النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام

النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام0%

النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 153

النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام

مؤلف: محمد مهدي الآصفي
تصنيف:

الصفحات: 153
المشاهدات: 30337
تحميل: 3685

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 153 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30337 / تحميل: 3685
الحجم الحجم الحجم
النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام

النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام

مؤلف:
العربية

عرض لنفقات الدولة

وفيما يلي نحاول أن نستعرض وجوه النفقات في الفقه الإسلامي، بالشكل الذي يعرضه القرآن الكريم.

وقد نظم الفقه الإسلامي وجوه النفقة التي يجب على السلطة القيام بها بشكل يفي بكل الحاجات الاجتماعية والعسكرية والاقتصادية والعمرانية، وما يتجدد من حاجة في البلاد.

ولكي نستعرض هذه النفقات بشكلها التشريعي نحاول أن ندرس هذا الجانب من البحث في ضوء آيتين من القرآن الكريم، هما آيتا الزكاة والخمس.

آية الزكاة

قال الله - تعالى -:( إنَّماَ الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمسَاكِينَ، وَالْعامِلينَ عَليْها، وَالْمُؤلَّفةِ قُلُوبُهُم، وَفيِ الرِّقابِ، وَالْغارِمِينَ، وَفيِ سَبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ... ) (١) .

ويلمح الباحث من سياق الآية الكريمة نحوين من المصارف يختص الأول منهما بتملك هذه النفقات. ويختص الثاني بصرفها عليه.

____________________

(١) سورة التوبة: ٦٠.

٦١

ويشعر بذلك موضع «اللام» و«في» في الآية الكريمة.

فقد أضافت الآية الكريمة الصدقات إلى الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ب «اللام» مما يشعر بأنهم أشخاص حقيقيون يملكون هذه الصدقات.

وأضافت «الصدقات» إلى «الرقاب» و«الغارمين» و«سبيل الله» و«ابن السبيل» بكلمة «في» أو بالعطف عليها مما يشعر بأنها مرافق عامة وجهات اجتماعية تختص بهذه المصارف وليست أشخاصاً تملك ذلك.

فالنفقات المالية للدولة الإسلامية على نحوين:

١ - نفقات عامة تبذل على أشخاص حقيقيين يملكونها (التمليك).

٢ - نفقات عامة تصرف على جهات ومرافق اجتماعية تختص بها من دون أن تملكها (الصرف والاختصاص).

وعلى ضوء من هذا النهج نحاول أن نستعرض آية الزكاة بالبحث الفقهي.. ونتناول هذه المصارف واحداً بعد آخر.

(أ) النفقات الشخصية

وهي النفقات التي تبذل لأشخاص من الفئات التالية:

١ - الفقراء،٢ - المساكين،

٣ - العاملون عليها،٤ - المؤلفة قلوبهم.

٦٢

١، ٢ - الفقراء والمساكين:

والظاهر أن المسكين أشد فقراً من الفقير، بحيث يضطر للسؤال.

والفقير هو المحتاج المتعفف، الذي لا يملك قوت سنته، ولم يبلغ به الحال حد الاستجداء(١) .

والفقراء والمساكين - في حدود هذا المعنى - يملكون سهماً من سهام الزكاة، يصرفونه على شؤونهم الخاصة والعامة مما يحتاجون إليه.

أقسام الفقر:

والفقر على ثلاثة أقسام:

فقد ينشأ الفقر عن عجز الشخص عن الاكتساب، لآفة في جسمه أو لعاهة تلازمه.

وقد يكون الشخص قادراً على الاكتساب، ولا يحمل أي مرض يقعده عن العمل. ولكن اشتغاله بالخدمات العامة يمنعه عن الاكتساب، فلا يملك قوت سنته.

وقد يكون الشخص سليماً قوياً فارغاً من أي نشاط عملي أو فكري، مهملاً، عاطلاً.

____________________

(١) راجع تفسير التبيان: ٥ / ٢٨٣. وتفسير الطبري: ١٠ / ١٥٩.

٦٣

ولكن من هذه الأقسام الثلاثة حكم خاص في التشريع الإسلامي:

(أ) المرض والشيخوخة:

فإن كان الفقر ناشئاً عن عجزه عن العمل لعاهة جسمية أو مرض عصبي أو شيخوخة، فلا شك في شمول الآية له.

وقد خصصت الشريعة الإسلامية لهم سهماً من الزكاة، ليحفظ لهذه الطبقة من المسلمين كرامتها، ويكف وجوههم وأيديهم عن ذل الاستعطاء.

كما قررت الشريعة أن تصرف الدولة من بيت المال راتباً على الفقراء العاجزين عن العمل بمرض أو شيخوخة.

فقد ورَد عن محمد بن أبي حمزة عن رجل بلغ به علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام . قال: مرَّ شيخ مكفوف كبير يسأل. فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ما هذا؟ قالوا يا أمير المؤمنين نصراني. فقال أمير المؤمنين: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه. انفقوا عليه من بيت المال(١) .

وهذا الحق الذي يفرضه الإسلام للفقراء والمعوزين من المرض والشيوخ يشبهه - إلى حد ما - (حق التقاعد) في الأنظمة الحديثة.

____________________

(١) رسائل الشيعة كتاب الجهاد: ١٠ من أبواب جهاد العد وما يناسبه.

(ب) القائمون بالخدمات العامة:

٦٤

وقد يكون الفقر ناشئاً عن الإشتغال بالخدمات الاجتماعية العامة، كالتعليم، والتبشير، والدعوة، والطباعة، وحفظ الأمن الداخلي وحفظ الثغور، والجهاد، والإدارة.. وما شابه ذلك.

وهؤلاء - في الغالب - أُناس يصلحون للإكتساب والعمل، وليس بهم شيء من الكسل أو الإهمال.. ولكن اشتغالهم بالخدمات الاجتماعية لا يفسح لهم مجالاً للعمل والاكتساب؛ فيدخلون في عداد الفقراء الذين لا يملكون قوت سنتهم.

ولابد أن نشير إلى أن الآية الكريمة لا تقصد بالفقراء السائلين باليد أو المقعدين والعاجزين والمرضى فحسب.. وإنما تشمل كل من يقصر ماله على تمويله سنة كاملة (واحدة). سواءاً كان الفقر ناشئاً عن عجز أو عاهة في الجسم أو كان ناتجاً عن اشتغال الإنسان بالخدمات الإجتماعية الواجبة بحيث تستوعب وقته، ولا تسمح له بالوقت الكافي لينصرف إلى بعض أسباب الرزق.

والإنسان في هذه الحالة يحق له أيضاً أن يسترزق من بيت المال بصورة محترمة تليق بمكانته، ويأخذ من بيت المال ما يكفيه ويغنيه، ليس على سبيل الاجرة والجزاء، وإنما على سبيل الحاجة والاستحقاق.

وقد يدل وضعه على بعض اليسر والسعة والرفاهية، كما لو

٦٥

كان يملك مركباً مناسباً له وخادماً وبيتاً للسكنى. ومع ذلك فلا يمنع ذلك من أن يأخذ حاجته وحاجة عياله من بيت المال.

قال السيد الطباطبائي اليزدي:

«ودار السكن والخادم وفرس الركوب المحتاج إليها بحسب حاله، ولو لعزه وشرفه، لا يمنع من إعطاء الزكاة وأخذها»(١) .

ولا يقتصر فيما يدفع لهم على قدر الحاجة والكفاف، وإنما يبذل لهم من مال الزكاة ما يلائم مكانتهم الاجتماعية وما يغنيهم.

فقد سئل أبو جعفر -عليهما‌السلام -: «كم يعطى الرجل من الزكاة؟ فقال: اعطه من الزكاة حتى تغنيه»(٢) .

وقال رجل لأبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : «اعطي الرجل من الزكاة مائة درهم؟ قال: نعم. قال: مائتين؟ قال: نعم. قال: خمسمائة؟ قال: نعم.. حتى تغنيه»(٣) .

وكذلك يظهر للباحث من خلال الكتاب والسنة أنه ليس في تقبل هذه الطائفة للزكاة ما يشعر بالهوان، وإنما هو حق طبيعي لهم، يتقاضونه من الدولة كما يتقاضون أي حق آخر لهم.

ويدخل رجال الثقافة والفقهاء، والعلماء، والأطباء،

____________________

(١) العروة الوثقى: كتاب الزكاة.

(٢) جواهر الكلام: كتاب الزكاة.

(٣) جواهر الكلام: كتاب الزكاة.

٦٦

ورجال الشرطة والإدارة، والجند.. في عداد هؤلاء وتيسر لهم الدولة حياتهم المادية، ليتفرغوا لما يُقدِّمون للمجتمع من خدمات عامة، وإن كانوا يقدرون على الاكتساب.

قال الفقيه اليزدي في «العروة الوثقى»:

«لو اشتغل القادر على الكسب بطلب العلم المانع عنه، يجوز له أخذ الزكاة إذا كان مما يجب تعلمه عيناً أو كفاية، وكذا إذا كان مما يستحب تعلمه»(١) .

وعن مؤلف «جواهر الكلام» عن «نهاية الأحكام» و«السنن» و«التحرير» وغيرها:

«لو كان التكسب يمنع من التفقه في الدين، جاز أخذها؛ لأنه مأمور به إذا كان من أهله.. وجاز الإنشغال بالتعليم والتعلم عن الاكتساب»(٢) .

وكذلك شأن القضاة والحكام، والجند والشرطة، وأطباء المستشفيات العامة، والسعاة - كما تصرح به الآية الكريمة - من الذين يقومون بالخدمات الاجتماعية داخل الإدارة الحكومية وخارجها -.

____________________

(١) العروة الوثقى: كتاب الزكاة.

(٢) جواهر الكلام: كتاب الزكاة: ٧٧.

٦٧

أصل التوظيف في الإسلام:

ومن هنا يتبين للباحث، شكل «التوظيف» في الدولة الإسلامية.

فالراتب الذي يأخذه الموظف في مجتمع غير إسلامي..، إنما يأخذه ازاء ما يُقدِّمه من خدمات اجتماعية في حقول الثقافة والطب والمحافظة على الأمن والإدارة.

أما في الدولة الإسلامية، فهذه الخدمات تعتبر واجبات شرعية عينية أو كفائية، يستحقها المجتمع على كل فرد مسلم أو أفراد مخصوصين.

فالمريض يستحق من الطبيب، المعالجة، والجاهل يستحق من العالم، التثقيف، والمجتمع يستحق من رجال الشرطة والجند، الأمن الداخلي والخارجي، والأُمة تستحق على الحكومة، الرعاية. ولا يجوز مطالبة شيء - عادة - إزاء هذه الحقوق، إذا اعتبرناها فرائض شرعية واجبة.

ويُقدِّم لهم بيت المال أرزاقهم بصورة محترمة، ليتفرغوا لمهامهم الاجتماعية.

فلا يجوز للاستاذ أن يتقاضى أجراً من الدولة أزاء تدريسه، كما لا يجوز للجندي أن يتقاضى أجراً أزاء حمايته للوطن، ولا يجوز للطبيب أن يتقاضى شيئاً أزاء معالجة المرضى - إذا توقف العمل عليهم وكان واجباً كفائياً أو عينياً عليهم -.

٦٨

قال الفقيه الشيخ الأنصاري -رحمه‌الله - في «المكاسب»:

«مما يحرم التكسب به، ما يجب على الإنسان فعله عيناً أو كفاية، تعبداً أو توصلاً، على المشهور - كما في «المسالك» -، بل عن «مجمع البرهان» كأن دليله الإجماع»(١) .

تخلص فقهي:

وفي الأوضاع الاجتماعية التي عاصرت التاريخ الإسلامي، لم يتحقق الشكل السليم للمجتمع، ولم يضمن القائمون بالخدمات الاجتماعية من قبل الدولة بالشكل الذي يريده الإسلام.

فكان هؤلاء يضطرون إلى الإحتيال بصورة شرعية لأخذ الأُجرة لإمرار حياتهم الخاصة.

وقد أَربك هذا الواقع اللاإسلامي موقف الفقهاء.

فالضرورة تلجؤهم إلى الاعتراف بذلك من جانب.. والأدلة الشرعية تمنعهم عن ذلك من جانب آخر.

فتجد هذا الموقف المرتبك الحاصل من محاولة الجمع بين ضرورة الأوضاع الاجتماعية غير الإسلامية وبين مقتضى الأدلة الشرعية في كلام الشيخ الأنصاري:

«ثمّ إنه قد يفهم من أدلة وجوب الشيء (أي الخدمات

____________________

(١) المكاسب للشيخ الأنصاري: ١ / ٦١.

٦٩

الاجتماعية) كونه حقاً لمخلوق يستحقه على المكلفين. فكل من أقدم عليه فقد أدى حق ذلك المخلوق. فلا يجوز له أخذ الأُجرة منه ولا من غيره ممن وجب عليه أيضاً كفاية. ولعل من هذا القبيل تجهيز الميت وإنقاذ الغريق، بل ومعالجة الطبيب لدفع الهلاك».

«ثمّ أن هنا إشكالاً مشهوراً، وهو أن الصناعات التي يتوقف النظام عليها، تجب كفاية لوجوب إقامة النظام. بل قد يتعين بعضها على بعض المكلفين عند انحصار المكلف القادر فيه.. مع أن جواز أخذ الأُجرة مما لا كلام فيه. وكذا يلزم أن يحرم على الطبيب أخذ الأُجرة على الطبابة، لوجوبها عليه كفاية أو عيناً. وقد يتفصّى عنها بوجوه»(١) .

ثمّ يشرح الشيخ الأنصاري -رحمه‌الله - الوجوه التي ذكرها الفقهاء للتخلص من هذا المأزق الفقهي لتبرير أخذ الأُجرة على الواجبات بشكل من الأشكال.

ومما تقدم يبدو واضحاً للباحث شكل التوظيف في المجتمع الإسلامي، فهو حق يقدمه الموظف للمجتمع، من غير أن يحق له أن يطالب بجزاء عنه. والدولة بدورها يجب عليها تقديم المساعدات المادية المحترمة إليه، حتى يتفرغ للعمل.

____________________

(١) المكاسب: ١ / ٦٣.

٧٠

(ح) الفقراء العاطلون:

وهؤلاء هم طائفة من الناس يؤثرون حياة الذل والراحة - إذا كان فيها شيء من الراحة - على أن يخوضوا ميادين الحياة، ويعتمدون على ما يدره عليهم عطف الناس، وإن كان ضئيلاً مقروناً بالذل.

ويقف التشريع الإسلامي موقفاً حاسماً من هؤلاء، ولا يجوز تقديم أي مساعدة مالية من بيت المال لهؤلاء، مهما بلغ الأمر.

قال الفقيه الشيخ محمد حسن (صاحب الجواهر):

«فمن يقدر على اكتساب ما يموّن نفسه وعياله على وجه يليق بحاله، لا تحل الزكاة له؛ لأنه كالغني. وكذا ذو الصنعة اللائقة بحاله التي تقوم بذلك، كالتجارة والحياكة ونحوهما، بلا خلاف معتد به»(١) .

٣ - العاملون عليها:

وهم السعاة الجباة الذين يقومون بجمع الضرائب المالية وجبايتها، والولاية عليها، وتنظيم شؤونها وتسجيل حساباتها.

٤ - المؤلفة قلوبهم:

وهم كفار يستمالون للجهاد مع المسلمين، أو مسلمون ضعفاء

____________________

(١) جواهر الكلام: كتاب الزكاة: ٧٧.

٧١

الإيمان يستمالون إلى حفظ الثغور والأمن في الوطن الإسلامي.

وذلك فيما يخص الأشخاص الذين تبذل لهم الدولة النفقات التي تنهض بأمرهم.

(ب) الجهات والمرافق العامة «وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله»

قلنا - فيما تقدم من هذا الحديث - أن موقع «وفي» في الجزء الثاني من الآية الكريمة يشعر بأنه من الإنفاق على جهة عامة أو مصلحة إجتماعية، وليس من الإنفاق على شخص خاص أو تمليك لفرد من الأفراد.

ومن ذلك يستظهر الباحث أمرين:

الأول، أن مصرف الزكاة في الآية الكريمة لا يقتصر على الأشخاص، بل يشمل الجهات العامة والمرافق الاجتماعية التي تخدم المصلحة العامة من الجهات المذكورة في الآية الكريمة، كما تشمل الأشخاص المعوزين والعاملين والمؤلفة قلوبهم.

وقد أساءت المالكية فهم هذه الآية بوجهها وسياقها الخاص، حيث قالت:

«لا يجوز أن يصرف الزكاة في بناء مسجد أو مدرسة أو حج أو جهاد أو إصلاح طريق أو سقاية أو قنطرة أو نحوها من

٧٢

تكفين ميت ولكل ما ليس فيه تمليك، لمستحق الزكاة»(١) .

وقد رأينا - فيما تقدم - إن الإنفاق قد يتم عن طريق التمليك لفرد من الأفراد، كما قد يتم عن طريق الانفاق على مشروع خيري أو مصلحة اجتماعية تخدم الأُمة من الجهات المتقدمة في الآية الكريمة.

والآية الكريمة تحوي على كلتا الصورتين من الإنفاق: الإنفاق على الأشخاص والإنفاق على الجهات والخدمات العامة والمرافق الاجتماعية. وهي ظاهرة في هذين القسمين من الأموال.

الثاني: أن الإنتفاع من المرافق والخدمات العامة التي يصرف عليها من بيت المال ومن الزكاة لا يتوقف على فقر المنتفع وحاجته وإنما هي مرافق عامة لكل المنتفعين، لا تخص فئة خاصة منهم، مسلمين كانوا أم غير مسلمين، فقراء كانوا أم أغنياء، وذلك كالمال الذي يصرف من بيت المال في إقامة الجسور والسدود ومشاريع الريّ والمدارس والمستشفيات العامة وغير ذلك من المرافق والمؤسسات الاجتماعية.

ومن هنا قال الفقيه كاشف الغطاء -رحمه‌الله -:

«لا يعتبر في المدفوع إليه، الإسلام والإيمان، والعدالة، ولا الفقر ولا غير ذلك»(٢) .

____________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة: كتاب الزكاة.

(٢) جواهر الكلام: كتاب الزكاة: ٩١.

٧٣

وقال آية الله الحكيم -رحمه‌الله - في المستمسك:

«ولذا لا يظن الاشكال في جواز انتفاع الغني بالقناطر والخانات»(١) .

فإذن تخصص جملة من هذه السهام لرفع مستوى الحياة عامة وليست لخدمة طبقة خاصة، وجزء منها فقط يخصص لمصلحة الفقراء والمعوزين كأشخاص وجماعات.

وفيما يلي نشرح واحداً من هذه المصارف كشاهد على ما نقول:

في سبيل الله:

«سبيل الله» جهة من مصارف الزكاة، ولا يعنى به شخص خاص. ومعنى «سبيل الله» الطريق الذي يؤدي إلى رضى الله - تعالى - وهو يشمل كافة المرافق الاجتماعية الخيرية. وإضافة «السبيل» إلى «الله» تفيد هذا المعنى.

وليس في هذه الكلمة ما يدل على حصر مدلولها بالجهاد والغزو فقط وما يلزمهما من شؤون وعدة.

ولذلك، فقد توسع الفقهاءرحمهم‌الله في تفسير هذه الكلمة.

قال الفقيه الشيخ محمد حسن (صاحب الجواهر) -رحمه‌الله -:

____________________

(١) مستمسك العروة الوثقى - ط ١ -: ٩ / ٢٣٧.

٧٤

«... فلا ريب في أن الأقوى عموم (سبيل الله لكل قربة فيدخل حينئذ جميع المصارف ويزيد عليها. وإنما يفارقها في النية. ضرورة شموله لجميع القرب، من بناء الخانات وتعمير روضة أو مدرسة أو مسجد، أو دعاء ونحوها، أو تزويج عزَّاب أو غيرها، أو تسبيل نخل أو شجر أو ماء أو مأكول أو شيء من آلات العبادة، أو إحجاج أحد، أو إعانته على زيارة، أو في قراءة أو في تعزية، أو تكرمة علماء أو صلحاء أو نجباء، أو إعطاء أهل الظلم والشر ليخلص الناس من ظلمهم ومن شرهم، أو إعطاء من يدفع الظلم عن الناس ويخلص الناس من شرهم، أو بناء ما يتحصن به المؤمنون عنهموشراء الأسلحة لدفاعهم، أو إعانة المباشرين لمصالح المسلمين، من تجهيز الأموات أو خدمة المساجد والأوقاف العامة.. أو غير ذلك.

ومن هنا قال الأُستاذ في «كشفه»: إنه لا يعتبر في المدفوع إليه الإسلام والإيمان، ولا عدالة، ولا فقر، ولا غير ذلك؛ للصدق»(١) .

وأُحب أن الفت النظر إلى مدلول الفقرة الأخيرة التي نقلها الشيخ مؤلف «جواهر الكلام» عن «كاشف الغطاء» فيما يخص الفئات التي تستفيد من هذا المورد المالي.

____________________

(١) جواهر الكلام - كتاب الزكاة: ٩١.

٧٥

فإن هذا السهم من سهام الزكاة لما كان يخص المرافق الحياتية العامة، فلا يمكن تخصيصه بالمسلمين أو المؤمنين أو العدول منهم خاصة؛ نظراً إلى أن المرافق المدنية موضوعة للخدمات الاجتماعية العامة وليست تخص فئة بذاتها.

٧٦

آية الخمس

ولنعقب مصرف الزكاة في القرآن الكريم بآية من القرآن الكريم في مصرف الخمس:

( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيءٍ فأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ، وَللِرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبى وَالْيتامى وَالمَساكينِ وَابْنِ السَّبِيلِ... ) (١) .

والظاهر من الآية الكريمة،: أن خُمس الغنائم والمكاسب يقسم على ستة سهام:

(١) سهم منه لله.(٢) وسهم للرسول.(٣) وسهم لولاة الأمر بعد الرسول «ذوي القربى».(٤) وسهم لليتامى من بني هاشم.(٥) وسهم للمساكين منهم.(٦) وسهم لأبناء السبيل منهم.

والثلاثة الأُول من السهام الستة يعود إلى ولي الأمر - وهو سهم الله والرسول وذوي القربى - وليس لعامة المسلمين، وإنما هو من أموال الدولة الخاصة، ينفقها ولي الأمر على المصالح والمرافق الاجتماعية وحاجات الحكومة الخاصة، بالشكل الذي يرتئيه الحاكم الشرعي الأعلى للدولة الإسلامية.

وهذا وارد مالي كبير للدولة الإسلامية، يساوي عشر

____________________

(١) سورة الأنفال: ٤١.

٧٧

الوارد الصافي العام لمجموع الأُمة، تصرفه الدولة على المرافق الاجتماعية في الدولة.

والنصف الآخر منه - وهو سهم «اليتامى والمساكين وابن السبيل» - يعود لأشخاص الفقراء من بني هاشم فإن نقص عن حاجة الفقراء من بني هاشم فيكمله الإمام من سهم ولي الأمر، وإن زاد على حاجتهم شيء أضاف الزائد إلى حصة الدولة(١) .

وخصص فقراء بني هاشم بهذا الجزء من الخمس لعدم استحقاقهم شيئاً من زكاة الآخرين. فجعل الله ذلك لهم عوضاً عن الزكاة.

وإذا أُضيف الزائد من سهام الفقراء من بني هاشم إلى سهم ولي الأمر - وهي تزيد غالباً عن حاجاتهم، إذا تشددت الدولة في جبايتها - بلغ وارد الدولة من صافي الأرباح والمكاسب حدود الخمس.

وهذا وارد مالي ضخم، يضاف إلى وارد الحكومة الإسلامية الآُخرى، ويُمَكِّنها من القيام بكثير من المشاريع والمرافق والحاجات العامة في البلاد.

ومما يدل على أن النصف الأول من السهام الستة ملك لجهة خاصة، وهي الحكومة الإسلامية وليس ملكاً لشخص ولي الأمر هو أن الإمام القائم بالأمر يرث سهم الله وسهم الرسول.

____________________

(١) راجع مصباح الفقيه: الزكاة: ١٤٥.

٧٨

وواضح أن ملكية السهم الأول لله - سبحانه وتعالى - ليس من قبيل الملكية الاعتبارية القائمة بين الناس، فله - سبحانه وتعالى - ملك السماوات والأرض، وليس بحاجة إلى مثل هذه الاعتبارات والإضافات، وإنما المقصود من إضافة السهم إليه تعالى هو ملكية الجهة التي يريد الله - تعالى - تخصيص هذا المال لها، وهي جهة الولاية والحكومة الشرعية.

وكذلك سهم النبي (ص) فلم يعهد من النبي (ص) إنه كان يصرف هذا المال في حاجاته وحاجات أهله، وإنما كان يصرفه في حاجات الجند والقضاء والإدارة وشؤون المجتمع والدولة.

والمعني من إرث الإمام الحاكم لسهم الله ورسوله هو نهوض الإمام بعد النبي بشؤون الولاية والحكومة خلافة عن الله ورسوله وليس الغرض هو الوراثة النسبية والسببية.

فالنصف الأول من السهام الستة يعود إذن إلى الحكومة الإسلامية التي يلي أمرها الحاكم الشرعي، والنصف الثاني منها يعود إلى فقراء بني هاشم بعد إضافة الزائد منه إلى سهم ولي الأمر.

ولأمر ما عطف «الرسول» و«ذوي القربى» على «الله» باللام، ووحَّدها سياق جملي واحد وهو العطف باللام: «فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى» وعطف (اليتامى) و(المساكين) و(ابن السبيل) عليهم بغير اللام: «واليتامى والمساكين وابن السبيل».

٧٩

ولا يخلو وجود هذين السياقين في التعاطف في النصف الأول والنصف الثاني من الآية الكريمة عن دلالة أو تأييد لوجود تفاوت في إضافة السهام إلى هاتين الطائفتين.

ولا يهمنا نحن بهذا الصدد الحديث عن عصر حضور الإمام، وإنما نريد أن نحدد ملامح النظام في عصر الغيبة؛ حيث يتولى الفقيه الجامع للشرائط مهام الحكومة الشرعية والولاية نيابة عن الإمام.

وفي مثل هذه الحالة لا تعود السهام إلى شخص الفقيه، وإنما لجهة الولاية والحكومة التي يتولاها الفقيه ولا يرثها عنه ورثته، وإنما ينتقل أمره إلى الفقيه الذي يليه في الولاية والحكومة على المسلمين.

* * *

وبعد.. فهذا عرض موجز لنظام المال في الإسلام، قدمناه إلى القراء بهذا الشكل من الإيجاز والاختصار، ليكون تمهيداً لدراسة واسعة في هذا الموضوع إن شاء الله تعالى.

٨٠