النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام

النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام0%

النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 153

النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام

مؤلف: محمد مهدي الآصفي
تصنيف:

الصفحات: 153
المشاهدات: 29996
تحميل: 3641

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 153 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29996 / تحميل: 3641
الحجم الحجم الحجم
النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام

النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام

مؤلف:
العربية

تزود البلاد بثروة غذائية وطبّية وخشبية، بالإضافة إلى ما لها من تأثير كبير في تلطيف الجو.

ويعرض هذا المورد الطبيعي للخطر عندما يسمح فيها بالاستغلال الفردي.

ولذلك فالدول الحديثة تعني عناية كبيرة بالمحافظة على هذه الثروة الطبيعية وتوسيع رقعتها، وتمنع عن استغلالها بصورة فردية، وتنسق عمليات الاستغلال بصورة لا تؤدي إلى ضياع هذه الثروة الطبيعية، وتحاول في نفس الوقت أن تجعل من هذه الثروة الطبيعية مورداً مالياً لنفسها.

وقد اعتبر الفقه الإسلامي الغابات والأحراش من الثروات التي تمتلكها الحكومة، ولا يحق للفرد استغلالها، إلاّ بإذن الحاكم الشرعي، وضمن الشروط التي يحددها الحاكم(١) .

٤ - رؤوس الجبال والأودية:

وهي نقاط غنية بالثروات الأرضية. ويملكها الإمام، كما يقرره الفقهاء.

٥ - صفايا الملوك واقطاعاتهم:

وهي الأراضي الزراعية والاقطاعات الكبيرة التي كان يملكها الملوك قبل أن يحكم الإسلام البلاد. وهذه الاقطاعات

____________________

(١) راجع مستمسك العروة الوثقى: ٩ / ٥٢٤، ٥٢٥ ط ٢.

٤١

- في الغالب - قطع ثرية من الأرض، اغتصبها الملوك من الرعايا، فيعيد الإمام صرف ريعها على الرعايا المسلمين والمسالمين مرة أُخرى عن طريق بيت المال.

٦ - المعادن والمناجم:

وهي على أقسام ثلاثة:

فلزات تقبل الصهر كالذهب والفضة والرصاص والنحاس والحديد.

ومايعة وشبه مايعة كالنفط والزئبق.

وجامدة لا تقبل الصهر كالأحجار الكريمة والفحم الحجري.

وهذه المعادن تمد الصناعة بالمواد الأولية (الخام)، ولذلك فاستيلاء الدولة على المناجم يؤدي إلى إشراف الدولة على سير الانتاج الصناعي، بصورة عامة، والتمكن من تكييفها بالشكل الذي يحقق العدالة الاجتماعية.

والإمام (رئيس الدولة) في المجتمع الإسلامي يملك كافة المناجم والمعادن وهذا ما ذهب إليه علماء الإمامية ك «الكليني» وشيخه «القمي» في تفسيره، و«المفيد» و«الشيخ الديلمي» و«القاضي»، واختاره في «الكفاية» و«الذخيرة» و«كشف الغطاء».

ويشهد له حديث الصادق -عليه‌السلام - عن الأنفال،

٤٢

حيث عدّ المعادن منها(١) ، وقوله -عليه‌السلام - في جواب من قال ما الأنفال؟ (منها المعادن والآجام)(٢) .

والدولة إما أن تقوم بنفسها باستخراج المناجم، وإما أن تعهد أمرها إلى الشركات الخاصة بهذا الأمر، لقاء أجر تدفعه.

٧ - الأنهار والبحار (المياه):

وقد عدّهما (ابو الصلاح) وصاحب (المقنعة) من الأنفال التي يملكها الإمام، ويؤيده بعض الأحاديث الصحيحة(٣) .

وللبحار أهمية كبيرة من الناحية التجارية والحربية والأسفار والصيد.

ولا تقل أهمية الأنهار عن البحار، فهي تزود الأراضي المجاورة لها والبلدان القريبة والبعيدة منها بالماء، كما يمكن استغلالها لتوليد الطاقة الكهربائية.

وبذلك فهي تدرّ أموالاً كبيرة على الدولة، كما أن الدولة باعتبار استيلائها على الأنهار تتمكن من تأميم مشاريع الماء والكهرباء.

____________________

(١) راجع مستمسك العروة الوثقى ٩ / ٥٢٤ - ٥٢٥ ط ٢.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر ٩ / ٥٢٥.

٤٣

٣ - مشاريع الإنتاج والزراعة الحكومية

تزداد حاجة الناس إلى المرافق العامة والتكافل الاجتماعي كلما تتقدم حياة الإنسان، ولا تفي الضرائب المالية التي تتقاضاها الحكومة من الأمة إلاّ بجزء يسير من نفقات الدولة في تشييد هذه المرافق.

وفي الحالات العامة يقصر الدخل المالي الذي يرد الحكومة عن طريق الضرائب والعقارات عن تسديد نفقاتها، فتضطر الحكومة إلى البحث عن موارد مالية جديدة لتغطية نفقاتها المالية.

وتتجه اليوم الدول الرأسمالية والاشتراكية، بشكل سواء، إلى القيام بإنشاء مشاريع تجارية وصناعية وزراعية، وممارسة الإنتاج والتجارة بصورة واسعة، وتهيئة موارد مالية جديدة، لتغطية نفقاتها المالية.

وتتم هذه المهمة في الدول الاشتراكية على حساب القطاع الخاص في الصناعة والزراعة، بينما تتم هذه المهمة في الدول الرأسمالية بشكل أخف من ذلك.

وقد قام فعلاً كثير من الدول الرأسمالية بإنشاء مشاريع حكومية للماء والكهرباء ومصالح للمبايعات والسفر والبرق والبريد وغير ذلك من الشؤون الاجتماعية وحاجات الإنسان.

والدولة الإسلامية في حياة صاحب الرسالة - صلى الله عليه وآله وسلم - وفي

٤٤

عهد الخلفاء الأوائل لم تكن - بحكم الظروف الاقتصادية والمالية في ذلك الوقت - بحاجة إلى المزيد من الدخل المادي، ولم تضق مواردها المالية عن نفقاتها.. وفي الوقت نفسه لم تغلق على نفسها أبواب هذا المورد المشروع عند ما تلجؤه الظروف المادية إلى البحث عن موارد مالية جديدة.

ويعتبر إنشاء المشاريع الحكومية للتجارة والانتاج من أهم هذه الوسائل التي تدر على الحكومة دخلاً مادياً كبيراً، يغطي كثيراً من نفقاتها.

ولا يفقد الباحث في النظام المالي للدولة الإسلامية، في حدود ما تعرضنا له في هذا الحديث، ملامح عامة لهذه المسألة.

في المجال الزراعي:

رأينا فيما تقدم من هذا الحديث أن الدولة تستولي على الأراضي المحياة والموات المفتوحة عنوة - بصفة الإشراف - وتملك الأراضي التي انجلى عنها أهلها، والأراضي الموات، والمحياة بصورة طبيعية، ورأينا كذلك أن من غير الجائز أن يتصرف أحد في هذه الأرضي من دون إذن الإمام.

وفي مثل هذه الوضعية التشريعية لا يتيسر لأحد - مهما بلغت إمكاناته - أن يملك من الأراضي الزراعية أكثر من حاجته الخاصة، وبشكل يؤدي إلى الإضرار بالآخرين، أو أن يقتطع قطعاً كبيرة من الأرض بصورة تؤدي إلى (الإقطاع).

٤٥

والدولة وحدها هي التي تملك الإمكانات النقدية والأرضية الواسعة التي تمكنها من إحياء قطع كبيرة من الأراضي لحسابها، والقيام بممارسة النشاط الزراعي بصورة واسعة، تتجاوز حدود طاقة الفرد، وإحداث مزارع وحقول نموذجية وكبيرة، تخضع للتطورات الزراعية الجديدة.

هذا في المجال الزراعي.

في مجال التصنيع:

وفي المجال التصنيعي تستولي الدولة بموجب تملكها للأنفال على كميات كبيرة من المواد الخام، من معدنية ونباتية، بصورة مباشرة وغير مباشرة.

فهي تملك المعادن والغابات والأحراش ورؤوس الجبال والأراضي العامرة طبيعياً، وغير ذلك من مصادر الثروة الطبيعية.

وهذه المصادر الطبيعية توفر للدولة كميات هائلة من المواد الخام الضرورية للصناعات، وتمكن الدولة من أن تدخل مشاريع الانتاج والتصنيع عند اللزوم، وأن تشرف على سير الصناعة في البلاد... بينما لا يتيسر للشركات الصناعية من القطاع الخاص هذه الإمكانات الكبيرة في الصناعة والانتاج.

وعندما تتطلب الظروف المالية من الدولة أن تدخل مشاريع الانتاج والتصنيع بهذا الشكل، فلا يمكن أن تعزل أجهزتها

٤٦

العامة عن ممارسة التسويق. فمن غير الممكن عزل التسويق عن الانتاج والتصنيع.

* * *

على أنه لابد من الإشارة إلى أن الجدوى من مداخلة الحكومة في النشاط التجاري والانتاجي لا يقتصر على الدخل المادي وحسب.

وإنما الجدوى منها - قبل ذلك - تكييف وضع الانتاج والتجارة في البلاد، وتعديل الأسعار والأجور.

وعلى العكس من النظم الاشتراكية المتطرفة لا يحاول الإسلام أن يحتل الأسواق التجارية ويقضي على النشاط الانتاجي والتجاري في البلاد، ولا يؤمن بسلامة هذا النظام.

فإن النشاط الفردي والمنافسة الفردية ركن هام من أركان النشاط الانتاجي، والقضاء على الانتاج الفردي يؤدي إلى شل جهاز الانتاج في البلاد.

والدولة في المجتمع الإسلامي حينما تدخل الأسواق التجارية لا تمثل السلطة العامة، وإنما تدخل في النشاط الانتاجي والتجاري بالصفة الخاصة، كما يدخل أي فرد آخر في هذا العمل، يملك إمكانات مادية أوسع مما يملكه الآخرون.

والجهاز الحكومي للانتاج والتجارة لا يتأتى له أن يستمر في

٤٧

العمل ما لم يسيّر نفسه، ويموّنه بما يدرّ عليه هذا العمل من ربح مادي، وما لم يستحصل على ربح مادي تستخدمه في تسيير مرافق البلاد عامة.

ومما تقدم يتبين شكل المشاريع الحكومية التجارية والإنتاجية في المجتمع الإسلامي.

فالدولة تدخل «أولاً» في العمل كما يدخل أي فرد آخر، وينشئ مع الآخرين علاقات وروابط تجارية، كما يرتبط الآخرون بغيرهم بسلسلة من العلاقات والروابط التجارية. ولا يحق لها أن تتحكم بما تملك من قوة تنفيذية في أوضاع الأسواق، كما لا يحق لها أن تلجئ الشركات الأهلية إلى الانسحاب عن السوق بشكل من الأشكال.

وتطلب الدولة «ثانياً» من وراء نشاطها الانتاجي والتجاري ربحاً مادياً عادلاً، لتغطية نفقاتها العامة، ولتسيير الجهاز ذاته.

وأي فرد آخر أو شركة أهلية يستطيع أن يعارض الجهاز الحكومي فيما دون هذا المستوى من الربح أو في المستوى نفسه؟

والفائدة التي تجنيها الأُمة من مداخلة الحكومة في الانتاج والتجارة هي تحديد الأسعار في مستوى عادل، وتكييف أوضاع السوق إلى صورة عادلة، بعيدة عن الأثرة والاحتكار والتحكم في الأسواق.

٤٨

وكل من خطر له على بال أن يستغل حاجة السوق ليرفع من أسعار البضائع، أو خطر له أن يحتكر البضاعة لحين آخر. فالأجهزة الحكومية تقف له بالمرصاد وتتحداه وتنافسه منافسة لا هوادة فيها.

فهي في الوقت الذي تدر على الحكومة دخلا مالياً كبيراً، تعتبر أداة لتلطيف أجواء الانتاج والتجارة في البلاد.

٤٩

٤ - القرض

وكثيراً ما تقوم الدول بإنشاء مشاريع زراعية وثقافية وصحية وعسكرية كبيرة. كإنشاء السدود والجسور والبنايات، وإحداث الطرق والشوارع المبلطة، والمدن والقرى النموذجية.

وإنشاء هذه المشاريع يتطلب رصيداً مالياً كبيراً يخرج عن عهدة الحكومة، ولا تفي الضرائب والموارد التي ترد الحكومة عن طريق العقارات وغيرها بتمويلها.

في مثل هذه الأحوال، لا تفقد الدولة الإسلامية مبررات شرعية لتمويل هذه المشاريع عن طريق عقد قروض طويلة الأجل، تدفعها الحكومة بشكل أقساط يمتد اداؤها إلى الأجيال اللاحقة.

وقد ترجع الدولة في عقد قروض طويلة الأجل إلى أفراد الأُمة مباشرة، وقد ترجع إلى البنوك الأجنبية، كما قد ترجع إلى الدول الأُخرى.

ولا يجوز للدولة - من جهة شرعية - أن تدفع إزاء هذه القروض أرباحاً نقدية وغير نقدية، إلاّ إذا كانت تضطر إلى ذلك لحاجة ضرورية. فتصطنع في ذلك بعض المبررات الشرعية التي يذكرها الفقهاء في باب «الربا» من الفقه.

وهنا يبدو للباحث الفقيه اعتراضان على هذا النحو من

٥٠

القروض، نحاول أن نجيب عليهما بصورة سريعة.

فقد يثار التساؤل عن جواز تحميل خزانة الدولة تبعات أداء هذه القروض، ولا سيما إذا كانت خزانة الدولة قاصرة على أداء نفقات هذه المشاريع.

وقد يتساءل ثانياً عن مشروعية تحميل الأجيال التالية تبعات أداء هذه القروض التي عقدتها الأجيال السابقة ولم تشترك هي في شأن من شؤونها.

ويظهر الجواب عن التساؤل الأول إذا علمنا أن النظام المالي للمجتمع الإسلامي قرر سهماً خاصاً من سهام الزكاة لأداء ديون الغارمين، إذا كانت هذه الديون لأغراض مشروعة.

والدولة الإسلامية - كشخصية حقوقية يمثلها الحاكم الأعلى - تتمتع بكافة الحقوق الشرعية التي يتمتع بها سائر الأشخاص في الدولة؛ ولذلك فمن حقها أن تستغل هذا الحق الشرعي لأداء ديونها بشكل أقساط، وحسب إمكانيات الخزينة.

وفيما يخص التساؤل الثاني: ينبغي أن نشير إلى أن الاستفادة من هذه المشاريع لا تخص الجيل الحاضر؛ بل يتاح للأجيال القابلة أن تستفيد من هذه المشاريع بصورة أوسع.

وأكثر من ذلك، نجد أن هذه القروض قد تستخدم لتوسيع مشاريع الانتاج الصناعي والزراعي وإنتاج المكائن والأدوات الثقيلة.

٥١

والجيل الحاضر لا يستطيع أن يستفيد من هذه المشاريع في توسعة نشاطها الانتاجي وواردها المالي كما تستفيد منها الأجيال اللاحقة.

فمن وجهة شرعية، نجد أن هذه القروض تقع لصالح الأحيال اللاحقة أكثر من أن تقع لصالح الجيل الحاضر.

والدولة - كشخصية معنوية - لا تفنى بموت شخص الإمام أو الرئيس. ولذلك، فليس هناك ما يمنع من تحمل الدولة لأعباء هذه القروض في الأجيال اللاحقة، بعد صحة وقوع العقد. نظراً لاستمرارية شخصية الدولة، ووجود المصلحة المبررة؛ ونظراً لاستغلال الأجيال المقبلة لهذه المشاريع.

وبهذه الصورة، نجد أن الدولة الإسلامية تستطيع أن توفر لنفسها مورداً مالياً للقيام بأعمال عمرانية وفلاحية وتصنيعية عن طريق عقد القروض الطويلة الأجل.

٥٢

٥ - شؤون الولاية العامة

١ - الفيء:

وهو ما يرجع إلى المسلمين من المشركين، مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب... وما يتركه الكفار للمسلمين من غير أن يقاتل عليه المسلمون. ويشمل الأموال المنقولة - كالنقود والأثاث - وغير المنقولة - كالعقارات.

ويملكها رئيس الدولة الإسلامية ليصرفها في شؤون الدولة العامة والمصالح الاجتماعية.

والأصل التشريعي لذلك قوله تعالى:

( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، فَما اَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلِ وَلا رِكابٍ، وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٍ ) (١) .

٢ - إرث من لا وارث له:

بما أن الإمامة هي الولاية الشرعية على المسلمين. يعتبر الإمام وارثاً لمن لا وارث له من أقارب وموالي. والذي يموت عن غير وارث من الأقارب والموالي، تضبط أمواله فوراً لتنقل إلى خزينة الدولة.

* * *

____________________

(١) سورة الحشر: ٦. راجع في ذلك تفسير مجمع البيان: ٩ / ٢٥٩، ٢٦٠.

٥٣

وبعد...

ذلك إجمال من تفصيل عن موارد الدولة المالية في المجتمع الإسلامي.

ولابد أن الباحث قد لمس بنفسه - خلال هذا البحث - ملامح العدالة الاجتماعية في تخطيط هذه الموارد، وتوزيع الضرائب منها بصورة خاصة على طبقات الأُمة بشكل عادل، كما لاحظ مرونة الموارد المالية للدولة الإسلامية وسعتها، بشكل لا تضيق من مواكبة تطور نفقات الدولة وحاجاتها.

وهذه من أهم خصائص التخطيط المالي في الفقه الإسلامي.

٥٤

٥٥

٥٦

نفقات الدولة

تمهيد:

بعد أن استعرضنا الملامح العامة لموارد الدولة الإسلامية بصورة موجزة.. يأتي دور البحث عن النفقات العامة للدولة.

والنفقات العامة - عادة - هي التي تحدد موارد الدولة من حيث السعة والضيق.

وقد رأينا - فيما تقدم من هذا الحديث - أن الموارد المالية للدولة الإسلامية تتصف بصلاحية واسعة لتغطية النفقات العامة للدولة مهما توسعت هذه النفقات وازدادت.

تعريف النفقات:

ونعني - عادة - من هذه الكلمة: صرف مبالغ مالية لتقديم خدمات عامة لأفراد الأمة وتسيير المرافق العامة في البلاد وإعاشة الفقراء.

* * *

ومما ينبغي ملاحظته أن التشريع الإسلامي يلاحظ في (الانفاق) أموراً ثلاثة:

١ - أن الحكومة لا تستنفذ الخدمات العامة عن أفراد الأمة

٥٧

لمصلحتها من غير أجر، وبدون تقديم جزاء عادل.. بعكس كثير من الحكومات التي كانت تسبق الإسلام أو التي لحقت الإسلام.

فقد كانت أساليب العنف والسخرة شائعة في كثير من الحكومات القائمة قبل الإسلام في استنفاذ الخدمات المختلفة من الناس.

وليس غريباً عنا أساليب السخرة التي كانت رائجة لدى الحكومات القيصرية في تشغيل العمال بسحب العربات الثقيلة والقيام بالأعمال الشاقة(١) من غير أجر أو جزاء.. اللهم إلاّ مما يقوّم أجسامهم من الخبز والماء. وجاء الإسلام بأصل تشريعي هام يقضي باحترام عمل المؤمن واحترام شخصيته.

فلا تجوز أعمال السخرة وتسخير الفرد لمصلحة الحكومة أو الأُمة، ولا يجوز استخدام فرد في عمل. ما لم يرتفع عنصر الإجبار عن العمل أولاً، ويدفع للعامل جزاء عمله ثانياً بشكل عادل.

فقد جاء قوم من بعض الأقاليم إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام

____________________

(١) ولا نقدم في العصر الحاضر أمثلة لقانون السخرة. فقد طبقت بعض الدول الشيوعية هذا النظام في معسكرات السخرة، في عصر العلم والنور كجمهورية كوبا. وجمهوريات الاتحاد السوفيتي عقيب ثورة اكتوبر، وطبقته في الآونة الأخيرة الحكومة العراقية في قانون خاص صادر عن مجلس قيادة الثورة، تقضي بالخدمة الإجبارية على المواطن في آي عمل وأية مهمة تفرضه الحكومة على الفرد.

٥٨

ليقولوا له: إن في بلادهم نهراً قد طمرت الأيام مجراه فعفا، وإن في حفره من جديد خيراً لهم.. ورجوه بعد ذلك أن يأمر عامله على اقليمهم بأن يسخرهم في احتفار النهر.

فما كان من عليعليه‌السلام إلاّ أن قبل فكرة احتفار النهر.. غير أنه أبى عليهم ما أرادوه من السخرة فكتب إلى عامله - واسمه قرضة بن كعب - يقول:

«أما بعد: فإن قوماً من أهل عملك أتوني فذكروا أن لهم نهراً قد عفا ودرس، وانهم إن حفروه عمرت بلادهم وقووا على كل خراجهم، وزاد فيء المسلمين قبلهم. وسألوني الكتاب اليك لتأخذهم بعمله وتجمعهم لحفره والإنفاق عليه. ولست أرى أن اجبر أحداً على عمل يكرهه.. فادعهم إليك فإن كان الأمر في النهر على ما وصفوا، فمن أحب أن يعمل فمره بالعمل. والنهر لمن عمل دون من كرهه ولئن يعمروا ويقووا أحب إليَّ من أن يضعفوا. والسلام»(١) .

فالعامل في حقل الخدمات الاجتماعية في الدولة الإسلامية يعمل بملء حريته واختياره، ولا يحق لأحد مهما كانت مكانته أن يرغم أحداً على ممارسة الخدمات الاجتماعية.

وفي نفس الوقت تقدم السلطة إلى العامل جزاءاً عادلاً عن

____________________

(١) الإمام علي صوت العدالة الإنسانية: ١٣٢.

٥٩

عمله، ولا يجوز منع حقه عنه(١) .

٢ - يجب على الحكومة - بصفتها صاحبة السلطة الشرعية - أو الإمام بصفته رئيساً للحكومة - القيام بهذه النفقات. وتهيئة الميزانية الكافية لها وذلك بعد البحث ودراسة ملابسات الحياة الاجتماعية، وحدود ميزانية الدولة واستشارة ذوي الخبرة في الموضوع. فالسلطة الحاكمة تعتبر مسؤولة عن وفاء كل الحاجات الاجتماعية، وإدارة مرافق الدولة، في حدود إمكاناتها وقدراتها، وهذه المسؤولية هي المسؤولية التي يعبر عنها عادة في الفقه ب (الحسبة).

٣ - توزيع هذه الخدمات بصورة عادلة على أبناء الأمة، من غير لحاظ جانب شخصي أو نفوذ اجتماعي.

وقد رأينا أن الحكومة الإسلامية كانت تفرض الضرائب المالية على الأفراد في حدود إمكانياتهم المالية بصورة عادلة، من غير ملاحظة أية جهة شخصية.

وهذه التسوية في فرض الضرائب تقتضي التسوية في توزيع الخدمات وتقديم النفقات للفئات الاجتماعية.

وأي تمييز في توزيع هذه الخدمات على أبناء الأُمة يعتبر خروجاً عن حدود التشريع.

____________________

(١) وفيما لو كان العمل ضرورياً يدخل في حقل الواجبات الكفائية. ولا يكون الجزاء بعنوان الاجرة، وإنما يسترزق من بيت المال، كما يأتي الحديث عنه فيما يأتي إن شاء الله.

٦٠