كمال الدين وتمام النعمة

كمال الدين وتمام النعمة8%

كمال الدين وتمام النعمة مؤلف:
المحقق: علي أكبر الغفاري
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 686

كمال الدين وتمام النعمة المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 686 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 143218 / تحميل: 8005
الحجم الحجم الحجم
كمال الدين وتمام النعمة

كمال الدين وتمام النعمة

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

كما قد وجدنا من ذلك في حجج الله المتقدِّمة من عصر وفاة آدمعليه‌السلام إلى حين زماننا هذا منهم المستخفون ومنهم المستعلنون، بذلك جاءت الاثار ونطق الكتاب.

فمن ذلك ما:

حدثنا به أبيرحمه‌الله قال: حدّثنا سعد بن عبد الله قال: حدّثنا أحمد بن - محمّد بن خالد البرقيُّ، عن أبيه، عن محمّد بن سنان، عن إسحاق بن جرير، عن عبد الحميد ابن أبى الدِّيلم قال: قال الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام : يا عبد الحميد إنَّ لله رسلاً مستعلنين ورسلا مستخفين فإذا سألته بحقِّ المستعلنين فسله بحق المستخفين.

وتصديق ذلك من الكتاب قوله تعالى: «ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً »(١) فكانت حجج الله تعالى كذلك من وقت وفاة آدمعليه‌السلام إلى وقت ظهور إبراهيمعليه‌السلام أوصياء مستعلنين ومستخفين، فلمّا كان وقت كون إبراهيمعليه‌السلام ستر الله شخصه وأخفى ولادته، لان الامكان في ظهور الحجّة كان متعذِّراً في زمانه، وكان إبراهيمعليه‌السلام في سلطان نمرود مستترا لامره وكان غير مظهر نفسه، ونمرود يقتل أولاد رعيّته وأهل مملكته في طلبه إلى أن دلّهم إبراهيمعليه‌السلام على نفسه، وأظهر لهم أمره بعد أن بلغت الغيبة أمدها ووجب إظهار ما أظهره للذي أراده الله في إثبات حجته وإكمال دينه، فلمّا كان وقت وفاة إبراهيمعليه‌السلام كان له أوصياء حججاً لله عزَّ وجلَّ في أرضه يتوارثون الوصيّة كذلك مستعلنين ومستخفين إلى وقت كون موسىعليه‌السلام فكان فرعون يقتل أولاد بنى إسرائيل في طلب موسىعليه‌السلام الّذي قد شاع من ذكره وخبر كونه، فستر الله ولادته، ثمّ قذفت به أمّه في اليمِّ كما أخبر الله عزَّ وجلَّ في كتابه «فالتقطه آل فرعون »(٢) وكان موسىعليه‌السلام في حجر فرعون يربيه وهو لا يعرفه، وفرعون يقتل أولاد بني إسرائيل في طلبه، ثمّ كان من أمره بعد أنَّ أظهر دعوته ودلّهم على نفسه ما قد قصه الله عزَّ وجلَّ في كتابه، فلمّا كان وقت

__________________

(١) النساء: ١٦٤.

(٢) القصص: ٧.

٢١

وفاة موسىعليه‌السلام كان له أوصياء حججاً لله كذلك مستعلنين ومستخفين إلى وقت ظهور عيسىعليه‌السلام .

فظهر عيسىعليه‌السلام في ولادته، معلناً لدلائله، مظهراً لشخصه، شاهراً لبراهينه، غير مخف لنفسه لان زمانه كان زمان إمكان ظهور الحجّة كذلك.

ثمَّ كان له من بعده أوصياء حججاً لله عزَّ وجلَّ كذلك مستعلنين ومستخفين إلى وقت ظهور نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال الله عزَّ وجلَّ له في الكتاب: «ما يقال لك إلّا ما قد قيل للرسل من قبلك »(١) ثمّ قال عزَّ وجلَّ: «سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا »(٢) فكان ممّا قيل له ولزم من سنّته على إيجاب سنن من تقدمه من الرُّسل إقامة الاوصياء له كاقامة من تقدّمه لاوصيائهم، فأقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصياء كذلك وأخبر بكون المهديِّ خاتم الأئمّةعليهم‌السلام ، وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، نقلت الاُمّة ذلك بأجمعها عنه، وأنَّ عيسىعليه‌السلام ينزل في وقت ظهوره فيصلي خلفه، فحفظت ولادات الأوصياء ومقاماتهم في مقام بعد مقام إلى وقت ولادة صاحب زمانناعليه‌السلام المنتظر للقسط والعدل، كما أوجبت الحكمة باستقامة التدبير غيبة من ذكرنا من الحجج المتقدمة بالوجود.

وذلك أنَّ المعروف المتسالم بين الخاصِّ والعامِّ من أهل هذه الملّة أنَّ الحسن ابن علىٍّ والد صاحب زمانناعليهما‌السلام قد كان وكلّ به طاغية زمانه إلى وقت وفاته، فلمّا توفّيعليه‌السلام وكل بحاشيته وأهله وحبست جواريه وطلب مولوده هذا أشدَّ الطلب وكان أحد المتوليّين عليه عمّه جعفر أخو(٣) الحسن بن عليٍّ بما ادّعاده لنفسه من الامامة ورجا أن يتمّ له ذلك بوجود ابن أخيه صاحب الزَّمانعليه‌السلام فجرت السنة في غيبته بما جرى من سنن غيبة من ذكرنا من الحجج المتقدِّمة، ولزم من حكمة غيبةعليه‌السلام ما لزم من حكمة غيبتهم.

__________________

(١) فصلت: ٤٣.

(٢) الاسراء: ٧٧.

(٣) كذا.

٢٢

رد اشكال:

وكان من معارضة خصومنا أن قالوا: ولم أوجبتم في الائمّة ما كان واجباً في الانبياء، فما أنكرتم أنَّ ذلك كان جائزاً في الانبياء وغير جائز في الائمّة فإنَّ الائمّة ليسوا كالانبياء فغير جائز أن يشبه حال الائمّة بحال الانبياء فأوجدونا دليلا مقنعا على أنَّه جائز في الائمّة ما كان جائزاً في الانبياء والرسل فيما شبهتم من حال الائمّة الّذين ليسوا بأشباه الانبياء والرُّسل، وإنما يقاس الشكل بالشكل والمثل بالمثل، فلن تثبت دعواكم في ذلك، ولن يستقيم لكم قياسكم في تشبيهكم حال الائمّة بحال الانبياءعليهم‌السلام إلّا بدليل مقنع.

فأقول - وبالله أهتدي -: أنَّ خصومنا قد جهلوا فيما عارضونا به من ذلك ولو أنّهم كانوا من أهل التمييز والنظر والتفكّر والتدبر باطراح العناد وإزالة العصبيّة لرؤسائهم ومن تقدّم من إسلافهم لعلموا أنَّ كلَّ ما كان جائزاًً في الأنبياء فهو واجبٌ لازم في الائمّة حذو النّعل بالنّعل والقذَّة بالقذة وذلك أنَّ الأنبياء هم أصول الائمّة ومغيضهم(١) والائمّة هم خلفاء الأنبياء وأوصياؤهم والقائمون بحجة الله تعالى على من يكون بعدهم كيلا تبطل حجج الله وحدود (ه و) شرايعه مادام التكليف على العباد قائماً والامر لهم لازماً، ولو وجبت المعارضة لجاز لقائل أن يقول: أنَّ الأنبياء هم حجج الله فغير جائز أن يكون الائمّة حجج الله إذ ليسوا بالانبياء ولا كالانبياء، وله أن يقول أيضا: فغير جائز أن يسمّوا أئمّة لأنّ الأنبياء كانوا أئمّة وهؤلاء ليسوا بأنبياء فيكونوا أئمّة كالانبياء، وغير جائز أيضاً أن يقوموا بما كان يقوم به الرسل من الجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك من أبواب الشّريعة إذ ليسوا كالرّسول ولا هم برسل. ثمّ يأتي بمثل هذا من المحال ممّا يكثر تعداده ويطول الكتاب بذكره، فلمّا فسد هذا كله كانت هذه المعارضة من خصومنا فاسدة كفساده.

__________________

(١) المغيض: مجتمع الماء ومدخله في الأرض والمراد بالفارسية (انبياء نسخه أصل وسر چشمهء امامانند). وفى بعض النسخ « ومفيضهم » من الافاضة.

٢٣

ثمَّ نحن نبيّن الان ونوضح بعد هذا كلّه أنَّ التشاكل بين الأنبياء والائمّة بيّنٌ واضٌ فيلزمهم أنّهم حجج الله على الخلق كما كانت الأنبياء حججه على العباد، وفرض طاعتهم لازم كلزوم فرض طاعة الأنبياء، وذلك قول الله عزَّ وجلَّ: «أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسول وأولي الأمر منكم »(١) وقوله تعالى: «ولو ردُّوه إلى الرَّسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم »(٢) فولاة الامرهم الاوصياء والائمّة بعد الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قرن الله طاعتهم بطاعة الرَّسول وأوجب على العباد من فرضهم ما أوجبه من فرض الرَّسول كما أوجب على العباد من طاعة الرَّسول ما أوجبه عليهم من طاعته عزَّ وجلَّ في قوله: «أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسول » ثمّ قال: «من يطع الرَّسول فقد أطاع الله (٣) » وإذا كانت الائمّةعليهم‌السلام حجج الله على من لم يلحق بالرَّسول ولم يشاهده وعلى من خلفه من بعده كما كان الرَّسول حجّة على من لم يشاهده في عصره لزم من طاعة الائمّة ما لزم من طاعة الرَّسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد تشاكلوا واستقام القياس فيهم وإن كان الرَّسول أفضل من الائمّة فقد تشاكلوا في الحجّة والاسم والفعل(٤) والفرض، إذ كان الله جل ثناؤه قد سمّى الرُّسل أئمّة بقوله لابراهيم: «إنّي جاعلك للنّاس إماماً »(٥) وقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أنَّه قد فضّل الأنبياء والرُّسل بعضهم على بعض فقال تبارك وتعالى: «تلك الرُّسل فضلّنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله - الآية »(٦) وقال: «ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض - الآية »(٧) فتشاكل الأنبياء في النبوَّة وإن كان بعضهم أفضل من بعض، وكذلك تشاكل الأنبياء والاوصياء، فمن قاس حال الائمّة بحال الأنبياء واستشهد بفعل الأنبياء على فعل الائمّة فقد أصاب في قياسه واستقام له استشهاده بالّذي وصفناه من تشاكل الأنبياء والاوصياءعليهم‌السلام .

__________________

(١) النساء: ٥٩.

(٢) النساء: ٨٣.

(٣) النساء: ٨٠.

(٤) في بعض النسخ « والعقل ».

(٥) البقرة: ١١٩.

(٦) البقره: ٢٥٤.

(٧) الاسراء: ٥٦.

٢٤

وجه آخر لاثبات المشاكلة:

ووجه آخر من الدّليل على حقيقة ما شرحنا من تشاكل الائمّة والأنبياءعليهم‌السلام أنَّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة »(١) وقال تعالى: «ما آتيكم الرَّسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا »(٢) فأمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نهتدي بهدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونجري الاُمور (الجارية) على حدِّ ما أجراها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول أو فعل، فكان من قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحقّق لما ذكرنا من تشاكل الأنبياء والائمّة أن قال: « منزلة عليٍّ عليه‌السلام منّي كمنزلة هارون من موسى إلّا أنَّه لانبي بعدي » فأعلمنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّ عليا ليس بنبي وقد شبهه بهارون وكان هارون نبيّاً ورسولاً ( و ) كذلك شبّهه بجماعة من الأنبياءعليهم‌السلام .

حدثنا محمّد بن موسى بن المتوكّلرحمه‌الله قال: حدّثنا علىٌ بن الحسين السّعد آباديُّ قال: حدّثنا أحمد بن أبي عبد الله البرقيُّ، عن أبيه محمّد بن خالد قال: حدّثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة الشّيبانيُّ، عن أبيه، عن جدِّه(٣) عن عبد الله ابن عباس قال: كنّا جلوساً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في سِلمه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في فطانته وإلى داود في زهده، فلينظر إلى هذا. قال: فنظرنا فإذا علىُّ بن أبي طالب قد أقبل كأنما ينحدر

__________________

(١) الاحزاب: ٢١.

(٢) الحشر: ٧.

(٣) هارون بن عنترة بن عبد الرحمن الشيباني عامى ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به، مستقيم الحديث. وابنه عبد الملك عنونه النجاشي وقال: كوفي ثقة عين روى عن أصحابنا ورووا عنه، ولم يكن متحققاً بأمرنا، له كتاب يرويه محمّد بن خالد. وأما أبوه عنترة بن عبد الرحمن فعنونه العسقلاني في النقريب والتهذيب وقال: ذكره ابن حبان في الثقات وذكر ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: أنَّه كوفي ثقة.

٢٥

من صبب(١) ، فإذا استقام أن يشبّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحداً من الائمّة علهيم السلام بالأنبياء والرُّسل استقام لنا أن نشبّه جميع الائمّة بجميع الأنبياء والرُّسل، وهذا دليل مقنعٌ وقد ثبت شكل صاحب زمانناعليه‌السلام في غيبته بغيبة موسىعليه‌السلام وغيره ممّن وقعت بهم الغيبة، وذلك أنَّ غيبة صاحب زماننا وقعت من جهة الطواغيت لعلّة التدبير من الّذي قدَّمنا ذكره في الفصل الأوَّل.

ومما يفسد معارضة خصومنا في نفي تشاكل الأئمّة والأنبياء أنَّ الرُّسل الّذين تقدَّموا قبل عصر نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أوصياؤهم أنبياء، فكلُّ وصيٍّ قام بوصيّة حجّة تقدّمه من وقت وفاة آدمعليه‌السلام إلى عصر نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان نبيّاً، وذلك مثل وصي آدم كان شببث ابنه، وهو هبة الله في علم آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان نبيّاً، ومثل وصي نوحعليه‌السلام كان سام ابنه وكان نبيّاً، ومثل إبراهيمعليه‌السلام كان وصيه إسماعيل(٢) ابنه وكان نبيّاً، ومثل موسىعليه‌السلام كان وصيّه يوشع بن نون وكان نبيّاً، ومثل عيسىعليه‌السلام كان وصيّه شمعون الصفا وكان نبيّاً، ومثل داودعليه‌السلام كان وصيه سليمانعليه‌السلام ابنه وكان نبيّاً. وأوصياء نبيّناعليهم‌السلام لم يكونوا أنبياء، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ جعل محمّداً خاتماً لهذه الامم(٣) كرامة له وتفضيلاً، فقد تشاكلت الائمّة والأنبياء بالوصية كما تشاكلوا فيما قدّمنا ذكره من تشاكلهم فالنبيُّ وصيٌّ والامام وصيٌّ، والوصيُّ إمام والنبي إمام، والنبيُّ حجّة والامام حجّة(٤) ، فليس في الاشكال أشبه من تشاكل الائمّة والانبياء.

و كذلك أخبرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتشاكل أفعال الاوصياء فيمن تقدّم وتأخّر من قصّة يوشع بن نون وصيِّ موسىعليه‌السلام مع صفراء بنت شعيب زوجة موسى وقصّة

____________

(١) أي يرفع رجليه رفعاً بيناً بقوة دون احتشام وتبختر. والصبب: ما انحدر من الأرض أو الطريق.

(٢) في بعض النسخ « اسحاق ».

(٣) في بعض النسخ « لهذا الاسم » أي النبوة.

(٤) في بعض النسخ « والوصي حجّة ».

٢٦

أمير المؤمنينعليه‌السلام وصىّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عائشة بنت أبى بكر، وإيجاب غسل الأنبياء أوصيائهم بعد وفاتهم.

حدثنا عليُّ بن أحمد الدَّقاقرحمه‌الله قال: حدّثنا حمزة بن القاسم قال: حدّثنا أبو الحسن علي بن الجنيد الرازيُّ قال: حدّثنا أبو عوانة قال: حدّثنا الحسن ابن عليٍّ(١) ، عن عبد الرّزاق، عن أبيه، عن مينا مولى عبد الرّحمن بن عوف، عن عبد الله بن مسعود قال: قلت للنبىّعليه‌السلام : يا رسول الله من يغسّلك إذا متَّ؟ قال: يغسّل كلّ نبيٍّ وصيّه، قلت: فمن وصيك يارسول الله؟ قال: عليُّ بن أبي طالب قلت: كم يعيش بعدك يا رسول الله؟ قال: ثلاثين سنة، فإنَّ يوشع بن نون وصيُّ موسى عاش بعد موسى ثلاثين سنة، وخرجت عليه صفراء بنت شعيب زوجة موسىعليه‌السلام فقالت: أنا أحقُّ منك بالامر فقاتلها فقتل مقاتليها وأسرها فأحسن أسرها، وأن ابنة أبي بكر ستخرج على عليِّ في كذا وكذا ألفاً من امّتي فتقاتلها فيقتل مقاتليها ويأسرها فيحسن أسرها، وفيها أنزل الله عزَّ وجلَّ: «وقرن في بيوتكنَّ ولا تبرجنَّ تبرُّج الجاهليّة الاولى »(٢) يعنى صفراء بنت شعيب، فهذا الشكل قد ثبت بين الائمّة والأنبياء بالاسم والصفة والنعت والفعل، وكلُّ ما كان جائزاً في الأنبياء فهو جائز يجري في الائمّة حذو النّعل بالنّعل والقذَّة بالقذَّة، ولو جاز أن تجحد إمامة صاحب زماننا هذا لغيبته بعد وجود من تقدّمه من الائمّةعليهم‌السلام لوجب أن تدفع نبوَّة موسى بن عمرانعليه‌السلام لغيبته إذ لم يكن كلًّ الأنبياء كذلك، فلمّا لم تسقط نبوة موسى لغيبتة وصحت

__________________

(١) هو الحسن بن علي الخلال أبو علي - وقيل أبو محمّد - الحلواني نزيل مكة ثقة ثبت يروى عن عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم أبي بكر الصنعانى، قال أحمد ابن صالح المصرى: قلت لاحمد بن حنبل: رأيت أحدا أحسن حديثاً من عبد الرزاق؟ قال: لا. ويرموه القوم بالتشيع. يروى عن أبيه همام وهو ثقة يروى عن مينا بن أبى مينا الزهري الخزاز مولى عبد الرحمن بن عوف وهو شيعي جرحه العامة لتشيعه. وما في النسخ من الحسين بن علي بن عبد الرزاق، فهو تصحيف.

(٢) الاحزاب: ٣٢.

٢٧

نبوَّته مع الغيبة كما صحّت نبوَّة الأنبياء الّذين لم تقع بهم الغيبة فكذلك صحّت إمامة صاحب زماننا هذا مع غيبته كما صحت إمامة من تقدّمه من الائمّة الّذين لم تقع بهم الغيبة.

وكما جاز أن يكون موسىعليه‌السلام في حجر فرعون يُربيّه وهو لا يعرفه ويقتل أولاد بني إسرائيل في طلبه فكذلك جائز أن يكون صاحب زماننا موجوداً بشخصه بين النّاس، يدخل مجالسهم ويطأ بسطهم ويمشي في أسواقهم، وهم لا يعرفونه إلى أن يبلغ الكتاب أجله.

فقد روي عن الصّادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام أنَّه قال: في القائم سنّة من موسى، وسنّة من يوسف، وسنّة من عيسى، وسنّة من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأمّا سنة موسى فخائف يترقب، وأما سنة يوسف فإنَّ إخوته كانوا يبايعونه ويخاطبونه ولا يعرفونه، وأما سنة عيسى فالسياحة، وأما سنة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالسيف.

رد اشكال:

فكان من الزِّيادة لخصومنا أن قالوا: ما أنكرتم إذ قد ثبت لكم ما ادَّعيتم من الغيبة كغيبة موسىعليه‌السلام ومن حلّ محله من الائمّة(١) الّذين وقعت بهم الغيبة أن تكون حجّة موسى لم تلزم أحداً إلّا من بعد أنَّ أظهر دعوته ودلَّ على نفسه وكذلك لا تلزم حجّة إمامكم هذا لخفاء مكانه وشخصه حتّى يظهر دعوته ويدل على نفسه [ كذلك ] فحينئذ تلزم حجّته وتجب طاعته، وما بقي في الغيبة فلا تلزم حجّته، ولا تجب طاعته.

فأقول - وبالله أستعين -: إنَّ خصومنا غفلوا عما يلزم من حجّة حجج الله في ظهورهم واستتارهم وقد ألزمهم الله تعالى الحجّة البالغة في كتابه ولم يتركهم سدى في جهلهم وتخبّطهم ولكنّهم كما قال الله عزَّ وجلَّ: «أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها »(٢) أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أخبرنا في قصّة موسىعليه‌السلام أنَّه كان له شيعة

__________________

(١) في بعض النسخ « من الأنبياء ».

(٢) سوره محمّد (ص): ٢٤.

٢٨

وهم بأمره عارفون وبولايته متمسّكون ولدعوته منتظرون قبل إظهار دعوته، ومن قبل دلالته على نفسه حيث يقول: «ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوِّه فاستغاثه الّذي من شيعته على الّذي من عدوِّه »(١) وقال عزَّ وجلَّ حكاية عن شيعة: «قالوا اُوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا - الآية »(٢) فأعلمنا الله عزَّ وجلَّ في كتابه أنَّه قد كان لموسىعليه‌السلام شيعة من قبل أن يظهر من نفسه نبوّة، وقبل أن يظهر له دعوة يعرفونه ويعرفهم بموالاة موسى صاحب الدَّعوة ولم يكونوا يعرفون أنَّ ذلك الشخص هو موسى بعينه، وذلك أنَّ نبوّة موسى إنّما ظهرت من بعد رجوعه من عند شعيب حين سار بأهله من بعد السنين التي رعى فيها لشعيب حتّى استوجب بها أهله فكان دخوله المدينة حين وجد فيها الرَّجلين قبل مسيره إلى شعيب، وكذلك وجدنا مثل نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عرف أقوامٌ أمره قبل ولادته وبعد ولادته، وعرفوا مكان خروجه ودار هجرته من قبل أن يظهر من نفسه نبوّة، ومن قبل ظهور دعوته وذلك مثل سلمان الفارسيِّرحمه‌الله ، ومثل قُسّ بن ساعدة الاياديِّ، ومثل تبّع الملك، ومثل عبد المطّلب، وأبي طالب، ومثل سيف بن ذي - يزن، ومثل بحيرى الرّاهب، ومثل كبير الرهبان في طريق الشام، ومثل أبي مويهب الراهب، ومثل سطيح الكاهن، ومثل يوسف اليهوديِّ، ومثل ابن حوّاش الحبر المقبل من الشام، ومثل زيد بن عمرو بن نفيل، ومثل هؤلاء كثير ممّن قد عرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصفته ونعته واسمه ونسبه قبل مولده وبعد مولده، والاخبار في ذلك موجودة عند الخاصّ والعامّ، وقد أخرجتها مسندة في هذا الكتاب في مواضعها، فليس من حجّة الله عزَّ وجلَّ نبي ولا وصي إلّا وقد حفظ المؤمنون وقت كونه وولادته وعرفوا أبويه ونسبه في كل عصر وزمان حتّى لم يشتبه عليهم شيء من أمر حجج الله عزَّ وجلَّ في ظهورهم وحين استتارهم، وأغفل ذلك أهل الجحود والضّلال والكنود فلم يكن عندهم [ علم ] شيء من أمرهم، وكذلك سبيل صاحب زمانناعليه‌السلام حفظ أولياؤه المؤمنون من أهل

__________________

(١) القصص: ١٥.

(٢) الاعراف: ١٢٩.

٢٩

المعرفة والعلم وقته وزمانه وعرفوا علاماته وشواهد أيّامه(١) وكونه ووقت ولادته ونسبه، فهم على يقين من أمره في حين غيبته ومشهده، وأغفل ذلك أهل الجحود والانكار والعنود، وفي صاحب زمانناعليه‌السلام قال الله عزَّ وجلَّ: «يوم يأتي بعض آيات ربّك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل »(٢) وسئل الصادقعليه‌السلام عن هذه الآية فقال: الايات هم الائمّة، والآية المنتظرة هو القائم المهديُّعليه‌السلام فإذا قام لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل قيامه بالسّيف وإن آمنت بمن تقدَّم من آبائهعليهم‌السلام ». حدّثنا بذلك أحمد بن زياد بن جعفر الهمدانيُّرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير؛ والحسن بن محبوب، عن علي ابن رئاب وغيره، عن الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام .

وتصديق ذلك (أنَّ الايات هم الحجج) من كتاب الله عزَّ وجلَّ قول الله تعالى: «وجعلنا ابن مريم وأمّه آية »(٣) يعني حجّة، وقوله عزَّ وجلَّ لعزير(٤) حين أحياه الله من بعد أنَّ أماته مائة سنة «فانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للنّاس »(٥) يعني حجّة فجعله عزَّ وجلَّ حجّة على الخلق وسمّاه آية. وإنّ النّاس لمّا صحَّ لهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الغيبة الواقعة بحجّة الله تعالى ذكره على خلقه وضع كثير منهم الغيبة غير موضعها أوّلهم عمر بن الخطّاب فانه قال لما قبض النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله ما مات محمّد وإنّما غاب كغيبة موسىعليه‌السلام عن قومه وإنّه سيظهر لكم بعد غيبته.

حدثنا أحمد بن محمّد بن الصقر الصائغ العدل قال: حدّثنا أبو جعفر محمّد بن العباس ابن بسّام قال: حدّثنا أبو جعفر محمّد بن يزداد قال: حدّثنا نصر بن سيار بن داود

__________________

(١) في بعض النسخ « وشواهد آياته ».

(٢) الانعام: ١٥٨.

(٣) المؤمنون: ٥٠.

(٤) في بعض النسخ « لارميا ».

(٥) البقرة: ٢٥٩.

٣٠

الاشعريُّ قال: حدّثنا محمّد بن عبد ربّه(١) ، وعبد الله بن خالد السلّولي أنّهما قالا: حدّثنا أبو معشر نجيح المدنيُّ قال: حدّثنا محمّد بن قيس، ومحمد بن كعب القرظيِّ، وعمارة بن غزّية، وسعيد بن أبي سعيد المقبري(٢) ، وعبد الله بن أبي مليكة وغيرهم من مشيخة أهل المدينة قالوا: لما قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقبل عمر بن الخطاب يقول: والله مامات محمّد وإنّما غاب كغيبة موسى عن قومه وإنّه سيظهر بعد غيبته فما زال يردّد هذا القول ويكرّره حتّى ظنّ النّاس أنَّ عقله قد ذهب، فأتاه أبو بكر وقد اجتمع النّاس عليه يتعجّبون من قوله فقال: اربع على نفسك يا عمر(٣) من يمينك الّتى تحلف بها، فقد أخبرنا الله عزَّ وجلَّ في كتابه فقال: يا محمّد «إنّك ميّت وإنّهم ميّتون (٤) » فقال عمر: وإنّ هذه الآية لفي كتاب الله يا أبا بكر؟ فقال: نعم أشهد بالله لقد ذاق محمّد

__________________

(١) محمّد بن يزداد الرازي قال أبو النضر العياشي: لا بأس به. ونصر بن سيار لم أجد من ذكره وليس هو بنصر بن سيار والى خراسان من قبل هشام بن عبد الملك، ومحمّد بن عبد ربّه الانصاري اجاز التلعكبرى جميع حديثه وكان يروى عن سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر الحميرى ونظرائهما كما في منهج المقال. وأما عبد الله بن خالد فلم أعرفه.

(٢) أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي - بكسر المهملة وسكون النون - المدني مولى بني هاشم مشهور بكنيته وليس بقوى في الحديث، ومحمّد بن قيس شيخه ضعيف كما في التقريب. وأما محمّد بن كعب القرظي فثقة عالم ولد سنة أربعين على الصحيح ومات سنة ١٢٠ وقيل قبل ذلك. وأما عمارة بن غزية المدني فوثقه أحمد وأبو زرعة وقال يحيى بن معين: صالح وقال أبو حاتم: ما بحديثه بأس، وكان صدوقاً. وأما سعيد بن أبي سعيد فاسمه كيسان المقبري أبو سعد المدنى، والمقبري نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان مجاوراً لها فهو ثقة صدوق كما في التهذيب. واما عبد الله بن أبي مليكة فهو عبد الله بن عبيد الله وأبو ملكية بالتصغير ثقة فقيه.

(٣) أي ارفق بنفسك وكف عن هذا القول واليمين.

(٤) الزمر: ٣٠.

٣١

الموت، ولم يكن عمر جمع القرآن(١) .

الكيسانية:

ثم غلطت الكيسانيّة بعد ذلك حتّى ادَّعت هذه الغيبة لمحمّد بن الحنفية - قدَّس الله روحه - حتّى أنَّ السيّد بن محمّد الحميريَّرضي‌الله‌عنه (٢) اعتقد ذلك وقال فيه:

ألا إنَّ الائمّة من قريش

ولاة الامر أربعة سواء

عليٌّ والثلاثة من بنيه

هُمُ أسباطنا والأوصياء(٣)

فسبطٌ سبط إيمان وبرٍّ

وسبطٌ قد حوته كربلاء(٤)

وسبط لا يذوق الموت حتّى

يقود الجيش يقدمه اللّواء(٥)

يغيب فلا يرى عنّا زماناً(٦)

برضوى عنده عسلٌ وماء

 وقال فيه السيّد - رحمة الله عليه - أيضا:

أيا شعب رضوى ما لمن بك لا يرى

فحتّى متى يخفى وأنت قريب

فلو غاب عنّا عمر نوح لا يقنت

منّا النّفوس بأنّه سيؤوب(٧)

__________________

(١) أي لم يقرء أو يحفظ جميع القرآن.

(٢) هو اسماعيل بن محمّد الحميري، سيد الشعراء. كان يقول أولا بامامة محمّد بن الحنفية ثمّ رجع إلى الحق، وأمره في الجلالة والمجد ظاهر لمن تتبع كتب التراجم. قيل: توفى ببغداد سنة ١٧٩ فبعثت الاكابر والشرفاء من الشيعة سبعين كفناً له، فكنفه الرشيد من ماله ورد الاكفان إلى أهلها.

(٣) في « الفرق بين الفرق » لعبد القاهر بن طاهر البغدادي الاسفراييني « هم الاسباط ليس بهم خفاء » وكذا في الملل والنحل للشهرستاني.

(٤) في الفرق « وسبط غيبته كربلاء ». وكذا في اعلام الورى المنقول من كمال الدين.

(٥) في الفرق والملل « يقود الخيل يقدمها اللواء ».

(٦) في الفرق « تغيب لا يرى فيهم زماناً ».

(٧) هذا المصراع في بعض النسخ هكذا « نفوس البرايا أنَّه سيؤوب ».

٣٢

وقال فيه السيّد أيضاً:

ألاحيّ المقيم بشعب رضوى

واهد له بمنزله السّلاما

وقل: يا ابن الوصيِّ فدتك نفسي

أطلت بذلك الجَبَل المقاما

فمرَّ بمعشر والوك منا

وسمّوك الخليفة والاماما

فما ذاق ابن خولة طعم موت

ولاوارت له أرض عظاما

فلم يزل السيّد ضالّاً في أمر الغيبة يعتقدها في محمّد بن الحنفيّة حتّى لقى الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام ورأى منه علامات الامامة وشاهد فيه دلالات الوصية، فسأله عن الغيبة، فذكر له أنّها حقٌّ ولكنّها تقع في الثاني عشر من الائمّةعليهم‌السلام وأخبره بموت محمّد بن الحنفيّة وأن أباه شاهد دفنه، فرجع السيّد عن مقالته واستغفر من اعتقاده ورجع إلى الحق عند اتّضاحه له، ودان بالامامة.

حدثنا عبد الواحد بن محمّد العطّار النيسابوريُّرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا علي بن محمّد قتيبة النيسابوري، عن حمدان بن سليمان، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن حيان السراج قال: سمعت السيّد بن محمّد الحميري يقول: كنت أقول بالغلو وأعتقد غيبة محمّد بن علي - ابن الحنفيّة - قد ضللت في ذلك زماناً، فمن الله علي بالصادق جعفر بن - محمّدعليهما‌السلام وأنقذني به من النّار، وهداني إلى سواء الصراط، فسألته بعد ما صحَّ عندي بالدّلائل التي شاهدتها منه أنَّه حجّة الله علي وعلى جميع أهل زمانه وإنّه الامام الّذي فرض الله طاعته وأوجب الاقتداء به، فقلت له،: يا ابن رسول الله قد روي لنا أخبار عن آبائكعليهم‌السلام في الغيبة وصحّة كونها فأخبرني بمن تقع؟ فقالعليه‌السلام : إنَّ الغيبة ستقع بالسادس من ولدي وهو الثاني عشر من الائمّة الهداة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوَّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وآخرهم القائم بالحقِّ بقية الله في الأرض وصاحب الزَّمان، والله لو بقى في غيبته ما بقى نوح في قومه(١) لم يخرج من الدُّنيا حتّى يظهر فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جوراً وظلماً. قال السيّد: فلمّا

__________________

(١) في بعض النسخ « في الأرض ».

٣٣

سمعت ذلك من مولاي الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام تبت إلى الله تعالى ذكره على يديه، وقلت قصيدتي التي أولها:

فلمّا رأيت النّاس في الدِّين قد غووا

تجعفرت باسم الله فيمن تجعفروا(١)

وناديت باسم الله والله اكبر

وأيقنت أن يعفو ويغفر

ودنت بدين الله ماكنت ديّناً(٢)

به ونهاني سيّد النّاس جعفر

فقلت: فهبني قد تهودت برهة

وإلا فديني دين من يتنصر

وإني إلى الرحمن من ذاك تائب

إني قد أسلمت والله أكبر

فلست بغال ما حييت وراجع

إلى ما عليه كنت اُخفي واظهر

ولا قائل حيّ برضوى محمّد

وإن عاب جهّال مقالي وأكثروا

ولكنّه ممن مضى لسبيله

على أفضل الحالات يقفي ويخبر

مع الطيبين الطاهرين الاُولى لهم

من المصطفى فرعٌ زكيٌ وعنصر

إلى آخر القصيدة، (وهي طويلة) وقلت بعد ذلك قصيدة اخرى:

أيا راكباً نحو المدينة جسرة

عذافرة يطوى بها كلّ سبسب(٣)

إذا ما هداك الله عاينت جعفراً

فقل لوليِّ الله وابن المهذَّب

ألا يا أمين الله وابن أمينه

أتوب إلى الرَّحمن ثمّ تأوَّبي

إليك من الامر الّذي كنت مطنباً(٤)

أحارب فيه جاهداً كلَّ معرب

وما كان قولي في ابن خولة مطنباً

معاندة منّي لنسل المطيب

ولكن روينا عن وصيِّ محمّد

وما كان فيما قال بالمتكذّب

بأنَّ وليَّ الامر يفقد لا يرى

ستيراً(٥) كفعل الخائف المترقّب

__________________

(١) في بعض النسخ « باسم الله والله اكبر ».

(٢) في بعض النسخ « ودنت بدين غير ما كنت دينا ».

(٣) الجسرة: البعير الذى أعيا وغلظ من السير. والعذافرة: العظمة الشديدة من الابل، والناقة الصلبة القوية. والسبب: المفازة، أو الأرض المستوية البعيدة.

(٤) في بعض النسخ « كنت مبطنا ».

(٥) في بعض النسخ « سنين ». وفى بعضها « كمثل الخائف ».

٣٤

فتقسم أموال الفقيد كأنّما

تغيّبه بين الصفيح المنصّب(١)

فيمكث حينا ثمّ ينبع نبعة

كنبعة جدي من الافق كوكب(٢)

يسير بنصر الله من بيت ربّه

على سودد منه وأمر مسبّب(٣)

يسير إلى أعدائه بلوائه

فيقتلهم قتلا كحران مغضب(٤)

فلما روى أنَّ ابن خولة غائب

صرفنا إليه قولنا لم نكذِّب

وقلنا هو المهديُّ والقائم الّذي

يعيش به من عدله كلُّ مجدب

فان قلت لا فالحقُّ قولك والذي

أمرت(٥) فحتمٌ غير ما متعصّب

واشهد ربي أنَّ قولك حجة

على النّاس طرا من مطيع ومذنب

بأنَّ وليَّ الامر والقائم الذي

تطلّع نفسي نحوه بتطرُّب

له غيبة لابدَّ من أن يغيبها

فصلّى علهى الله من متغيّب

فيمكث حيناً ثمّ يظهر حينه(٦)

فيملك من في شرقها والمغرَّب(٧)

بذاك أدين الله سرّاً وجهرة

ولست وإن عوتبت فيه بمعتب(٨)

وكان حيّان السّراج الراوي لهذا الحديث من الكيسانية، ومتى صح موت

__________________

(١) الصفيح: من أسماء السماء، ووجه كل شيء عريض. والمنصب المرتفع. ولعل المراد بالصفيح هنا موضع بين حنين وأنصاب الحرم. كما يظهر من بعض اللغات.

(٢) كذا وفى بعض نسخ الحديث:

« فيمكث حينا ثمّ يشرق شخصه

مضيئاً بنور العدل اشراق كوكب »

وهكذا في اعلام الورى المنقول من كمال الدين. وليس هذا البيت في ارشاد المفيد ولا كشف الغمة للاربلي.

(٣) في بعض النسخ « وأمر مسيب ».

(٤) فرس حرون: الذى لا ينقاد والاسم الحران.

(٥) في الارشاد وكشف الغمة « تقول فحتم ».

(٦) في الارشاد « يظهر أمره » ولعله هو الصواب.

(٧) في اعلام الورى « فيملاء عدلا كل شرق ومغرب ».

(٨) « بمعتب » خبر ليست. يعنى عتابهم اياى ليس بموقع.

٣٥

محمّد بن عليٍّ ابن الحنفيّة بطل أن تكون الغيبة الّتي رويت في الأخبار واقعة به.

فمما روى في وفاة محمّد بن الحنفيّةرضي‌الله‌عنه (١)

ما حدّثنا به محمّد بن عصامرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب الكلينيُّ قال: حدّثنا القاسم بن العلاء قال: حدثني إسماعيل بن عليِّ القزوينيُّ قال: حدثني عليُّ بن إسماعيل، عن حمّاد بن عيسى، عن الحسين بن المختار(٢) قال: دخل حيّان السّراج على الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام فقال له: يا حيّان ما يقول أصحابك في محمّد بن الحنفية؟ قال: يقولون: إنَّه حي يرزق، فقال الصادقعليه‌السلام : حدثني أبيعليه‌السلام أنَّه كان فيمن عاده في مرضه وفيمن غمضه وأدخله حفرته وزوج نسائه وقسم ميراثه، فقال: يا أبا عبد الله إنّما مثل محمّد بن الحنفيّة في هذه الاُمّة كمثل عيسى بن مريم شُبّه أمره للنّاس، فقال الصادقعليه‌السلام : شُبّه أمره على أوليائه أو على أعدائه؟ قال: بل على أعدائه فقال: أتزعم أنَّ أبا جعفر محمّد بن عليِّ الباقرعليهما‌السلام عدوُّ عمّه محمّد بن الحنفية؟ فقال: لا، فقال الصادقعليه‌السلام : يا حيّان إنّكم صدفتم عن أيات الله، وقد قال الله تبار ك وتعالى: «سنجزي الّذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون »(٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ما مات محمّد بن الحنفيّة حتّى أقرَّ لعليِّ بن الحسينعليهما‌السلام . وكانت وفاة محمّد بن الحنفيّة سنة أربع وثمانين من الهجرة.

حدثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا أحمد بن إدريس، عن محمّد بن أحمد بن - يحيى: عن إبراهيم بن هاشم، عن عبد الصمد بن محمّد، عن حنان بن سدير، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: دخلت على محمّد بن الحنفيّة وقد اعتقل لسانه فأمرته بالوصيّة، فلم

__________________

(١) هذا العنوان للمؤلف وموجود في جميع النسخ.

(٢) هو الحسين بن المختار القلانسى الكوفى ثقة واقفى من أصحاب الكاظمعليه‌السلام . وما في بعض النسخ من « جعفر بن مختار » فهو تصحيف، وعلي بن اسماعيل الظاهر هو على بن السندي الثقة. وأما حيان السراج فهو كيساني متعصب.

(٣) الانعام: ١٥٧. والصدف الرجوع عن الشيء.

٣٦

يجب، قال: فأمرت بطست فجعل فيه الرَّمل، فوضع فقلت له: خطَّ بيدك، قال: فخطّ وصيّته بيده في الرَّمل، ونسخت أنا في صحيفة.

ابطال قول الناووسية والواقفة في الغيبة

ثم غلطت الناووسيّة بعد ذلك في أمر الغيبة بعد ما صحَّ وقوعها عندهم بحجّة الله على عباده فاعتقدوها جهلاً منهم بموضعها في الصادق بن محمّدعليهما‌السلام حتّى أبطل الله قولهم بوفاتهعليه‌السلام وبقيام كاظم الغيظ الأوّاه الحليم، الامام أبي إبراهيم موسى ابن جعفرعليهما‌السلام بالامر مقام الصادقعليه‌السلام .

وكذلك ادَّعت الواقفيّة ذلك في موسى بن جعفرعليهما‌السلام فأبطل الله قولهم باظهار موته وموضع قبره، ثمّ بقيام الرِّضا عليِّ بن موسىعليهما‌السلام بالامر بعده، وظهور علامات الامامة فيه مع ورود النصوص عليه من آبائهعليهم‌السلام .

فمما روى في وفاة موسى بن جعفر عليهما السلام(١)

ما حدّثني به محمّد بن إبراهيم بن إسحاقرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا أحمد بن - محمّد بن عمار، قال: حدثني الحسن بن محمّد القطعيُّ، عن الحسن بن علي النخّاس العدل عن الحسن بن عبد الواحد الخزّاز، عن عليِّ بن جعفر، عن عمر بن واقد قال: أرسل إليَّ السنديُّ بن شاهك في بعض اللّيل وأنا ببغداد فاستحضرني فخشيت أن يكون ذلك لسوء يريده بي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه وقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثمّ ركبت إليه، فلمّا رآني مقبلاً قال: يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأفزعناك، قلت: نعم قال: فليس ههنا إلّا خيرٌ، قلت: فرسول تبعثه إلى منزلي يخبرهم خبري؟ فقال: نعم ثمّ قال: يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك؟ فقلت: لا فقال: أتعرف موسى بن جعفر؟ فقلت: اي والله إنّي لاعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر، فقال: من ههنا ببغداد يعرفه ممّن يقبل قوله؟ فسمّيت له أقواما ووقع في نفسي أنَّهعليه‌السلام قد مات، قال: فبعث إليهم وجاء بهم كما جاء بي، فقال: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن -

__________________

(١) العنوان من المؤلف.

٣٧

جعفر؟ فسمّوا له قوماً، فجاء بهم، فأصبحنا ونحن في الدّار نيف وخمسون رجلاً ممن يعرف موسى وقد صحبه، قال: ثمّ قام ودخل وصلّينا، فخرج كاتبه ومعه طومارٌ فكتب أسماءنا ومنازلنا وأعمالنا وخلانا، ثمّ دخل إلى السنديِّ، قال: فخرج السندي فضرب يده إليَّ فقال: قم يا أبا حفص، فنهضت ونهض أصحابنا ودخلنا وقال لي: يا أبا حفص اكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر، فكشفته فرأيته ميتاً فبكيت واسترجعت، ثمّ قال للقوم: انظروا إليه، فدنا واحد بعد واحد فنظروا إليه ثمّ قال: تشهدون كلّكم أنَّ هذا موسى بن جعفر بن محمّد؟ قالوا: نعم نشهد أنَّه موسى بن - جعفر بن محمّد، ثمّ قال: يا غلام اطرح على عورته منديلاً واكشفه، قال: ففعل، فقال: أترون به أثراً تنكرونه؟ فقلنا: لا ما نرى به شيئا ولا نراه إلّا ميتاً، قال: لا تبرحوا حتّى تغسلوه واكفنّه وأدفنه، قال: فلم نبرح حتّى غسّل وكفن وحمل فصلى عليه السنديُّ بن شاهك، ودفناه ورجعنا، فكان عمر بن - واقد يقول: ما أحد هو أعلم بموسى بن جعفرعليهما‌السلام منّي، كيف تقولون: إنَّه حيٌّ وأنا دفنته.

حدثنا عبد الواحد بن محمّد العطّاررحمه‌الله قال: حدّثنا عليُّ بن محمّد بن - قتيبة، عن حمدان بن سليمان النيسابوريِّ، عن الحسن بن عبد الله الصيرفيِّ، عن أبيه قال: توّفي موسى بن جعفرعليهما‌السلام في يد السنديِّ بن شاهك فحملم على نعش ونودي عليه هذا إمام الرّافضة فاعرفوه، فلمّا اتي به مجلس الشرطة أقام أربعة نفر فنادوا الأمن أراد أن ينظر إلى الخبيث بن الخبيث موسى بن جعفر فليخرج، فخرج سليمان بن - أبي جعفر(١) من قصره إلى الشطِّ فسمع الصياح والضوضاء(٢) فقال لولده وغلمانه: ما هذا؟ قالوا: السنديُّ بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر على نعش، فقال لولده وغلمانه: يوشك أن يفعل به هذا في الجانب الغربيِّ، فإذا عبر به فأنزلوا مع غلمانكم

__________________

(١) هو عم الرشيد أحد أركان الدولة العباسية.

(٢) الضوضاء: الغوغاء وزنا - ومعنى - وأصوات النّاس في الحرب.

٣٨

فخذوه من أيديهم فإنَّ مانعوكم فاضربوهم واخرقوا ما عليهم من السّواد، قال: فلمّا عبروا به نزلوا إليهم فأخذوه من أيديهم وضربوهم وخرقوا عليهم سوادهم ووضعوه في مفرق أربع طرق(١) وأقام المنادين ينادون: الأمن أراد أن ينظر إلى الطيّب بن الطيّب موسى بن جعفر فليخرج، وحضر الخلق وغسّله وحنّطه بحنوط وكفنه بكفّن فيه حبرة استعملت له بألفي وخمسمائة دينار، مكتوباً عليها القرآن كلّه، واحتفى(٢) ومشى في جنازته، متسلّباً مشقوق الجيب إلى مقابر قريش فدفنهعليه‌السلام هناك، وكتب بخبره إلى الرَّشيد، فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر: وصلت رحمك يا عمّ وأحسن الله جزاك، والله، ما فعل السّنديُّ بن شاهك - لعنه الله - ما فعله عن أمرنا.

حدثنا أحمد بن زياد الهمدانيُّرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن محمّد بن صدقة العنبريُّ قال: لمّا توّفي أبو إبراهيم موسى ابن جعفرعليهما‌السلام جمع هارون الرَّشيد شيوخ الطالبيّة وبني العباس وسائر أهل المملكة والحكّام وأحضر أبا إبراهيم موسى بن جعفرعليهما‌السلام فقال: هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه(٣) وما كان بيني وبينه ما استغفر الله منه في أمره يعني في قتله فانظروا إليه فدخل عليه سبعون رجلاً من شيعته فنظروا إلى موسى بن جعفرعليهما‌السلام وليس به أثر جراحة ولاسمٍّ ولاخنق، وكان في رجله أثر الحنّاء فأخذه سليمان بن أبي جعفر وتولّى غسله وتكفينه واحتفى وتحسّر في جنازته(٤) .

حدثنا جعفر بن محمّد بن مسروررحمه‌الله قال: حدّثنا الحسين بن محمّد بن عامر عن المعلّى بن محمّد البصريِّ قال: حدّثني عليّ بن رباط قال: قلت لعليِّ بن موسى الرِّضاعليهما‌السلام : أنَّ عندنا رجلاً يذكر أنَّ أباكعليه‌السلام حيٌّ وأنّك تعلم من ذلك ما تعلم؟ فقالعليه‌السلام : سبحان الله مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يمت موسى بن جعفر؟! بلى والله

__________________

(١) يعنى الموضع الذى يتشعب منه الطرق ويقال له بالفارسية (چهار راه).

(٢) أي مشى حافيا بلا نعل. وقوله: « متسلبا » أي بلا رداء ولازينة.

(٣) أي مات من غير قتل ولا ضرب، بل مات بأجله.

(٤) تحسر إي تلهف أو مشى بلا رداء وعمامة.

٣٩

لقد مات وقسمت أمواله ونكحت جواريه.

ادعاء الواقفة الغيبة على العسكري (ع)

ثم ادَّعت الواقفة على الحسن بن عليّ بن محمّدعليهم‌السلام أنَّ الغيبة وقعت به لصحّة أمر الغيبة عندهم وجهلهم بموضعها وأنّه القائم المهديُّ، فلمّا صحت وفاتهعليه‌السلام بطل قولهم فيه وثبت بالاخبار الصحيحة الّتي قد ذكرناها في هذا الكتاب أنَّ الغيبة واقعة بابنهعليه‌السلام دونه.

فمما روى في صحة وفاة الحسن بن على بن محمّد العسكري (ع)(١)

ما حدّثنا به أبي، ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد - رضي الله عنهما - قالا: حدّثنا سعد بن عبد الله، قال: حدّثنا من حضر موت الحسن بن عليّ بن محمّد العسكريِّعليهم‌السلام ودفنه ممّن لا يوقف على إحصاء عددهم ولا يجوز على مثلهم التواطؤ بالكذب. وبعد فقد حضرنا في شعبان سنة ثمان وسبعين ومائتين وذلك بعد مضيِّ أبي محمّد الحسن ابن عليٍّ العسكريِّعليهما‌السلام بثمانية عشرة سنة أو أكثر مجلس أحمد بن عبيد الله بن يحيى ابن خاقان(٢) وهو عامل السّلطان يومئذ على الخراج والضياع بكورة قمّ، وكان من أنصب خلق الله وأشدَّهم عداوة لهم، فجرى ذكر المقيمين من آل أبي طالب بسرَّ - من رأى ومذاهبهم وصلاحهم وأقدارهم عند السّلطان، فقال أحمد بن عبيد الله: ما رأيت ولا عرفت بسرِّ من رأى رجلاً من العلويّة مثل الحسن بن عليّ بن محمّد بن علي الرضاعليهم‌السلام ، ولا سمعت به في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إيّاه على ذوي السنِّ منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء والكتّاب وعوام النّاس فانّي كنت قائماً ذات يوم على رأس ابي وهو يوم مجلسه للنّاس إذ دخل عليه حجابه فقالوا له: إنَّ ابن الرضا على الباب، فقال بصوت عال: ائذنوا له(٣) فدخل رجلٌ أسمر أعينٌ حسن القامة، جميل الوجه، جيّد البدن

__________________

(١) العنوان من المؤلف.

(٢) في أعلام الورى « أحمد بن عبد الله بن يحيى بن خاقان ».

(٣) زاد في الكافي ج ١ ص ٥٠٣ « فتعجبت ممّا سمعت منهم أنهم جسروا يكنون رجلاً على أبي بحضرته ولم يكنّ عنده إلّا خليفة أوولى عهد أو من أمر السلطان أن يكنى ».

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه ، إذ بحثه يستلزم النظر فى الأدلة الكونية ، والبراهين العقلية ، ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدى إلى تأويله.

(3) إن الأنبياء بعثوا إلى الناس كافة وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد ، وكان من المعاني الحكم الدقيقة التي لا يمكن التعبير عنها بعبارة تكشف عن حقيتها ، فجعل فهم هذا من حظ الخاصة ، وأمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله ، والوقوف عند فهم المحكم ، ليكون لكلّ نصيبه على قدر استعداده ، فإطلاق كلمة الله وروح من الله على عيسى يفهم منه الخاصة ما لا يفهمه العامة ، ومن ثم فتن النصارى بمثل هذا التعبير إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله أم أو ولد بمثل ما دل عليه قوله :إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ».

( وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ) أي وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا ذوو البصائر المستنيرة ، والعقول الراجحة التي امتازت بالتدبر والتفكر في جميع الآيات المحكمة التي هى الأصول ، حتى إذا عرض لهم المتشابه بعد ذلك سهل عليهم أن يتذكروها ويردّوا المتشابه إليها ، ويقولوا في المتشابه الذي هو نبأ عالم الغيب : إن قياس الغائب على الشاهد قياس مع الفارق لا ينبغى للعقلاء أن يعتبروه.

ثم ذكر ما يدعون به ليهبهم الثبات على فهم المتشابه فقال :

( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) أي إن أولئك الراسخين في العلم مع اعترافهم بالإيمان بالمتشابه يطلبون إلى الله أن يحفظهم من الزيغ بعد الهداية ، ويهبهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة فهم يعرفون ضعف البشر ، وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول ، فيخافون أن يقعوا فى الخطأ ، والخطأ قرين الخطر.

وقد روى عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو «يا مقلّب القلوب ثبت قلبى على دينك» قلت : يا رسول الله

١٠١

ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال : «ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرّحمن ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه».

( رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) أي ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك فيه وإنا موقنون به ، لأنك أخبرت به وقولك الحق ، ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه ، وأنت لا تخلف وعدك.

وقد جاءوا بهذا الدعاء بعد الإيمان بالمتشابه ، ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرّب الزيغ الذي يسلبهم الرحمة في ذلك اليوم ، وهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقي منه.

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) )

تفسير المفردات

تغنى : أي تنفع ، وقود (بفتح الواو) أي حطب ونحوه ، والدأب : العادة ؛ من دأب على العمل إذا جدّ فيه وتعب ، ثم غلب في العادة ، والمهاد : الفراش ، يقال مهدّ الرجل المهاد إذا بسطه ، والآية : العلامة على صدق ما يقول الرسول.

١٠٢

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه الدين الحق وقرر التوحيد ، وذكر الكتب الناطقة به ، وألمع إلى شأن القرآن الكريم وإيمان العلماء الراسخين به ـ شرع يذكر حال أهل الكفر والجحود ، ويبين أسباب اغترارهم بالباطل واستغنائهم عن الحق أو اشتغالهم عنه ، ومن أهم ذلك الأموال والأولاد ، وأرشد إلى أنها لا تغنى عنهم شيئا في ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الناس ليحاسبهم على ما عملوا ، والكافرون في أشد الحاجة إلى مثل هذه العظة ، لأن الجحود إنما يقع لغرور الناس بأنفسهم وأموالهم ، فيتوهمون الاستغناء عن الحق ، ويتبعون الهوى.

وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء الكافرين الذين استغنوا بما أوتوا في الدنيا عن الحق ، فعارضوه وناصبوا أهله العداء حتى ظفروا بهم مثل آل فرعون ومن قبله ممن كذبوا الرسل ؛ فقد أهلكهم الله ونصر موسى على آل فرعون ، ونصر الرسل ومن آمن معهم على أممهم لصلاحهم وإصلاحهم ، فالله لا يحابى ولا يظلم وهو شديد العقاب.

الإيضاح

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ) أي إن الذين جحدوا ما قد عرفوه من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم سواء كانوا من بنى إسرائيل أم من كفار العرب ـ لن تنجيهم أموالهم التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار ، ولا أولادهم الذين يتناصرون بهم في مهامّ أمورهم ويعوّلون عليهم فى الخطوب النازلة من عذاب الله شيئا ، وقد كانوا يقولون نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ، فردّ الله عليهم بقوله : «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً » وسيكونون يوم القيامة حطبا لجهنم التي تسعر بهم.

١٠٣

ثم ضرب لهم مثلا لينبههم إلى ما حلّ بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم جندا وأكثر عددا لعلهم يتعظون فقال :

( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ ) أي إن صنيع هؤلاء في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفرهم بشريعته ، كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام ، ودأب من قبلهم من الأمم ، كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم ، فأهلكهم ونصر الرسل ومن آمن معهم ، ولم يجدوا من بأس الله محيصا ولا مهربا ، إذ عقابه أثر طبيعي لاجتراح الذنوب وارتكاب الموبقات.

ثم تهددهم وتوعدهم بالعقاب في الدنيا قبل الآخرة فقال :

( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ ) المراد بالكافرين هنا اليهود لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن يهود المدينة لما شاهدوا غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين يوم بدر قالوا والله إنه النبي الأمى الذي بشرنا به موسى ، وفي التوراة نعته وهمّوا باتباعه ، فقال بعضهم : لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة أخرى ، فلما كان يوم أحد شكّوا ، وقد كان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوه ، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بنى قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش ، فقالوا له : لا يغرنّك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس فنزلت.

أي قل لأولئك اليهود إنكم ستغلبون في الدنيا وسينفذ فيكم وعيدي ، وتساقون فى الآخرة إلى جهنم سوقا ، وبئس المهاد ما مهدتموه لأنفسكم.

وقد صدق الله وعده فقتل المسلمون بنى قريظة الخائنين ، وأجلوا بنى النّضير المنافقين ، وفتحوا خيبر وضربوا الجزية على من عداهم.

١٠٤

ثم حذرهم وأنذرهم بألا يغتروا بكثرة العدد والعدد فلهم مما يشاهدون عبرة فقال :

( قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) أي قل لأولئك اليهود الذين غرتهم أموالهم واعتروا بأولادهم وأنصارهم : لا تغرنكم كثرة العدد ، ولا المال والولد ، فليس هذا سبيل النصر والغلب ، فالحوادث التي تجرى في الكون أعظم دليل على تفنيد ما تدّعون.

انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا يوم بدر ، فئة قليلة من المؤمنين تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين.

وفي هذا عبرة أيّما عبرة لذوى البصائر السليمة التي استعملت العقول فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها ، لا لمثل من نعتهم الله بقوله : «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ».

ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه تعالى ، وقوله( تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ترشد إلى السر في هذا الفوز ، لأنه متى كان القتال في هذا السبيل أي لحماية الحق والدفاع عن الدين وأهله ، فإن النفس تقبل عليه بكل ما أوتيت من قوة ، وما أمكنها من تدبير واستعداد ، علما منها بأن وراء قوتها معونة الله وتأييده ، يرشد إلى هذا قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ » فها أنت ذا ترى أن الله أمر المؤمنين بالثبات وبكثرة ذكره لشدّ العزائم والنهوض بالهمم ، وبالطاعة لرسوله ، وكان هو القائد في تلك الواقعة ـ واقعة بدر ـ وطاعة القائد من أهم أسباب الظفر والنجاح في ميدان القتال.

وقد امتثل المؤمنون ما أوصاهم به ربهم بقدر طاقتهم ، فوجد لديهم الاستعداد والعزيمة الصادقة ، فقاتلوا ثابتين واثقين بنصر الله ، فنصرهم وفاء بوعده «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ».

١٠٥

وغزوات الرسول وأصحابه تفسر ما ورد في هذه الآيات ، ولما خالفوا ما أمروا به غزوة أحد نزل بهم ما نزل ، وفي هذا أكبر عبرة لمن تذكر واعتبر.

وقد روى أرباب السير أن جيش المسلمين كان ثلاثمائة وثلاثة وعشرين رجلا ، سبعة وسبعون منهم من المهاجرين ، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار ، وصاحب راية المهاجرين على بن أبي طالب ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان في العسكر تسعون بعيرا وفرسان أحدهما للمقداد بن عمرو ، والآخر لمرثد بن أبي مرثد ، وكان معهم ست دروع وثمانية سيوف ، وجميع من قتل منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.

وأن جيش المشركين كان تسعمائة وخمسين مقاتلا ، رأسهم عقبة بن ربيعة ، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل ، وكان في معسكرهم من الخيل مائة فرس وسبعمائة بعير ، ومن الأسلحة ما لا يحصى عدّا.

ومعنى قوله( يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) أن المشركين رأوا المسلمين مثلى عدد المشركين أي قريبا من ألفين ـ وكانوا نحو ثلاثمائة ـ أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم ، وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم الله بالملائكة ، بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم وتوجهوا إليهم كما جاء في خطاب أهل بدر «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ».

ومعنى قوله (رأى العين) أنها رؤية مكشوفة لا لبس معها ولا خفاء كسائر المرئيات والمشاهدات.

( وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ ) أي والله يقوّى بمعونته من يشاء كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدو.

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ ) أي إن في هذا النصر مع قلة عددهم وكثرة عدوهم عظة لمن عقل وتدبر فعرف الحق وثلج قلبه ببرد اليقين.

١٠٦

( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) )

تفسير المفردات

الشهوات : واحدة شهوة وهى رغبة النفس في الحصول ، والمراد بها المشتهيات كما يقال هذا الطعام شهوة فلان أي ما يشتهيه ، والأنعام واحدها نعم وهى الإبل والبقر والغنم ولا تطلق النعم إلا على الإبل خاصة ، والمسوّمة : هى التي ترعى في الأودية والقيعان ، والحرث : الزرع والنبات.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه قبل هذا اشتغال الكافرين بالأموال والأولاد وإعراضهم عن الحق وانهماكهم في اللذات ، ذكر هنا وجه غرورهم بذلك تحذيرا لهم من جعلها مطية لشهواتهم ، وتذكيرا لهم بأنه لا ينبغى أن تجعل هى غاية الحياة ، فتشغلهم عن أعمال الآخرة التي جعلت الدنيا مزرعتها ، والوسيلة لكسب السعادة فيها.

الإيضاح

( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ) معنى تزيين حب الشهوات للناس ، أن حبها مستحسن لديهم لا يرون فيه قبحا ولا غضاضة ، ومن ثم لا يكادون يرجعون عنه ، وهذا أقصى مراتب الحب ، وصاحبه قلما يفطن لقبحه أو ضرره إن كان قبيحا أو ضارّا ، ولا يحب أن يرجع عنه وإن تأذى به ، وقد يحب الإنسان شيئا وهو يراه شيئا لا زينا ، وضارّا لا نافعا ، ويود لذلك لو لم يحبه كما يحب بعض الناس شرب الدخان على تأذيهم منه ، ومن أحب شيئا ولم يزيّن له يوشك أن يرجع عنه يوما ما ، ومن زين له حبه فلا يكاد يرجع عنه.

١٠٧

المعنى ـ إن الله فطر الناس على حب هذه الشهوات المبينة بعد كما قال : «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » وقال : «كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ».

وقد يسند التزيين إلى الشيطان بالوسوسة في قبيح الأعمال كما قال تعالى : «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ».

ثم فصل هذه المشتهيات الستة التي ملأت قلوب الناس حبا فقال :

( مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ) .

(فأولها) النساء وهن موضع الرغبة ومطمح الأنظار ، وإليهن تسكن النفوس كما قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » وعليهن ينفق أكثر ما يكسب الرجال بكدّهم وجدّهم ، فهم القوامون عليهن لقوتهم وقدرتهم على حمايتهن ، فإسرافهم في حبهنّ له الأثر العظيم فى شئون الأمة وفي إضاعة الحقوق أو حفظها.

وقدم حب النساء على حب الأولاد مع أن حبهنّ قد يزول وحب الأولاد لا يزول لأن حب الولد لا يعظم فيه الغلوّ والإسراف كحب المرأة ، فكم من رجل جنى حبه للمرأة على أولاده ، فكثير ممن تزوجوا بما فوق الواحدة وأفرطوا في حب واحدة وملّوا أخرى أهملوا تربية أولاد المبغوضة وحرموهم سعة الرزق وقد وسعوه على أولاد المحبوبة ، وكم من غنىّ عزيز يعيش أولاده عيشة الذل والفقر ، وليس لهذا من سبب إلا حب والدهم لغير أمهم ، فهو يفعل ذلك للتقرب وابتغاء الزلفى إليها.

(وثانيها) البنون والمراد بهم الأولاد مطلقا كما قال تعالى : «أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ » وفي الحديث «الولد مجبنة مبخلة».

والعلة في حب الزوجة وحب الولد واحدة وهى تسلسل النسل وبقاء النوع ، وهى حكمة مطردة في غير الإنسان من الحيوانات الأخرى.

١٠٨

وحب البنين أقوى من حب البنات لأسباب كثيرة منها :

(1) أنهم عمود النسب الذي به تتصل سلسلة النسل ، وبه يبقى ما يحرص عليه الإنسان من بقاء الذكر وحسن الأحدوثة بين الناس.

(2) أمل الوالد في كفالتهم له حين الحاجة إليه لضعف أو كبر.

(3) أنه يرجى بهم من الشرف ما لا يرجى من الإناث كنبوغ في علم أو عمل أو رياسة أو قيادة جيش للدفاع عن الوطن وحفظ كيان الأمة.

(4) الشعور بأن الأنثى حين الكبر تنفصل من عشيرتها وتتصل بعشيرة أخرى.

(وثالثها) القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والعرب تريد بالقنطار المال الكثير والمقنطرة مأخوذة منه على سبيل التوكيد ، وقد جرت عادتهم بأن يصفوا الشيء بما يشتق منه مبالغة كما قالوا ألوف مؤلفة وظل ظليل ، وقيل المقنطرة المضروبة من دنانير ودراهم ، وقيل هى المنضدة في وضعها.

وهذا التعبير يشعر بالكثرة التي تكون مظنة الافتتان ، والتي تشغل القلب للتمتع بها ، وتستغرق في تدبيرها الوقت الكثير حتى لا يبقى بعد ذلك منفذ للشعور بالحاجة إلى نصرة الحق والاستعداد لأعمال الآخرة.

ومن ثم كان الأغنياء في كل الأمم لدى بعثة الرسل أول الكافرين بهم المستكبرين عن تلبية دعوتهم ، وإن أجابوها وآمنوا فهم أقل الناس عملا وأكثرهم بعدا عن هدى الدين ، انظر إلى قوله تعالى : «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ».

وحب المال مما أودع في غرائز البشر واختلط بلحمهم ودمهم ، وسر هذا أنه وسيلة إلى جلب الرغائب ، وسبيل إلى نيل اللذات والشهوات ، ورغبات الإنسان غير محدودة ، ولذاته لا عدّ لها ولا حصر ، وكلما حصل على لذة طلب المزيد منها ، وما وصل إلى غاية فى جمع المال إلا تاقت نفسه إلى ما فوقها ، حتى لقد يبلغ به النهم في جمعه أن ينسى أن

١٠٩

المال وسيلة لا مقصد فيفتنّ في الوصول إليه الفنون المختلفة ، والطرق التي تعنّ له ، ولا يبالى أمن حلال كسب أم من حرام؟

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب».

ولقد أعمت فتنة المال كثيرا من الناس فشغلتهم عن حقوق الله وحقوق الأمة والوطن ، بل عن حقوق من يعاملهم ، بل عن حقوق بيوتهم وعيالهم ، بل عن أنفسهم ، ومنهم من يقصر في النفقة على نفسه وعياله بالقدر الذي يزرى بمروءته ، فيظهر بمظهر المسترذل بين الناس في مأكله ومشربه وملبسه ، ومنهم من يثلم شرفه ويفتح ثغرة للطاعنين والقائلين فيه بالحق وبالباطل لأجل المال. ومن ثم قالوا : المال ميّال.

(ورابعها) الخيل المسوّمة التي ترعى في الأودية ، يقال سام الدابة : رعاها ، وأسامها : أخرجها إلى المرعى ، كما قال تعالى : «وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ».

وقال ابن جرير : المسوّمة : المعلّمة من السّومة وهى العلامة. قال النابغة :

بسمر كالقداح مسوّمات

عليها معشر أشباه جنّ

وكل من الخيل الراعية التي تقتنى للتجارة ، والمعلمة المطهّمة التي يقتنيها العظماء والأغنياء ـ من المتاع الذي يتنافس فيه الناس ويتفاخرون ، حتى لقد يتغالى بعضهم فى ذلك إلى حد هو أشبه بالجنون.

(وخامسها) الأنعام وهى مال أهل البادية ومنها تكون ثروتهم ومعايشهم ومرافقهم ، وبها تفاخرهم وتكاثرهم ، وقد امتنّ الله بها على عباده بقوله : «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ».

١١٠

(وسادسها) الحرث وعليه قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر ، والحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الأنواع السالفة ، والانتفاع به أتمّ منها لكنه أخر عنها ، لأنه لما عمّ الارتفاق به كانت زينته في القلوب أقل ، وقلما يكون الانتفاع به صادّا عن الاستعداد لأعمال الآخرة أو مانعا من نصرة الحق.

وهناك ما هو أعم نفعا وأعظم فائدة في الحياة وهو الضوء والهواء ، فلا يستغنى عنهما حىّ من الأحياء ، ومع ذلك قلما يلتفت الإنسان إليهما ولا يفكر في غبطته بهما.

( ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) المتاع ما يتمتع به ، والمآب المرجع من آب يئوب إذا رجع ، أي هذا الذي ذكر من الأصناف الستة المتقدمة هو ما يتمتع به الناس قليلا في هذه الحياة الفانية ، ويجعلونه وسيلة في معايشهم ، وسببا لقضاء شهواتهم وقد زيّن لهم حبها في عاجل دنياهم ، والله عنده حسن المآب في الحياة الآخرة التي تكون بعد موتهم وبعثهم فلا ينبغى لهم أن يجعلوا كل همهم في هذا المتاع القريب العاجل بحيث يشغلهم عن الاستعداد لخير الآجل.

فعلى المؤمن ألا يفتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه ، والشغل الشاغل له عن آخرته ، فإذا استمتع بها بالقصد والاعتدال ووقف عند حدود الله سعد في الدارين ووفق لخير الحياتين كما قال : «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ».

( قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا

١١١

وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17))

تفسير المفردات

النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له شأن عظيم كما قاله أبو البقاء في الكليات ، والتقوى : هى الإخبات إلى الله والإعراض عما سواه ، والمطهرة : الخالية من الشوائب الجسمية والنفسية والرضوان (بضم الراء وكسرها) الرضا ، والصبر : حبس النفس عند كل مكروه يشقّ عليها احتماله ، والصدق يكون في القول والعمل والوصف ؛ يقال فلان صادق في قوله ، وصادق في عمله ، وصادق في حبه ، والقانتين : أي المداومين على الطاعة والعبادة ، والمستغفرين بالأسحار : أي المصلّين وقت السحر.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه زخارف الدنيا وزينتها ، وذكر ما عنده من حسن المآب إجمالا ـ أمر رسوله بتفصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والحث على فعل الخيرات.

الإيضاح

( قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ) أي قل لقومك وغيرهم : أأخبركم بخير من جميع ما تقدم ذكره من النساء والبنين إلى آخره ، وجىء بالكلام على صورة الاستفهام لتوجيه النفوس إلى الجواب وتشويقها إليه.

وقوله خير يشعر بأن تلك الشهوات خير في ذاتها ، ولا شك في ذلك إذ هى من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على الناس ، وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعم الله على عباده كالحواس والعقول وغيرها ، فما مثل المسرف في حب النساء حتى

١١٢

يعطى امرأته حق غيرها ، أو يهمل لأجلها تربية ولده إلا مثل من يستعمل عقله فى استنباط الحيل ليبتز حقوق الناس ويؤذيهم ، فسلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أنها هى في ذاتها شر ولا كون حبها شرا مع القصد والاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة.

ثم أجاب عن هذا الاستفهام على طريق قولك هل أدلك على تاجر عظيم في السوق يصدق في المعاملة ، ويرخص السعر ويفى بالوعد؟ هو فلان فقال :

( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ) أي للذين أخبتوا إلى ربهم وأنابوا إليه نوعان من الجزاء.

أحدهما جسمانى وهو الجنات وما فيها من النعيم والخيرات ، والأزواج المبرأة من العيوب التي في نساء الدنيا خلقا وخلقا.

وثانيهما روحاني عقلى وهو رضوان الله الذي لا يشوبه سخط ولا يعقبه غضب ، وهو أعظم اللذات كلها في الآخرة عند المتقين.

وفي الآية إيماء إلى أن أهل الجنة مراتب وطبقات كما نرى ذلك في الدنيا.

فمنهم من لا يفقه لرضوان الله معنى ولا يكون ذلك باعثا له على فعل الخير وترك الشر ، وإنما يفقه اللذات الحسية التي جرّ بها في الدنيا ، ففى مثلها يرغب.

ومنهم من ارتقى إدراكه ، وعظم قربه من ربه ، فيتمنى رضاه ويجعله الغاية القصوى والسعادة التي ليس وراءها سعادة.

وجاء في معنى هذه الآية قوله تعالى : «وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » وقوله : «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ (الزراع)نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ».

١١٣

( وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ) أي إنه تعالى هو البصير بعباده ، الخبير بقرارة نفوسهم ودخائل أحوالهم ، العليم بسرهم ونجواهم ، فلا تخفى عليه خافية من أمرهم ، وهو المجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.

وقد ختم سبحانه هذه الآية بتلك الجملة ليحاسب الإنسان نفسه على التقوى ، فليس كل من ادعاها لنفسه أو تحرك بها لسانه يعدّ متقيا ، وإنما المتقى من يعلم منه ربه التقوى.

ثم وصف المتقين الذين تتأثر قلوبهم بثمرات إيمانهم ، فتفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان حين الدعاء والابتهال فقال :

( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ ) أي إن الذين اتقوا معاصى الله وتضرعوا إليه خاشعين يقولون مبتهلين متبتلين : ربنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيمانا يقينيا راسخا في القلب مهيمنا على العقل له السلطان على أعمالنا البدنية التي لا تتحول عن طاعتك إلا لنسيان أو جهالة كغلبة انفعال يعرض ثم لا يلبث أن يزول ، ثم تقفو التوبة إثره لتمحوه كما أرشدت إلى ذلك بقولك : «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ » وقولك «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى » فاستر اللهم ذنوبنا بعفوك عنها وترك العقوبة عليها ، وادفع عنا عذاب النار إنك أنت الغفور الرّحيم.

وقد خصوا هذا العذاب بالمسألة ، لأن من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة وحسن المآب.

والخلاصة ـ إن مرادهم بالإيمان الذي أقروا به ـ هو الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات ، إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل كما أجمع على ذلك السلف ، ويرشد إليه العقل والعلم بطبيعة البشر.

١١٤

ثم ذكر من أوصافهم ما امتازوا به من غيرهم ، وبه استحقوا المثوبة عند ربهم فقال :

( الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ ) أي إن المتقين جمعوا هذه الصفات التي لكل منها درجة في الفضل وشرف ورفعة وبها نالوا هذا الوعد وهى :

(1) الصبر وأكمل أنواعه : الصبر على أداء الطاعات وترك المحرمات ، فإذا هبت أعاصير الشهوات وجمحت بالنفس إلى ارتكاب المعاصي فلا سبيل لردعها إلا بالصبر ، فهو الذي يثبّت الإيمان ويقف بها عند الحدود المشروعة ، وهو الحافظ لشرف الإنسان فى الدنيا عند المكاره ، ولحقوق الناس أن تغتالها أيدى المطامع.

وهو كالشرط في كل ما يذكر بعده من الصدق والقنوت والاستغفار بالأسحار.

(2) الصدق وهو منتهى الكمال ، وحسبك في بيان فضيلته قوله تعالى : «وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ».

(3) القنوت وهو المداومة على الطاعة والإخبات إلى الله مع الخشوع والخضوع وهو لبّ العبادة وروحها ، وبدونه تكون العبادة بلا روح وشجرة بلا ثمرة.

(4) الإنفاق للمال في جميع السبل التي حث عليها الدين ، سواء أكانت النفقة واجبة أم مستحبة ، فالإنفاق في أعمال البر جميعا مما حث عليه الشارع وندب إليه.

(5) الاستغفار بالأسحار : أي التهجد في آخر الليل وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشقّ القيام ، وتكون النفس فيه أصفى ، والقلب أفرغ من الشواغل.

والاستغفار المطلوب ما يقرن بالتوبة النصوح ، والعمل وفق حدود الدين ، ولا يكفى الاستغفار باللسان مع الإدمان على فعل المنكر ، فإن المستغفر من الذنب وهو مصرّ عليه كالمستهزئ بربه ، ولا يغتر بمثل هذا الاستغفار إلا جاهل بدينه ، أو غرّ في معاملته لربه ، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية قوله : إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

١١٥

( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) )

تفسير المفردات

يقال شهد الشيء وشاهذه إذا حضره كما قال : «ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ » وقال «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ » والشهادة بالشيء الإخبار به عن علم إما بالمشاهدة الحسية ، وإما بالمشاهدة المعنوية وهى الحجة والبرهان ، وأولو العلم هم أهل البرهان القادرون على الإقناع ، وهم يوجدون في هذه الأمة وفي جميع الأمم السالفة ، بالقسط : أي بالعدل في الدين والشريعة وفي الكون والطبيعة. والدين له في اللغة عدة معان : منها الجزاء ، والطاعة والخضوع ، ومجموعة التكاليف التي بها يدين العباد لله ـ وما يكلف به العباد يسمى شرعا باعتبار وضعه وبيانه للناس ، ودينا باعتبار الخضوع وطاعة الشارع ، وملة باعتبار أنها أملّت وكتبت ـ والإسلام يأتي بمعنى الخضوع والاستسلام ، وبمعنى الأداء تقول أسلمت الشيء إلى فلان إذا أديته إليه ، وبمعنى الدخول في السلم أي الصلح والسلامة ، وتسمية الدين الحق إسلاما يناسب كل هذه المعاني وأولها أوفقها بالتسمية ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ

١١٦

أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً » وحاجوك : جادلوك ، وأسلمت : أي أخلصت ، والأميون مشركو العرب واحدهم أمي نسبوا إلى الأم لجهلهم كأنهم على الفطرة ، البلاغ : أي التبليغ للناس.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه جزاء المتقين ، وشرح أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء ـ ذكر هنا أصول الإيمان وأسسه.

الإيضاح

( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ) أي بيّن سبحانه وحدانيته بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس ، وإنزال الآيات التشريعية الناطقة بذلك ، والملائكة أخبروا الرسل بهذا وشهدوا شهادة مؤيدة بعلم ضرورى وهو عند الأنبياء أقوى من جميع اليقينيات ، وأولو العلم أخبروا بذلك وبيّنوه وشهدوا به شهادة مقرونة بالدلائل والحجج ، لأن العالم بالشيء لا تعوزه الحجة عليه.

وقوله بالقسط أي بالعدل في الاعتقاد ، فالتوحيد هو الوسط بين إنكار الإله والشرك به ، والعدل في العبادات والآداب والأعمال ، فعدل بين القوى الروحية والبدنية ، فأمر بشكره في الصلاة وغيرها لترقية الروح وتزكية النفس ، وأباح كثيرا من الطيبات لحفظ البدن وتربيته ، ونهى عن الغلوّ في الدين والإسراف في حب الدنيا وبالعدل في الأحكام في نحو قوله : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ » وقوله «وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ».

كما جعل سنن الخليقة قائمة على أساس العدل ، فمن نظر في هذه السنن ونظمها الدقيقة تجلى له عدل الله فيها على أتم ما يكون وأوضحه.

١١٧

فقيامه تعالى بالقسط في كل هذا برهان على صدق شهادته تعالى ، فإن وحدة النظام في هذا العالم تدل على وحدة واضعه.

ثم أكد كونه منفردا بالألوهية وقائما بالعدل بقوله :

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فإن العزة إشارة إلى كمال القدرة ، والحكمة إيماء إلى كمال العلم ، والقدرة لا تتم إلا بالتفرد والاستقلال ، والعدالة لا تكمل إلا بالاطلاع على المصالح والأحوال ، ومن كان كذلك فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن القسط ، ولا يخرج من الخليقة شىء عن حكمته البالغة.

ثم ذكر الدستور العام الذي عليه المعوّل في كل دين فقال :

( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) أي إن جميع الملل والشرائع التي جاء بها الأنبياء روحها الإسلام والانقياد والخضوع ، وإن اختلفت في بعض التكاليف وصور الأعمال ، وبه كان الأنبياء يوصون. فالمسلم الحقيقي من كان خالصا من شوائب الشرك ، مخلصا فى أعماله مع الإيمان من أىّ ملة كان ، وفي أي زمان وجد ، وهذا هو المراد بقوله عز اسمه «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ».

ذاك أن الله شرع الدين لأمرين :

(1) تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بسلطة غيبية للمخلوقات بها تستطيع التصرف في الكائنات لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هم من أمثالها.

(2) إصلاح القلوب بحسن العمل وإخلاص النية لله وللناس.

وأما العبادات فإنما شرعت لتربية هذا الروح الخلقي ليسهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الدينية.

أخرج ابن جرير عن قتادة قال : الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله ، وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ، ودلّ عليه أولياءه لا يقبل غيره ، ولا يجزى إلا به.

١١٨

وخطب على كرم الله وجهه قال : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل ، ثم قال : إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ، ولم يأخذه عن رأيه ، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله ، والكافر يعرف كفره بإنكاره ، أيها الناس دينكم دينكم ، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره ، إن السيئة فيه تغفر ، وإن الحسنة في غيره لا تقبل.

( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) أي وما خرج أهل الكتاب من الإسلام الذي جاء به أنبياؤهم على نحو ما فصلناه آنفا ، وصاروا مذاهب وشيعا يقتتلون في الدين ـ والدين واحد لا مجال فيه للاختلاف والاقتتال إلا بسبب البغي وتجاوز الحدود من الرؤساء ، ولو لا بغيهم ونصرهم مذهبا على مذهب وتضليلهم من خالفهم بتفسيرهم نصوص الدين بالرأى والهوى وتأويل بعضه أو تحريفه لما حدث هذا الاختلاف.

والتاريخ شهيد بأن الملوك والأحبار هم الذين جعلوا الدين المسيحي مذاهب ينقض بعضها بعضا ، وجعلوا أهله شيعا يفتك بعضهم ببعض. فآريوس وأتباعه الذين دعوا إلى التوحيد بعد فشوّ الشرك ، قد حكم عليهم المجمع الذي ألفه الملك قسطنطين سنة 325 م بالإلحاد وإحراق كتبهم وتحريم اقتنائها ، ولما انتشرت تعاليمه فيما بعد حكم تيودوسيوس الثاني بإبادة الآريوسية بقانون رومانى صدر سنة 628 م ، وبقيت مذاهب التثليث تتطاحن ويغالب بعضها بعضا.

والعبرة من هذا القصص أن نبتعد عن الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب كما فعل من قبلنا ، ولكن وا أسفا وقعنا فيما وقع فيه السالفون ، وتفرقنا طرائق قددا ، وأصابنا من الخذلان والذل بسبب هذا التفرق ما لا نزال نئنّ منه ، ونرجو أن يشملنا الله بعفوه ورحمته ، ويمدنا بروح من عنده ؛ فيسعى أهل الإيمان الصادق في نبذ الاختلاف والشقاق ، والعودة إلى الوحدة والاتفاق ، حتى يعود

١١٩

المسلمون إلى سيرتهم الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، ومن تبعهم بإحسان.

( وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) أي ومن يكفر بآيات الله الدالة على وجوب الاعتصام بالدين ووحدته وحرمة الاختلاف والتفرق فيه ، ويترك الإذعان لها ـ فالله يجازيه ويعاقبه على ما اجترح من السيئات ، والله سريع الحساب.

والمراد بآيات الله هنا هى آياته التكوينية في الأنفس والآفاق ، ويدخل في ترك الإذعان لها صرفها عن وجهها لتوافق مذاهب أهل الزيغ والإلحاد وآياته التشريعية التي أنزلها على رسله.

( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) أي فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم ـ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه فى دينهم وتعودوه من التحريف والتأويل والرجوع إلى حقيقة الدين وإسلام الوجه لله والإخلاص له ـ بعد أن أقمت لهم البراهين والبينات ، وجئتهم بالحق ـ فقل لهم : أقبلت بعبادتي على ربى مخلصا له ، معرضا عما سواه ، أنا ومن اتبعنى من المؤمنين.

والخلاصة ـ إنه لا فائدة من الجدل مع مثل هؤلاء لأنه لا يكون إلا فيما فيه خفاء أما وقد قامت الأدلة ، وبطلت شبهات الضالين فهو مكابرة وعناد ، ولا يستحق منك إلا الإعراض وعدم إضاعة الوقت سدى.

( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟ ) أي وقل لليهود والنصارى ومشركى العرب ـ وخص هؤلاء بالذكر مع أن البعثة عامة ، لأنهم هم الذين خوطبوا أولا بالدعوة ـ أأسلمتم كما أسلمت بعد أن وضحت لكم الحجة ، وجاءكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه ، أم تصرّون على كفركم وعدم ترككم للعناد؟

ومثل هذا مثل من يلخص مسألة لسائل ، ولا يدع طريقا من طرق البيان إلا سلكه ، ثم يقول له : أفهمتها؟

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686