كمال الدين وتمام النعمة

كمال الدين وتمام النعمة8%

كمال الدين وتمام النعمة مؤلف:
المحقق: علي أكبر الغفاري
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 686

كمال الدين وتمام النعمة المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 686 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 143226 / تحميل: 8008
الحجم الحجم الحجم
كمال الدين وتمام النعمة

كمال الدين وتمام النعمة

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

حدث السنِّ، له جلالة وهيبة، فلمّا نظر إليه أبي قام فمشى إليه خطىً ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هشام ولا بالقوَّاد ولا بأولياء العهد، فلمّا دنامنه عانقه وقبّل وجهه ومنكبيه وأخذ بيده فأجلسه على مصلّاه الّذي كان عليه، وجلس إلى جنبه، مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلّمه ويكنيه، ويفديه بنفسه وبأبويه، وأنا متعجّب ممّا أرى منه إذ دخل عليه الحجّاب فقالوا: الموفّق قد جاء(١) ، وكان الموفّق إذا جاء ودخل على أبي تقدم حجابه وخاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدَّار سماطين(٢) إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً عليه(٣) يحدِّثه حتّى نظر إلى غلمان الخاصّة فقال حينئذ: إذا شئت فقم جعلني الله فداك يا أبا محمّد، ثمّ قال لغلمانه: خذوا به خلف السماطين كيلا يراه الامير - يعني الموفّق - فقام وقام أبي فعانقه وقبّل وجهه ومضى، فقلت لحجّاب أبي وغلمانه: ويلكم من هذا الّذي فعل به أبي هذا الّذي فعل؟ فقالوا: هذا رجلٌ من العلويّة يقال له: الحسن بن علىٍّ يعرف با ابن الرِّضا، فازددت تعجّباً، فلم أزل يومى ذلك قلقا متفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيت منه حتّى كان الليل وكانت عادته أن يصلّي العتمة، ثمّ يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات وما يرفعه إلى السلطان فلمّا صلّى وجلس(٤) جئت فجلست بين يديه فقال،: يا أحمد ألك حاجة؟ فقلت: نعم يا أبة أن أذنت سألتك عنها؟ فقال: قد أذنت لك يا بنيَّ فقل ما أحببت فقلت له: يا أبة من كان الرجل الّذي أتاك بالغداة وفعلت به ما فعلت من الاجلال والاكرام والتبجيل، وفديته بنفسك وبأبويك؟ فقال: يا بني ذاك إمام الرافضة، ذاك ابن الرِّضا، فسكت ساعة فقال: يا بنيَّ لوزالت الخلافة عن خلفاء بني العبّاس ما استحقها

____________

(١) الموفق هو أخو الخليفة المعتمد على الله أحمد بن المتوكل وكان صاحب جيشه.

(٢) السماط: الصف من النّاس، يعنى رديفين منظمين، وفى الكافي « فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن. »

(٣) أي مقبلا على أبى محمّدعليه‌السلام .

(٤) في بعض النسخ « فلمّا نظر وجلس ».

٤١

أحد من بني هاشم غير هذا، فإنَّ هذا يستحقّها في فضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه، ولو رأيت أباه لرأيت رجلاً جليلاً نبيلاً خيراً فاضلاً، فازددت قلقاً وتفكراً وغيظاً على أبي ممّا سمعت منه فيه ولم يكن لي همة بعد ذلك إلّا السؤال عن خبره، والبحث عن أمره، فما سألت عنه أحداً من بني هاشم ومن القوّاد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر النّاس إلّا وجدته عندهم في غاية الاجلال والاعظام والمحلِّ الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه وغيرهم وكلُّ يقول: هو إمام الرَّافضة، فعظم قدره عندي إذ لم أرله وليا ولاعدوا إلّا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه.

فقال له بعض أهل المجلس من الاشعريّين: يا أبا بكر فما خبر أخيه جعفر؟ فقال: ومن جعفر فيسأل عن خبره(١) أو يقرن به، إنَّ جعفراً معلن بالفسق، ماجن(٢) ، شرّيب للخمور، وأقلّ من رأيته من الرِّجال وأهتكهم لستره، فدم خمّارٌ(٣) قليلٌ في نفسه، خفيف، والله لقد ورد على السّلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن عليٍّعليهما‌السلام ما تعجّبت منه وما ظننت أنَّه يكون وذلك أنَّه لمّا اعتلَّ بعث إلى أبي أنَّ ابن الرضا قد اعتلَّ، فركب من ساعته مبادراً إلى دار الخلافة، ثمّ رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدّام أمير المؤمنين كلّهم من ثقاته وخاصّته فمنهم نحرير(٤) وأمرهم بلزوم دار الحسن بن عليٍّعليهما‌السلام وتعرُّف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطبّبين فأمرهم بالاختلاف إليه(٥) وتعاهده صباحاً ومساءً، فلمّا كان بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره أنَّه قد ضعف فركب حتّى بكر إليه ثمّ أمر المتطبّبين بلزومه وبعث إلى قاضي

__________________

(١) المراد به جعفر الكذاب.

(٢) الماجن: من لم يبال بما قال وما صنع، والشريب - كسكين - المولع بالشراب.

(٣) الفدم: العيى عن الكلام في رخاوة وقلة فهم، والاحمق والمراد الثاني.

(٤) كان من خواص خدم الخليفة، وكان شقياً من الاشقياء. والنحرير: الحادق الفطن.

(٥) يعنى بالاختلاف: النردد للاطلاع على أحوالهعليه‌السلام .

٤٢

القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممّن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسنعليه‌السلام وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهاراً فلم يزالوا هناك حتّى توّفيعليه‌السلام لأيّام مضت من شهر ربيع الأوّل من سنة ستّين ومائتين، فصارت سر من رأى ضجّة واحدة - مات ابن الرِّضا - وبعث السّلطان إلى داره من يفتِّشها ويفتِّش حجرها، وختم على جميع ما فيها وطلبوا أثر ولده وجاؤوا بنساء يعرفن بالحبل، فدخلن على جواريه فنظرن إليهنَّ فذكر بعضهنَّ أنَّ هناك جارية بها حمل(١) فأمر بها فجعلت في حجرة ووكّل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثمّ أخذوا بعد ذلك في تهيئته، وعطلت الاسواق وركب أبى وبنو هاشم والقوّاد والكتاب وسائر النّاس إلى جنازتهعليه‌السلام فكانت سرَّ من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة، فلمّا فرغوا من تهيئته بعث السّلطان إلى أبى عيسى بن المتوكّل فأمره بالصّلاة عليه، فلمّا وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى منها فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلويّة والعبّاسيّة والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء والمعدّلين، وقال: هذا الحسن ابن عليّ بن محمّد، ابن الرِّضا مات حتف أنفه(٢) على فراشه حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان، ومن المتطبّبين فلان وفلان، ومن القضاة فلان وفلان، ثمّ غطى وجهه وقام فصلى عليه وكبّر عليه خمساً وأمر بحمله فحمل من وسط داره ودفن في البيت الّذي دفن فيه أبوهعليه‌السلام .

فلمّا دفن وتفرَّق النّاس اضطرب السّلطان وأصحابه في طلب ولده وكثر التفتيش في المنازل والدور وتوقفوا على قسمة ميراثه، ولم يزل الّذين وكلوا بحفظ الجارية الّتى توهّموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين وأكثر حتّى تبيّن لهم بطلان الحبل فقسم ميراثه بين أمّه وأخيه جعفر وادعت أمه وصيّته، وثبت ذلك عند القاضي. والسّلطان على ذلك يطلب أثر ولده، فجاء جعفر بعد قسمة الميراث إلى أبي، وقال له: اجعل لي مرتبة

__________________

(١) في بعض النسخ « لها حبل » وفى بعضها « بها حبل ».

(٢) يعنى مات من غير قتل ولاضرب ولاخنق.

٤٣

أبي وأخي وأوصل إليك في كلِّ سنة عشرين ألف دينار مسلّمة، فزبره(١) أبي وأسمعه وقال له: يا أحمق إنَّ السّلطان - أعزَّه الله - جرد سيفه وسوطه في الّذين زعموا أنَّ أباك وأخاك أئمّة ليردهم عن ذلك فلم يقدر عليه ولم يتهيأ له صرفهم عن هذا القول فيهما، وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيأ له ذلك، فإنَّ كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى السّلطان يرتّبك مراتبهم ولا غير السلطان وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا، واستقلّه (أبي) عند ذلك واستضعفه وأمر أن يحجب عنه، فلم يأذن له بالدُّخول عليه حتّى مات أبي وخرجنا والامر على تلك الحال، والسّلطان يطلب أثر ولد الحسن بن عليعليها‌السلام حتّى اليوم.

و كيف يصحُّ الموت إلّا هكذا وكيف يجوز ردُّ العيان وتكذيبه، وإنّما كان السلطان لا يفتر عن طلب الولد لأنّه قد كان وقع في مسامعه خبره وقد كان ولدعليه‌السلام قبل موت أبيه بسنين، وعرضه على أصحابه وقال لهم: « هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه فلا تتفرَّقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم، أما إنكم لن تروه بعد يومكم هذا، فغيبه ولم يظهره، فلذلك لم يفتر السّلطان عن طلبه.

وقد روى أنَّ صاحب هذا الامر هو الّذي تخفى ولادته على النّاس ويغيب عنهم شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج وأنّه هو الّذي يقسم ميراثه وهو حيٌّ، وقد أخرجت ذلك مسنداً في هذا الكتاب في موضعه، وقد كان مرادنا بايراد هذا الخبر تصحيحاً لموت الحسن بن عليعليهما‌السلام ، فلمّا بطل وقوع الغيبة لمن ادُّعيت له من محمّد بن عليّ بن الحنفيّة، والصادق جعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، والحسن بن عليٍّ العسكريعليهم‌السلام بما صحَّ من وفاتهم فصحَّ وقوعها بمن نصَّ عليه النبيُّ والائمّة الاحد عشر صلوات الله عليهم وهو الحجّة بن الحسن بن عليّ بن محمّد العسكريعليهم‌السلام وقد أخرجت الاخبار المسندة في ذلك الكتاب في أبواب النصوص عليه صلوات الله عليه.

__________________

(١) أي زجره.

٤٤

وكلُّ من سألنا من المخالفين عن القائمعليه‌السلام لم يخل من أن يكون قائلاً بامامة الائمّة الأحد عشر من آبائهعليهم‌السلام أو غير قائل بامامتهم، فإنَّ كان قائلاً بإمامتهم لزمه القول بامامة الامام الثاني عشر لنصوص آبائه الائمّةعليهم‌السلام عليه باسمه ونسبه وإجماع شيعتهم على القول بامامته وإنّه القائم الّذي يظهر بعد غيبة طويلة فيملا الأرض قسطاً وعدلاً كما مئلت جوراً وظلماً. وإن لم يكن السائل من القائلين بالائمة الاحد عشرعليهم‌السلام لم يكن له علينا جواب في القائم الثاني عشر من الائمّةعليهم‌السلام وكان الكلام بيننا وبينه في إثبات إمامة آبائه الائمّة الأحد عشرعليهم‌السلام ، وهكذا لو سألنا يهودي فقال لنا: لم صارت الظهر أربعاً والعصر أربعاً والعتمة أربعا والغداة ركعتين والمغرب ثلاثا؟ لم يكن له علينا في ذلك جواب، بل لنا أن نقول له: إنّك منكر لنبوّة النبيّ الّذي أتى بهذه الصّلوات وعدد ركعاتها، فكلّمنا في نبوّته وإثباتها فإنَّ بطلت بطلت هذه الصّلوات وسقط السؤال عنها، وإن ثبتت نبوّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزمك الاقرار بفرض هذه الصلوات على عدد ركعاتها لحصة مجيئها عنه واجتماع امته عليها، عرفت علّتها أم لم تعرفها، وهكذا الجواب لمن سأل عن القائمعليه‌السلام حذو النّعل بالنّعل.

جواب عن اعتراض:

وقد يعترض معترضٌ جاهل بآثار الحكمة، غافل عن مستقيم التدبير لاهل الملّة بأن يقول: ما بال الغيبة وقعت بصاحب زمانكم هذا دون من تقدَّم من آبائه الائمّة بزعمكم وقد نجد شيعة آل محمّدعليهم‌السلام في زماننا هذا أحسن حالا وأرغد عيشاً منهم في زمن بني امية إذ كانوا في ذلك الزَّمان مطالبين بالبراءة من أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى غير ذلك من أحوال القتل والتشريد. وهم في هذا الحال وادعون سالمون، قد كثرت شيعتهم وتوافرت أنصارهم وظهرت كلمتهم بموالاة كبراء أهل الدّولة لهم وذوى السّلطان والنجدة منهم.

فأقول - وبالله التوفيق -: أنَّ الجهل غير معدوم من ذوي الغفلة وأهل التكذيب والحيرة وقد تقدَّم من قولنا أنَّ ظهور حجج اللهعليهم‌السلام واستتارهم جرى في وزن

٤٥

الحكمة(١) حسب الامكان والتدبير لاهل الايمان، وإذا كان ذلك كذلك فليقل ذو والنظر والتمييز: إنَّ الامر الان - وإن كان الحال كما وصفت - أصعب والمحنة أشدُّ ممّا تقدَّم من أزمنة الائمّة السالفةعليهم‌السلام وذلك أنَّ الائمّة الماضية أسرُّوا في جميع مقاماتهم إلى شيعتهم والقائلين بولايتهم والمائلين من النّاس إليهم حتّى تظاهر ذلك بين أعدائهم أنَّ صاحب السّيف هو الثاني عشر من الائمّةعليهم‌السلام وأنّهعليه‌السلام لا يقوم حتّى تجييء صيحة من السماء باسمه واسم أبيه والانفس منيتة(٢) على نشر ما سمعت وإذاعة ما أحسّت فكان ذلك منتشراً بين شيعة آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعند مخالفيهم من الطواغيت وغيرهم وعرفوا منزلة أئمّتهم من الصّدق ومحلهم من العلم والفضل، وكانوا يتوقفون عن التسرُّع إلى إتلافهم ويتحامون القصد لانزال المكروه بهم مع ما يلزم من حال التدبير في إيجاب ظهورهم كذلك ليصل كلّ امرء منهم إلى ما يستحقه من هداية أو ضلالة كما قال الله تعالى: «من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً »(٣) وقال الله عزَّ وجلَّ: «وليزيدنَّ كثيراً منهم ما انزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين »(٤) وهذا الزَّمان قد استوفى أهله كل إشارة من نصٍّ وآثار فتناهت بهم الاخبار واتصلت بهم الاثار إلى أنَّ صاحب هذا الزَّمانعليه‌السلام هو صاحب السّيف والأنفس منيتة(٢) على ما وصفنا من نشر ما سمعت وذكر ما رأت وشاهدت، فلو كان صاحب هذا الزَّمانعليه‌السلام ظاهراً موجوداً لنشر شيعته ذلك ولتعدّاهم إلى مخالفيهم بحسن ظنٍّ بعضهم بمن يدخل فيهم ويظهر الميل إليهم وفي أوقات الجدال بالدّلالة على شخصه والاشارة إلى مكانه كفعل هشام بن الحكم مع الشاميِّ وقد ناظره بحضرة الصادقعليه‌السلام

__________________

(١) كذا، يعنى في ميزان الحكمة.

(٢) في بعض النسخ « مبنية » والمنيتة أي المائلة كما في بعض اللغات. وفي بعض النسخ « منبعثة ».

(٣) الكهف: ١٧.

(٤) المائدة: ٦٨.

٤٦

فقال الشامي لهشام: من هذا الّذي تشير إليه وتصفه بهذه الصفات؟ قال هشام: هو هذا وأشار بيده إلى الصادقعليه‌السلام فكان يكون ذلك منتشراً في مجالسهم كانتشاره بينهم مع إشارتهم إليه بوجود شخصه ونسبه ومكانه، ثمّ لم يكونوا حينئذ يمهلون ولا ينظرون كفعل فرعون في قتل أولاد بني إسرائيل للّذي قد كان ذاع منهم وانتشر بينهم من كون موسىعليه‌السلام بينهم وهلاك فرعون ومملكته على يديه، وكذلك كان فعل نمرود قبله في قتل أولاد رعيّته وأهل مملكته في طلب إبراهيمعليه‌السلام زمان انتشار الخبر بوقت ولادته وكون هلاك نمرود وأهل مملكته ودينه على يديه كذلك طاغية زمان وفاة الحسن بن - علىعليهما‌السلام والد صاحب الزَّمانعليه‌السلام وطلب ولده والتوكيل بداره وحبس جواريه وانتظاره بهنَّ وضع الحمل الّذي كان بهن(١) ، فلو لا أنَّ إرادتهم كانت ما ذكرنا من حال إبراهيم وموسىعليهما‌السلام لمّا كان ذلك منهم، وقد خلّفعليه‌السلام أهله وولده وقد علموا من مذهبه ودينه أن لا يرث مع الولد والأبوين أحد إلّا زوج أو زوجة، كلّاً ما يتوهّم غير هذا عاقل ولافهم غير هذا مع ما وجب من التدبير والحكمة المستقيمة ببلوغ غاية المدة في الظهور والاستتار فإذا كان ذلك كذلك وقعت الغيبة فاستتر عنهم شخصه وضلّوا عن معرفة مكانه، ثمّ نشر ناشرٌ من شيعته شيئاً من أمره بما وصفناه وصاحبكم في حال الاستتار فوردت عادية من طاغوت الزَّمان أو صاحب فتنة من العوام تفحّص عمّا ورد من الاستتار وذكر من الأخبار فلم يجد حقيقة يشار إليها ولا شبهة يتعلّق بها انكسرت العادية وسكنت الفتنة وتراجعت الحميّة، فلا يكون حينئذ على شيعته ولا على شيء من أشيائهم(٢) لمخالفيهم متسلّق ولا إلى اصطلامهم سبيلٌ متعلّق(٣) وعند ذلك تخمد النائرة وترتدع العادية، فتظاهر أحوالهم عند الناظر في شأنهم، ويتّضح للمتأمل أمرهم، ويتحقّق المؤمن المفكّر في مذهبهم، فيلحق بأولياء الحجّة من كان في حيرة الجهل و

__________________

(١) في بعض النسخ « وضع حمل أن كان بهن ».

(٢) في بعض النسخ « من اسبابهم ».

(٣) تسلق الجدار: تسوره وصعد عليه، والمتسلق: آلة التسلق. والاصطلام: الاستيصال.

٤٧

ينكشف عنهم ران الظلمة(١) عند مهلة التأمل للحقِّ(٢) بيّناته وشواهد علاماته كحال اتّضاحه وانكشافه عند من يتأمّل كتابنا هذا مريداً للنجاة، هارباً من سبل الضّلالة، ملتحقاً بمن سبقت لهم من الله الحسنى، فآثر على الضّلالة الهدى.

جواب عن اعتراض آخر

ومما سأل عنه جهّال المعاندين للحقِّ أن قالوا: أخبرونا عن الامام في هذا الوقت يدعى الامامة أم لا يدَّعيها ونحن نصير إليه فنسأله عن معالم الدِّين فإنَّ كان يجيبنا ويدّعي الامامة علمنا أنَّه الامام، وإن كان لا يدَّعي الامامة ولا يجيبنا إذا صرنا إليه فهو ومن ليس بامام سواء.

فقيل لهم: قد دل على إمام زماننا الصادق الّذي قبله وليست به حاجةٌ إلى أن يدَّعى هو أنَّه إمام إلّا أن يقول ذلك على سبيل الاذكار والتأكيد، فأمّا على سبيل الدَّعوى الّتي نحتاج إلى برهان فلا، لأنَّ الصادق الّذي قبله قد نصَّ عليه وبيّن أمره وكفاه مؤونة الادِّعاء، والقول في ذلك نظير قولنا في عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام في نصِّ النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستغنائه عن أن يدَّعي هو لنفسه أنَّه إمام، فأمّا إجابته أياكم عن معالم الدِّين فإنَّ جئتموه مسترشدين متعلّمين، عارفين بموضعه، مقرِّين بامامته عرَّفكم وعلّمكم. وإن جئتموه أعداءً له، مرصدين بالسعاية إلى أعدائه، منطوين على مكروهه عند أعداء الحقِّ، متعرِّفين مستور امور الدِّين لتذيعوه لم يجبكم لأنّه يخاف على نفسه منكم، فمن لم يقنعه هذا الجواب قلبنا عليه السؤال في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في الغار أن لو أراد النّاس أن يسألوه عن معالم الدِّين هل كانوا يلقونه ويصلون إليه أم لا، فإنَّ كانوا يصلون إليه فقد بطل أن يكون استتاره في الغار، وإن كانوا لا يصلون إليه فسواء وجوده في العالم وعدمه على علتكم، فإنَّ قلتم: أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان متوقيّاً، قيل: وكذلك الامامعليه‌السلام في هذا الوقت متوق، فإنَّ قلتم: أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك قد ظهر ودعا إلى نفسه، قلنا: وما في ذلك من الفرق أليس قد كان نبيّاً قبل أن يخرج من الغار

__________________

(١) أي تغطية الظلمة. وفي بعض النسخ « درن الظلمة » والدرن: الوسخ.

(٢) في بعض النسخ « المتأمل للحق ».

٤٨

ويظهر وهو في الغار مستتر ولم ينقض ذلك نبوَّته، وكذلك الامام يكون إماماً وإن كان يستتر بامامته ممّن يخافه على نفسه، ويقال لهم: ما تقولون في أفاضل أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ والمتقدّم في الصدق منهم لو لقيتهم كتيبة المشركين يطلبون نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعرفوه فسألوهم عنه هل هو هذا؟ وهو بين أيديهم أو كيف أخفى؟(١) وأين هو؟ فقالوا: ليس نعرف موضعه أو ليس هو هذا؟ هل كانوا في ذلك كاذبين مذمومين غير صادقين ولا محمودين أم لا؟ فإنَّ قلتم: كاذبين خرجتم من دين الاسلام بتكذيبكم أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن قلتم: لا يكون ذلك كذلك لأنّهم يكونون قد حرفوا كلامهم وأضمروا معنى أخرجهم من الكذب وإن كان ظاهره ظاهر كذب، فلا يكونون مذمومين بل محمودين لأنّهم دفعوا عن نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القتل.

قيل لهم: وكذلك الامام إذا قال: لست بامام ولم يجب أعداءه عمّا يسألونه عنه لا يزيل ذلك إمامته لأنّه خائف على نفسه، وإن أبطل جحده لاعدائه أنَّه إمام في حال الخوف إمامته أبطل على أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكونوا صادقين في إجابتهم المشركين بخلاف ما علموه عند الخوف، وإن لم يزُل ذلك صدق الصحابة لم يزل أيضاً ستر الامام نفسه إمامته، ولا فرق في ذلك، ولو أنَّ رجلاً مسلماً وقع في أيدي الكفّار وكانوا يقتلون المسلمين إذا ظفروا بهم فسألوه هل أنت مسلمٌ؟ فقال: لا، لم يكن ذلك بمخرج له من الاسلام، فكذلك الامام إذا جحد عند أعدائه ومن يخافه على نفسه أنَّه إمام لم يخرجه ذلك من الامامة.

فان قالوا: إنَّ المسلم لم يجعل في العالم ليعلّم النّاس ويقيم الحدود، فلذلك افترق حكماهما ووجب أن لا يستر الامام نفسه.

قيل لهم: لم نقل إنَّ الامام يستر نفسه (عن جميع النّاس)(٢) لأنّ الله عزَّ وجلَّ قد نصبه وعرَّف الخلق مكانه بقول الصادق الّذي قبله فيه ونصبه له، وإنّما قلنا: أنَّ الامام لا يقرُّ عند أعدائه بذلك خوفاً منهم أن يقتلوه فأمّا أن يكون مستوراً عن

__________________

(١) أي كيف أخفى نفسه. وفى بعض النسخ « كيف أخذ ».

(٢) هذه الزيادة بين القوسين كانت في بعض النسخ دون بعض.

٤٩

جميع الخلق فلا، لأنّ النّاس جميعاً لو سألوا عن إمام الاماميّة من هو؟ لقالوا: فلان بن فلان مشهورٌ عند جميع الاُمّة، وإنّما تكلّمنا في أنَّه هل يقر عند أعدائه أم لا يقرُّ، وعارضناكم باستتار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار وهو مبعوثٌ معه المعجزات وقد أتى بشرع مبتدع ونسخ كلّ شرع قبله وأريناكم أنَّه إذا خاف كان له أن يجحد عند أعدائه أنَّه إمام ولا يجيبهم إذا سألوه، ولا يخرجه ذلك من أن يكون إماماً، ولا فرق في ذلك، فإنَّ قالوا: فإذا جوّزتم للامام أن يجحد إمامته أعداءه عند الخوف فهل يجوز للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجحد نبوَّته عند الخوف من أعدائه؟ قيل لهم: قد فرق قوم من أهل الحق بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين الامام بأن قالوا: أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الدّاعي إلى رسالته والمبيّن للنّاس ذلك بنفسه فإذا جحد ذلك وأنكره للتقيّة بطلت الحجّة، ولم يكن أحد يبين عنه، والامام قد قام له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحجته وأبان أمره فإذا سكت أو جحد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كفاه ذلك. وليس هذا جوابنا، ولكنا نقول: أنَّ حكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكم الامام سيان في التقية إذا كان قد صدع بأمر الله عزَّ وجلَّ وبلغ رسالته وأقام المعجزات، فأمّا قبل ذلك فلا وقد محى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اسمه من الصحيفة في صلح الحديبية حين أنكر سهيل بن عمرو، وحفص بن الاحنف نبوَّته فقال لعليٍّعليه‌السلام : امحه واكتب: هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله. فلم يضر ذلك نبوَّته إذا كانت الاعلام في البراهين قد قامت له بذلك من قبل، وقد قبل الله عزَّ وجلَّ عذر عمّار حين حمله المشركون على سبِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرادوا قتله فسبه، فلمّا رجع إلى النبيّ صلى عليه وآله قال: قد أفلح الوجه يا عمار، قال: ما أفلح وقد سببتك يا رسول الله، فقالعليه‌السلام : أليس قلبك مطئمنٌّ بالايمان؟ قال: بلى يا رسول الله، فأنزل الله تبارك وتعالى «إلّا من اكره وقلبه مطمئنٌّ بالايمان »(١) والقول في ذلك ينافي الشريعة من إجازة ذلك في وقت وحظره في وقت آخر، وإذا جاز للامام أن يجحد إمامته ويستر أمره جاز أن يستر شخصه متى أوجبت الحكمة غيبته وإذا جاز أن يغيب يوماً لعلّه موجبة جاز سنة، وإذا جاز

__________________

(١) النحل: ١٠٦.

٥٠

سنة، جاز مائة سنة، وإذا جاز مائة سنة جاز أكثر من ذلك إلى الوقت الّذي توجب الحكمة ظهوره كما أوجبت غيبته، ولا قوَّة إلّا بالله.

ونحن نقول مع ذلك(١) : إنَّ الامام لا يأتي جميع ما يأتيه من اختفاء وظهور وغيرهما إلّا بعهد معهود إليه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قد وردت به الاخبار عن أئمتناعليهم‌السلام .

حدثنا محمّد بن موسى بن المتوكّلرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا عليٌّ بن - إبراهيم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهرويَّ، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرِّضا، عن أبيه، عن آبائه، عن عليعليهم‌السلام قال: قال النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والّذي بعثني بالحقِّ بشيراً ليغيبنَّ القائم من ولدي بعهد معهود إليه منّي حتّى يقول أكثر النّاس: ما لله في آل محمّد حاجة، ويشكُّ آخرون في ولادته، فمن أدرك زمانه فليتمسّك بدينه، ولا يجعل للشّيطان إليه سبيلا بشكّه(٢) فيزيله عن ملّتي ويخرجه من ديني، فقد أخرج أبويكم من الجّنة من قبل، وإن الله عزَّ وجلَّ جعل الشياطين أولياء للّذين لا يؤمنون.

اعتراضات لابن بشار:

وقد تكلّم علينا أبو الحسن عليُّ بن أحمد بن بشّار في الغيبة وأجابه أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازيُّ(٣) وكان من كلام عليّ بن أحمد بن بشّار علينا في ذلك أن قال في كتابه أقول: إنَّ كلّ المبطلين أغنياء عن تثبيت إنيّة من يدّعون له، وبه يتمسكون، وعليه يعكفون، ويعطفون لوجود أعيانهم وثبات إنياتهم وهؤلاء

__________________

(١) في بعض النسخ « في ذلك ».

(٢) في بعض النسخ « يشككه ».

(٣) محمّد بن عبد الرحمن بن قبة - بالقاف المكسورة وفتح الباء الموحدة الرازي أبو جعفر متكلم عظيم القدر حسن العقيدة كان قديماً من المعتزلة وتبصر وانتقل، وكان شيخ الاماميّة في زمانه كما في (جش وصه).

٥١

(يعني أصحابنا) فقراء إلى ما قد غني عنه كلُّ مبطل سلف من تثبيت إنيّة من يدّعون له وجوب الطاعة، فقد افتقروا إلى ما قد غني عنه سائر المبطلين واختلفوا بخاصة ازدادوا بها بطلاناً وانحطّوا بها عن سائر المبطلين، لأنّ الزيادة من الباطل تحطُّ والزيادة من الخير تعلو، والحمد لله ربِّ العالمين.

ثم قال: وأقول قولاً تعلم فيه الزيادة على الانصاف منّا وإن كان ذلك غير واجب علينا. أقول: إنَّه معلوم إنَّه ليس كلّ مدَّع ومدَّعى له بمحقٍّ، وإن كلّ سائل لمدَّع تصحيح دعواه بمنصف(١) وهؤلاء القوم ادَّعوا أنَّ لهم من قد صح عندهم أمره ووجب له على النّاس الانقياد والتسليم وقد قدمنا أنَّه ليس كلّ مدَّع ومدَّعى له بواجب له التسليم، ونحن نسلّم لهؤلاء القوم الدّعوى ونقرُّ على أنفسنا بالابطال - وإن كان ذلك في غاية المحال - بعد أن يوجدونا إنيّة المدّعى له ولا نسألهم تثبيت الدَّعوى، فإنَّ كان معلوماً أنَّ في هذا أكثر من الانصاف فقد وفينا بما قلنا، فإنَّ قدروا عليه فقد أبطلوا، وإن عجزوا عنه فقد وضح ما قلناه من زيادة عجزهم عن تثبيت ما يدّعون على عجز كلّ مبطل عن تثبيت دعواه. وأنّهم مختصون من كلّ نوع من الباطل بخاصّة يزدادون بها انحطاطاً عن المبطلين أجمعين لقدرة كلّ مبطل سلف على تثبيت دعواه إنيّة من يدَّعون له وعجز هؤلاء عمّا قدر عليه كلّ مبطل إلّا ما يرجعون إليه من قولهم « إنَّه لابدّ ممّن تجب به حجّة الله عزَّ وجلَّ » وأجل لابد من وجوده فضلاً عن كونه، فأوجدونا الانية من دون إيجاد الدَّعوي.

ولقد خبرت عن أبي جعفر بن أبي غانم(٢) أنَّه قال لبعض من سأله فقال: بم تحاجَّ الّذين(٣) كنت تقول ويقولون: إنَّه لابدَّ من شخص قائم من أهل هذا البيت؟ قال

__________________

(١) في بعض النسخ « ليس كلّ مدع ومدعى له فمحق وان كان (كل - خ ل) سائل للمدعى تصحيح دعواه فمنصف ».

(٢) هو غير عليّ بن أبي غانم الّذي عنونه منتجب الدِّين بل هو رجل آخر لم أعثر على عنوانه في كتب الرجال.

(٣) في بعض النسخ « الّذي ».

٥٢

له(١) : أقول لهم: هذا جعفر.

فياعجبا أيخصم النّاس بمن ليس هو بمخصوم(٢) وقد كان شيخ في هذه النّاحيةرحمه‌الله يقول: قد وسمت هؤلاء باللّابديّة أي أنَّه لا مرجع لهم ولا معتمد إلّا إلى أنَّه لابدّ من أن يكون هذا الّذي (ليس) في الكاينات، فوسمهم من أجل ذلك، ونحن نسمّيهم بها أي أنهم دون كلّ من له بدَّ يعكف عليه إذ كان أهل الأصنام الّتى أحدها البدّ قد عكفوا على موجود وإن كان باطلاً، وهم قد تعلّقوا بعدم ليس وباطل محض وهم اللّابدّيّة حقّاً، أي لابدّ لهم يعكفون عليه(٣) إذ كان كلُّ مطاع معبود، وقد وضح ما قلنا من اختصاصهم من كلّ نوع الباطل بخاصّة يزدادون بها انحطاطاً والحمد لله.

ثمَّ قال: نختم الان هذا الكتاب بأن نقول: إنّما نناظر ونخاطب من قد سبق منه الاجماع على أنَّه لابدّ من إمام قائم من أهل هذا البيت تجب به حجّة الله ويسدُّ به فقر الخلق وفاقتهم ومن لم يجتمع معنا على ذلك فقد خرج من النظر في كتابنا فضلا عن مطالبتنا به ونقول لكلِّ من اجتمع معنا على هذا الاصل من الّذي قدَّمنا في هذا الموضع: كنّا وإيّاكم قد أجمعنا على أنَّه لا يخلو أحد من بيوت هذه الدّار من سراج زاهر، فدخلنا الدّار فلم نجد فيها إلّا بيتاً واحدا فقد وجب وصحَّ أنَّ في ذلك البيت سراجاً. والحمد لله رب العالمين.

فأجابه أبو جعفر محمّد بن عبد الرَّحمن بن قبة الرَّازيُّ بأن قال: إنّا نقول: - وبالله التوفيق: - ليس الاسراف في الادِّعاء والتقوُّل على الخصوم ممّا يثبت بهما حجّة، ولو كان ذلك كذلك لارتفع الحجاج بين المختلفين واعتمد كلُّ واحد على إضافة ما يخطر بباله من سوء القول إلى مخالفه وعلى ضدِّ هذا بني الحجاج ووضع

__________________

(١) يعنى أبو جعفر قال للمعترض.

(٢) لمّا كان جواب أبي جعفر ابن أبي غانم للمعترض: « أقول أنَّه جعفر ». تعجب منه ابن بشارلان جعفر ليس بقابل أن يخاصم فيه أولم يكن مورداً لها.

(٣) كذا.

٥٣

النظر والانصاف أولى ما يعامل به أهل الدِّين وليس قول أبي الحسن ليس لنا ملجأ نرجع إليه ولا قيّماً نعطف عليه ولا سنداً نتمسّك بقوله حجّة لأنّ دعواه هذا مجرّد من البرهان، والدّعوى إذا انفردت عن البرهان كانت غير مقبول عند ذوي العقول والالباب ولسنا نعجز عن أن نقول: بلى لنا - والحمد لله - من نرجع إليه ونقف عند أمره ومن كان ثبتت حجّته وظهرت أدلّته، فإنَّ قلت: فأين ذلك؟ دلّونا عليه قلنا: كيف تحبّون أن ندلّكم عليه أتسألوننا أن نأمره أن يركب ويصير إليكم ويعرض نفسه عليكم أو تسألونا أنَّ نبني له داراً ونحوّله إليها ونعلم بذلك أهل الشرق والغرب فإنَّ رمتم ذلك فلسنا نقدر عليه ولا ذلك بواجب عليه، فإنَّ قلتم: من أيِّ وجه تلزمنا حجّته وتجب علينا طاعته؟ قلنا: إنّا نقرُّ أنَّه لا بدّ من رجل من ولد أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكريّعليهما‌السلام تجب به حجّة الله دللناكم على ذلك حتّى نضطرُّكم إليه أن أنصفتم من أنفسكم، وأوَّل ما يجب علينا وعليكم أن لا نتجاوز ما قد رضي به أهل النظر واستعملوه ورأوا أنَّ من حاد عن ذلك فقد ترك سبيل العلماء، وهو أنّا لا نتكلّم في فرع لم يثبت أصله وهذا الرجل الّذي تجحدون وجوده فانّما يثبت له الحقُّ بعد أبيه وأنتم قوم لا تخالفونا في وجود أبيه فلا معنى لترك النظر في حق أبيه والاشتغال(١) بالنظر معكم في وجوده فانه إذا ثبت الحق لابيه، فهذا ثابت ضرورة عند ذلك باقراركم، وإن بطل أن يكون الحقُّ لابيه فقد آل الأمر إلى ما تقولون وقد أبطلنا، وهيهات لن يزداد الحقّث إلّا قوة ولا الباطل إلّا وهناً، وإن زخرفه المبطلون، والدّليل على صحّة أمر أبيه إنّا وإياكم مجمعون على أنَّه لا بد من رجل من ولد أبي الحسن تثبت به حجّة الله وينقطع به عذر الخلق وإن ذلك الرجل تلزم حجّته من نأى عنه من أهل الاسلام كما تلزم من شاهده وعاينه ونحن وأكثر الخلق ممّن قد لزمتنا الحجّة من غير مشاهدة فننظر في الوجه الّذي لزمتنا منه الحجّة ما هي، ثمّ ننظر من أولى من الرّجلين اللّذين لا عقب لابي - الحسن غيرهما فأيهما كان أولى فهو الحجّة والامام ولا حاجة بنا إلى التطويل، ثمّ

__________________

(١) في بعض النسخ « والانتقال ».

٥٤

نظرنا من أيِّ وجه تلزم الحجّة من نأى عن الرُّسل والائمّةعليهم‌السلام فإذاً ذلك بالاخبار الّتى توجب الحجّة وتزول عن ناقليها تهمة التواطؤ عليها والاجماع على تخرُّصها ووضعها ثمّ فحصنا عن الحال فوجدنا فريقين ناقلين يزعم أحدهما أنَّ الماضي نصَّ على الحسنعليه‌السلام وأشار إليه ويروون مع الوصيّة وما له من خاصّة الكبر أدلة يذكرونها وعلماً يثبتونه، ووجدنا الفريق الاخر يروون مثل ذلك لجعفر لا يقول غير هذا فانّه أولى بنا نظرنا فإذاً الناقل لاخبار جعفر جماعة يسيرة والجماعة اليسيرة يجوز عليها التواطؤ والتلاقي والتراسُل فوقع نقلهم موقع شبهة لا موقع حجّة وحجج الله لا تثبت بالشبهات ونظرنا في نقل الفريق الاخر فوجدناهم جماعات متباعدي الديّار والاقطار، مختلفي الهمم والاراء متغايرين، فالكذب لا يجوز عليهم لنأي بعضهم عن بعض ولا التواطؤ ولا التراسل والاجتماع على تخرُّص خبر ووضعه، فعلمنا أنَّ النقل الصحيح هو نقلهم وأن المحق هؤلاء، ولانه أنَّ بطل ما قد نقله هؤلاء على ما وصفنا من شأنهم لم يصحّ خبرٌ في الأرض وبطلت الاخبار كلّها فتأمل - وفّقك الله - في الفريقين فانّك تجدهم كما وصفت، وفي بطلان الاخبار هدم الاسلام وفي تصحيحها تصحيح خبرنا، وفي ذلك دليل على صحّة أمرنا، والحمد لله رب العالمين.

ثم َّ رأيت الجعفريّة(١) تختلف في إمامة جعفر من أيِّ وجه تجب؟ فقال قوم: بعد أخيه محمّد، وقال قوم: بعد أخيه الحسن، وقال قوم: بعد أبيه. ورأيناهم لا يتجاوزون ذلك ورأينا أسلافهم وأسلافنا قد رووا قبل الحادث ما يدلُّ على إمامة الحسن وهو ما روي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: « إذا توالت ثلاثة أسماء: محمّد وعليٌّ والحسن فالرّابع القائم » وغير ذلك من الرّوايات وهذه وحدها توجب الامامة للحسن، وليس إلّا الحسن وجعفر. فإذا لم تثبت لجعفر حجّة على من شاهده في أيّام الحسن والامام ثابت الحجّة على من رآه ومن لم يره فهو الحسن اضطراراً، وإذا ثبت الحسنعليه‌السلام وجعفرٌ عندكم مبرَّء تبرّأ منه والامام لا يتبرّأُ من الامام والحسن قد مضى ولابدَّ عندنا وعندكم من

__________________

(١) يعنى القائلين بامامة جعفر الكذاب.

٥٥

رجل من ولد الحسنعليه‌السلام تثبت به حجّة الله، فقد وجب بالاضطرار للحسن ولدٌ قائمعليه‌السلام .

وقل يا أبا جعفر - أسعدك الله - لابي الحسن أعزَّه الله(١) : يقول محمّد بن عبد الرحمن قد أوجدناك إنيّة المدّعى له فأين المهرب؟ هل تقرُّ على نفسك بالابطال كما ضمنت أو يمنعك الهوى من ذلك فتكون كما قال الله تعالى: «وإنَّ كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم »(٢) .

فأمّا ما وسم به أهل الحقِّ من اللّابديّة لقولهم: « لابدَّ ممّن تجب به حجّة الله » فيا عجبا فلا يقول أبو الحسن لابدَّ ممّن تجب به حجّة الله؟ وكيف لا يقول وقد قال عند حكايته عنا وتعييره إيّانا: « أجل لابدّ من وجوده فضلاً عن كونه » فإنَّ كان يقول ذلك فهو وأصحابه من اللابدية وإنّما وسم نفسه وعاب إخوانه، وإن كان لا يقول ذلك فقد كفينا مؤونة تنظيره ومثله بالبيت والسراج، وكذا يكون حال من عاند أولياء الله يعيب نفسه من حيث يرى أنَّه يعيب خصمه، والحمد لله المؤيد للحق بأدلته. ونحن نسمي هؤلاء بالبُدِّية إذ كانوا عبدة البدَّ قد عكفوا على ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا. وهكذا هؤلاء، ونقول: يا أبا الحسن - هداك الله - هذا حجّة الله على الجنِّ والانس ومن لا تثبت حجّته على الخلق إلّا بعد الدعاء والبيان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخفى شخصه في الغار حتّى لم يعلم بمكانه ممّن احتج الله عليهم به إلّا خمسة نفر(٣) .

__________________

(١) يعنى بأبي جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة، وبابى الحسن عليّ بن أحمد ابن بشار.

(٢) الانعام: ١١٩.

(٣) المراد بالخمسة: عليّ بن أبي طالب، وأبو بكر، وعبد الله بن اريقط الليثي، واسماء بنت أبي بكر، وعامر بن فهيرة. والقصة كما في اعلام الورى هكذا: بقى رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار ثلاثة أيّام، ثمّ اذن الله له في الهجرة وقال: يا محمّد اخرج عن مكة فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب. فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقبل راع لبعض قريش يقال له ابن اريقط فدعاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال: يا ابن اريقط أئتمنك على دمي؟ قال إذا احرسك وأحفظك ولا

٥٦

فان قلت: إنَّ تلك غيبة بعد ظهوره وبعد أن قام على فراشه من يقوم مقامه، قلت لك: لسنا نحتجُّ عليك في حال ظهوره ولا استخلافه لمن يقوم مقامه من هذا في قبيل ولا دبير(١) وإنّما نقول لك: أليس تثبت حجّته في نفسه في حال غيبته على من لم يعلم بمكانه لعلّة من العلل فلا بدَّ من أن تقول: نعم، قلنا: ونثبت حجّة الامام وإن كان غائباً لعلّة اخرى وإلّا فما الفرق؟ ثمّ نقول: وهذا أيضاً لم يغب حتّى ملا آباؤهعليهم‌السلام آذان شيعتم بأن غيبته تكون وعرَّفوهم كيف يعملون عند غيبته.

فان قلت في ولادته، فهذا موسىعليه‌السلام مع شدَّة طلب فرعون إيّاه وما فعل بالنِّساء والاولاد لمكانه حتّى أذن الله في ظهوره، وقد قال الرِّضاعليه‌السلام في وصفه: « بأبي واُمّي شبيهي وسمّي جدِّي وشبيه موسى بن عمران.

وحجّة اخرى نقول لك: يا أبا الحسن أتقرُّ أنَّ الشيعة قد روت في الغيبة أخبارا؟ فإنَّ قال: لا، أوجدناه الاخبار، وإن قال: نعم، قلنا له: فكيف تكون حالة النّاس إذا غاب إمامهم فكيف تلزمهم الحجّة في وقت غيبته، فإنَّ قال: يقيم من يقوم مقامه، فليس يقوم عندنا وعندكم مقام الامام إلّا الامام، وإذا كان إماماً قائماً(٢)

__________________

أدل عليك فأين تريد يا محمد؟ قال: يثرب، قال: والله لاسلكن بك مسلكا لا يهتدى إليه أحد، قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ائت عليا وبشره بان الله قد أذن لي في الهجرة فيهييء لي زاداً وراحلة. وقال أبو بكر: ائت اسماء بنتي وقل لها: تهيأ لي زادا وراحلتين، وأعلم عامر بن فهيرة أمرنا - وكان من موالي أبي بكر وقد كان أسلم - قل له: ائتنا بالزاد والراحلتين، فجاء ابن اريقط إلى علي وأخبره بذلك فبعث عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزاد وراحلة، وبعث ابن فهيرة بزاد وراحلتين. وخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الغار وأخذ به ابن اريقط علي طريق نخلة بين الجبال فلم يرجعوا إلى الطريق إلّا بقديد.

(١) القبيل ما اقبلت به إلى صدرك. والدبير ما أدبرت به عن صدرك، ويقال: فلان ما يعرف قبيلا ولا دبيرا. والمراد ما أقبلت به المرأة من غزلها وما أدبرت. وهذا الكلام تعريض لابن بشار يعنى أنَّه لا يدرى ما يقول ولسنا نحتج عليه في هذا الامر.

(٢) يعنى إذا كان من يقوم إماماً قائماً.

٥٧

فلاغيبة وإن احتج بشيء آخر في تلك الغيبة فهو بعينه حجّتنا في وقتنا لا فرق فيه ولافصل.

ومن الدّليل على فساد أمر جعفر موالاته وتزكيته فارس بن حاتم - لعنه الله(١) - وقد بريء منه أبوه، وشاع ذلك في الامصار حتّى وقف عليه الاعداء فضلاً عن الأولياء.

ومن الدّليل على فساد أمره استعانته بمن استعان في طلب الميراث من أمِّ الحسنعليه‌السلام وقد أجمعت الشيعة أنَّ آباءهعليهم‌السلام أجمعوا أنَّ الاخ لا يرث مع الاُمِّ.

ومن الدّليل على فساد أمره قوله: إنّي إمام بعد أخي محمّد، فليت شعري متى تثبت إمامة أخيه وقد مات قبل أبيه حتّى تثبت إمامة خليفته، ويا عجبا إذا كان محمّد يستخلف ويقيم إماماً بعده وأبوه حيٌّ قائم وهو الحجّة والامام فما يصنع أبوه، ومتى جرت هذه السنّة في الائمّة وأولادهم حتّى نقبلها منكم، فدلونا على ما يوجب إمامة محمّد حتّى إذا ثبتت قبلنا إمامة خليفته. والحمد لله الّذي جعل الحقَّ مؤيّداً والباطل مهتوكا ضعيفاً زاهقاً.

فأما ما حكى عن ابن أبي غانمرحمه‌الله فلم يرد الرَّجل بقوله عندنا يثبت إمامة جعفر، وإنّما أراد أن يعلم السائل أنَّ أهل هذه البيت لم يفنوا حتّى لا يوجد منهم أحدا.

وأما قوله: « وكلُّ مطاع معبود » فهو خطأ عظيم لانا لا نعرف معبودا إلّا الله ونحن نطيع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا نعبده.

وأما قوله: نختم الان هذا الكتاب بأن نقول: إنّما نناظر ونخاطب من قد سبق منه الاجماع بأنه لابدّ من إمام قائم من أهل هذه البيت تجب به حجّة الله - إلى قوله - وصح أنَّ في ذلك البيت سراجاً، ولا حاجة بنا إلى دخوله فنحن - وفّقك الله - لا نخالفه وأنّه لابدّ من إمام قائم من أهل هذا البيت تجب به حجّة الله وإنّما

__________________

(١) هو فارس بن حاتم بن ماهويه القزويني نزيل العسكر من اصحاب الرضاعليه‌السلام غال ملعون أهدر أبو الحسن العسكريعليه‌السلام دمه وضمن لمن يقتله الجنة فقتله جنيد. راجع منهج المقال ص ٢٥٧.

٥٨

نخالفه في كيفيّة قيامه وظهوره وغيبته.

وأمّا ما مثّل به من البيت والسراج فهو مُنى، وقد قيل: إنَّ المنى رأس أموال المفاليس، ولكنّا نضرب مثلاً على الحقيقة لا نميل فيه على حضم ولا نحيف فيه على ضدِّ، بل نقصد فيه الصواب فنقول: كنّا ومن خالفنا قد أجمعنا على أنَّ فلاناً مضى وله ولدان وله دار وأن الدّار يستحقّها منهما من قدر على أن يحمل باحدى يديه ألف رطل وأن الدّار لا تزال في يدي عقب الحامل(١) إلى يوم القيامة، ونعلم أنَّ أحدهما يحمل والاخر يعجز، ثمّ احتجنا أن نعلم من الحامل منهما فقصدنا مكانهما لمعرفة ذلك فعاق عنهما عائق منع عن مشاهدتهما غير أنّا رأينا جماعات كثيرة في بلدان نائية متباعدة بعضها عن بعض يشهدون أنّهم رأوا أنَّ الاكبر منهما قد حمل ذلك، ووجدنا جماعة يسيرة في موضع واحد يشهدون أنَّ الاصغر منهما فعل ذلك، ولم نجد لهذه الجماعة خاصّة يأتوا بها، فلم يجز في حكم النظر وحفيظة الانصاف وما جرت به العادة وصحّت به التجربة ردُّ شهادة تلك الجماعات وقبول شهادة هذه الجماعة والتهمة تلحق هؤلاء وتبعد عن أولئك.

فان قال خصومنا: فما تقولون في شهادة سلمان وأبي ذرّ وعمّار والمقداد لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وشهادة تلك الجماعات وأولئك الخلق لغيره أيّهما كان أصوب؟

قلنا لهم: لامير المؤمنينعليه‌السلام وأصحابه امورٌ خَصّ بها وخَصّوا بها دون من بازائهم، فإنَّ أوجدتمونا مثل ذلك أو ما يقاربه لكم فأنتم المحقّون: أوَّلها أنَّ أعداءه كانوا يقرُّون بفضله وطهارته وعلمه، وقد روينا ورووا له معنا أنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبر « أنَّ الله يوالي من يواليه ويعادي من يعاديه » فوجب لهذا أن يتّبع دون غيره، والثاني أنَّ أعداءه لم يقولوا له: نحن نشهد أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشار إلى فلان بالامامة ونصبه حجّة للخلق وإنّما نصبوه لهم علي جهة الاختيار كما قد بلغك، والثالث أنَّ أعداءه كانوا يشهدون على أحد أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام أنَّه لا يكذب لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما

__________________

(١) يعنى اولاده وأحفاده.

٥٩

أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر » فكانت شهادته وحده أفضل من شهادتهم، والرَّابع أنَّ أعداءه قد نقلوا ما نقله أولياؤه ممّا تجب به الحجّة وذهبوا عنه بفساد التأويل، والخامس أنَّ أعداءه رووا في الحسن والحسين أنّهما سيدا شباب أهل الجنّة، ورووا أيضاً أنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: « من كذب علىَّ متعمّداً فليتبوَّأ مقعده من النّار » فلمّا شهدا لأبيهما بذلك وصحَّ أنّهما من أهل الجنة بشهادة الرَّسول وجب تصديقهما لانّهما لو كذبا في هذا لم يكونا من أهل الجنّة وكانا من أهل النار وحاشا لهما الزّكيّين الطيّبين الصادقين، فليوجدنا أصحاب جعفر خاصّة هي لهم دون خصومهم حتّى يقبل ذلك، وإلّا فلا معنى لترك خبر متواتر لا تهمة في نقله ولا على ناقليه وقبول خبر لا يؤمن على ناقليه تهمة التواطؤ عليه، ولا خاصة معهم يثبتون بها ولن يفعل ذلك إلّا تائه حيران. فتأمل - أسعدك الله - في النظر فيما كتبت به إليك ممّا ينظر به الناظر لدينه، المفكر في معاده المتأمل بعين الخيفة والحذار إلى عواقب الكفر والجحود موفّقاً إن شاء الله تعالى أطال الله بقاءك وأعزك وأيّدك وثبتك وجعلك من أهل الحق وهداك له وأعاذك من أن تكون من الّذين ضلّ سعيهم في الحيوة الدُّنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا. ومن الّذين يستزلهم الشيطان بخدعه وغروره وإملائه وتسويله وأجرى لك أجمل ما عوَّدك.

وكتب بعض الاماميّة إلى أبي جعفر بن قبة كتاباً يسأله فيه عن مسائل، فورد في جوابها أمّا قولك - أيدك الله - حاكياً عن المعتزلة أنّها زعمت أنَّ الاماميّة تزعم أنَّ النَّص على الامام واجب في العقل فهذا يحتمل أمرين إن كانوا يريدون أنَّه واجب في العقل قبل مجيء الرُّسلعليهم‌السلام وشرع الشرايع فهذا خطأ وإن أرادوا أنَّ العقول دلّت على أنَّه لابدّ من إمام بعد الأنبياءعليهم‌السلام ، فقد علموا ذلك بالأدلّة القطعيّة وعلموه أيضاً بالخبر الّذي ينقلونه عمّن يقولون بامامته.

وأما قول المعتزلة: إنّا قد علمنا يقينا أنَّ الحسن بن عليٍّعليهما‌السلام مضى ولم ينَّص فقد ادَّعوا دعوى يخالفون فيها وهم محتاجون إلى أن يدلّوا على صحّتها وبأيِّ شيء ينفصلون ممّن زعم من مخالفيهم أنّهم قد علموا من ذلك ضدّ ما ادَّعوا أنّهم علموه.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مدّته، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الديار منه خالية، و المساكن معطّلة، و ورثها قوم آخرون. و إنّ لكم في القرون السالفة لعبرة أين العمالقة و أبناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة أين أصحاب مدائن الرّسّ الذين قتلوا النبيّين و أطفأوا سنن المرسلين، و أحيوا سنن الجبّارين أين الذين ساروا بالجيوش، و هزموا بالألوف، و عسكروا العساكر، و مدّنوا المدائن

اين عمّار

و من الخطبة السابقة نفسها: ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص و يشربون الرّنق(١) ؟ أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟

و أين ابن التّيهان؟ و أين ذو الشّهادتين(٢) ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة، و أبرد برؤوسهم إلى الفجرة(٣) ؟

____________________

(١) الرنق: الكدر.

(٢) عمار: عمار بن ياسر، و كان ممّن عذّب هو و أبوه و أخوه و أمه في بدء الدعوة.

و ابن التيهان: ابو الهيثم مالك بن التيهان، من أكابر الصحابة. ذو الشهادتين: خزيمة بن ثابت الانصاري، من الصحابة. و هؤلاء الثلاثة شهدوا صفين و استشهدوا بها.

(٣) أبرد برووسهم: أرسلت رؤوسهم مع البريد بعد قتلهم إلى البغاة للتشفّي منهم.

١٤١

الكبر و التّعصّب و البغي

من خطبة له طويلة تسمّى «القاصعة(١) »: و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه اللّه به الندامة.

فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهلية، فإنه منافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية و القرون الخالية.

و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، و أدخلتم في حقكم باطلهم، و هم أساس الفسوق اتّخذهم إبليس مطايا ضلال و جندا بهم يصول على الناس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و دخولا في عيونكم و نفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله و موطى‏ء قدمه و مأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم(٢) و مصارع جنوبهم. و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر(٣) كما تستعيذون به من طوارق الدهر

____________________

(١) قصع فلان فلانا: حقّره. و قد سميت هذه الخطبة «القاصعة» لأن ابن أبي طالب حقّر فيها حال المتكبرين و أهل البغي.

(٢) مثاوي، جمع مثوى، بمعنى المنزل. و منازل الخدود: مواضعها من الأرض بعد الموت. و مصارع الجنوب: مطارحها على التراب.

(٣) لواقح الكبر: محدثاته في النفوس.

١٤٢

و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العاملين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجّة تليط بعقول السفهاء، غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علّة: أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله، و طعن عليه في خلقته، فقال: «أنا ناريّ و أنت طينيّ» و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم فقالوا: «نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين» فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء بالأخلاق الرغيبة و الأحلام العظيمة، فتعصّبوا لخلال الحمد: من الحفظ للجوار و الوفاء بالذمام، و الطاعة للبرّ، و المعصية للكبر، و الكفّ عن البغي، و الإعظام للقتل، و الإنصاف للخلق، و الكظم للغيظ، و اجتناب الفساد في الأرض.

و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات(١) بسوء الأفعال و ذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير و الشرّ أحوالهم و احذروا أن تكونوا أمثالهم.

أ لا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغي و النكث(٢) و الفساد في الأرض: فأمّا الناكثون فقد قاتلت. و أما القاسطون فقد جاهدت(٣) . و أمّا المارقة

____________________

(١) المثلات: العقوبات.

(٢) النكث: نقض العهد.

(٣) القاسطون: الجائرون على الحق.

١٤٣

فقد دوّخت. و أمّا شيطان الرّدهة(١) فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه و رجّة صدره. و بقيت بقيّة من أهل البغي، و لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم لأديلنّ منهم(٢) إلاّ ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّرا(٣) .

و إني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم: سيماهم سيما الصدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل و منار النهار(٤) لا يستكبرون و لا يعلون و لا يغلّون(٥) و لا يفسدون: قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل.

الدّنيا تطوى من خلفكم

من عهد له إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر. و فيه تذكير بأحوال الدنيا و ترغيب للولاة في أن يعدلوا و يرحموا لئلاّ يعذّبوا، و ذلك بأروع ما تجري به ريشة العبقرية من بيان: و أنتم طرداء الموت: إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم،

____________________

(١) الردهة: النقرة في الجبل قد يجتمع فيها. و شيطانها ذو الثدية من رؤساء الخوارج وجد مقتولا في ردهة.

(٢) لأديلن منهم: لأمحقننهم ثم أجعل الدولة لغيرهم.

(٣) يتشذّر: يتفرق، أي: لا يفلت مني إلاّ من يتفرّق في أطراف البلاد.

(٤) عمار، جمع عامر، أي: يعمرون الليل بالسهر للفكر و العبادة.

(٥) يغلون. يخونون.

١٤٤

و هو ألزم لكم من ظلّكم الموت معقود بنواصيكم(١) ، و الدنيا تطوى من خلفكم، فاحذروا نارا قعرها بعيد، و حرّها شديد، و عذابها جديد، ليس فيها رحمة و لا تسمع فيها دعوة

دستور الولاة

من رسالة كتبها للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر و أعمالها في عهد خلافته. و هي من جلائل رسائله و وصاياه، و أجمعها لقوانين المعاملات المدنية و الحقوق العامة و التصرّفات الخاصة في نهج الإمام. كما انها من أروع ما أنتجه العقل و القلب جميعا في تقرير علاقة الحاكم بالمحكوم، و في مفهوم الحكومة، حتى أن الإمام سبق عصره أكثر من ألف سنة بجملة ما ورد في هذه الرسالة الدستور، من إشراق العقل النيّر و القلب الخيّر.

ثم اعلم يا مالك أني قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور، و أن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم، و إنّما يستدلّ على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك

____________________

(١) النواصي، جمع ناصية، و هي: مقدّم شعر الرأس.

١٤٥

فإنّ الشّحّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أو كرهت(١) . و أشعر قلبك الرحمة للرعية، و المحبّة لهم، و اللطف بهم. و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغنتم أكلهم فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل(٢) ، و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ(٣) ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك، و اللّه فوق من ولاّك و لا تندمنّ على عفو، و لا تبجحنّ بعقوبة و لا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة(٤) .

أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك(٥) ، فإنك إلاّ تفعل تظلم و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده. و ليس شي‏ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين و هو للظالمين بالمرصاد.

و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، و أعمّها في العدل و أجمعها لرضا الرعية، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصة،

____________________

(١) الشح: البخل. يقول: انتصف من نفسك في ما أحبت و كرهت، أي ابخل بها و لا تمكّنها من الاسترسال في ما أحبّت، و احرص على صفائها كذلك بأن تحملها على ما تكره إن كان ذلك في الحق.

(٢) يفرط: يسبق. الزلل: الخطأ.

(٣) يؤتى على أيديهم: تأتي السيئات على أيديهم.

(٤) بجح بالشي‏ء: فرح به. البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل.

المندوحة: المتّسع الذي يمكّن المرء من التخلّص.

(٥) من لك فيه هوى، أي: من تميل اليه ميلا خاصا.

١٤٦

و إن سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة(١) . و ليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء و أقلّ معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف، و أسأل بالإلحاف(٢) ، و أقلّ شكرا عند الإعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمّات الدهر، من أهل الخاصة(٣) .

أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، و اقطع عنك سبب كلّ وتر(٤) ، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع فإنّ الساعي غاشّ و إن تشبّه بالناصحين.

إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة(٥) فإنهم أعوان الأثمة و إخوان

____________________

(١) يحجف: يذهب. يقول للحاكم: إذا رضي عليك الخاصة و سخط عليك العامة، فلا ينفعك رضا أولئك مع سخط هؤلاء. أما إذا رضي عليك العامة، و هؤلاء لا يرضيهم إلا العدل، فسخط الخاصة مغتفر.

(٢) الإلحاف: الإلحاح.

(٣) يقول: ليس هنالك من هم أثقل على الحاكم، و أقل نفعا له و أكثر ضررا عليه من خاصته و المتقربين اليه من ذوي الثروة و الوجاهة يلازمونه و يلحون عليه في قضاء حاجاتهم و يرهقونه بالمسائل و الشفاعات و يغنمون عن سبيله المغانم و يثرون على حساب العامة، ثم يجحدون كل ذلك و لا يساندون الحاكم أو الجمهور في نائبة أو أزمة. فهم لذلك فئة يجب على الحاكم الصالح أن ينبذها و يعتمد على العامة دون سواهم.

(٤) الوتر: العداوة: يقول: احلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بالعدل فيهم و حسن السيرة معهم. و اقطع السبب في عداء الناس لك بالإحسان اليهم قولا و عملا.

(٥) البطانة: الخاصة.

١٤٧

الظّلمة(١) ، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك(٢) و أقلّهم مساعدة في ما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا [ذلك] من هواك حيث وقع. و الصق بأهل الورع و الصدق ثم رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله(٣) .

و لا يكوننّ المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه(٤) و اعلم أنه ليس شي‏ء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم(٥) و تخفيفه المؤونات عنهم، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم(٦) ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به

____________________

(١) الأثمة: جمع آثم. الظلمة: جمع ظالم.

(٢) آثرهم: أفضلهم. مرارة الحق. صعوبته. يقول: ليكن أفضل وزرائك و أعوانك في نظرك أصدقهم و أكثرهم قولا بالحق مهما كان الحق صعبا على نفسك.

(٣) رضهم: عوّدهم. يطروك: يطنبوا في مدحك. يبجحوك بباطل لم تفعله: يفرّحوك بأن ينسبوا اليك عملا عظيما لم تكن فعلته.

(٤) أي: أحسن الى المحسن بما ألزم نفسه، و هو استحقاق الإحسان. و عاقب المسي‏ء بما ألزم نفسه كذلك، و هو استحقاق العقاب.

(٥) ليس هنالك ما يحمل الوالي على الاطمئنان إلى أن قلوب الناس معه كالاحسان اليهم و العدل فيهم و تخفيف الاثقال عن كواهلهم. و هم في غير هذه الحال أعداء له ينتهزون الفرصة للثورة عليه، و إذ ذاك يسوء ظنه بهم.

(٦) قبلهم، بكسر ففتح: عندهم.

١٤٨

حسن الظنّ برعيّتك، و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده(١) .

و أكثر مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء(٢) في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به الناس قبلك.

ولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا و أفضلهم حلما: ممّن يبطى‏ء عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء، و ينبو على الأقوياء(٣) و ممن لا يثيره العنف، و لا يقعد به الضعف.

و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، و ظهور مودّة الرعية، و إنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدورهم، و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور و قلّة استثقال دولهم(٤) .

ثم اعرف لكلّ امرى‏ء منهم ما أبلى، و لا تضيفنّ بلاء امرى‏ء إلى

____________________

(١) البلاء: الصنع، حسنا أو سيئا.

(٢) المنافثة: المحادثة.

(٣) ينبو: يشتدّ و يعلو. يأمر الحاكم بأن يولّي من جنوده من لا يضعف أمام الأقوياء و الأثرياء و النافذين بل يعلو عليهم و يشتدّ ليمنعهم من ظلم الضعفاء و الفقراء و البسطاء.

(٤) الحيطة، بكسر الحاء: مصدر «حاط» بمعنى: صان و حفظ، يقول: ان مودة الرعية لا تظهر و نصيحتهم لا تصحّ إلا بقدر ما يرغبون في المحافظة على ولاتهم و يحرصون على بقائهم و لا يستثقلون مدة حكمهم.

١٤٩

غيره(١) ، و لا يدعونّك شرف امرى‏ء إلى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، و لا ضعة امرى‏ء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك(٢) ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم(٣) و لا يتمادى في الزلّة، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه(٤) ، و أوقفهم في الشّبهات(٥) و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشّف الأمور، و أصرمهم عند اتّضاع الحق، ممن لا يزدهيه إطراء، و لا يستميله إغراء، و أولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه(٦) و أفسح له في البذل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته الى الناس و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.

ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، و لا تولّهم محاباة

____________________

(١) لا تنسبنّ صنيع امرى‏ء إلى غيره.

(٢) انتقال من الكلام في الجند الى الكلام في القضاة.

(٣) تمحكه: تغضبه.

(٤) لا يكتفي بما يبدو له بأول فهم و أقربه، بل يتأمل و يدرس حتى يأتي على أقصى الفهم و أدناه من الحقيقة.

(٥) الشبهات، جمع شبهة، و هي ما لا يتضح الحكم فيها بالنص، فينبغي العمل لردّ الحادثة التي ينظر فيها إلى أصل صحيح.

(٦) أي: تتبع قضاءه بالاستكشاف و التعرف.

١٥٠

و أثرة فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة(١) . ثم تفقّد أعمالهم و ابعث العيون(٢) من أهل الصدق و الوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم(٣) على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية. و تحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه(٤) عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذته بما أصاب به من عمله، ثم نصبته بمقام المذلّة، و وسمته بالخيانة، و قلّدته عار التهمة.

و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم. و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج و أهله. و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة. و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم أمره إلاّ قليلا.

و لا يثقلنّ عليك شي‏ء خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك.

و إن العمران محتمل ما حمّلته، و إنما يؤتى خراب الأرض من

____________________

(١) أي: ولّهم الأعمال بالاختبار و التجربة، لا ميلا منك لمعاونتهم و لا استبدادا منك برأيك، فإن المحاباة و الأثرة يجمعان الظلم و الخيانة معا.

(٢) العيون: الرقباء.

(٣) حدوة: سوق و حثّ.

(٤) اجتمعت عليها أخبار عيونك: اتفقت عليها أخبار رقبائك.

١٥١

إعواز أهلها، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع(١) و سوء ظننهم بالبقاء و قلّة انتفاعهم بالعبر.

ثم انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم، ممّن لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل.

ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك و استنامتك(٢) و حسن الظنّ منك، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم(٣) ، و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي‏ء. و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته(٤) .

ثم استوص بالتجّار و ذوي الصّناعات و أوص بهم خيرا: المقيم منهم و المضطرب بماله(٥) ، فإنهم موادّ المنافع و أسباب المرافق، و تفقّد أمورهم بحضرتك و في حواشي بلادك. و اعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحّا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكّما في البياعات، و ذلك باب مضرّة للعامّة و عيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه صلى

____________________

(١) إشراف انفس الولاة على الجمع: تطلّعهم الى جمع المال و ادّخاره لأنفسهم طمعا و جشعا.

(٢) الفراسة: قوة الظن و إدراك الباطن من النظر في الظاهر. الاستنامة: الاطمئنان إلى حسن الرأي. أي: لا يكن اختيارك للكتاب متأثرا بميلك الخاص و فراستك التي قد تخطى‏ء.

(٣) أي يخدمون الولاء بما يطيب لهم توسّلا إلى حسن ظنّ هؤلاء بهم.

(٤) إذا تغابيت عن عيب في كتابك كان ذلك العيب لاصقا بك.

(٥) المتردد بأمواله بين البلدان.

١٥٢

اللّه عليه و سلّم منع منه. و ليكن البيع بيعا سمحا: بموازين عدل، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع(١) فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به و عاقبه في غير إسراف(٢) .

ثم يتحدّث الإمام في رسالته هذه إلى مالك الأشتر عن الطققة المعوزة فيقول: و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، و كلّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطر(٣) فإنك لا تعذر بتضييعك التافه(٤) لإحكامك المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم(٥) و لا تصعّر خدّك لهم(٦) و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون(٧) و تحقره الرجال، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. و تعهّد

____________________

(١) المبتاع: المشتري.

(٢) قارف: خالط. الحكرة: الاحتكار. نكل به: أوقع به العذاب عقوبة له. يقول: من احتكر بعد النهي عن الاحتكار عاقبه لكن من غير إسراف في العقوبة يتجاوز عن حد العدل فيها.

(٣) البطر: طغيان النعمة.

(٤) يقول: لا عذر لك بإهمالك القليل إذا أحكمت الكثير.

(٥) لا تشخص همك عنهم: لا تصرف همك عنهم.

(٦) صعّر خده: أماله عن النظر إلى الناس تهاونا و كبرا.

(٧) تقتحمه العيون: تكره أن تنظر اليه احتقارا.

١٥٣

أهل اليتم و ذوي الرقّة في السن(١) ممّن لا حيلة له، و لا ينصب للمسألة نفسه، و ذلك على الولاة ثقيل، و الحقّ كلّه ثقيل و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك(٢) من أحراسك و شرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع(٣) فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في غير موطن(٤) : «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع» ثم احتمل الخرق منهم و العيّ(٥) و نحّ عنهم الضيق و الأنف(٦) .

ثم أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك. و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك(٧) ، و أمض لكلّ يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه.

____________________

(١) ذوو الرقة في السن: المتقدمون فيه.

(٢) أي: تأمر بأن يقعد عنهم جندك و أعوانك و بألا يتعرضوا لهم.

(٣) التعتعة في الكلام: التردد فيه من عجز و عيّ، أو من خوف.

(٤) في مواطن كثيرة.

(٥) الخرق: العنف. العي: العجز عن النطق. أي: لا تضجر من هذا و لا تغضب من ذاك.

(٦) الأنف: الاستنكاف و الاستكبار.

(٧) تحرج: تضيق. يقول: إن الأعوان تضيق صدورهم بتعجيل الحاجات، و يحبون المماطلة في قضائها، استجلابا للمنفعة أو إظهارا للجبروت.

١٥٤

و لا تطوّلنّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضيق و قلّة علم بالأمور. و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير، و يقبح الحسن و يحسن القبيح، و يشاب الحقّ بالباطل. و إنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، و ليست على الحقّ سمات(١) تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، و إنما أنت أحد رجلين: إمّا امرؤ سخت نفسه بالبذل في الحق ففيم احتجابك(٢) من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك(٣) ، مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.

ثم إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار و تطاول، و قلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال(٤) و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة(٥) و لا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على

____________________

(١) سمات: علامات.

(٢) لأي سبب تحتجب عن الناس في أداء حقهم، أو في عمل تمنحهم إياه؟

(٣) يقول: و إن قنط الناس من قضاء مطالبهم منك أسرعوا الى البعد عنك، فلا حاجة للاحتجاب.

(٤) احسم: اقطع. يقول: اقطع مادة شرورهم عن الناس بقطع أسباب تعدّيهم، و إنما يكون ذلك بالأخذ على أيديهم و منعهم من التصرّف في شؤون العامة.

(٥) الاقطاع: المنحة من الأرض. القطيعة: الممنوح منها. الحامة، كالطّامة: الخاصة و القرابة. الاعتقاد: الامتلاك. العقدة: الضيعة.

١٥٥

غيرهم فيكون مهنأ ذلك(١) لهم دونك، و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة.

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد، و كن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنّ مغبّة ذلك محمودة(٢) .

و إن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر(٣) لهم بعذرك، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك(٤) و رفقا برعيّتك و إعذارا(٥) تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.

و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضا، فإنّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك. و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت(٦) و لا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك

____________________

(١) المهنأ: المنفعة الهنيئة.

(٢) المغبة: العاقبة، يقول: إن إلزام الحق لمن لزمهم، و إن ثقل على الوالي و عليهم، محمود العاقبة يحفظ الدولة.

(٣) الحيف: الظلم. أصحر بهم: ابرز لهم.

(٤) رياضة منك لنفسك: تعويدا لنفسك على العدل.

(٥) الإعذار: تقديم العذر أو إبداؤه.

(٦) أصل معنى الذمة: وجدان مودع في جبلة الانسان ينبهه لرعاية حق ذوي الحقوق و يدفعه لأداء ما يجب عليه منها، ثم أطلقت على معنى العهد. الجنة: الوقاية.

يقول: حافظ بروحك على ما أعطيت من العهد.

١٥٦

و لا تختلنّ(١) عدوّك. و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل(٢) و لا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد و التوثقة، و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحقّ(٣) .

و لا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله، و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك، أو التزيّد في ما كان من فعلك(٤) أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الإحسان، و التزيّد يذهب بنور الحق، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس.

و إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقّط فيها عند إمكانها(٥) أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كلّ أمر موضعه، و أوقع كلّ أمر موقعه.

____________________

(١) خاس بعهده: خانه و نقضه. الختل: الخداع.

(٢) العلل: جمع علة و هي في النقد و الكلام بمعنى ما يصرفه عن وجهه و يحوّله الى غير المراد، و ذلك يطرأ على الكلام عند إبهامه و عدم صراحته.

(٣) لحن القول: ما يقبل التوجيه كالتورية و التعريض. يقول: إذا ريت ثقلا من التزام العهد فلا تركن إلى لحن القول لتتملص منه، بل خذ بأصرح الوجوه لك و عليك.

(٤) التزيّد: إظهار الزيادة في الأعمال و المبالغة في وصف الواقع منها في معرض الافتخار.

(٥) التسقط: يريد به هنا: التهاون.

١٥٧

و إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة(١) ، و التغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور و ينتصف منك للمظلوم. إملك حميّة أنفك(٢) و سورة حدّك و سطوة يدك و غرب لسانك(٣) و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة(٤) و تأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار.

و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة، و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، و استوثقت به من الحجّة لنفسي عليك، لكي لا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. و أنا أسأل اللّه أن يوفّقني و إياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح اليه و إلى خلقه(٥) .

____________________

(١) احذر أن تخصّ نفسك بشي‏ء تزيد به عن الناس، و هو مما تجب فيه المساواة من الحقوق العامة.

(٢) أي: أملك نفسك عند الغضب.

(٣) السورة: الحدة: و الحد: البأس. و الغرب: الحد، تشبيها للسان بحدّ السيف و نحوه.

(٤) البادرة: ما يبدر من اللسان عند الغضب، و إطلاق اللسان يزيد الغضب اتقادا، و السكون يطفى‏ء من لهبه.

(٥) يريد من العذر الواضح: العدل، فإنه عذر لك عند من قضيت عليه، و عذر عند اللّه في من أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة.

١٥٨

حدود الضّريبة

من وصية كان الإمام يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، و هي تزخر بحنان الحاكم الأب على أبنائه، و تصلح لأن تدخل في دستور الدولة المثالية التي يحلم بها صفوة الخلق إذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة و الوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، و لا تخدج بالتحية لهم(١) ، ثم تقول: عباد اللّه، أرسلني اليكم وليّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه؟

فإن قال قائل: لا فلا تراجعه. و إن أنعم لك منعم(٢) فانطلق معه من غير أن تخيفه و توعده أو تعسفه أو ترهقه(٣) فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه. فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه و لا عنيف به، و لا تنفّرنّ بهيمة و لا تفزّعنّها و لا تسوءنّ صاحبها فيها. و اصدع المال صدعين(٤) ثم خيّره:

____________________

(١) أخدجت السحابة: قلّ مطرها.

(٢) أنعم لك منعم، أي: قال لك: نعم.

(٣) تعسفه: تأخذه بشدة. ترهقه: تكلفه ما يصعب عليه.

(٤) أي: اقسمه قسمين.

١٥٩

فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّه في ماله، فاقبض حقّ اللّه منه. فإن استقالك فأقله(١) ، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق اللّه في ماله.

السفهاء و التجار

من كتاب بعث به الإمام الى أهل مصر مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارتها: إني و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلّها(٢) ما باليت و لا استوحشت. و إني من ضلالهم الذي هم فيه و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي و يقين من ربّي، و لكني آسى(٣) أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا(٤) و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم، و جمعكم و تحريضكم

____________________

(١) أي: فإن ظنّ في نفسه سوء الاختيار و أنّ ما أخذت منه من الزكاة اكرم مما في يده، و طلب الإعفاء من هذه القسمة، فاعفه منها، و اخلط، و أعد القسمة.

(٢) الطلاع: مل‏ء الشي‏ء. يقول: لو كنت واحدا و هم يملأون الأرض للقيتهم غير مبال بهم. و الضمير يعود هنا على خصومه و محاربيه من وجهاء ذلك الزمان.

(٣) آسى: أحزن.

(٤) دولا، جمع دولة «بالضم»: أي شيئا يتداولونه بينهم و يتصرفون به في غير حق اللّه. الخول: العبيد.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686