كمال الدين وتمام النعمة

كمال الدين وتمام النعمة8%

كمال الدين وتمام النعمة مؤلف:
المحقق: علي أكبر الغفاري
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 686

كمال الدين وتمام النعمة المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 686 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 143104 / تحميل: 8005
الحجم الحجم الحجم
كمال الدين وتمام النعمة

كمال الدين وتمام النعمة

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

قال: فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال: أتقبل هذا منه، وقد نزل بأرضك إلى جنبك؟! والله، لئن رحلَ من بلدك ولم يضع يده في يدك ليكوننّ أولى بالقوّة والعزّ، ولتكوننّ أَولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنّها من الوهن، ولكنْ لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإنْ عاقبتَ فأنت وليُّ العقوبة، وإنْ غفرتَ كان ذلك لك، والله، لقد بلغني أنّ حسيناً وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدّثان عامّة الليل.

فقال له ابن زياد: نِعمَ ما رأيتَ، الرأي رأيك)(١) .

ويواصل الطبري رواية ذلك الحدث، عن أبي مخنف، عن سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال: (ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن، فقال له: اُخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد، فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حُكمي، فإنْ فعلوا فليبعث بهم إليَّ سلَماً، وإنْ هم أبَوا فليقاتلهم، فإنْ فعل فاسمع له وأطع، وإنْ هو أبى فقاتلهم فأنت أمير النّاس، وَثِبْ عليه فاضرب عُنقه وابعث إليَّ برأسه)(٢) .

وكان كتاب ابن زياد لعمر بن سعد: (أمّا بعدُ، فإنّي لم أبعثك إلى حسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتُمنّيه السلام والبقاء، ولا لتقعد له عندي شافعاً، اُنظر فإنْ نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليَّ سلماً، وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم فإنّهم لذلك مستحقّون، فإنْ قُتل حسينٌ فأَوْطِئ الخيلَ صدره وظهره، فإنّه عاقٌ مشاقّ قاطع ظلوم! ولستُ أرى في هذا أن يضرَّ بعد الموت شيئاً، ولكنْ عليَّ قول: لو قد قتلته فعلت هذا به، فإنْ أنت مضيتَ

____________________

(١) و (٢) تاريخ الطبري، ٣: ٣١٣ - ٣١٤؛ وانظر: أنساب الأشراف، ٣: ٣٩٠ - ٣٩١، والكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٤ .

١٢١

لأمرِنا فيه، جزيناك جزاء السامع المطيع، وإنْ أبيتَ فاعتزِل عملنا وجُندنا، وخَلِّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنّا قد أمرناه بأمرنا، والسلام)(١) .

ابن زياد يكتب أماناً لأبي الفضل العباس وإخوتهعليهم‌السلام !

يروي الطبري، عن أبي مخنف، عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري قال: (لمّا قَبض شمر بن ذي الجوشن الكتاب، قام هو وعبد الله بن أبي المحل، وكانت عمّته أمّ البنين ابنة حزام عند عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فولدت له العبّاس، وعبد الله، وجعفراً، وعثمان، فقال عبد الله بن أبي المحلّ بن حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب: أصلحَ الله الأمير، إنّ بني أُختنا مع الحسين، فإنْ رأيتَ أنْ تكتب لهم أماناً فعلتُ، قال: نعم، ونعمة عين، فأمرَ

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٤، وانظر: الكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٤، والإرشاد: ٢٥٦، وأنساب الأشراف، ٣: ٣٩١، وفيه: (.. وإنْ قتلتَ حسيناً فأوطِئ الخيل صدره وظهره لنَذْرٍ نذرته وقول قُلتُه،.. وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر وأمر الناس، فإنّا قد أمرناه فيك بأمرنا، والسلام).

وانظر: الأخبار الطوال: ٢٥٥ بتفاوت، وانظر: الفتوح، ٥: ١٦٦ بتفاوت، وفيه: (.. يا بن سعد، ما هذه الفترة والمطاولة؟.. وإنْ أبيتَ ذلك فاقطع حبلنا وجُندنا، وسلِّم ذلك إلى شمر بن ذي الجوشن؛ فإنّه أحزم منك أمراً، وأمضى منك عزيمة، والسلام)، وعنه: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٨ وفيه أيضاً: (وقال غيره: إنّ عبيد الله بن زياد دعا حويزة بن يزيد التميمي وقال: إذا وصلتَ بكتابي إلى عمر بن سعد فإنْ قام من ساعته لمحاربة الحسين فذاك، وإنْ لم يقم فخذه وقيّده، واندُب شهر بن حوشب ليكون أميراً على الناس، فوصلَ الكتاب، وكان في الكتاب: إنّي لم أبعثك يا بن سعد لمنادمة الحسين، فإذا أتاك كتابي فَخيّر الحسين بين أن يأتي إليَّ وبين أن تقاتله، فقام عمر بن سعد من ساعته وأخبر الحسين بذلك، فقال له الحسينعليه‌السلام :(أَخّرني إلى غدٍ...)، ثمّ قال عمر بن سعد للرسول: اشهد لي عند الأمير أنّي امتثلتُ أمره).

١٢٢

كاتبه فكتب لهم أماناً، فبعث به عبد الله بن أبي المحل مع مولى له يُقال له: كُزمان، فلمّا قدِم عليهم دعاهم فقال: هذا أمانٌ بعث به خالكم!

فقال له الفتية:أَقرِئ خالنا السلام، وقل له: أنْ لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خيرٌ من أمان ابن سميّة) (١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٤ - ٣١٥؛ وانظر: الكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٤؛ وفي الفتوح: ٥، ١٦٦ - ١٦٧: (وطوى الكتاب، وأراد أن يسلّمه إلى رجل يُقال له عبد الله بن أبي المحل بن حزام العامري، فقال: أصلح الله الأمير، إنّ عليَّ بن أبي طالب قد كان عندنا هاهنا بالكوفة، فخطبَ إلينا فزوّجناه بنتاً يقال لها (أمّ البنين بنت حزام)، فولَدت له عبد الله، وجعفراً، والعبّاس، فهم بنو أختنا، وهم مع الحسين أخيهم، فإن رسمتَ لنا أن نكتب إليهم كتاباً بأمانٍ منك عليهم متفضّلاً؟! فقال عبيد الله بن زياد: نعم، وكرامة لكم! اُكتبوا إليهم بما أحببتم ولهم عندي الأمان!

قال: فكتب عبد الله بن أبي المحل بن حزام إلى عبد الله، والعباس، وجعفر، بني عليّرضي‌الله‌عنهم بالأمان من عبيد الله بن زياد، ودفع الكتاب إلى غلام له يُقال له (عرفان)، فقال: سِرْ بهذا الكتاب إلى بني أختي بني عليّ بن أبي طالب - رحمة الله عليهم - فإنّهم في عسكر الحسينرضي‌الله‌عنه ، فادفع إليهم هذا الكتاب، وانظر ماذا يردّون عليك؟

قال: فلمّا ورد كتاب عبد الله بن أبي المحل على بني عليّ ونظروا فيه، أقبلوا به إلى الحسين فقرأه وقال له: لا حاجة لنا في أمانك، فإنّ أمان الله خير من أمان ابن مرجانة.

قال: فرجع الغلام إلى الكوفة فخبّر عبد الله بن أبي المحل بما كان من جواب القوم.

قال: فعلمَ عبد الله بن أبي المحل أنّ القوم مقتولون). وعنه مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٨ - ٣٤٩ بتفاوت.

ويؤخذ على هذا الخبر:

أوّلاً: أنّ الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام قد تزوّج أم البنينعليها‌السلام قبل مجيئه الكوفة بسنين.

وثانياً: أنّ للإمام عليّعليه‌السلام من أمّ البنينعليها‌السلام ولَداً رابعاً هو عثمان، لم يُذكر في هذا الخبر.

١٢٣

وقائعُ اليوم التاسع من المحرّم الحرام

ويواصل الطبري رواية قصة كربلاء قائلاً: (فأقبلَ شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد، فلمّا قدِم به عليه فقرأه قال له عمر: ما لك؟! ويلك، لا قرّب الله دارك، وقبّح الله ما قدمتَ به عليَّ! والله، إنّي لأظنّك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبتُ به إليه، أفسدتَ علينا أمراً كُنّا رجونا أن يصلح، لا يستسلمُ واللهِ حسينٌ، إنّ نفساً أبيّة لبَيْنَ جنبيه.

فقال له شمر: أخبِرني ما أنت صانع؟! أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوّه؟! وإلاّ فخلِّ بيني وبين الجند والعسكر.

قال: لا، ولا كرامة لك، وأنا أتولّى ذلك، فدونك(١) فكن أنت على الرجّالة)(٢) .

شمر بن ذي الجوشن يبذل الأمان للعبّاس وإخوتهعليهم‌السلام

(وجاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسينعليه‌السلام فقال: أين بنو أُختنا؟

____________________

(١) عبارة: (فدونك فكن أنت على الرجّالة) من الإرشاد: ٢٥٧، بدلاً ممّا في تاريخ الطبري، ٣: ٣١٥ فإنّ عبارته الأخيرة (قال: فدونك وكن أنت على الرجّالة) أي: أنّ شمراً يأمر ابن سعد، وهذا مستبعد؛ لأنّ المأمور لا يأمر الآمر.

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٣١٥ وانظر: الكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٤، والإرشاد: ٢٥٦ - ٢٥٧، وأنساب الأشراف، ٣: ٣٩١ وفيه: (فلمّا أوصل شمر الكتاب إليه قال عمر: يا أبرص، ويلك لا قرّب الله دارك، ولا سهّل محلّتك، وقبّحك وقبّح ما قدِمت له، والله إنّي لأظنّك ثنيته عن قبول ما كتبتُ به إليه.

فقال شمر: أتمضي لأمر الأمير، وإلاّ فخلّ بيني وبين العسكر وأمْر النّاس؟!

فقال عمر: لا، ولا كرامة، ولكنّي أتولّى الأمر.

قال: فدونك!).

١٢٤

فخرجَ إليه العبّاس، وجعفر، وعبد الله، وعثمان، بنو عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقالوا له:ما تريد؟

فقال: أنتم يا بني أُختي آمنون!

فقال له الفتية:لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟!) (١) .

جيشُ الضلال يزحف على معسكر الحقّ والهدى!

ثمّ إنّ عمر بن سعد لعنه الله - وقد آثر العمى على الهدى، والدنيا الفانية على الآخرة، وانقاد مستسلماً لهواه فيها - نفر بجيشه لقتال الإمامعليه‌السلام (فنهضَ إليه عشيّة(٢) الخميس لتسع مضين من المحرّم)(٣) .

____________________

(١) الإرشاد: ٢٥٧، وانظر: تاريخ الطبري، ٤: ٣١٥، والكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٤ وفيه: (لعنكَ الله ولعن أمانك، لئن كنت خالنا أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟!)، وأنساب الأشراف، ٣: ٣٩١، والفتوح، ٥: ١٦٨ - ١٦٩ وفيه: (... فقال الحسين لإخوته:(أجيبوه وإن كان فاسقاً؛ فإنّه من أخوالكم، فنادوه فقالوا: ما شأنك وما تريد؟

فقال: يا بني أُختي، أنتم آمنون، فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فقال له العبّاس بن عليّرضي‌الله‌عنه : تبّاً لك يا شمر ولعنك الله ولعنَ ما جئت به من أمانك هذا يا عدوّ الله، أتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء، ونترك نصرة أخينا الحسين..).

وعنه مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٩ وفيه: (.. يا عدوّ الله، أتأمرنا أن نترك أخانا الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟! فرجع شمر إلى عسكره مغيظاً)، وانظر أيضاً: تذكرة الخواص: ٢٢٤.

(٢) العشيّة: يقع العشيّ على ما بين زوال الشمس إلى وقت غروبها، كلّ ذلك عشيٌّ، فإذا غابت الشمس فهو العِشاء. (لسان العرب، ١٥: ٦٠).

(٣) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٥، والأخبار الطوال: ٢٥٦، والكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٤، والإرشاد: ٢٥٧، =

١٢٥

ويقول المؤرخون أيضاً: (ثمّ إنّ عمر بن سعد نادى: يا خيل الله اركبي وابشري، فرَكِب في النّاس، ثمّ زحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام بيته محتبياً بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه.

وسَمَعت أُخته زينب الصيحة، فدنت من أخيها فقالت:يا أخي، أمَا تسمع الأصوات قد اقتربت؟

قال: فرفع الحسين رأسه فقال:(إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام فقال لي: إنّك تروح إلينا (١) .

قال: لطمت أخته وجهها وقالت:يا ويلتا .

فقال:ليس لكِ الويل يا أخيّتي، اسكُتي رحمكِ الرحمان) (٢) .

وقال العبّاس بن عليّ:يا أخي، أتاك القوم.

قال: فنهض ثمّ قال:يا عبّاس، اركب بنفسي أنت يا أخي، حتّى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم، وما بدا لكم، وتسألهم عمّا جاء بهم؟

فأتاهم العبّاس، فاستقبلهم في نحو من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العبّاس:ما بدا لكم وما تريدون؟

قالوا: جاء أمرُ الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حُكمه أو ننازلكم.

____________________

= وفي أنساب الأشراف، ٣: ٣٩١: (ونهض بالنّاس عشيّة الجمعة).

(١) في الفتوح، ٥: ١٧٥ - ١٧٦: (... وقال:(يا أُختاه، إنّي رأيت جدّي في المنام، وأبي عليّاً، وفاطمة أمّي، وأخي الحسن عليهم‌السلام فقالوا: يا حسين، إنّك رائح إلينا عن قريب، وقد والله يا أختاه دنا الأمر في ذلك لا شكّ) )، وعنه مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٥٣ بتفاوت يسير.

(٢) في الإرشاد: ٢٥٧:(ليس لكِ الويل يا أخيّة، اسكتي رحمكِ الله) ، وفي الفتوح، ٥: ١٧٦: (فلطمت زينب وجهها وصاحت: واخيبتاه! فقال الحسين:(مهلاً، اسكتي ولا تصيحي فتشمت بنا الأعداء) ، وانظر: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٥٣.

١٢٦

قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرِض عليه ما ذكرتم.

قال: فوقفوا، ثمّ قالوا: اِلْقَهْ فأعلِمه ذلك، ثمّ اِلْقَنا بما يقول.

قال: فانصرف العبّاس راجعاً يركض إلى الحسين يخبره بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم.

فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين: كَلِّم القومَ إنْ شئتَ، وإنْ شئتَ كلَّمتهم.

فقال له زهير: أنت بدأت بهذا، فكنْ أنت الذي تكلّمهم.

فقال لهم حبيب بن مظاهر: أمَا والله، لبئس القوم عند الله غداً قومٌ يقدمون عليه، قد قتلوا ذريّة نبيّهعليه‌السلام ، وعترته وأهل بيتهعليهم‌السلام ، وعُبّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيراً.

فقال له عزرة بن قيس: إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت.

فقال له زهير: يا عزرة، إنّ الله قد زكّاها وهداها، فاتّقِ الله يا عزرة فإنّي لك من الناصحين، أُنشدك الله يا عزرة أن تكون ممّن يُعين الضُلاّلَ على قتل النفوس الزكيّة.

قال: يا زهير، ما كنتَ عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كنت عثمانياً؟!(١)

قال: أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم؟! أمَا والله ما كتبتُ إليه كتاباً قطّ، ولا أرسلت إليه رسولاً قطّ، ولا وعدته نصرتي قطّ، ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومكانه منه، وعرفتُ ما يقدِم عليه من عدوّه وحزبكم، فرأيتُ أن أنصرهُ وأن أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظاً

____________________

(١) مرَّ بنا في وقائع الطريق بين مكّة وكربلاء في ترجمة زهير بن القين (رض)، مناقشة وافية لمسألة هذه العثمانية المزعومة التي أُلصقت بزهير (رض)، تحت عنوان (هل كان زهير بن القين عثمانياً؟!) فراجعها.

١٢٧

لِما ضيّعتم من حقّ الله وحقّ الرسولعليه‌السلام .

قال: وأقبلَ العبّاس بن عليّ يركض حتّى انتهى إليهم.

فقال:يا هؤلاء، إنّ أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ينظر في هذا الأمر، فإنّ هذا أمرٌ لم يجرِ بينكم وبينه فيه منطقٌ، فإذا أصبحنا التقينا إنْ شاء الله، فإمّا رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه، أو كرهنا فرددناه.

وإنّما أراد بذلك أن يردَّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويوصي أهله(١) .

فلمّا أتاهم العبّاس بن عليّ بذلك قال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر؟

قال: ما ترى أنت؟ أنت الأمير والرأي رأيك.

قال: قد أردتُ ألاّ أكون!(٢)

ثمّ أقبل على الناس فقال: ماذا ترون؟

فقال عمرو بن الحجّاج بن سلمة الزبيدي: سبحان الله! والله، لو كانوا من الديلم ثمّ سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها(٣) .

وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبُحنّك بالقتال غدوة.

فقال: والله، لو أعلم أن يفعلوا ما أخّرتهم العشيّة.

____________________

(١) هذا التعليل من الراوي، والسبب لا ينحصر في هذا كما ظنَّ، بل هناك ما هو أهمّ، فانظر في الإشارة الآتية.

(٢) في الفتوح، ٥: ١٧٨: (فقال عمر: إنّني أحببتُ أن لا أكون أميراً! قال: ثمَّ إنّي أُكرهتُ)، وفي مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٥٤: (إنّي أحببت أن لا أكون أميراً! فلم أُترَك وأُكرهت).

(٣) في الفتوح، ٥: ١٧٨ - ١٧٩: (فقال رجل من أصحابه يُقال له عمرو بن الحجّاج: سبحان الله العظيم! لو كانوا من الترك والديلم وسألوا هذه المنزلة لقد كان حقّاً علينا أن نجيبهم إلى ذلك، وكيف وهم آل الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهله؟! فقال عمر بن سعد: إنّا قد أجّلناهم في يومنا هذا..).

١٢٨

قال: وكان العبّاس بن عليّ حين أتى حسيناً بما عرض عليه عمر بن سعد قال:(ارجع إليهم، فإن استطعتَ أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة؛ لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنتُ أُحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار) (١) .

ويروي الطبري، عن أبي مخنف، عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، عن الإمام السجّادعليه‌السلام قال:(أتانا رسول من قِبَل عمر بن سعد، فقام مثل حيث يُسمع الصوت فقال: إنّا قد أجّلناكم إلى غدِ، فإنْ استسلمتم سرّحنا بكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد، وإنْ أبَيتم فلسنا بتاركيكم) (٢) .

أمّا ابن أعثم الكوفي فيروي قائلاً: (... فقال عمر بن سعد: إنّا قد أجّلناهم في يومنا هذا، قال: فنادى رجل من أصحاب عمر: يا شيعة الحسين بن عليّ، قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد، فإنْ استسلمتم ونزلتم على حُكم الأمير وجّهنا بكم إليه، وإنْ أبَيتم ناجزناكم.

قال: فانصرف الفريقان بعضهم من بعض)(٣) .

إشارة

ماذا لو حصلت فاجعة عاشوراء في الليل؟

مرَّ بنا قول الراوي - في رواية الطبري - في تعليله لطلب الإمامعليه‌السلام من عمر

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٥ - ٣١٧، وانظر: الكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٤، وانظر: أنساب الأشراف، ٣: ٣٩٢ - ٣٩٣، والإرشاد: ٢٥٧ - ٢٥٨، وانظر: الفتوح، ٥: ١٧٥ - ١٧٩ وعنه مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٢٥٣ - ٢٥٤ بتفاوت وإضافات.

(٢) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٧، وفي الإرشاد: ٢٥٨:(ومضى العبّاس إلى القوم، ورجع من عندهم ومعه رسول من قِبل عمر بن سعد (لعنه الله) يقول...) .

(٣) الفتوح، ٥: ١٧٩، وانظر مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٥٤ - ٣٥٥ بتفاوت.

١٢٩

بن سعد أن يؤجّلهم إلى صباح يوم العاشر: (وإنّما أراد بذلك أن يردَّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويوصي أهله)(١) .

كما مرَّ بنا أيضاً قول الإمام الحسينعليه‌السلام نفسه لأخيه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام :(ارجع إليهم، فإنْ استطعتَ أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنتُ أُحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار).

ولعلّ ما ظنّه الراوي - في رواية الطبري - كان صحيحاً، في أنّهعليه‌السلام أراد المهلة إلى الصباح حتّى يأمر - مَن ينجو من أهله - بأوامره ويوصيهم بوصاياه، وهذا لا ينافي ما ورد في الأثر أنّهعليه‌السلام ترك وصاياه وأماناته عند أمّ سلمة (رض)(٢) ، حتّى تسلّمها إلى الإمام السجّادعليه‌السلام بعد عودته، كما لا ينافي كون الإمام السجّادعليه‌السلام والعقيلة زينبعليها‌السلام وسواهما من أهله، كانوا معه منذ بدء رحلة الركب من المدينة حتّى كربلاء.

لكنّ هذا سببٌ من جملة أسباب متعددة كانت الدافع لطلب الإمامعليه‌السلام المهلة حتّى الصباح، ولم يكن السبب الوحيد الذي انحصرت به القضيّة كما عبّر الراوي عن ذلك بأداة الحصر (إنّما).

وصحيح تماماً أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان يُحبّذ أن يقضي الليلة الأخيرة من عمره الشريف - خصوصاً وأنّها ليلة جمعة - في صلاة، وكثرة دعاء واستغفار وتلاوة القرآن.

____________________

(١) وكذلك قال البلاذري في أنساب الأشراف، ٣: ٣٩٢: (وإنّما أراد أن يوصي أهله ويتقدّم إليهم فيما يريد).

(٢) راجع: كتاب الغَيبة للشيخ الطوسي، ١٩٥، حديث ١٠٩، وكتاب الصراط المستقيم: ١٦١ (النصّ على زين العابدينعليه‌السلام ).

١٣٠

نعم، لكنّ هذا أيضاً - مع أهميّته البالغة - كان من جملة الأسباب.

(إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان قد تعامل في العمق مع كلّ قضيّة في مسار النهضة المقدّسة بمنطق (الشهيد الفاتح)، وخاطبها بلغة الشهادة التي هي عين الفتح، وإنْ كان في نفس الوقت قد تعاطى مع ظواهر القضايا بمنطق الحجج الظاهرة، ولا منافاة بين المنطقين بل هما في طول بعضهما البعض...

فحيث إنْ لم يبايععليه‌السلام يُقتل، فقد سعىعليه‌السلام ألاّ يُقتل في ظروف زمانية ومكانية وبكيفيّة يختارها ويخطّط لها ويُعدّها العدوّ، وسعىعليه‌السلام بمنطق (الشهيد الفاتح) أن يتحقّق مصرعه الذي لابدّ منه على أرض يختارها هو(١) ، لا يتمكّن العدوّ فيها أن يُعتّم على مصرعه فتختنق الأهداف المرجوّة من وراء هذا المصرع، الذي سيهزّ الأعماق في وجدان الأمّة ويحرّكها بالاتجاه الذي أراد الحسينعليه‌السلام .

كما سعىعليه‌السلام أن تجري وقائع المأساة في وضح النهار لا في ظلمة الليل؛ ليرى جريان وقائعها أكبر عدد من الشهود، فلا يتمكّن العدوّ من أن يعتّم على هذه الوقائع الفجيعة ويغطّي عليها، وهذا هو الهدف المنشود من وراء العامل الإعلامي والتبليغي في طلب الإمامعليه‌السلام عصر تاسوعاء أن يُمهلوه إلى صبيحة عاشوراء)(٢) .

نعم، فهذا السبب وإن كما من جملة حسابات التخطيط الحربي، خصوصاً بالنسبة إلى قوّة محاصرة في بقعة محدودة ضيّقة؛ إلاّ أنّه سبب أوّل وأساس في حسابات التخطيط الإعلامي والتبليغي، خصوصاً بالنسبة إلى إمام مفترض الطاعة مظلوم مع مجموعة من الأنصار الربانيين، يريد أن يكشف للأمّة - وللعالم أجمع - عن حقّانيته وأحقيته ومظلوميته، وعن وحشيّة أعدائه وعدم مراعاتهم لأيّ معنى والتزام أخلاقي ودينيّ.

____________________

(١) وهذا ما يفسّر إصرار الإمامعليه‌السلام على التوجّه إلى العراق (أرض المصرع المختار).

(٢) راجع: الجزء الأوّل (الإمام الحسينعليه‌السلام في المدينة المنوّرة): ١٥٥ - ١٥٦.

١٣١

فكان لابدّ من النهار،( وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحى ) (١) ، حتّى يشهد النّاس التفاصيل الكبيرة والصغيرة من الفاجعة والمأساة، ويسمعوا كلّ البلاغات والنداءات والاحتجاجات الإلهية عن لسان الإمامعليه‌السلام وأنصاره الكرام، ثمّ لينظروا كيف لا تستجيب الوهدة لنداء الذروة، ويروا في واضحة النهار كيف تفترس أسنّة الرذيلة النواهش وسيوفها البواتر هيكل الفضيلة الطاهر، وكيف تُهشّم حوافر خيولها العمياء أضلاع الصدر القدسيّ الذي في طيّه سرُّ الإله مصون، وكيف تُباد عصبة الأبرار، وتُحزُّ الرؤوس، ويُقتل الصغار، وكيف تنحرُ سهام الضلالة الحاقد حتى الطفل الرضيع، وكيف تُحرق الخيام، وتُسلبُ النساء، وينتهب الرحل،.. إلى ما سوى ذلك من تفاصيل مأساوية فجيعة، شوهدت في رابعة النهار، فرواها المشاهدون، وتناقلها الناس والتاريخ.

لقد كان النهار عاملاً مهمّاً من عوامل نجاح حفظ حقيقة فاجعة الطفّ كما هي وبكلّ تفاصيلها، إذ لو كانت قد حصلت الواقعة في ليل؛ لغطّت ظلمته على جلّ تفاصيلها المفجعة وبطولاتها المشرقة، ولمَا رأى مَن حَضرها إلاّ نزراً قليلاً من وقائعها، ثمّ لمَا بلغنا منها إلاّ حكاية مبهمة وجيزة لا تحمل في طيّاتها من الفعل والتأثير إلاّ شيئاً يسيراً.

وقائع ليلة عاشوراء

يروي الطبري، عن أبي مخنف، عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن

____________________

(١) سورة طه، الآية ٥٩، والآية عن لسان موسىعليه‌السلام ينما حدّد موعد المواجهة مع السحرة أن يكون يوم الزينة، وأن يُحشر الناس ضحى؛ وذلك ليرى الجميع بوضوح كيف تلقف عصاه ما يأفك السحرة، وليتناقل الناس مشهد هزيمة فرعون في هذه المواجهة.

١٣٢

شريك العامري، عن الإمام السجّادعليه‌السلام قال:(جمعَ الحسين أصحابه بعدما رجع عمر بن سعد، وذلك عند قرب المساء، فدنوت منه لأسمع وأنا مريض، فسمعتُ أبي وهو يقول لأصحابه: أُثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعدُ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبَرَّ ولا أَوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً خيراً، ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم منّي ذِمام، هذا الليل غشيكم فاتخذوه جَملاً) (١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٧، والإرشاد: ٢٥٨، والكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٥، وفي أنساب الأشراف، ٣: ٣٩٣:(وعرضَ الحسين على أهله ومَن معه أن يتفرّقوا ويجعلوا الليل جَملاً، وقال: إنّما يطلبونني وقد وجدوني، وما كانت كُتب مَن كَتب إليَّ فيما أظنّ إلاّ مكيدة لي وتقرّباً إلى ابن معاوية بي...) .

ولا يخفى على المتأمّل أنّ العبارة الأخيرة لو كانت قد صدرت عن الإمامعليه‌السلام حقّاً، فإنّ مراده بها المنافقون أمثال: حجّار بن أبجر، وشبث بن ربعي، وعزرة بن قيس، وأمثالهم؛ ذلك لأنّ هناك مَن قد كتب إليه صادقاً مخلصاً، ومن هؤلاء جملة من أنصاره، أمّا أكثر مَن كتب إليه من أهل الكوفة فإنّ قلوبهم كانت مع الإمامعليه‌السلام ، لكنّ الوهن والشلل النفسي استحوذ عليهم حتّى صارت سيوفهم عليه.

ونقلها الخوارزمي في المقتل، ١: ٣٤٩ - ٣٥٠ عن الفتوح لابن أعثم، ٥: ١٦٩ - ١٧٠، وفيه:(وجَمع الحسين عليه‌السلام أصحابه بين يديه، ثمّ حمد الله وأثنى عليه وقال: اللّهمّ لك الحمدُ على ما علّمتنا من القرآن، وفقّهتنا في الدين، وأكرمتنا به من قرابة رسولك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ..

أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أصلح منكم، ولا أعلم أهل بيت أبَرَّ ولا أوصل ولا أفضل من أهل بيتي، فجزاكم الله ميعاً عنّي خيراً، إنّ هؤلاء القوم ما يطلبون أحداً غيري، ولو قد أصابوني وقدروا على قتلي لمَا طلبوكم أبداً، وهذا الليل قد غشيكم فقوموا واتخذوه جَملاً، وليأخذ كلُّ رجل منكم بيد رجل =

١٣٣

وفي رواية بعدها للطبري أيضاً أنّهعليه‌السلام قال:(هذا الليل قد غشيَكم فاتخذوه جَملاً، ثمّ ليأخذ كلُّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو قد أصابوني لَهو عن طلب غيري).

فقال له إخوته، وأبناؤه، وبنو أخيه، وابنا عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل؟! لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً.

بدأهم بهذا القول العبّاس بن عليّ، ثمّ إنّهم تكلّموا بهذا ونحوه.

فقال الحسينعليه‌السلام :(يا بني عقيل، حَسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنتُ لكم).

قالوا: فما يقول النّاس؟! يقولون: إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرمِ معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله لا نفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا، ونقاتل معك حتّى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك)(١) .

____________________

=من إخوتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم) . وقد اخترنا متن الخوارزمي على متن الفتوح نفسه؛ لأنّه خالٍ من الاضطراب.

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٧ - ٣١٨؛ وانظر: الكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٥ بتفاوت يسير، والإرشاد: ٢٥٨ - ٢٥٩ بتفاوت يسير، أمّا في أمالي الصدوق: ١٣٣، المجلس ٣٠، حديث رقم ١ فقد ورد الخبر هكذا: (.. فقام الحسينعليه‌السلام في أصحابه خطيباً فقال:(اللّهمّ إنّي لا أعرف أهل بيت أبرَّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما ترون، وأنتم في حِلّ من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمّة، وهذا الليل قد غشيَكم فاتخذوه جَملاً، وتفرّقوا في سواده فإنّ القوم إنّما يطلبوني، ولو ظفروا بي لذَهِلوا عن طلب غيري) .

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب فقال: يا بن رسول الله، ماذا يقول لنا الناس إنْ نحن خذلنا شيخنا وكبيرنا وسيّدنا، وابن سيّد الأعمام، وابن نبيّنا سيّد الأنبياء، لم نضرب معه بسيف، ولم نقاتل معه برمح، لا والله أو نرد موردك ونجعل أنفسنا دون نفسك، ودماءنا دون دمك، =

١٣٤

(قال فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسديّ فقال: أنحنُ نخلّي عنك ولمّا نُعذر إلى الله في أداء حقّك؟ أمَا والله، حتّى أكسِر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك.

وقال سعد بن عبد الله الحنفي(١) : والله، لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك، والله، لو علمتُ أنّي أُقتل ثمّ أُحيا ثمّ أُحرق حيّاً ثمّ أُذَرُّ، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة، ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمَّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً.

وقال زهير بن القين: والله، لوددتُ أنّي قُتلتُ ثمّ نُشرتُ ثمّ قُتلتُ حتّى أُقتل كذا ألف قتلة، وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.

قال: وتكلّم جماعة بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد فقالوا: والله، لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحنُ قُتلنا كنّا وَفينَا وقضينا ما علينا)(٢) .

وفي مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: (ثُمّ تكلّم بُرير بن خضير الهمداني، وكان من الزهّاد الذين يصومون النهار ويقومون الليل، فقال: يا بن رسول الله،

____________________

= فإذا نحن فعلنا ذلك فقد قضينا ما علينا وخرجنا ممّا لزِمَنا...).

(١) وفي بعض المصادر: سعيد بدلاً من سعد، وهو المشهور (راجع: أنساب الأشراف، ٣: ٣٩٣).

(٢) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٧ - ٣١٨ وانظر: الكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٥، والإرشاد: ٢٥٨ - ٢٥٩، وانظر: أمالي الصدوق: ١٣٣، المجلس ٣٠، رقم ١، وأنساب الأشراف، ٣٣٩٣ وانظر: الفتوح، ٥: ١٧٠ - ١٧١، ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٢٥٠ - ٢٥١.

١٣٥

إئذن لي أن آتي هذا الفاسق عمر بن سعد فأعظه لعلّه يتّعظ ويرتدع عمّا هو عليه.

فقال الحسين:(ذاك إليك يا بُرير).

فذهب إليه حتّى دخل على خيمته، فجلس ولم يسلّم، فغضب عمر وقال: يا أخا همدان ما منع من السلام عليَّ؟! ألستُ مسلماً أعرف الله ورسوله، وأشهد بشهادة الحقّ؟

فقال له برير: لو كنتَ عرفت الله ورسوله كما تقول؛ لمَا خرجت إلى عترة رسول الله تريد قتلهم، وبعدُ فهذا الفرات يلوح بصفاته، ويلج كأنّه بطون الحيّات، تشرب منه كلاب السواد وخنازيرها، وهذا الحسين بن عليّ وإخوته ونساؤه وأهل بيته يموتون عطشاً، وقد حِلْتَ بينهم وبين ماء الفرات أن يشربوه، وتزعم أنّك تعرف الله ورسوله؟!

فأطرقَ عمر بن سعد ساعة إلى الأرض، ثمّ رفع رأسه وقال: والله، يا بُرير إنّي لأعلم يقيناً أنَّ كُلَّ مَن قاتلهم وغصبهم حقّهم هو في النار لا محالة، ولكن يا بُرير، أفتشير عليَّ أن أترك ولاية الريّ فتكون لغيري؟ فو الله ما أجد نفسي تجيبني لذلك، ثمّ قال:

دعـاني عـبيد الله من دون قومه

إلـى خـطّة فـيها خرجتُ لِحَيني

فـو الله مـا أدري وإنّـي لـحائر

أُفـكّر فـي أمـري على خطَرَينِ

أأتـركُ مُـلك الريّ والريّ مُنيتي

أم أرجـع مـأثوماً بـقتْل حـسينِ

وفـي قـتله النّار التي ليس دونها

حجابٌ، ومُلك الريّ قرّة عينِي(١)

____________________

(١) ونُسب إليه (لعنه الله) أيضاً هذه الأبيات:

حسينُ ابن عمّي والحوادث جمّة

لعمري، ولي في الريّ قُرّةُ عينِ

لـعلّ إلـه الـعرش يغفر زلّتي

ولـو كـنتُ فـيها أظلم الثقَلينِ

=

١٣٦

فرجع برير إلى الحسين وقال: يا بن رسول الله، إنّ عمر بن سعد قد رضي لقتلك بمُلك الريّ)(١) .

وفي رواية أخرى عن الإمام السجّادعليه‌السلام

روى السيّد هاشم البحراني مرسلاً عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعتُ عليَّ بن الحسين زين العابدينعليهما‌السلام يقول:(لمّا كان اليوم الذي استشهد فيه أبي، جمع أهله وأصحابه في ليلة ذلك اليوم فقال لهم:

يا أهلي وشيعتي، اتّخِذوا هذا الليل جَملاً لكم، وانجُوا بأنفسكم، فليس المطلوب غيري، ولو قتلوني ما فكّروا فيكم، فانجوا رحمكم الله، وأنتم في حِلّ وسعة من بيعتي وعهدي الذي عاهدتموني.

فقال إخوته وأهله وأنصاره بلسان واحد: والله، يا سيّدنا يا أبا عبد الله، لا خذلناك أبداً، والله لا قال النّاس: تركوا إمامهم وكبيرهم وسيّدهم وحده حتّى قُتل، ونبْلوا بيننا وبين الله عُذراً ولا نخلّيك أو نُقتل دونك.

____________________

=

ألا إنّـما الـدنيا لَـبرُّ مُـعَجَّلٌ

ومـا عـاقل بـاع الوجود بديْنِ

يـقـولون إنّ الله خـالق جـنّة

ونـارٍ وتـعذيب وغـلّ يـدينِ

فـإنْ صـدقوا فيما يقولون إنّني

أتـوب إلى الرحمان من سنتينِ

وإنْ كـذبوا فُـزْنا بريِّ عظيمة

ومُـلك عـظيمٍ دائـم الحجلينِ

وإنّـي سأختار التي ليس دونها

حـجابٌ وتـعذيب وغـلّ يَدينِ

(راجع: نَفَس المهموم: ٢١٨).

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٥١ - ٣٥٢، وانظر الفتوح، ٥: ١٧١ - ١٧٣ وفيه: (يا بن بنت رسول الله، إنّ عمر بن سعد قد رضي أن يقتلك بملك الريّ)، وانظر: كشف الغمّة، ٢: ٢٢٦، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ: ٢٠٢، ومطالب السؤل: ٧٦.

١٣٧

فقالعليه‌السلام لهم: يا قوم، إنّي غداً أُقتل وتُقتلون كلّكم معي، ولا يبقى منكم واحد.

فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقتل معك، أوَ لا ترضى أن نكون معك في درجتك يا بن رسول الله؟

فقالعليه‌السلام : جزاكم الله خيراً، ودعا لهم بخير، فأصبحَ وقُتل وقُتلوا معه أجمعون(١) .

فقال له القاسم بن الحسنعليهما‌السلام : وأنا فيمن يُقتل؟

فأشفقَ عليه فقال له: يا بُنيّ كيف الموت عندك؟

قال: يا عمّ، أحلى من العسل.

فقالعليه‌السلام : إي والله، فداك عمّك، إنّك لأحد مَن يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاءٍ عظيم، وابني عبد الله.

فقال: يا عمّ، ويصلون إلى النساء حتّى يُقتل عبد الله وهو رضيع؟!

فقالعليه‌السلام : فداك عمّك، يُقتل عبد الله إذ جفّت روحي عطشاً، وصرتُ إلى خِيَمنا فطلبتُ ماءً ولبناً فلا أجد قطّ، فأقول: ناولوني ابني لأشرب مِن فيه، فيأتوني به فيضعونه على يدي، فأحملهُ لأُدنيه مِن فيَّ فيرميه فاسق بسهم فينحره وهو يُناغي، فيفيض دمه في فيّ، فأرفعهُ إلى السماء وأقول: اللّهمّ صبراً واحتساباً فيك، فتعجلني الأسنّة فيهم والنار تسعر في الخندق الذي في ظهر الخيم، فأكرّ عليهم في أمرِّ أوقات في الدنيا، فيكون ما يريد الله.

____________________

(١) يُلاحظ على هذه الرواية ما ورد فيها من قولهعليه‌السلام :(إنّي غداً أُقتل وتُقتلون كلّكم معي، ولا يبقى منكم واحد) ، وقول الإمام السجّادعليه‌السلام :(فأصبح وقُتل وقُتلوا معه أجمعون) ؛ ذلك لأنّ المشهور خلاف هذا، فهناك بعض من أنصار الحسينعليه‌السلام كانوا قد اشتركوا في حرب يوم عاشوراء ولم يُستشهدوا، مثل: الحسن المثنّى، وسوار بن منعم النهمي، والموقّع بن ثمامة الأسدي.

اللّهمّ إلاّ أن يكون أمثال هؤلاء لم يحضروا هذه المخاطبة تلكم الساعة، أو أنَّ الخطاب أُريد الجميع به على نحو التغليب!

١٣٨

فبكى وبكينا، وارتفع البكاء والصراخ من ذراري رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الخيام.

ويسأل زهير بن القين وحبيب بن مظاهر عنّي، فيقولون: يا سيّدنا، فسيّدنا عليّ - فيشيرون إليَّ - ماذا يكون حاله؟

فيقول مستعبراً: ما كان الله ليقطع نسلي من الدنيا، فكيف يصِلون وهو أبو ثمانية أئمّة؟)(١) .

وفي رواية أخرى...

جاء في التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكريّعليه‌السلام :(ولمّا امتُحن الحسين عليه‌السلام ومَن معه بالعسكر الذين قتلوه وحملوا رأسه، قال لعسكره: أنتم في حِلّ من بيعتي فالحقوا بعشائركم ومواليكم، وقال لأهل بيته: قد جعلتكم في حِلّ من مفارقتي، فإنّكم لا تُطيقونهم لتضاعف أعدادهم وقواهم، وما المقصود غيري، فدعوني والقوم؛ فإنّ الله عزّ وجلّ يعينني ولا يخلّيني من حُسن نظره كعادته في أسلافنا الطيّبين.

فأمّا عسكرهُ ففارقوه (٢) ، وأمّا أهله الأدنون من أقربائه فأبَوا وقالوا: لا نفارقك ويحزننا

____________________

(١) مدينة المعاجز، ٤: ٢١٤ حديث رقم ٢٩٥، وعنه نَفَس المهموم: ٢٣٠ - ٢٣١ وقال المرحوم الشيخ القمي: (روى الحسين بن حمدان الحضيني (الخصيبي) بإسناده عن أبي حمزة الثمالي، والسيد البحراني مرسلاً عنه...).

(٢) إذا كان المراد بـ(فأمّا عسكره ففارقوه) مَن استأجرهم الإمامعليه‌السلام من الجمّالين وغيرهم فلا بأس به، وإن كان المراد به مَن التحقوا به، فإذا كانت هذه المخاطبة في الطريق قبل منزل زبالة أو فيه، فنعم لقد تفرّق عنه الكثير ذات اليمين وذات الشمال، خصوصاً بعد وصول خبر مقتل مسلم، وهاني، وعبد الله بن يقطر (رض)، حيث لم يبقَ معه إلاّ صفوة الفداء والتضحية، وأمّا إذا كان المراد به مَن التحقوا به والمخاطبة ليلة عاشوراء، فإنّ الثابت الصحيح أنّه لم يتخلّ عن =

١٣٩

ما يحزنك، ويصيبنا ما يصيبك، وإنّا أقرب ما نكون إلى الله إذا كُنّا معك .

فقال لهم: فإن كنتم قد وطّنتم أنفسكم على ما وطّنت نفسي عليه، فاعلموا أنّ الله يهب المنازل الشريفة لعباده باحتمال المكاره، وأنّ الله وإنْ كان خصّني مع مَن مضى من أهلي الذين أنا آخرهم بقاءً في الدنيا من الكرامات بما يسهل عليَّ معها احتمال المكروهات، فإنّ لكم شطر ذلك من كرامات الله تعالى، واعلموا أنّ الدنيا حُلوها ومُرّها حُلم، والانتباه في الآخرة، والفائز مَن فاز فيها، والشقيّ مَن شقي فيها...) (١) .

الحضرمي: أكَلَتني السباع حيّاً إنْ فارقتك

وروى السيّد ابن طاووس (ره) أنّه: (وقيل لمحمّد بن بشير الحضرمي في تلك الحال: قد أُسِرَ ابنك بثغر الريّ، قال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنتُ أُحبُّ أن يؤسر وأن أبقى بعده.

فسمع الحسينعليه‌السلام قوله فقال:(رحمك الله، أنت في حِلٍّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك.

فقال:أكلتني السباع حيّاً إنْ فارقتك.

قال:فاعطِ ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه، فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار) (٢) .

____________________

= الإمامعليه‌السلام أحد من أصحابه.

(١) تفسير الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام : ٢١٨، وانظر: البحار، ١١: ١٤٩، رقم ٢٥.

(٢) اللهوف: ٣٤٠ - ٤١، ورواه ابن عساكر أيضاً في تاريخه (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، تحقيق المحمودي: ٢٢١، حديث رقم ٢٠٢، وقال المحمودي في الحاشية: رواه ابن سعد في الحديث =

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

واشتدَّت الطلب، وعظمت البلوى، ودرس الدِّين، وضيعت الحقوق، وأميتت الفروض والسّنن، وذهب النّاس يميناً وشمالاً لا يعرفون أيّاً من أيٍّ، فكانت الغيبة مائتين وخمسين سنة.

١٩ - حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليدرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا محمّد ابن الحسن الصفّار، وسعد بن عبد الله جميعاً، عن أيّوب بن نوح، عن عبد الله بن المغيرة، عن سعد بن أبي خلف، عن معاوية بن عمّار قال: قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : بقي النّاس بعد عيسى بن مريمعليه‌السلام خمسين ومائتي سنة بلا حجّة ظاهرة.

٢٠ - حدّثنا أبيرحمه‌الله قال: حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار، عن يعقوب ابن يزيد، عن محمّد بن أبي عمير، عن سعد بن أبي خلف، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: كان بين عيسى وبين محمّدعليهما‌السلام خمسمائة عام منها مائتان وخمسون عاما ليس فيها نبيٌّ ولا عالمٌ ظاهر، قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا متمسّكين بدين عيسىعليه‌السلام ، قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا مؤمنين، ثمّ قالعليه‌السلام : ولا يكون الأرض إلّا وفيها عالم.

و كان ممّن ضرب في الأرض لطلب الحجّة سلمان الفارسيُّرضي‌الله‌عنه فلم يزل ينتقل من عالم إلى عالم، ومن فقيه إلى فقيه، ويبحث عن الاسرار ويستدلُّ بالاخبار منتظراً لقيام القائم سيّد الاوَّلين والآخرين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعمائة سنة حتّى بشّر بولادته، فلمّا أيقن بالفرج خرج يريد تهامة فسبي.

٩

( باب )

* (خبر سلمان الفارسي - رحمه الله عليه - في ذلك) *

٢١ - حدّثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار؛ وأحمد ابن إدريس جميعاً، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن عليِّ بن مهزيار، عن أبيه، عمّن ذكره، عن موسى بن جعفرعليهما‌السلام قال: قلت: يا ابن رسول الله إلّا تخبرنا كيف كان سبب إسلام سلمان الفارسيِّ؟ قال: حدّثني أبي صلوات الله عليه أنَّ أمير المؤمنين عليَّ

١٦١

ابن أبي طالب صلوات الله عليه وسلمان الفارسي وأباذرٍّ وجماعة من قريش كانوا مجتمعين عند قبر النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام لسلمان: يا أبا عبد الله إلّا تخبرنا بمبدء أمرك؟ فقال سلمان: والله يا أمير المؤمنين لو أنَّ غيرك سألني ما أخبرته، أنا كنت رجلاً من أهل شيراز من أبناء الدهّاقين وكنت عزيزاً على والديّ فبينا أنا سائر مع أبي في عيد لهم إذا أنا بصومعة وإذا فيها رجلٌ ينادي أشهد أن لا إله إلّا الله وأنَّ عيسى روح الله، وأنَّ محمداً حبيب الله، فرسخ وصف محمّد(١) في لحمي ودمي فلم يهنئني طعام ولا شراب، فقالت لي أمّي: يا بني مالك اليوم لم تسجد لمطلع الشمس؟ قال: فكابرتها حتّى سكتت، فلمّا انصرفت إلى منزلي إذا إنّا بكتاب معلّق في السّقف فقلت لاُمّي: ما هذا الكتاب؟ فقالت: يا روزبه إنَّ هذا الكتاب لمّا رجعنا من عيدنا رأيناه معلّقاً، فلا تقرب ذلك المكان فانّك أنَّ قربته قتلك أبوك، قال: فجاهدتها حتّى جن الليل فنام أبي وأمي فقمت وأخذت الكتاب وإذا فيه بسم الله الرّحمن الرحيم هذا عهد من الله إلى آدم أنَّه خالق من صلبه نبيّاً يقال له: محمّد، يأمر بمكارم الاخلاق وينهى عن عبادة الاوثان، يا روزبه ائت وصيَّ عيسى وآمن واترك المجوسية، قال: فصعقت صعقة وزادني شدّة قال: فعلم بذلك أبي وأمّي فأخذوني وجعلوني في بئر عميقة، وقالوا لي: أن رجعت وإلّا قتلناك، فقلت لهم: افعلوا بي ما شئتم، حبُّ محمّد لا يذهب من صدري، قال سلمان: ما كنت أعرف العربيّة قبل قراءتي الكتاب، ولقد فهّمني الله عزَّ وجلَّ العربية من ذلك اليوم قال: فبقيت في البئر فجعلوا ينزلون في البئر إلىَّ أقراصاً صغاراً.

قال : فلمّا طال أمري رفعت يدي إلى السّماء فقلت: يا رب إنّك حببت محمداً ووصيه إلى فبحق وسيلته عجل فرجي وأرحني ممّا أنا فيه، فأتاني آت عليه ثياب بيض فقال: قم يا روزبه، فأخذ بيدي وأتى بي إلى الصومعة فأنشأت أقول: أشهد أن لا إله إلّا الله وأن عيسى روح الله، وأن محمداً حبيب الله، فأشرف عليّ الديراني فقال: أنت روزبه؟ فقلت: نعم، فقال: اصعد فأصعدني إليه وخدمته حولين كاملين، فلمّا حضرته

__________________

(١) في بعض النسخ « فرصف حب محمّد ».

١٦٢

الوفاة قال: إنّي ميّت فقلت له: فعلى من تخلّفني؟ فقال: لا أعرف أحداً يقول بمقالتي هذه إلّا راهباً بأنطاكية، فإذا لقيته فأقرئه منّي السّلام وادفع إليه هذا اللّوح، وناولني لوحاً، فلمّا مات غسلته وكفّنته ودفنته وأخذت اللّوح وسرت به إلى أنطاكية وأتيت الصومعة وأنشأت أقول: أشهد أن لا إله إلّا الله وأن عيسى روح الله وأن محمداً حبيب الله، فأشرف عليَّ الدَّيرانيُّ فقال: أنت روزبه، فقلت: نعم، فقال: اصعد فصعدت إليه فخدمته حولين كاملين، فلمّا حضرته الوفاة قال لي: إنّي ميّت، فقلت: على من تخلّفني؟ فقال: لا أعرف أحداً يقول بمقالتي هذه إلّا راهباً بالاسكندريّة فإذا أتيته فأقرئه منّي السّلام وادفع إليه هذا اللّوح، فلمّا توّفي غسّلته وكفّنته ودفنته وأخذت اللّوح وأتيت الصومعة وأنشأت أقول: أشهد أن لا إله إلّا الله وأنَّ عيسى روح الله وأنَّ محمداً حبيب الله، فأشرف عليَّ الدَّيرانيُّ فقال: أنت روزبه؟ فقلت: نعم، فقال: اصعد فصعدت إليه وخدمته حولين كاملين، فلمّا حضرته الوفاة قال لي: إنّي ميّت فقلت: على من تخلّفني؟ فقال: لا أعرف أحداً يقول بمقالتي هذه في الدُّنيا وإنَّ محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب قد حانت ولادته فإذا أتيته فأقرئه منّي السلام، وادفع إليه هذا اللوح، قال: فلمّا توّفي غسّلته وكفّنته ودفنته وأخذت اللّوح وخرجت، فصحبت قوماً فقلت لهم: يا قوم اكفوني الطعام والشراب أكفكم الخدمة؟ قالوا: نعم، قال: فلمّا أرادوا أن يأكلوا شدّوا على شاة فقتلوها بالضرب، ثمّ جعلوا بعضها كباباً وبعضها شواءً فامتنعت من الاكل، فقالوا: كلّ فقلت: إنّي غلام ديرانيّ وإن الديرانيّين لا يأكلون اللّحم، فضربوني وكادوا يقتلونني فقال بعضهم: امسكوا عنه حتّى يأتيكم شرابكم فانَّه لا يشرب، فلمّا أتوا بالشراب قالوا: اشرب؟ فقلت: إنّى غلام ديرانيّ وإنَّ الدَّيرانيّين لا يشربون الخمر، فشدُّوا عليَّ وأرادوا قتلي، فقلت لهم: يا قوم لا تضربوني ولا تقتلوني فإنّي اقرُّ لكم بالعبوديّة فأقررت لواحد منهم فأخرجني وباعني بثلاثمائة درهم من رجل يهودي قال: فسألني عن قصّتي فأخبرته وقلت: له ليس لي ذنب إلّا أنّي أحببت محمّداً ووصيه، فقال اليهوديُّ: وإنّي لاُبغضك وابغض محمّداً، ثمّ أخرجني إلى خارج داره وإذا رملٌ كثير على بابه، فقال: والله ياروزبه لئن أصحبت ولم تنقل هذا الرَّمل كله من هذا الموضع لاقتلنك،

١٦٣

قال: فجعلت أحمل طول ليلتي فلمّا أجهدني التعب رفعت يدي إلى السّماء وقلت: يا ربّ إنّك حبّبت محمداً ووصيّه إليَّ فبحقِّ وسيلته عجّل فرجي وأرحني ممّا أنا فيه، فبعث الله عزَّ وجلَّ ريحاً فقلعت ذلك الرَّمل من مكانه إلى المكان الّذي قال اليهوديُّ، فلمّا أصبح نظر إلى الرمل قد نقل كله، فقال: يا روزبه أنت ساحر وأنا لا أعلم فلاجرجنّك من هذه القرية لئلا تهلكها، قال: فأخرجني وباعني من امرأة سلميّة فأحبّتني حبّاً شديداً وكان لها حائط، فقالت: هذا الحائط لك كلّ منه وما شئت وهب وتصدق.

قال: فبقيت في ذلك الحائط ما شاء الله فبينا أنا ذات يوم في الحائط إذا أنا بسبعة رهط قد أقبلوا تظلّهم غمامة، فقلت في نفسي: والله ما هؤلاء كلّهم أنبياءً ولكنَّ فيهم نبيّاً قال: فأقبلوا حتّى دخلوا الحائط والغمامة تسير معهم، فلمّا دخلوا إذا فيهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنينعليه‌السلام وأبوذرٍّ والمقداد وعقيل بن أبي طالب(١) وحمزة بن عبد المطّلب وزيد بن حارثة، فدخلوا الحائط فجعلوا يتناولون من حشف النخل ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لهم: كلوا الحشف ولا تفسدوا على القوم شيئاً، فدخلت على مولاتي فقلت لها: يا مولاتي هبي لي طبقاً من رطب، فقالت: لك ستّة أطباق، قال: فجئت فحملت طبقا من رطب، فقلت في نفسي: إن كان فيهم نبيٌّ فإنه لا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية،

__________________

(١) فيه وهم كما لا يخفى لأنّ اسلام عقيل على ما ذكروه قبل الحديبية وهو لم يشهد المواقف الّتي قبلها وقد أخرج مع المشركين كرهاً إلى بدر واسر وفداه عمه العبّاس بن عبد المطلب وكان حمزةرضي‌الله‌عنه استشهد يوم أحد، واسلام سلمان كان بقباء حين قدوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة مهاجراً، وعده ابن عبد البر فيمن شهد بدراً، فإنَّ لم نقبل ذلك فلا أقل من حضوره في غزوة الاحزاب فإنَّ المسلمين حفروا الخندق بمشورته، فكيف يجمع بين حمزة وعقيل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حائط من حيطان المدينة قبل اسلام سلمانرضي‌الله‌عنه . ولا يقال: لعل عقيل تصحيف جعفر، لأنّ جعفر حينذاك في الحبشة وقدم المدينة بعد فتح خيبر، ثمّ اعلم أنَّ الامر في الخبر سهل لأنّه مرسل وهو كما ترى يشبه القصص والاساطير، والله العالم.

١٦٤

فوضعته بين يديه، فقلت: هذه صدقة فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلوا وأمسك رسول الله وأمير المؤمنين وعقيل بن أبى طالب وحمزة بن عبد المطّلب، وقال لزيد: مدَّ يدك وكل فقلت في نفسي هذه علامة، فدخلت إلى مولاتي فقلت لها: هبي لي طبقاً آخر، فقالت: لك ستّة أطباق قال: فجئت فحملت طبقاً من رطب فوضعة بين يديه فقلت: هذه هديّة، فمد يده وقال: بسم الله كلوا ومدَّ القوم جميعاً أيديهم فأكلوا، فقلت في نفسي هذه أيضاً علامة، قال: فبينا أنا أدور خلفه إذ حانت من النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التفاته، فقال: يا روزبه تطلب خاتم النبوَّة، فقلت: نعم، فكشف عن كتفيه فإذا انا بخاتم النبوَّة معجوم بين كتفيه عليه شعرات قال: فسقطت على قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اقبّلها، فقال لي: ياروزبه ادخل إلى هذه المرأة وقل لها يقول لك محمّد بن عبد الله تبيعينا هذا الغلام؟ فدخلت فقلت لها: يا مولاتي إنَّ محمّد بن عبد الله يقول لك: تبيعينا هذا الغلام؟ فقالت قل له: لا أبيعك إلّا بأربعمائة نخلة مائتي نخلة منها صفراء ومائتي نخلة منها حمراء، قال: فجئت إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأخبرته، فقال: وما أهون ما سألت، ثمّ قال: قم يا عليّ فاجمع هذا النوي كله فجمعه وأخذه فغرسه، ثمّ قال: إسقه فسقاه أمير المؤمنين فما بلغ آخره حتّى خرج النخل ولحق بعضه بعضاً فقال: لي ادخل إليها وقل لها يقول لك محمّد بن عبد الله: خذي شيئك وادفعي إلينا شيئناً قال: فدخلت عليها وقلت ذلك لها، فخرجت ونظرت إلى النخل فقالت: والله لا أبيعكه إلّا بأربعمائة نخلة كلّها صفراء، قال: فهبط جبرئيلعليه‌السلام فمسح جناحيه على النخل فصار كلّه أصفر، قال: ثمّ قال لي: قل لها: إنَّ محمداً يقول لك: خذي شيئك وادفعي إلينا شيئنا قال: فقلت لها ذلك فقالت: والله لنخلة من هذه أحب إلي من محمّد ومنك، فقلت لها: والله ليوم واحد مع محمّد أحبُّ إليَّ منك ومن كلِّ شيء أنت فيه، فأعتقني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمّاني سلمان.

قال مصنّف هذا الكتابرضي‌الله‌عنه : كان اسم سلمان روزبه بن خشبوذان وما سجد قطُّ لمطلع الشمس وإنّما كان يسجد لله عزَّ وجلَّ وكانت القبلة الّتي أمر بالصلاة إليها شرقية وكان أبواه يظنّان أنَّه إنّما يسجد لمطلع الشمس كهيئتهم، وكان سلمان

١٦٥

وصيُّ وصيِّ عيسىعليه‌السلام في أداء ما حمّل إلى من انتهت إليه الوصيّة من المعصومين، وهو آبيعليه‌السلام (١) وقد ذكر قوم أنَّ « أبي »(٢) هو أبو طالب. وإنّما اشتبه الامر به، لأنَّ أمير المؤمنينعليه‌السلام سئل عن آخر أوصياء عيسىعليه‌السلام فقال: « آبي » فصحّفه النّاس وقالوا: « أبي » ويقال له: « بردة » أيضاً.

١٠

( باب )

* (في خبر قسّ بن ساعدة الايادي) *

ومثل قُسِّ بن ساعدة الأياديِّ في علمه وحكمته. كان يعرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينتظر ظهوره ويقول: إنَّ لله ديناً خير من الدِّين الّذي أنتم عليه. وكان النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يترّحم عليه ويقول: يحشر يوم القيامة اُمّة وحده(٢) .

٢٢ - حدّثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد ابن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم بفناء الكعبة يوم افتتح مكّة إذ أقبل إليه وفد فسلّموا عليه، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن القوم؟ قالوا: وفد بكر بن وائل، قال: فهل عندكم علم من خبر قس بن ساعدة الأياديِّ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: فما فعل؟ قالوا: مات، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحمد لله ربِّ الموت وربِّ الحياة، كلُّ نفس ذائقة الموت، كأنّي أنظر إلى قسّ بن ساعدة الاياديِّ وهو بسوق عكاظ على جمل له أحمر وهو يخطب النّاس ويقول: اجتمعوا أيّها النّاس، فإذا اجتمعتم فأنصتوا

__________________

(١) آبى بمد الهمزة وامالة الياء من ألقاب علماء النصارى. وسيأتى في باب نوادر الكتاب اواخر الجزء الثاني أنَّ آخر اوصياء عيسىعليه‌السلام رجل يقال له: بالط. وكأن اسم ذلك الرَّجل « آبي بالط ».

(٢) كذا ولعل النكتة في عدم النصب حفظ صورة الكلمة لئلا يشتبه بأبي.

(٣) المراد أنَّه على دين الحق والتوحيد وليس في زمانه من يدين بدين الحق غيره.

١٦٦

فإذا أنصتّم فاسمعوا، فإذا سمعتم فعوا، فإذا وعيتم فاحفظوا، فإذا حفظتم فاصدقوا، إلّا إنَّه من عاش مات، ومن مات فات، ومن فات فليس بآت، إنَّ في السّماء خبرا وفي الأرض عبراً، سقفٌ مرفوعٌ، ومهاد موضوع، ونجوم تمور(١) وليل يدور، وبحار ماء [ لا ] تغور، يحلف قس ما هذا بلعب وإن من وراء هذا لعجبا، مالي أرى النّاس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟ يحلف قسٌّ يميناً غير كاذبة إنَّ لله ديناً هو خير من الدِّين الّذي أنتم عليه. ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رحم الله قُسّاً يحشر يوم القيامة اُمّة وحده، قال: هل فيكم أحد يحسن من شعره شيئاً؟ فقال بعضهم: سمعته يقول:

في الأوّلين الذّاهبين

من القرون لنا بصائر

لما رأيت موارداً

للوت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها

تمضى الأكابر والاصاغر

لا يرجع الماضي إليَّ

ولا من الباقين غابر(٢)

أيقنت أنّي لا محالة

حيث صار القوم صائر

وبلغ من حكمة قسِّ بن ساعدة ومعرفته أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسأل من يقدم عليه من أياد من حكمه ويصغي إليه سمعه.

٢٣ - حدّثنا الحسن بن عبد الله بن سعيد قال: حدّثنا أبو الحسن عليّ بن الحسين بن إسماعيل قال: أخبرنا محمّد بن زكريّا قال: حدّثنا عبد الله بن الضحاك، عن هشام، عن أبيه(٣) أنَّ وفداً من أياد قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألهم عن حكم قسِّ ابن ساعدة فقالوا: قال قس:

__________________

(١) مار الشيء يمور موراً أي تحرك وجاء وذهب.

(٢) كذا وفى بعض نسخ الحديث هكذا: لا يرجع الماضي ولا * يبقى من الباقين غابر.

(٣) المراد بهشام هشام بن محمّد بن السائب الكلبي. كما يظهر من كتاب مقتضب الاثر ص ٣٧.

١٦٧

يا ناعي الموت والأموات في جدث

عليهم من بقايا بزّهم خرق

دعهم فإنَّ لهم يوماً يصاح بهم

كما ينبّه من نوماته(١) الصّعق

منهم عراة ومنهم في ثيابهم

منها الجديد ومنها الأورق الخَلق(٢)

حتى يعودوا بحال غير حالتهم

خلق جديد وخلق بعدهم خلقوا

مطر ونبات، وآباء واُمّهات، وذاهب وآت، وآيات في أثر آيات، وأموات بعد أموات، ضوء وظلام، وليال وأيّام، وفقير وغني، وسعيدٌ وشقي، ومحسنٌ ومسيءٌ، نبأ لارباب الغفلة(٣) ، ليصلحنَّ كلّ عامل عمله، كلّا بل هو الله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدا، وإليه المآب غدا.

وأمّا بعد يا معشر أياد أين ثمود وعاد؟ وأين الاباء والاجداد؟ أين الحسن الّذي لم يشكر والقبيح الّذي لم ينقم، كلّا وربّ الكعبة ليعودنَّ ما بدا، ولئن ذهب يوم ليعودنَّ يوم.

و هو قسُّ بن ساعدة بن حذاقة بن زهر بن أياد بن نزار، أوَّل من آمن بالبعث من أهل الجاهليّة، وأوَّل من توكّأ على عصا(٤) ويقال: إنَّه عاش ستّمائة سنة وكان يعرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسمه ونسبه ويبشّر النّاس بخروجه، وكان يستعمل التقيّة ويأمر بها في خلال ما يعظ به الناس.

٢٤ - حدّثنا الحسن بن عبد الله بن سعيد قال: أخبرنا أبو الحسن عليُّ بن الحسين ابن إسماعيل قال: أخبرنا محمّد بن زكريّا بن دينار قال: حدّثني مهدي بن سابق، عن عبد الله بن عبّاس، عن أبيه قال: جمع قسُّ بن ساعدة ولده فقال: إنَّ المعاتكفيه البقلة

__________________

(١) في بعض نسخ الحديث « من رقداته ».

(٢) في بعض النسخ « ومنها الرث والخلق » والرث: البالي كالخلق.

(٣) في بعض النسخ « أين الارباب الغفلة » وفي بعضها « الفعلة ».

(٤) أي أول من توكأ على عصا من أهل الجاهلية، أو لضعف كثرة السن أو نحوها ذلك لئلا ينتقض بما حكاه الله سبحانه عن موسىعليه‌السلام « قال هي عصاي أتوكأ عليها - الآية ».

١٦٨

وترويه المذقة(١) ومن عيّرك شيئاً ففيه مثله، ومن ظلمك وجد من يظلمه، متى عدلت على نفسك عدل عليك من فوقك، فإذا نهيت عن شيء فأبدء بنفسك، ولا تجمع ما لا تأكل ولا تأكل ما لا تحتاج إليه، وإذا ادَّخرت فلا يكونن كنزك إلّا فعلك، وكن عفَّ العيلة مشترك الغنى تسد قومك، ولا تشاورنَّ مشغولاً وإن كان حازماً، ولا جائعاً وإن كان فهماً، ولا مذعوراً وإن كان ناصحاً، ولا تضعَّن في عنقك طوقا لا يمكنك نزعه إلّا بشقّ نفسك، وإذا خاصمت فاعدل، وإذا قلت فاقتصد، ولا تستودعنَّ أحداً دينك وإن قربت قرابته، فانّك إذا فعلت ذلك لم تزل وجلاً وكان المستودع بالخيار في الوفاء بالعهد، وكنت له عبداً ما بقيت، فإنَّ جنى عليك كنت أولى بذلك، وإن وفي كان الممدوح دونك، عليك بالصّدقة فإنّها تكفر الخطيئة.

فكان قسّ لا يستودع دينه أحداً وكان يتكلّم بما يخفى معناه على العوامِّ ولا يستدركه إلّا الخواصّ.

١١

( باب )

* (في خبر تبع) *

وكان تبع الملك أيضاً ممّن عرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانتظر خروجه لأنّه قد وقع إليه خبره، فعرفه أنَّه سيخرج من مكة نبي يكون مهاجرته إلى يثرب.

٢٥ - محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليدرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا محمّد بن الحسن الصفّار، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن عليٍّ، عن عمر بن أبان، عن أبان رفعه أن تبّع قال في مسيره:

حتى أتاني من قريظة عالمٌ

حبر لعمرك في اليهود مسود

__________________

(١) المذقة - بفتح الميم والقاف وسكون الدال -: الشربة من اللبن الممذوق. والمذق. المزج والخلط، يقال: مذقت اللبن فهو مذيق إذا خلطته بالماء.

١٦٩

قال ازدجر عن قرية محجوبة

لنبيِّ مكّة من قريش مهتد

فعفوت عنهم عفو غير مثرَّب(١)

وتركتهم لعقاب(٢) يوم سرمد

وتركتها لله أرجو عفوه

يوم الحساب من الجحيم الموقَد

ولقد تركت له بها من قومنا

نفراً أولي حسب وممّن يحمد

نفراً يكون النّصر في أعقابهم

أرجو بذاك ثواب ربِّ محمّد

ما كنت أحسب أنَّ بيتاً ظاهراً

لله في بطحاء مكّة يعبد

قالوا بمكّة بيت مال داثر(٣)

وكنوزه من لؤلؤ وزبرجد

فأردت أمراً حال ربي دونه

والله يدفع عن خراب المسجد

فتركت ما أمّلته فيه لهم

وتركتهم مثلاً لاهل المشهد(٤)

قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : قد أخبر أنَّه(٥) سيخرج من هذه - يعني مكّة - نبي يكون مهاجرته إلى يثرب، فأخد قوماً من اليمن فأنزلهم مع اليهود لينصروه إذا خرج وفي ذلك يقول:

شهدت على أحمدَ أنّه

سول من الله باريء النسم

فلو مُدّ عمري إلى عمره

كنت وزيراً له وابن عمٍّ

وكنت عذاباً على المشركين

سقيهم كأس حتف وغم(٦)

٢٦ - حدّثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبى عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن الوليد بن صبيح، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: إنَّ تبعاً قال للاوس والخزرج: كونوا ههنا حتّى يخرج هذا النبيُّ، أما أنا فلو أدركته

__________________

(١) ثربه وثرب عليه: لامه، قبح عليه فعله وعيره بذنبه.

(٢) أي لخوف العقاب.

(٣) الدثر - بالفتح -: المال الكثير.

(٤) أي من كان ذا قلب حاضر.

(٥) في بعض النسخ « كان الخبر أنَّه ».

(٦) الحتف: الموت.

١٧٠

لخدمته ولخرجت معه.

٢٧ - حدّثنا أحمد بن محمّد بن الحسين البزّاز قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب الاصمُّ قال: حدّثنا أحمد بن عبد الجبّار العطارديُّ قال: حدّثنا يونس بن بكير الشيبانيُّ(١) عن زكريّا بن يحيى المدني قال: حدَّثني عكرمة قال: سمعت ابن عبّاس يقول: لا يشتبهنَّ عليكم أمر تبع فإنه كان مسلما.

١٢

( باب )

* (في خبر عبد المطلب وأبي طالب) *

وكان عبد المطّلب وأبو طالب من أعرف العلماء وأعلمهم بشأن النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانا يكتمان ذلك عن الجهال وأهل الكفر والضّلال.

٢٨ - حدّثنا عليُّ بن أحمد بن موسىرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا أحمد بن يحيى ابن زكريّا القطّان قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل قال: حدّثنا عبد الله بن محمّد قال: حدّثنا أبي قال: حدّثني الهيثم بن عمرو المزنيِّ، عن إبراهيم بن عقيل الهذليّ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان يوضع لعبد المطّلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه أحد إلّا هو إجلالاً له وكان بنوه يجلسون حوله حتّى يخرج عبد المطلب، فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج وهو غلام فيمشي حتّى يجلس على الفراش فيعظم ذلك على أعمامه(٢) ويأخذونه ليؤخّروه فيقول لهم عبد المطّلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني فو الله إنَّ له لشأناً عظيماً إنّي أرى أنَّه سيأتي عليكم يوم وهو سيّدكم، إنّي أرى غرَّته غرَّة تسود النّاس ثمّ يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقّبله ويقول: ما رأيت قبلةً أطيب منه ولا أطهر قطُّ، ولا جسداً ألين منه ولا أطيب منه، ثمَّ يلتفت إلى أبي طالب وذلك أنَّ عبد الله وأبا طالب لام واحد،

____________

(١) هو يونس بن بكير الشيباني المعنون في التهذيب تحت رقم ٨٤٤ قال ابن معين صدوق.

(٢) في بعض النسخ « فيعظمان ذلك أعمامه ».

١٧١

فيقول: يا أبا طالب إنَّ لهذا الغلام لشأنا عظيماً فاحفظه واستمسك به فإنّه فرد وحيد وكن له كالاُمِّ، لا يصل إليه بشئ يكرهه، ثمّ يحمله على عنقه فيطوف به اسبوعاً، فكان عبد المطّلب قد علم أنَّه يكره اللّات والعزَّى فلا يدخله عليهما، فلمّا تمّت له ستَّ سنين ماتت اُمّه آمنة بالابواء بين مكّة والمدينة وكانت قدمت به على أخواله من بني عدي فبقي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتيماً لا أب له ولا اُمّ فأزداد عبد المطّلب له رقّة وحفظاً، وكانت هذه حاله حتّى أدركت عبد المطلب الوفاة فبعث إلى أبي طالب ومحمّد على صدره وهو في غمرات الموت وهو يبكي ويلتفت إلى أبي طالب ويقول: يا أبا طالب انظر أن تكون حافظاً لهذا الوحيد الّذي لم يشم رائحة أبيه ولا ذاق شفقة اُمّه، انظر يا أبا طالب أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك فإنّي قد تركت بنيَّ كلّهم واوصيتك به لانّك من اُمّ أبيه، يا أبا طالب إن أدركت أيامه فاعلم أنّّي كنت من أبصر النّاس واعلم النّاس به، فإنَّ استطعت أن تتبعه فافعل وانصره بلسانك ويدك ومالك فإنّه والله سيسودكم ويملك ما لم يملك أحدٌ من بني آبائي، يا أبا طالب ما أعلم أحداً من ابائك مات عنه أبوه على حال أبيه ولا امّه على حال امه فاحفظه لوحدته، هل قبلت وصيّتي فيه؟ فقال: نعم قد قبلت، والله عليَّ بذلك شهيد، فقال عبد المطّلب: فمدَّ يدك إليَّ، فمد يده إليه، فضرب يده على يده ثمّ قال عبد المطلب: الان خفّف عليّ الموت، ثمّ لم يزل يقبّله، ويقول: أشهد أنّي لم أقبّل أحداً من ولدي أطيب ريحاً منك ولا أحس وجهاً منك، ويتمنى أن يكون قد بقي حتّى يدرك زمانه، فمات عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين، فضمّه أبو طالب إلى نفسه لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار وكان ينام معه حتّى لا يأتمن عليه أحداً.

٢٩ - حدَّثنا أحمد بن محمّد بن الحسين البزَّاز قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب الاصمُّ قال: حدَّثنا أحمد بن عبد الجبّار العطاردي قال: حدَّثنا يونس بن بكير، عن محمّد ابن إسحاق بن يسار المدني(١) قال: حدّثنا العبّاس بن عبد الله بن سعيد، عن بعض

__________________

(١) هو محمّد بن اسحاق بن يسار أبو بكر المطلبي مولاهم المدني نزيل العراق، امام المغازي (التقريب)

١٧٢

أهله قال: كان يوضع لعبد المطّلب جدُّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فراشٌ في ظلِّ الكعبة فكان لا يجلس عليه أحدٌ من بنيه إجلالاً له، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتي حتّى يجلس عليه فيذهب أعمامه ليؤخّروه، فيقول جده عبد المطّلب: دعوا ابني، فيمسح على ظهره ويقول: إنَّ لابني هذا لشأناً.

فتوفّي عبد المطّلب والنبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن ثمان سنين بعد عام الفيل بثمان سنين.

٣٠ - حدّثنا عليُّ بن أحمدرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا أحمد بن يحيى قال: حدّثنا محمّد ابن إسماعيل قال: حدّثنا عبد الله بن محمّد قال: حدّثنا أبي، عن خالد بن الياس، عن أبي بكر ابن عبد الله بن أبي جهم قال: حدّثني أبي، عن جدِّي قال: سمعت أبا طالب يحدِّث عن عبد المطلّب قال: بينا أنا نائم في الحجر(١) إذ رأيت رؤيا هالتني فأتيت كاهنة قريش وعليَّ مطرف خزٍّ، وجمّتي(٢) تضرب منكبي فلمّا نظرت إليَّ عرفت في وجهي التغيّر فاستوت وأنا يومئذ سيّد قومي، فقالت: ما شأن سيّد العرب متغيّر اللّون هل رابه من حدثان الدَّهر ريب(٣) فقلت لها: بلي إنّي رأيت اللّيلة وأنا قائم في الحجر كأنَّ شجرة قد نبتت على ظهري قد نال رأسها السّماء وضربت أغصانها الشرق والغرب ورأيت نوراً يظهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفاً ورأيت العرب والعجم ساجدة لها وهي كلُّ يوم تزداد عظماً ونوراً، ورأيت رهطاً من قريش يريدون قطعها فإذا دنوا منها أخذهم شابٌّ من أحسن النّاس وجهاً وأنظفهم ثياباً فيأخذهم ويكسر ظهورهم، ويقلع أعينهم، فرفعت يدي لا تناول غصناً من أغصانها، فصاح بي الشابُّ وقال: مهلاً ليس لك منها نصيبٌ، فقلت: لمن النصيب والشجرة منّي؟ فقال النصيب لهؤلاء الّذين قد تعلّقوا بها وستعود(٤)

__________________

(١) يعني حجر اسماعيلعليه‌السلام .

(٢) المطرف - بضم الميم وكسرها وفتحها الثوب الّذي في طرفيه علمان. والجمة - بالضم والشد -: مجتمع شعر الرأس وما سقط على المنكبين منها وهي أكثر من الوفرة، ويقال للرجل الطويل الجمة: الجماني بالنون على غير قياس (الصحاح)

(٣) رابه أمر يريبه: رأى منه ما يكرهه ويزعجه، والريب نازلة الدهر.

(٤) في بعض النسخ « سيعود ».

١٧٣

إليها فانتبهت مذعوراً فزعاً متغيّر اللّون فرأيت لون الكاهنة قد تغيّر، ثمّ قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجنَّ من صلبك ولد يملك الشرق والغرب، ينبّأ في النّاس، فسرى عنّي غمّي(١) فانظر يا أبا طالب لعلك تكون أنت، فكان أبو طالب يحدِّث النّاس بهذا الحديث والنبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خرج ويقول: كانت الشجرة والله أبا القاسم الأمين، فقيل له: فلم لم تؤمن به؟ فقال: للسبّة والعار(٢) .

قال أبو جعفر محمّد بن عليٍّ مصنّف هذا الكتابرضي‌الله‌عنه : إنَّ أبا طالب كان مؤمناً ولكنّه يظهر الشرك ويستتر الايمان ليكون أشدَّ تمكّناً من نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣١ - حدّثنا محمّد بن الحسنرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا محمّد بن الحسن الصفّار، عن أيّوب بن نوح، عن العبّاس بن عامر، عن عليِّ بن أبي سارة، عن محمّد ابن مروان، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: إنَّ أبا طالب أظهر الكفر وأسرَّ الايمان فلمّا حضرته الوفاة أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخرج منها فليس لك بها ناصرٌ. فهاجر إلى المدينة.

٣٢ - حدّثنا أحمد بن محمّد الصائغ قال: حدّثنا محمّد بن أيّوب، عن صالح بن أسباط عن إسماعيل بن محمّد، وعليّ بن عبد الله، عن الرَّبيع بن محمّد المسلي، عن سعد بن طريف عن الاصبغ بن نباته قال: سمعت أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول: والله ما عبد أبي

__________________

(١) سرى الغم: ذهب وزال.

(٢) السبة: العار، وقال العلامة المجلسي (ره): يحتمل أن يكون المراد بالذين تعلقوا بها الّذين يريدون قلعها، ويكون قوله: « وستعود » بالتاء أي ستعود تلك الجماعة بعد منازعتهم ومحاربتهم إلى هذه الشجرة ويؤمنون بها فيكون لهم النصيب منها، أو بالياء فيكون المستتر راجعاً إلى الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والبارز في « منها » إلى الجماعة أي سيعود النبيّ إليهم بعد اخراجهم له إلى الشجرة أي سيرجع هذا الشاب إلى الشجرة في اليقظة كما تعلق بها في النوم، واحتمل احتمالين آخرين راجع البحار باب تاريخ ولادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يتعلّق بها.

١٧٤

ولا جدِّي عبد المطلّب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قطُّ، قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلّون إلى البيت على دين إبراهيمعليه‌السلام متمسّكين به.

٣٣ - حدّثنا عليُّ بن أحمدرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا أحمد بن يحيى قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل قال: حدّثنا عبد الله بن محمّد قال: حدّثنا أبي، عن سعيد بن مسلم، عن قمار مولى لبني مخزوم، عن سعيد بن أبي صالح، عن أبيه(١) ، عن ابن عبّاس قال: سمعت أبي العبّاس يحدّث قال: ولد لابي عبد المطلّب عبد الله فرأينا في وجهه نوراً يزهر كنور الشمس، فقال أبي: أنَّ لهذا الغلام شأناً عظيماً، قال: فرأيت في منامي أنَّه خرج من منخره طائر أبيض فطار فبلغ المشرق والمغرب ثمّ رجع راجعاً حتّى سقط على بيت الكعبة، فسجدت له قريش كلّها، فبينما النّاس يتأمّلونه إذا صار نوراً بين السّماء والارض وامتدَّ حتّى بلغ المشرق والمغرب، فلمّا انتبهت سألت كاهنة بني مخزوم فقالت لي: يا عباس لئن صدقت رؤياك ليخرجنَّ من صلبه ولد يصير أهل المشرق والمغرب تبعاً له، قال أبي: فهّمني أمر عبد الله إلى أن تزوَّج بآمنة وكانت من أجمل نساء قريش وأتّمها خَلقاً فلمّا مات عبد الله ولدت آمنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتيت فرأيت النور بين عينيه يزهر فحملته وتفرَّست في وجهه فوجدت منه ريح المسك، وصرت كأنّي قطعة مسك من شدَّة ريحي، فحدَّثتني آمنة وقالت لي: إنَّه لمّا أخذتي الطلق واشتدَّ بي الأمر سمعت جلبة(٢) وكلاماً لا يشبه كلام الادميّين، فرأيت علماً من سندس على قضيب من ياقوت قد ضرب بين السّماء والارض، ورأيت نوراً يسطع من رأسه حتّى بلغ السّماء، ورأيت قصور الشامات كلّها شعلة نور(٣) ، ورأيت حولي من القطاة أمراً عظيماً قد نشرت من أجنحتها حولي ورأيت تابع شعيرة الاسديّة قد مرَّت وهي تقول: آمنة ما لقيت الكهان والأصنام من ولدك، ورأيت رجلاً شابّاً من أتمّ النّاس طولاً وأشدهم بياضاً

__________________

(١) أبو صالح الّذي يروي عن ابن عباس اسمه ميزان بصري وثقه ابن معين لكن لم أظفر على سعيد في كتب الرجال وكذا راويه قمار أو قصارو السند كما تري عامى مجهول مقطوع.

(٢) الجلبة: اختلاط الاصوات.

(٣) في بعض النسخ « شعلة نار ».

١٧٥

وأحسنهم ثياباً ما ظننته إلّا عبد المطلّب قد دنامنّي فأخذ المولود فتفل في فيه ومعه طست من ذهب مضروب بالزُّمرّد ومشط من ذهب فشقَّ بطنه شقّاً ثمّ أخرج قلبه فشقه فأخرج منه نكتة سوداء فرمى به ثمّ أخرج صرَّة من حريرة خضراء ففتحها فإذا فيها كالذَّريرة البيضاء فحشاه، ثمّ ردَّه إلى ما كان، ومسح على بطنه واستنطقه فنطق فلم أفهم ما قال إلّا أنَّه قال: في أمان الله وحفظه وكلاءته، وقد حشوت قلبك إيماناً وعلماً وحلماً ويقيناً وعقلاً وحكماً فأنت خير البشر، طوبى لمن اتّبعك وويل لمن تخلّف عنك، ثمّ أخرج صرَّة اخرى من حريرة بيضاء ففتحها فإذا فيها خاتم فضرب به على كتفيه، ثمّ قال: أمرني ربّي أن أنفخ فيك من روح القدس، فنفخ فيه، وألبسه قميصاً وقال: هذا أمانك من آفات الدُّنيا، فهذا ما رأيت يا عبّاس بعينيّ، فقال العبّاس: وأنا يومئذ أقرء فكشفت عن ثوبه فإذا خاتم النبوَّة بين كتفيه، فلم أزل أكتم شأنه ونسيت الحديث فلم أذكره إلى يوم إسلامي حتّى ذكرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

١٣

( باب )

* (في خبر سيف بن ذى يزن) *

وكان سيف بن ذي يزن عارفاً بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد بشربه عبد المطلّب لمّا وفد عليه.

٣٤ - حدّثنا محمّد بن عليٍّ ماجيلويهرضي‌الله‌عنه قال: حدّثني عمّي محمّد ابن أبي القاسم، عن محمّد بن عليٍّ الكوفيّ، عن عليّ بن حكيم، عن عمرو بن بكّار العبسي، عن محمّد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس؛ وحدّثنا محمّد بن عليٍّ ابن محمّد بن حاتم البوفكيِّ قال: حدّثنا أبو منصور محمّد بن أحمد بن أزهر بهراة(٢) قال:

__________________

(١) في بعض النسخ هنا حديث كعب الأخبار وهو موجود في الامالي ولا حاجة إلى ذكره بعد ما لم يكن في أكثر النسخ -

(٢) هو الازهري اللغوي الشافعي المترجم في الوافي بالوفيات ج ٢ ص ٤٥ تحت رقم

١٧٦

حدَّثنا محمّد بن إسحاق البصريُّ قال: أخبرنا عليُّ بن حرب قال: حدّثني أحمد بن عثمان ابن حكيم قال: حدّثنا عمرو بن بكر(١) ، عن أحمد بن القاسم، عن محمّد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس قال: لمّا ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسنتين أتاه وفد العرب وأشرافها وشعراؤها بالتّهنئة وتمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثار قومه فأتاه وفدٌ من قريش ومعهم عبد المطلّب بن هاشم واُميّة بن عبد شمس وعبد الله بن جذعان وأسد بن خويلد بن عبد العزّى ووهب ابن عبد مناف في اُناس من وجوه قريش فقدموا عليه صنعاء فاستأذنوا فإذا هو في رأس قصر يقال له: غمدان، وهو الّذي يقول فيه اميّة بن أبي الصّلت:

اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً

في رأس غُمدان داراً منك محلالا

فدخل عليه الآذن فأخبره بمكانهم، فأذن لهم فلمّا دخلوا عليه دنا عبد المطلّب منه فاستأذنه في الكلام فقال له: إن كنت ممّن يتكلّم بين يدي الملوك فقد أذنّا لك، قال: فقال عبد المطلّب: إنَّ الله قد أحلّك أيّها الملك محلاً رفيعاً صعباً منيعاً شامخاً باذخاً وأنبتك منبتاً طابت أرومته، وعذبت جرثومته(٢) وثبت أصله وبسق فرعه(٣) في أكرم موطن وأطيب [ موضع وأحسن ] معدن، وأنت أبيت اللّعن(٤) ملك العرب وربيعها الّذي تُخصب به. وأنت أيّها الملك رأس العرب الّذي له تنقاد، وعمودها الّذي عليه العماد ومعقلها الّذي يلجأ إليه العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن

__________________

٣١٩، وأما راويه فلم أجده فيما عندي من كتب التراجم. وبوفك قرية من قرى نيسابور. وفي بعض النسخ « محمّد بن عليّ بن حاتم البرمكي » وفي بعضها « النوفلي » ثمّ اعلم أنَّ أكبر رجال السندين مجاهيل أو ضعفاء.

(١) متروك كما في تقريب التهذيب. وفي بعض النسخ « بكير » وهو تصحيف.

(٢) الباذخ: الشامخ. والارومة: الاصل. والجرثومة بمعناها.

(٣) الباسق: المرتفع، وبسق النخل: طال.

(٤) قال الجوهرى: قولهم في تحية الملوك في الجاهلية: « أبيت اللعن » قال ابن السكيت: أي أبيت أن تأتي من الامور ما تلعن عليه.

١٧٧

يخمل من أنت سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه، نحن أيّها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته أشخصنا إليك الّذي أبهجنا من كشف الكرب الّذي فدحنا(١) فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة(٢) .

قال: وأيّهم أنت أيّها المتكلّم؟ قال: أنا عبد المطلّب بن هاشم، قال: ابن اختنا؟ قال: نعم، قال: ادن، فدنا منه، ثمّ أقبل على القوم وعليه فقال: مرحباً وأهلاً، وناقة ورحلاً، ومستناخاً سهلاً، وملكاً وربحلاً(٣) ، قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل: وسيلتكم، فأنتم أهل اللّيل وأهل النّهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم(٤) قال: ثمّ انهضوا إلى دار الضيافة والوفود فأقاموا شهراً لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف، ثمّ انتبه لهم انتباهة(٥) فأرسل إلى عبدا المطلّب فأدنى مجلسه وأخلاه، ثمّ قال له: يا عبد المطلّب إنّي مفوض إليك(٦) من سرِّ علمي أمراً ما لو كان غيرك لم أبح له به ولكنّي رأيتك معدنه فاطلعك طلعة(٧) فليكن عندك مطويّاً حتّى يأذن الله فيه فإنَّ الله بالغ أمره، إنّي أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الّذي اخترناه لانفسنا واحتجنّا دون غيرنا خبراً عظيماً وخطراً جسيماً، فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة، للنّاس عامّة، ولرهطك كافة

__________________

(١) البهج: السرور. و « فدحنا » أي أثقلنا وبهظنا.

(٢) المرزئة: المصيبة العظيمة.

(٣) في أكثر النسخ وكنز الفوائد للكراجكي بدون الواو. لكن في البحار « وربحلا » وقال في بيانه في النهاية: الربحل - بكسر الراء وفتح الباء الموحدة -: الكثير العطاء. وفي بعض النسخ « ونجلا » والنجل: النسل.

(٤) قوله: و « أنتم أهل الليل والنهار » أي نصحبكم ونأنس بكم فيهما. والحباء العطاء. والظعن: الارتحال.

(٥) أي ذكرهم مفاجأة.

(٦) في بعض النسخ « إنّي مفض اليك » وهو الاصوب.

(٧) في بعض النسخ « فأطلعك عليه ».

١٧٨

ولك خاصّة، فقال عبد المطلّب: مثلك أيّها الملك من سرَّ وبرَّ، فما هو فداك أهل الوبر زمراً بعد زمر، فقال: إذا ولد بتهامة غلامٌ بين كتفيه شامة، كانت له الامامة ولكم به الدِّعامة(١) إلى يوم القيامة. فقال له عبد المطلّب: أبيت اللّعن لقد ابت بخبر ما آب بمثله وافد، ولو لا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته عن مسارِّه إيّاي ما ازداد(٢) به سروراً، فقال ابن ذي يزن: هذا حينه الّذي يولد فيه أو قد ولد فيه، اسمه محمّد، يموت أبوه واُمّه ويكلفه جدّه وعمّه، وقد ولد سراراً، والله باعثه جهاراً، وجاعل له منّا أنصاراً، ليعزَّبهم أولياؤه، ويذلَّ بهم أعداءه، يضرب بهم النّاس عن عرض(٣) ، ويستفتح بهم كرائم الأرض، يكسر الاوثان، ويخمد النيران، ويعبد الرَّحمن، ويدحر الشّيطان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.

فقال عبد المطلّب: أيّها الملك عزَّ جدُّك وعلا كعبك(٤) ، ودام ملكك، وطال عمرك فهل الملك ساريِّ بافصاح فقد أوضح لي بعض الايضاح، فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب والعلامات على النصب(٥) إنّك يا عبد المطلّب لجده غير كذب

__________________

(١) في بعض النسخ « الزعامة » أي الرئاسة. والدعامة: عماد البيت.

(٢) في البحار وبعض نسخ الكتاب « لسألته من أسراره ما أراد - الخ ».

(٣) العرض - بضم العين المهملة والضاد المعجمة بينهما راء مهملة - قال في القاموس: « يضربون النّاس عن عرض » أي يبالون من ضربوا.

(٤) قال الجزري في حديث قيلة « والله لا يزال كعبك عالياً » هو دعاء لها بالشرف والعلو، والاصل فيه كعب القناة، وكل شيء علا وارتفع فهو كعب. ومنه سميت الكعبة للبيت الحرام، وقيل: سميت لتكعيبها أي تربيعها. والمعنى: لا تزال كنت شريفاً مرتفعاً على من يعاديك. والجد: البخت والنصيب.

(٥) في بعض النسخ « على البيت » والنصب فسر بحجارة كانوا يذبحون عليها للاصنام ويمكن أن يكون المراد أنصاب الحرم.

١٧٩

قال: فخزَّ عبد المطلّب ساجداً فقال له: ارفع رأسك ثلج صدرك(١) وعلا أمرك، فهل أحسست شيئاً ممّا ذكرته؟ فقال: كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً فزوجته بكريمة من كرائم قومي اسمها آمنة بنت وهب فجاءت بغلام سمّيته محمداً، مات أبوه وامّه وكفلته أنا وعمّه، فقال ابن ذي يزن: أنَّ الّذي قلت لك كما قلت لك، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرَّهط الّذين معك، فإنّي لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون له الرئاسة، فيطلبون له الغوائل(٢) وينصبون له الحبائل، وهم فاعلون أو أبناؤهم، ولو لا علمي بأنَّ الموت مجتاحي(٣) قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتّى صرت بيثرب دار ملكه نصرة له، لكنّي أجد في الكتاب النّاطق والعلم السّابق أنَّ يثرب دار ملكه، وبها استحكام أمره وأهل نصرته وموضع قبره، ولو لا إنّي أخاف فيه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمره في هذا الوقت ولا وطئنَّ أسنان العرب عقبه(٤) ولكني صارف إليك عن غير تقصير منّي بمن معك.

قال: ثمَّ أمر لكلٍّ رجل من القوم بعشرة أعبد وعشر إماء وحلّتين من البرود، ومائة من الابل، وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال فضة وكرش مملوءة عنبراً. قال: وأمر لعبد المطلّب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: إذا حال الحول فائتني، فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول، قال: فكان عبد المطلّب كثيراً ما يقول: يا معشر قريش لا يغبطني

__________________

(١) في النهاية « ثلجت نفسي بالأمر » إذا اطمأنت إليه وسكنت وثبتت فيها ووثقت به. ومنه حديث ابن ذي يزن « وثلج صدرك ».

(٢) المراد بالنفاسة: الحسد، وفي الأصل بمعنى البخل والاستبداد بالشيء والرغبة فيه. والغوائل جمع الغائلة وهي الشر، والحبائل: المصائد.

(٣) الاجتياح: الاهلاك والاستيصال.

(٤) كذا وفى النهاية: في حديث ابن ذي يزن « لاوطئن أسنان العرب كعبه » يريد ذوي أسنانهم وهم الاكابر والاشراف. وقال العلامة المجلسي بعد ذكره: أي لرفعته على أشرافهم وجعلتهم موضع قدمه.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686