩ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج١٤، ص٥٩٢ ـ ٦١٧، أبواب العيوب والتدليس.

٨٠ ـ نفس المصدر، ج١٤، ص٥٩٣، الحديث٣.

٨١ ـ النجفي، جواهر الكلام، ج٣٠، ص٣٦١.

٨٢ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج١٤، ص٧١، الباب٤٥، من أبواب مقدّمات النكاح، الحديث٧.

١٢٣

بعد؛ لذا فإنّه لا يجوز وطء الفتاة الّتي لم تبلغ عشر سنوات من عمرها، ولو كانت تمتلك النمو الجسدي الكافي، فإنّ ذلك العمل يعتبر قبيحاً عقلاً.

ورغم أنّ الرواية واردة في واقعة خاصّة، إلاّ أنّ صاحب الجواهر(٨٣) ، لأجل اكتشافه للعلّة، ولأجل إجماع الأصحاب، يحكم بعدم جواز وطء الفتاة الّتي لم تبلغ. ولا يميِّز بين الزوجة الدائمة والمستمْتَع بها (الزوجة المؤقَّتة)، ويقول: مع أخذ اشتراك العلّة بنظر الاعتبار، فإنّ تخصيص الحكم في بعض الروايات بكلمة (الزوجة)، لا يتنافى والتعميم؛ ((لأنّ التخصيص بالذِّكْر لا يقتضي تخصيص الحكم)).

ــــــــــــــ

٨٣ ـ النجفي، جواهر الكلام، ج٢٩، ص٤١٤.

١٢٤

التخصّص في الأبواب الفقهيّة مدخل إلى التَّطوير والمعاصرة(*)

الشيخ عبد الأمير قبلان

شهد العالمان العربي والإسلامي خلال القرن العشرين، بل ومنذ أوخر القرن التاسع عشر، بروز دعوات مخلِصة للنهوض بحيّة المسلمين، ولإصلاح الفكر الإسلامي وتجديده.

وقد جاءت هذه الدعوات ـ بصرف النظر عن مضامينها ـ بفعل عوامل متعدّدة، نذكر في طليعتها حالة اليقظة والوعي لدى بعض علماء الأمّة والنابهين من أبنائها، والّتي ساهم في إحداثها ردّة الفعل على التغلغل التدريجي لفكر الغرب المادي وقوانينه الوضعيّة(١) ضمن حياة المسلمين. وقد وصل تأثير الدعوات المذكورة إلى الحوزات الفقهيّة الإسلاميّة، ومنها حوزتا النجف وقم، وإنْ في وقت متأخر نسبيّاً(٢) .

في هذا السياق، انطلق الحديث من قبل العديد من الفقهاء المخلصين عن الحاجة إلى تطوير الدراسات الفقهيّة تلبيّة لمتطلبات العصر، ولكن شريطة أن لا يمسّ ذلك الثوابت الدينيّة الأصليّة؛ أي بتعبير مختصر: ((النزوع إلى المعاصرة مع التّمسّك بالأصالة)).

ــــــــــــــ

(*) أُلقيت هذه الدراسة في المؤتمر الدولي الخامس عشر للوحدة الإسلاميّة، موضوعه ((الأصالة والمعاصرة في فقه المذاهب الإسلاميّة))، الّذي يقيمه المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة، في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، المصادف ١٥ ـ ١٧ ربيع الأول/ ٢٨ ـ ٣٠ أيار ٢٠٠٢م.

١ ـ لعلّ أوّل خطوة سُجِّلت على صعيد تغلغل القوانين الوضعيّة الغربيّة في العالم الإسلامي، هي إقدام الخلافة العثُمانيّة سنة ١٨٤٠م على اعتماد قانون للعقوبات مترجَم عن قانون العقوبات الفرنسي، مع شيء من التعديل. وتزايد هذا التغلغل بالتدريج، مقابل انحسار في مساحة تطبيق الشريعة الإسلاميّة، وذلك مع ازدياد النفوذ الغربي، حتّى انتهى الحال في أكثر أنحاء العالم الإسلامي إلى انحصار تطبيق الشريعة الإسلاميّة في إطار أنظمة الأسرة أو ((الأحوال الشخصيّة)). ولكن حصل قدر من التبدُّل الإيجابي في الفترة الزمنيّة الأخيرة؛ بتأثير الصحوة الإسلاميّة المعاصرة، وقيام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران.

٢ ـ من جملة المظاهر المبكّرة الّتي انعكست فيها هذه الدعوات على صعيد حوزة النجف، تأسيس جمعيّة منتدى النشر، على يد الشيخ محمّد رضا المظفَّر ورفاقه من العلماء... هذه الجمعيّة الّتي أنشأت ((كليّة الفقه)) الجامعيّة.

١٢٥

ويبدو أنّ مؤتمركم الكريم هذا، بجعله فكرة ((الأصالة والمعاصرة في فقه المذاهب الإسلاميّة)) عنواناً رئيساً لأبحاثه، إنّما أراد أن يعبّر عن اهتمامه بتطوير الدراسات الفقهيّة الإسلاميّة، وإنّنا إذ نشكر له ذلك، نتمنى له كل النجاح، وأن يتمخّض عن أفكار مفيدة في هذا المجال. وقد استوقفنا من جملة العناوين الفرعيّة الّتي اشتملت عليها ورقة الدعوة إلى المؤتمر، عنوان مهم يتَّصل بعمليّة تجديد الاجتهاد الفقهي، ألا وهو: ((تشجيع الاختصاص في الأبواب الفقهيّة)).

وسنحاول فيما يلي أن نطلّ إطلالة سريعة على الفكرة الّتي تضمّنها العنوان، موزّعين الكلام على عدة نقاط.

منشأ الحاجة المستمرَّة إلى الاجتهاد:

حيث إنّ الشريعة الإسلاميّة شاملة لمختلف شؤون الحياة؛ فإنّ المسلم المكلَّف، بحكم تبعيته لهذه الشريعة، لابدّ أن يكون سلوكه العملي منسجماً مع أحكامها في شتّى المجالات.

ونظراً لكون تحديد الموقف العملي، على أساس الشريعة، ليس بالأمر السهل، خصوصاً مع البُعد الزمني عن عصر النص، كما هو حالنا اليوم، وما يطرحه مثل هذا الابتعاد من إشكالات. هذا فضلاً عن طروء مسائل وحصول وقائع جديدة باستمرار؛ لذلك فقد توقّفت معرفة الموقف العملي في أكثر الحالات على بذل جهد خاص، مع تحصيل مسبَّق لجملة من العلوم بمستوى الاختصاص. وهو ما يصطلح عليه باسم ((الاجتهاد)). ومثل ذلك ليس متاحاً لكل الناس، بل لطائفة منهم فقط هم المجتهدون. ولم يبق أمام عامّة الناس غير التقليد لهؤلاء المجتهدين (أو اختيار طريق الاحتياط بالنسبة للبعض القليل منهم فقط، نظراً لصعوبة اعتماده).

١٢٦

وباب الاجتهاد أو الاستنباط ظلّ مفتوحاً ولم يُقْفَل لدى الفقه الشيعي. وممّا أسهم في تعزيز مسيرة الاستنباط لديه، ذهاب معظم الفقهاء الشيعة الأصوليين إلى حرمة تقليد الميت ابتداءً(٣) مع ما يعنيه ذلك من الحاجة المستمرَّة إلى وجود المجتهدين الأحياء، المؤهَّلين لإصدار الفتاوى للمقلِّدِين في كل عصر.

أمّا بالنسبة للفقه السنّي، فقد أقفِل ـ مع الأسف ـ باب الاجتهاد في وجهه بتأثير عوامل مختلفة، وذلك منذ منتصف القرن الرابع الهجري(٤) . ولكن شهدنا ونشهد في عصرنا الراهن دعوات متواصِلة لإعادة فتح هذا الباب بصورة واسعة، وذلك من قبل فقهاء كبار؛ بحيث لا يقتصر الأمر على الاجتهادات الجزئيّة المتعلِّقة بالمسائل المستحدَثة، بل يصل حتّى إلى الاجتهاد في الأصول(٥) .

الاجتهاد الجماعي كبديل عن النمط السائد:

إنّ النمط التاريخي المتعارف للاجتهاد، والّذي هو السائد عملياً حتّى اليوم، يقوم على أساس أنْ يتوجَّه كلّ فقيه مجتهد بمفرده لاستنباط الأحكام المتعلِّقة الشؤون بكافّة؛ بحيث يُغطِّي باجتهاده مختلف أبواب الفقه وأقسامه. وهذا النمط يمكن تسميته اصطلاحاً بالاجتهاد العام (بلحاظ شموله المجالات الحياتيّة كافّة)، أو الاجتهاد الفردي (حيث يقوم به فقيه واحد، وليس جماعة من الفقهاء المتعاونين).

وقد نهض الفقهاء الأجلاَّء دائماً ـ ومن خلال نمط الاجتهاد هذا ـ ولا زالوا ينهضون بواجبهم مشكورين في خدمة الأمّة واستنباط الأحكام الاجتهاديّة للمسائل الفقهيّة موضع ابتلائها.

ولكن إذا كان نمط الاجتهاد الفردي قد أدّى ولا يزال يؤدّي ما عليه في خدمة أبناء الأمّة، فإنّ طبيعة الحياة المتغيِّرة، وما شهده عصرنا الراهن من قفزات تطور

ــــــــــــــ

٣ ـ لاحظ مثلاً: حسين بن شهاب الدين العاملي (المتوفى سنة ١٠٧٦ هـ)، هديّة الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار، النجف، ١٩٧٧م، ص٣٠٣ ـ ٣٠٤.

٤ ـ د. ناديّة شريف العمري، الاجتهاد في الإسلام ـ أصوله، أحكامه، آفاقه، ط١، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ١٩٨١م، ص٢١٨ ـ ٢١٩.

٥ ـ لاحظ مثلاً: د. يوسف القرضاوي، المصدر نفسه، ص٤٢. والشيخ مرتضى مطهري، الاجتهاد في الإسلام، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، دون تاريخ، ص٣٥.

١٢٧

كبيرة، على الصعيدين المادي والمعرفي، أدّت إلى توسّع واضح في مجالات الاجتهاد (من خلال بروز مسائل ومشكلات وتحدّيات أكبر أمامه)، بحيث غدا أكثر صعوبة بالنسبة للفقيه الفرد.

كلّ ذلك قد دفع ببعض الفقهاء(٦) إلى طرح صيغة جديدة، وهي تعاون جماعة من الفقهاء في ممارسة الاجتهاد، بدلاً من النمط السائد. وهذه الصيغة الجديدة أطلق عليها اصطلاحاً اسم ((الاجتهاد الجماعي)).

أسلوبان مطروحان لممارسة الاجتهاد الجماعي:

وفكرة الاجتهاد الجماعي، الّتي لم تطبَّق عملياً إلاّ بصورة محدودة كما سنشير بعد قليل، يُقصد بها ـ في كلام القائلين بها ـ أحد أسلوبين للتعاون بين الفقهاء في ممارسة الاجتهاد:

الأسلوب الأوّل:

ويسمّى ((شورى الفقهاء)) أو ((المجمع الفقهي))؛ ويعني تبادل الرأي بين جماعة من المجتهدين بخصوص المسألة الواحدة؛ بحيث تكون الفتوى المتعلِّقة بالمسألة صادرة عن مجموعهم أو أكثريَّتهم، حسب النظام المتّفَق عليه بينهم. ويمكن لهؤلاء المجتهدين أن يستعينوا بخبراء فنيّين مختصّين في مجالات الحياة المختلِفة.

وقد دعا إلى اعتماد هذا الأسلوب، المؤتمر الأوّل لمجمع البحوث الإسلاميّة بالأزهر المنعقد بتاريخ شوال ١٣٨٣هـ، وتصدّى للكتابة عن كيفيّة تنظيمه العديد من الكتّاب المسلمين المعاصرين(٧) . وبادر الشيخ الدكتور مصطفى الزرقا (من سوريا) إلى تقديم اقتراح بشأنه إلى مؤتمر ((رابطة العالم الإسلامي)) الّذي عُقِد في مكّة المكرَّمة سنة ١٣٨٤ هـ، وجاء في اقتراحه: ((وطريقة ذلك ـ أي اجتهاد الجماعة ـ تأسيس مجمع الفقه الّذي يضم أشهر فقهاء العالم

ــــــــــــــ

٦ ـ لاحظ مثلاً: د. يوسف القرضاوي، الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ٢٠٠١م، ص٤٢.

والشيخ مرتضى مطهري، الاجتهاد في الإسلام، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، دون تاريخ، ص٣٥.

٧ ـ د. ناديّة العمري، المصدر نفسه، ص٢٦٤ ـ ٢٦٥.

١٢٨

الإسلامي، ممّن جمعوا بين العلم الشرعي والاستنارة الزمنيّة، وصلاح السيرة والتقوى، ويُضُّم إلى هؤلاء علماء موثوقون في دينهم من مختلف الاختصاصات الزمنيّة اللاّزمة في شؤون الاقتصاد والاجتماع والقانون والطب ونحو ذلك؛ ليكونوا بمثابة خبراء يعتمد الفقهاء رأيهم في الاختصاصات الفنيّة))(٨) .

ويظهر من هذا الاقتراح أنّ مجال الاجتهاد المطلوب هو خصوص المسائل والوقائع الجديدة الّتي حصلت في عصرنا الراهن، لا عموم المسائل، وقد وافقت ((رابطة العالم الإسلامي)) على هذا الاقتراح، وبادرت لاحقاً إلى إنشاء ((مجمع الفقه الإسلامي)). وهو يعقد اجتماعات دوريّة يتداول أعضاؤه الفقهاء خلالها بمساعدة بعض ذوي الاختصاص، في بعض الموضوعات أو المسائل المهمّة الّتي يُبتلى بها المسلمون اليوم. غير أنّ هذا المجمع لم يتقيّد بكل الضوابط الّتي تضمنها الاقتراح المشار إليه(٩) .

أما بالنسبة للمسلمين الشيعة، فقد تحقَّقت قبل حوالي عشر سنوات أوّل مبادرة ملموسة في هذا المجال، حين أقدم مُرشد الجمهوريّة الإسلاميّة سماحة السيّد عليّ الخامنئي على إصدار قرار بتأسيس هيئة فقهيّة تَضّم عدداً من الفقهاء البارزين. ووظيفة هذه الهيئة هي أن تقوم، وبصورة جماعيّة، ((بالإجابة الفقهيّة العلميّة التحقيقيّة على المسائل الّتي يتطلّبها وضع العالم الحاضر، والتقدم العلمي الجديد للفرد والمجتمع الإسلامي الحديث))(١٠) . وقبل صدور القرار المذكور بأمد غير قليل، دعا بعض علماء الشيعة إلى اعتماد هذا الأسلوب الجماعي في ممارسة الاجتهاد، باعتبار أن تبادل وجهات النظر بين العلماء بخصوص النقطة أو المسألة الواحدة، في أيّ مجال من المجالات العلميّة ـ ومنها الفقه ـ هو عامل مهم من عوامل التقدّم والتطوّر العلميّين. ومن آثار هذا التعاون والتعرّف على

ــــــــــــــ

٨ ـ منّاع القطّان، تاريخ التشريع الإسلامي، ط١٤، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ١٩٩٦م، ص٣٣٩.

٩ ـ لاحظ: المصدر السابق نفسه، الصفحة نفسها.

١٠ ـ د. جعفر الباقري، ثوابت ومتغيّرات الحوزة العلميّة، دار الصفوة، بيروت، ١٩٩٤م، ص٩٣ ـ ٩٤.

١٢٩

وجهات نظر الآخرين، أنّ النظريّة إذا كانت نافعة وصحيحة تأخذ طريقها إلى الانتشار بسرعة، في حين يمكن ـ وبالسرعة نفسها ـ إيقاف انتشارها إذا كانت باطلة.

ولكن من وجهة نظر البعض الآخر، فإنّ هذا الأسلوب الاجتهادي يثير اشكالات عمليّة لابدّ أن تُحلّ. خاصّة في حالة اختلاف المجتهدين، والقول باعتماد رأي أكثريّتهم؛ إذ ما هو الدليل على حجيّة رأي الأكثريّة هنا؟(١١)

وقد طرح أحد فقهاء الشيعة مؤخَّراً ـ على أساس اعتماد هذا الأسلوب في الاجتهاد ـ إصدار رسالة فقهيّة عمليّة موحّدة من قبل نخبة من الفقهاء المراجع مجتمعين، كبديلٍ عن الرسائل المتعدّدة الّتي يحمل كلّ منها الآراء الاجتهاديّة لواحد من مراجع التقليد(١٢) .

وعلى كلّ حال، فإنّنا نكتفي بالإشارة السريعة إلى هذا الأسلوب الاجتهادي المقترَح؛ إذ إنّ الحديث التفصيلي عنه، وعمّا يمكن أن يُثار حوله من إشكالات، خارج عن الإطار المرسوم لبحثنا، ويحتاج إلى بحث مستقل.

الأسلوب الثاني:

المطروح للاجتهاد الجماعي، هو التخصّص في الأبواب الفقهيّة، أي توزّع أبواب الفقه أو مجالات الاجتهاد بين مجموعة من المجتهدين الحاصلين على درجة الاجتهاد المطلق؛ بحيث يتّجه كلّ منهم إلى الاستنباط في إطار قسم محدَّد منها فقط.

وهذا الأسلوب هو الّذي نتناوله هنا بالبحث التفصيلي. ويمكن أن نعبِّر عنه أيضاً بـ ((التخصّص في الاجتهاد)) أو ((الاجتهاد التخصّصي)).

ــــــــــــــ

١١ ـ لاحظ بالنسبة لتأييد الأسلوب الاجتهادي هذا: مطهري، المصدر نفسه، ص٣٥. ولاحظ بالنسبة للتحفّظ على هذا الأسلوب: آراء في المرجعيّة الشيعيّة، لمجموعة من الباحثين، ط١، دار الروضة، بيروت ١٩٩٤، ص١٢١ ـ ١٢٢.

١٢ ـ السيّد كاظم الحائري، أساس الحكومة الإسلاميّة، ط١، الدار الإسلاميّة، بيروت، ١٩٧٩م، ص١٩٥.

١٣٠

موجبات ((التخصّص في الأبواب الفقهيّة)) وفوائده:

إنّ أول من دعا إلى اعتماد هذا الأسلوب ـ أي التخصّص في عمليّة الاجتهاد الفقهي ـ في حدود اطلاعنا هو مؤسِّس حوزة قم الحديثة، الفقيه الشيعي الكبير الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري (قدس سره)، المتوفى سنة ١٣٥٥ هـ. هذا العالم المجاهد، الّذي تميّز إلى جانب علمه الغزير بحكمته الفائقة وصبره على أنواع المحن والبلايا في زمنه، الّتي تعرّض له المسلمون في إيران، وخصوصاً الحوزة، ، على يد الطاغية رضا شاه. كما تمّيز أيضاً إلى جانب تمسّكه الشديد بالأصالة، بروحه المنفَتِحة على العصر وإيجابيّاته. وهذا ما يظهر من اقتراحه لأسلوب التخصّص في ممارسة الاجتهاد، مضافاً إلى ما يتكشّف من بعض مواقفه الأخرى، من قبيل دعوته لتنظيم امتحانات دوريّة لطلبة الحوزة، مستفيداً ذلك ـ كما يبدو ـ من الطريقة المعتمدة في المدارس الحديثة.

وقد نقَلَ عنه اقتراح الأسلوب المذكور بعض تلاميذه كالشيخ الأراكي (قدس سره) والسيّد أحمد الزنجاني(١٣) . ومضمون اقتراح الشيخ الحائري ـ حسب المنقول عنه ـ هو تقسيم الفقه إلى أقسام تخصّصيّة. وتتوزّع هذه الأقسام على مجموعة من العلماء المجتهدين، الّذين تفقَّهوا في دورة فقهيّة عامّة وبلغوا درجة الاجتهاد المطلق، حيث يُعيِّن كلّ منهم لنفسه باباً فقهياً معيناً يختصّ فيه، ويقلّده الناس في ذلك القسم وحده. كأن يتخصّص بعض في العبادات مثلاً، وبعض آخر يتخصّص في المعاملات، وبعض في السياسات، وهكذا... كما هو الحال في الطب في الوقت الحاضر؛ حيث تشعّبت الاختصاصات: فهذا أخصّائي في القلب، وذاك في العين، وآخر في الأذن والأنف والحنجرة، وغير ذلك. فلو حصل هذا، لأمكن توفر تحقيق علمي أعمق في كلّ قسم من أقسام التخصّص الفقهي(١٤) .

ــــــــــــــ

١٣ ـ آراء في المرجعيّة الشيعيّة، مصدر سابق، ص٢٣١ ـ ٢٣٢.

١٤ ـ مطهري، الاجتهاد في الإسلام، ص٣٢ ـ ٣٣.

١٣١

ويظهر من هذا الاقتراح، أنّ الداعي إليه أمران:

الأمر الأوّل: هو توسّع مجالات الاجتهاد وتشعُّبها، إلى درجة أصبحت معها مهمّة الفقيه المتصدّي لممارسة الاجتهاد في الشؤون الحياتيّة كافّة، والحريص على درجة عالية من الجودة في عمله الاستنباطي، أصبحت معها مهمّته أكثر صعوبة ومشقّة.

وقد حصل التوسع المذكور بحكم التطور الكبير الّذي طرأ على واقع الحياة اليوم، وما طرحه هذا التطور من مسائل وتحدّيات جديدة. ثُمَّ هناك عامل إضافي آخر أدّى إلى توسيع مجالات الاجتهـاد ـ وبدرجة أخصّ بالنسبة إلى الفقيه الشيعي في وقت متأخر عن زمن الحائري ـ وهو الاهتمام الفقهي الكبير والطارئ بالمجالات الاجتماعيّة، والسياسيّة، وشؤون الدولة عموماً؛ وذلك بفعل الصحوة الإسلاميّة المعاصرة الّتي تُوِّجت بقيام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران. ونقول الاهتمام الطارئ أو الجديد بالمجالات المذكورة، باعتبار أنّ اهتمام الفقه الشيعي كان منصباً في الماضي، على المجالات الفرديّة من حياة الإنسان، بسبب الظروف القاهرة الّتي أحاطت بالفقهاء الشيعة، وقلّصت دورهم.

أمّا الأمر الثاني: الّذي دعا إلى طرح اقتراح التخصّص في الأبواب الفقهيّة، فهو الاستفادة ممّا عليه الحال اليوم في سائر العلوم (البحتة منها والإنسانيّة)، كالطبّ، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، والقانون، والاقتصاد، وما إلى ذلك.

ويفصّل أحد الكتّاب المسلمين المختصّين(١٥) في شرح هذه الناحية، فيقول: إنّ النهوض بالفقه الإسلامي، شأنه شأن النهوض بأيّ علم أو فن، لا يمكن أن يتحقّق في هذا العصر إلاّ باحترام مبدأ التخصّص. هذا المبدأ الّذي يقوم على أساسه نظام التعليم الجامعي الحديث. فقد تقدّمت وتعقدّت واتّسعت دائرة مختلف العلوم في عصرنا، وتعدّدت فروع كلّ علم؛ بحيث لم يَعُد صحيحاً أن

ــــــــــــــ

١٥ ـ د. عبد الحميد متولّي، الشريعة الإسلاميّة كمصدر أساسي للدستور، ط٢، منشأة المعارف بالاسكندريّة، مصر، ١٩٧٥م، ص٣١٧.

١٣٢

نَعُدُّ أيّ فرد من الأفراد عالِماً أو أخصّائيّاً، بالمعنى الدقيق للكلمة، إلاّ في فرع من فروع أحد العلوم أو الفنون.

فأستاذ القانون، أو الطلب، أو الهندسة مثلاً، هو ـ في الحقيقة ـ أستاذ في فرع من الفروع الّتي يشتمل عليها كلّ علم من العلوم المذكور.

وكلام هذا الكاتب يتّجه إلى نظام تدريس الفقه، قبل أن يتّجه إلى عمليّة الاستنباط. ولكن هناك رباط وثيق بين الأمرين كما لا يخفى، باعتبار أنّ التدريس هو الّذي يُعِدّ الفقهاء المؤهَّلين للاستنباط.

وقد أيّد العديد من علماء الشيعة المعاصرين هذا الاقتراح، ومن بينهم الشهيد الشيخ مرتضى مطهري، الّذي روَّج له بشيءٍ من الحماس، معتبِراً بأنّ الضرورة لاعتماد التخصّص في الأبواب الفقهيّة قد حصلت منذ أكثر من قرن من الزمن، بفعل تغيّر الظروف الحياتيّة.

ويؤكّد مطهري أنّ كلّ علم من العلوم، سواء في ذلك الفقه أم غيره، ينمو تدريجيّاً حتّى يصل إلى مرحلة لا يكون بمقدور الفرد الواحد الإحاطة به من جميع جوانبه، فتأتي ضرورة التقسيم إلى فروع للتخصّص.

وبتعبير اوضح: إنّ ظهور الفروع التخصّصيّة في أيّ علم من العلوم هو، من جهة، نتيجة لتكامل ذلك العلم وتقدّمه، وهو، من جهة ثانية، يُعَدُّ سبباً لأطّراد تقدّم العلم، فتركيز الفكر حول المسائل الّتي تتعلَّق بفرع تخصُّصيٍّ معين، لابدّ أن يؤدّي إلى تقدّم هذا الفرع تقدّماً كبيراً.

ويَخْلُص الشيخ مطهري إلى القول بأنّ عدم التسليم بضرورة تنفيذ هذا الأقتراح ـ أي التخصّص في الأبواب الفقهيّة ـ يعني الوقوف بوجه تكامل الفقه وتطوّره(١٦) .

وفي طليعة مَن أيّد اقتراح التخصّص في أيامنا هذه، مُرشد الجمهوريّة

ــــــــــــــ

١٦ ـ مطهري، المصدر السابق نفسه، ص٣٣ ـ ٣٥.

ومن المفيد أن نذكِّر، بأنّ من جملة الفقهاء الّذين نوّهوا بهذا الأسلوب الاجتهادي: المرحوم الشيخ محمّد مهدي شمس الدين في كتابه ((الإجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي))، ط١، المؤسّسة الإسلاميّة للدِّراسات والنشر، بيروت، ١٩٩٩م، ص٣٤.

١٣٣

الإسلاميّة السيّد الخامنئي؛ الّذي أكّد على ضرورة أن يتّخذ التخصّص في الفقه وغيره من العلوم طابعاً جدّياً، فالمعاملات والعبادت وغيرها ـ كما يقول ـ وإن كانت مرتبِطة ببعضها، هي أبواب متعدّدة يمكن أن يتخصّص الفقيه في أحدها(١٧) .

ويرى بعض علماء الشيعة المتأخرين، بأنّ الفائدة من التخصّص، بعد افتراض ضرورة تحصيل الاجتهاد العام قبل مرحلته، تكمن في تفرّغ الفقيه لاستيعاب المسائل الفقهيّة الداخلة في مجال اختصاصه، كما تكمن أيضاً في زيادة كفاءته العلميّة فيما يتعلّق باستخدام الأدلة في الحق المختص به. ويضاف إلى ذلك أن طائفة واسعة من المسائل الفقهيّة تحتاج إلى خبرات غير فقهيّة إلى جانب الخبرة في المجال الفقهي(١٨) . ولا تتيسّر الخبرة الواسعة، من النوع الأول، للفقيه العام، وذلك مثل مسائل العُملة والمصارف والشركات، ومسائل القضاء المعقَّدة في المحاكم الحديثة وكذلك مسائل العلاقات والمعاهدات الدوليّة الحديثة.

كيف ندفع باقتراح التخصّص في اتّجاه التنفيذ؟

لقد مضى على تقديم هذا الاقتراح، من قبل الفقيه الكبير الشيخ الحائري، ما يناهز السبعين عاماً على الأقل. وبالرغم من مسوّغاته الوجيهة، فقد بقي خارج دائرة النقاش والتداول الجدّيّين، في أوساط الحوزات الفقهيّة الشيعيّة. والنقاش والتداول يُشكِّلان مرحلة لابدّ أن تسبق الحديث عن وجود مسعى جدّي لتنفيذ الاقتراح المذكور.

وقد يكون السبب في عدم أخذه بالجديّة الكافية، من قِبَل الحوزة حتّى الآن، هو تأثير العادة والألفة التاريخيّة الطويلة لنمط الاجتهاد السائد من جهة، ثُمَّ عدم حصول الترويج الكافي للاقتراح من جهة ثانية.

وما يكفل تنفيذ اقتراح التخصّص في الأبواب الفقهيّة، في تصوّرنا، هو:

ــــــــــــــ

١٧ ـ لاحظ: مجلة ((حوزة))، قم، العدد رقم ٤٦، ص٣١ ـ ٣٢.

١٨ ـ لاحظ: السيّد محمّد الصدر، ما وراء الفقه، دار الأضواء، بيروت، ١٩٩٩م، ج١، ص٧ ـ ١٠. والشيخ محمّد مهدي الآصفي، مقالة: ((سؤال وجواب حول الاجتهاد والتقليد))، مجلّة رسالة الثقلين، سنة٥، العدد المزدوج ١٧ و١٨، ص١٩٢ ـ ١٩٣، إيران.

١٣٤

ـ توفّر الأرضيّة النظريّة المناسبة أوّلاً؛ أي أن تكون عمليّة التبويب الفقهي ملائمة للتخصّص.

ـ توفّر الإرادة العمليّة لدى الفقهاء ثانياً؛ أي أن تّتجه مجموعة من الفقهاء إلى تطبيقه.

وسنتناول، بشيء من التفصيل، هاتين النقطتين، فيما يلي.

ضرورة ملاءمة التبويب الفقهي للتخصص:

يمكن القول بأنّ التبويب الفني الأشهر في تاريخ الفقه الشيعي، هو ذلك الّذي اعتمده المحقِّق جعفر بن الحسن الحلّي (المتوفى سنة ٦٧٦ هـ) في كتابه ((شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام)). وقد استفاد المحقِّق في تبويبه من طريقة من سبقه مع إجراء تطوير مهمّ في تلك الطريقة(١٩) . وهو قد وزّع أبواب كتابه الخمسين ونيّفاً على أربع مجموعات أو أقسام:

قسم العبادات: ويشتمل على مجموعة أبواب؛ منها: الطهارة، والصلاة، والصوم، والزكاة...

قسم العقود: ويشتمل على مجموعة أبواب؛ منها: التجارة، والرهن، والمفلَّس، والحَجر، والنكاح...

قسم الإيقاعات: ويشتمل على مجموعة أبواب؛ منها: الطلاق، والخُلع والمباراة، والظهار، والإيلاء، واللِّعان...

قسم الأحكام: ويشتمل أيضاً على مجوعة أبواب؛ منها: الصيد، والذباحة، والأطعمة والأشربة... والفرائض (أو المواريث)، والقضاء، والحدود...

وقد تَرك تبويب الحلّي لأبواب كتابه بصماته الواضحة على الكتب الفقهيّة من بعده، ويكفي أن نشير إلى المتن الفقهي الشهير: ((اللُّمعة الدمشقيّة)) لمؤلِّفه

ــــــــــــــ

١٩ ـ لاحظ ما يقوله آقا بزرك الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ط١، النجف، ١٩٥٩م، ج١٣، ص٤٧.

ولاحظ أيضاً: تقديم العلاّمة السيّد محمد تقي الحكيم للطبعة الجديدة من كتاب ((شرائع الإسلام)) للحلّي، دار الأضواء، بيروت، ١٩٨٣م.

١٣٥

الفقيه الكبير الشهيد الأوّل محمّد بن مكي (٧٨٦ هـ)، الّذي اتبع الطريقة نفسها في التبويب وترتيب الأبواب، باستثناء بعض التعديلات الطفيفة(٢٠) .

وقد بيّن الشهيد الأول، في كتابه (القواعد والفوائد) خلفيّة التقسيم الرباعي؛ حيث قال (ما مضمونه): الفقه، إمّا أن يرتبط بالجهات الروحيّة والأُخرويّة، وإمّا أن يرتبط بالجهات المعيشيّة الدنيويّة وتنظيمها. فالقسم الأول هو العبادات، بينما الثاني الّذي ربما نجد من يسمّيه بالمعاملات، ينقسم إلى قسمين: قسم يَضُمُّ الأحكام الّتي تترتّب على تعهُّدات لفظيّة من قبل الأفراد المكلَّفين، وآخر يضُمّ الأحكام الّتي لا تترتّب على مثل تلك التعهُّدات. والقسم الأخير يقال له الأحكام، وهو يشمل مباحث القضاء والجزاء (العقوبات) والإرث. أما القسم الأول فينقسم بدوره إلى قسمين: قسم منه يتعلّق بالتعهُّدات بين طرفين ويسمّى العقود، وقسم يتعلَّق بالتعهُّدات من طرف واحد ويسمّى الإيقاعات(٢١) .

وهذا التقسيم الرباعي يستبطن في داخله تقسيماً ثنائيّاً أساسيّاً، كما لاحظنا، هو: العبادات والمعاملات. والتقسيم الثنائي هو المتَّبع في العديد من الرسائل العمليّة المتأخرة ،مثل: ((وسيلة النجاة))، و((تحرير الوسيلة)) و((منهاج الصالحين)).

ــــــــــــــ

٢٠ ـ ما فعله الشهيد الأوّل (رحمه الله) في ((اللّمعة الدمشقيّة)) فقط، هو أنّه أدمج باب ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) ضمن كتاب الجهاد، كما دج بابي اليمين والنذر، ووضعهما بعد بابي ((الجهاد)) و((الكفّارات))، بدلاً من موقعهما في كتاب ((شرائع الإسلام)) بعد باب ((الجعالة)) (في القسم الثالث)، كما أنّه ـ أي الشهيد الأوّل ـ دمج أبواب التدبير والمكاتبة والاستيلاد في باب واحد.

٢١ ـ محمد بن مكّي العاملي، القواعد والفوائد، تحقيق: الدكتور السيّد عبد الهادي الحكيم، القسم الأوّل، ص٣٠ ـ ٣١، منشورات مكتبة المفيد، قم، دون تاريخ.

١٣٦

وإذا ما نظرنا إلى التبويب والتقسيم المعتمدين في المتون الفقهيّة السنيّة، فإنّنا نلمس بوضوح نقاط التشابه مع التبويب الفقهي الشيعي(٢٢) .

بعد هذا الاستعراض للنمط المتعارف في التبويب أو التقسيم الفقهي لدى فقهاء المسلمين (وبالأخصّ الشيعة منهم)، نلاحظ أنّ التقسيم الّذي اعتمدوه بالنسبة لأبواب المعاملات ـ وإن استند إلى مقْسَم معيّن؛ هو ((تعهّدات المكلَّفين)) ـ قد جاء، في الدرجة الأولى كما يبدو، بدافع فنّي هو تسهيل عمليّة الكتابة والبحث النظري. أمّا الأبواب الفقهيّة المتفرِّعة عن الأقسام الرئيسة، ـ وإن كانت تعبيراً عن العلاقة بين النصوص الدينيّة ومجالات الواقع الحياتي الّتي تحقِّقه

ــــــــــــــ

٢٢ ـ لاحظ مثلاً: الشيخ محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق، بيروت ـ القاهرة، ط١٣، ١٩٨٥م، ص٧٣. وصبحي المحمصاني، فلسفة التشريع في الإسلام، ط٣، دار العلم للملايين، بيروت ١٩٦١م، ص٢٤ ـ ٢٥.

١٣٧

عمليّة الاجتهاد ـ فهي ترتبط بالمجالات الحياتيّة الموجودة في زمن الفقهاء الأوائل كالشيخ الطوسي والمحقِّق الحلي. وهذه المجالات قد حصل فيها، مع مرور هذا الزمن الطويل، تغيّر ونموّ كبيران ويكفي، مثالاً على ذلك، أن نُشاهد التوسُّع والتشعّب الحاصلين على صعيد العلاقات الاقتصاديّة، بالقياس إلى ما كانت عليه قبل مئات السنين(٢٣) .

من هنا، يبدو الحديث عن ضرورة إجراء تعديلٍ في التبويب الفقهي السائد منطقيّاً، بإضافة أبواب جديدة تعكس ما استجدّ على صعيد الاقتصاد والمال والشؤون الاجتماعيّة وغير ذلك، وكذلك إضافة أبواب تتعلَّق بشؤون الدولة والمجتمع السياسي، الّتي كان الفقه الشيعي مقصيَّاً عن البحث فيها فيما سبق، كما أسلفنا القول. ولابدّ أيضاً، في الوقت نفسه، من إلغاء بعض الأبواب الّتي فُقد موضوعها كباب العتق؛ حيث لم يَعُد للرقّ وجود في عالم اليوم. ولا ضير في كلّ هذه التعديلات، ما دام التبويب ليس أمراً تعبّديّاً يجب التقيّد به.

وبالنسبة لتقسيمات الفقه الرئيسة المتعلِّقة بالمعاملات، قد يكون من المناسب استبدالها بتقسيمات جديدة يُستفاد فيها، ما أمكن، من العناوين المستخدَمة في القانون الوضعي الحديث... بحيث يكون هناك، مثلاً، قسم للفقه الدستوري الإسلامي، وقسم لفقه العلاقات الدوليّة، وقسم للفقه الجنائي (أو فقه العقوبات)، إلى ما هنالك من أقسام متنوعة(٢٤) .

وعلى سبيل المثال، نذكر أحد التغييرات المطلوبة والمترتِّبة على إعادة النظر في التقسيم الفقهيح وهو الحاجة إلى تجميع أبواب النكاح والطلاق والإرث تحت عنوان واحد جديد هو ((فقه الأسرة))، بدل أن تظلّ هذه الأبواب موزَّعة على الأقسام الثلاثة التقليديّة: حيث النكاح يتعلّق بقسم العقود، والطلاق بقسم الإيقاعات، وباب الإرث بقسم الأحكام.

ــــــــــــــ

٢٣ ـ لاحظ: محمّد باقر الصدر، المدرسة القرآنيّة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت ١٩٨٠م، ص٣٠ ـ ٣١.

٢٤ ـ من جملة من نادى بتقسيم الفقه الإسلامي وفق الطريقة نفسها المعتمَدة في القانون الحديث، الكاتب الإسلامي المختص الدكتور عبد الكريم زيدان، وذلك في كتابه ((نظرات في الشريعة الإسلاميّة))، ط١، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ٢٠٠٠م، ص١٣٩.

١٣٨

ومن الفوائد الإضافيّة المترتِّبة على الاستفادة من التقسيم القانوني الحديث، على الصعيد الفقهي، تسهيل إجراء المقارنة بين الشريعة الإسلاميّة والقانون الوضعي؛ بحيث يظهر تفوّق الشريعة وأسبقيّتها في تقديم الحلول الصحيحة للمشكلات الإنسانيّة.

وقد أكّد العديد من الفقهاء المسلمين المعاصرين، ضرورة إجراء تعديل في التبويب أو التقسيم الفقهي، نذكر منهم، مثلاً، الشهيد السيّد محمد باقر الصدر، وأبو الأعلى المودودي.

فقد اقترح السيّد الصدر تقسيماً رباعياً جديداً في مقدِّمة كتابه ((الفتاوى الواضحة))؛ وهو يتضمّن قسم العبادات، ثُمَّ قسم الأموال، المتفرّع إلى: الأموال العامّة (وهي المجعولة للمصالح العامّة)، والأموال الخاصّة (وهي الّتي لها مالك أو مُلاّك محدَّدون)، ثُمَّ قسم السلوك والآداب الشخصيّة، ويتفرّع بدوره إلى فرعين؛ هما: الروابط العائليّة وعلائق الجنسين من جهة، وما يتصّل بتنظيم السلوك الفردي في غير ذلك المجال من جهة ثانيّة، ثُمَّ هناك أخيراً قسم السلوك العام، ويتعلّق بسلوك الأجهزة الحكوميّة في الشؤون الداخليّة والخارجيّة(٢٥) .

أمّا أبو الأعلى المودودي، فيدعو إلى ترتيب موضوعات الكتب الفقهيّة على أسلوب كتب القانون في العصر الحديث، مع إمكانيّة وضع عناوين جديدة لها، ليستعين بها علماء القانون على الفهم الصحيح للفقه الإسلامي(٢٦) .

توفر الإرادة العمليّة، لدى فقهاء الحوزة، لتنفيذ الاقتراح:

وهذا يقتضي أوّلاً، مبادرة مَن يقتنع بهذا الأسلوب الاجتهادي من العلماء إلى طرحه، والتداول الكافي بشأنه مع مدرسي الحوزة، وخصوصاً الفقهاء الكبار

ــــــــــــــ

٢٥ ـ السيّد محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة، ط٣، منشورات دار الكتاب اللُّبناني، بيروت، ١٩٧٧م، ص٤٦ ـ ٤٧.

٢٦ ـ أبو الأعلى المودودي، القانون الإسلامي وطرق تنفيذه (ضمن مجموعة: نظريّة الإسلام وهدْيِه)، دار الفكر، بيروت، ١٩٦٧م، ص٢٠٩.

١٣٩

فيها؛ أي أساتذة مستوى ((الخارج))؛ وذلك على أمل أن يقتنع به جماعة منهم، فيعمدوا إلى تطبيقه على مستوى التدريس في البداية، قبل أن يصل إلى مستوى مرجعيّة التقليد فيما بعد؛ وذلك بحيث يشيع اللجوء إلى ((التبعيض في التقليد) المرتبط بأبواب الفقه بين جمهور المقلّدين. وبالتالي، نسمع هؤلاء ينقلون عن أهل الخبرة قولهم: ((إنّ فلاناً هو الأعلم في مسائل العبادات، وفلاناً الآخر هو الأعلم في مسائل الاقتصاد والماليّات، وفلاناً الثالث هو الأعلم في المسائل السياسيّة)) وهكذا...

وإنّنا نرجو، في الختام، أن يساعد مؤتمركم الكريم هذا، في إذكاء النقاش حول هذا الاقتراح وبَلورته بصورة أكبر، بما يزيد من فرص النجاح في تحقيقه على أكمل وجه ممكن. وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين.

١٤٠