النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام

النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام25%

النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 153

  • البداية
  • السابق
  • 153 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35484 / تحميل: 5510
الحجم الحجم الحجم
النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام

النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

مراجع البحث

القرآن:

الأموال: قاسم بن سلام (أبو عبيد)

التبيان في تفسير القرآن: الشيخ الطوسي

تذكرة الفقهاء: العلامة الحلي

جامع البيان في تأويل

آي القرآن : الطبري

جواهر الكلام: الشيخ محمد حسن

الحدائق الناضرة: الشيخ يوسف البحراني

رياض المسائل: السيد الطباطبائي

السنن: البيهقي

شرايع الإسلام: المحقق الحلي

العروة الوثقى: السيد كاظم اليزدي

الفقه على المذاهب الأربعة: عبد الرحمن الجزيري

المحاسن: البرقي

مستمسك العروة الوثقى: السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مصباح الفقيه: المحقق الهمداني

المكاسب: الشيخ الانصاري

الميزان في تفسير القرآن: السيد محمد حسين الطباطبائي

وسائل الشيعة: الحر العاملي

٨١

٨٢

٨٣

٨٤

تَدَاول الثَّروة في الإسلام

أهمية تداول الثروة

تقوم الحياة الاجتماعية على قاعدة التبادل والمقايضة.

ولا يستطيع الإنسان أن يوفر لنفسه حاجاته الخاصة عن طريق الانتاج الشخصي، حتى في أكثر صور الحياة البدائية.

وقد أدرك الإنسان منذ عهد هذه الحقيقة، واستحدث طريقة المقايضة والتداول لإشباع حاجاته.. بعد أن كان إنتاجه الشخصي لا يفيده مباشرة في إشباع حاجاته وسد رغباته.

وزاول هذا النظام في حياته منذ أن أدرك نفسه وحاجاته.. وعمل على تطويره وتنظيمه كأي ظاهرة اجتماعية أُخرى.

النظام المالي، والاقتصاد السياسي، وتداول الثروة:

ولكي ندخل البحث عن بينة، ينبغي أن نميّز بين هذه الأقسام الثلاثة من العلوم التي تنصب على «الثروة» جميعاً.

ورغم ارتباط هذه الفروع الثلاثة من المعرفة البشرية، فهناك حدود خاصة لكل واحد من هذه الفروع، تميّزه عن الفرعين الآخرين.

ف «النظام المالي» يبحث عن موارد الدولة المالية ومصارفها.

و«الاقتصاد السياسي» يبحث عن إنتاج الثروة وتوزيعها واستهلاكها.

.. بينما يبحث علم «تداول الثروة» عن انتقال الثروة من شخص إلى شخص آخر وتداولها في الأيدي.

٨٥

المقايضة:

تعتبر المقايضة الشكل الأول لتداول الثروة.. مارسها الإنسان أول ما التجأ إلى مزاولة التداول في حياته وكانت المقايضة صورة بدائية عن التداول، تكلف الإنسان كثيراً من المتاعب.

فكان على صاحب الحنطة الذي يريد لحماً أن يعثر على شخص يملك لحماً ويرغب في تعويضه بحنطة.

وكان القياس الوجيد لتقييم البضاعة هو حاجة الطرفين.

فلم يعرف الإنسان بعد «وحدة» لقياس قيم البضائع.

وعدم إمكان التجزئة كان هو الآخر من أهم مشاكل نظام المقايضة.

فقد كان أحدهم يصحب معه حجراً كريماً إلى السوق ليشتري به كمية من الحبوب لا تعدل عشر قيمته، فيحتار فيما يصنع بسلعته التي يعرضها في السوق والتي لا تقبل التجزئة.

٨٦

وكل ذلك دعا الإنسان إلى أن يبحث عن وسيط سهل التناول لتيسير عملية التداول.

وتمخضت عبقرية الإنسان بعد محاولات عدة عن النقود والنظام النقدي.

الوسيط النقدي في المبادلة:

اتخذ الإنسان النقود وسيطاً لعملية المبادلة في السوق.. بعد أن كانت المبادلة بين بضاعتين تجري بصورة مباشرة من غير توسيط شيء في البين، مما كان يسبب للإنسان البدائي كثيراً من المشاكل.

وكان أثر توسط النقود في عملية «المبادلة» ان انقسمت المبادلة إلى عمليتين مندمجتين:

عملية مبادلة البضائع بالنقود.

وعملية مبادلة النقود بالبضائع.

واتخذ الإنسان النقود وحدة لقياس البضائع والخدمات وتقييمها في السوق، بعد أن كان يعاني من عدم إمكان تجزئة السلع التي لا تقبل التجزؤ.

وبهذه الصورة اهتدت عبقرية الإنسان إلى وسيلة للمبادلة تيسر له كثيراً من عقبات المقايضة.

٨٧

أطراف التداول

للتداول دائماً طرفان:

طرف منه هو المعوَّض، والطرف الآخر منه هو العوض، والمعوض والعوض قد يكونان من قبيل البضاعة والنقد، وقد يكون بضاعة وبضاعة على طريقة المقايضة، وقد يكون خدمة وبضاعة أو خدمة ونقداً، أو حقاً ونقداً أو ما شابه ذلك.

على أن الغالب في المعاملات ان يكون المعروض بضاعة أو خدمة والعوض نقداً. والتفكيك بين المعوض والعوض في المعاملة قد يكون واضحاً كما في موارد البضاعة والنقد، فإن البضاعة تقع في هذه المواضع موضع المعوض والنقد يقع في موضع العوض.

ولكن قد يصعب التفكيك بينهما فيما لو كان الطرفان بضاعة مثلاً.

وللتفكيك في هذه الموارد بين المعوض والعوض، ينبغي أن نفرق بين القيمة الاستعمالية للبضاعة والقيمة التبادلية لها، فكل بضاعة أو خدمة تحمل قيمتين:

١ - قيمة استعمالية: وهي تمثل الخدمة الاستعمالية للبضاعة كالسير بالنسبة للسيارة، والإشباع بالنسبة للخبز، والتنظيف بالنسبة إلى الصابون.

٨٨

والمشتري يطلب من البضاعة هذه القيمة دائماً.

٢ - قيمة تبادلية: وهي تمثل قيمة السلعة أو الخدمة عندما تعرض في السوق للتبادل في مقابل السلع الاخرى، كما تتحدد قيمة الصابون الواحد بثلاثة أرغفة وأربعة أقلام وخمسة علب من علب الثقاب. وتتحدد هذه القيمة بقانون العرض والطلب.

والبائع والمؤجر، يطلب دائماً في السوق هذه القيمة، من البيع والإيجار، كما كان المشتري أو المستأجر يطلب القيمة الأُولى من الشراء.

وبذلك يظهر أن (المعوض) يطلب دائماً لقيمته الاستعمالية سواءً كان المشتري يطلبه لاستعماله الخاص أو لاستعمال زبائنه، والعوض يطلب دائماً لقيمته التبادلية، ويتَّجه النظر فيه إلى ما يساويه وما يقابله من الأشياء الأخرى.

وسوف نستعرض بإيجاز البحث عن كل من المعوض والعوض فيما يأتي من هذا البحث.

٨٩

١ - المعوَّض

ذكرنا قبل قليل أن كل ما يتمول من (مال) يحمل قيمتين، قيمة استعمالية تمثل الخدمة الاستعمالية للمال، وقيمة تبادلية، تمثل ما يقابله في السوق من السلع والخدمات الاُخرى.

والمعوض هنا يطلب من جانب المشتري أو المستأجر لقيمته الاستعمالية، بينما يطلب العوض لقيمته التبادلية.

وما يقع معوضاً في المعاملة (التداول) أحد أشياء أربعة:

١ - الأعيان المتنقلة: كما لو وقع العقد على مدفأة أو غسالة أو سيارة من أعيان السلع.

٢ - الأعيان الثابتة أو العقار: وذلك كما لو وقع العقد على دار للسكنى أو بستان.

٣ - الحقوق المالية: وذلك كما لو وقع العقد على بعض الحقوق المالية، كحق الإنسان في رقعة من الأرض بعد إعمارها أو غير ذلك من الحقوق المالية، القابلة للنقل والانتقال.

٤ - الخدمات: وذلك كما لو وقع العقد على تملك خدمة سيارة أو عامل لفترة من الزمن وهي على قسمين:

٩٠

(أ) الخدمات البشرية: كما لو وقع عقد الإجارة على خدمات طبيب أو محامٍ أو سائق أو عامل.

(ب) الخدمات السلعية: كما لو وقع العقد على استئجار خدمات سيارة أو دار للسكنى أو رافعة أثقال.

٩١

٢ - العوض أو (النقد)

ذكرنا من قريب أن العوض يختلف عن المعوض في أنه يطلب لقيمته التبادلية، بينما يطلب المعوض لقيمته الاستعمالية.

ولم يكن في أول عهد الإنسان بالتداول، في عصر المقايضة عوضاً بالمعنى الصحيح للكلمة، فلم يكن الإنسان يطلب بضاعة من البضائع لقيمتها التبادلية، وإنما كان يطلب دائماً من البضاعة قيمتها الاستعمالية في طرفي التداول معاً.

وعرف الإنسان (العوض) بمعناه العلمي، أي ما يقصد لقيمته التبادلية، عندما ابتدع الإنسان (الوسيط النقدي) في المعاملة كما تقدم.

ففي هذا العصر؛ عصر الوساطة النقدية، ابتدع الإنسان النقد، كما تقدم في صدر هذا الحديث، لتيسير المعاملة، وتسهيل عملية التداول.

تطور النظام النقدي:

وكان الشكل الأول للنقود التي تداولها الإنسان هي «النقود السلعية»... حيث اصطلح الإنسان الابتدائي على اعتبار بعض السلع وسيطاً في التبادل كالحبوب والانعام، فكانت تحمل صفة (النقد) و(البضاعة) معاً.

٩٢

وبطبيعة الحال لم تكن تتجاوز قيمتها السلعية عن قيمتها النقدية، وذلك كالمعادن والحبوب والانعام.

وتطورت النقود بعد ذلك إلى الذهب والفضة، نظراً لثبات كميتها - تقريباً - وسهولة تناولهما ونقلهما.

واستحدث الإنسان بعد ذلك نظام المسكوكات، وأخذت الحكومات بسك النقود الراجعة إليها من الذهب والفضة وأحياناً من المعادن الأُخرى.

وظل هذا النحو من النقود شائعاً حتى الحرب العالمية الأُولى؛ حيث رأت الحكومات ضرورة الاحتفاظ بما تمتلكه من الذهب لاسناد أوراقها النقدية، وللاحتفاظ بها لشراء الأسلحة، فيما إذا اقتضت الضرورة.

وهكذا شاع استعمال الأوراق النقدية (النقود الائتمانية) من هذا الوقت.

نظام «الذهب» في الفقه الإسلامي:

منذ وقد بعيد تداول الإنسان «الذهب» كبضاعة ونقد في معاملاته، ولم ندر - على وجه الدقة - متى تداول الإنسان الذهب في معاملاته، ومتى ابتدأ الإنسان باستخراجه والاحتفاظ به كحلية وبضاعة ونقد.

إلاّ أننا نعلم أن الذهب كان منذ أقدم الأيام موضع عناية الإنسان الخاص؛ وذلك لندرته، وسهولة حمله، وتجانسه،

٩٣

وارتفاع قيمته، مع صغر حجمه وثبات كميته تقريباً.

وقد كانت مسألة الذهب من قديم مثار مشاكل للإنسان.

وبلغ الاهتمام بها في عالم السياسة، ان هيئة الأمم، ومن قبلها عصبة الأمم، عينت جهازاً خاصاً لدراسة مسألة الذهب في العالم، ورفع تقارير واسعة عنه إلى الهيئة.

فارتفاع نسبة الذهب في بلاد وانخفاضه يؤثر في مستوى الأسعار، كما أن تصدير الذهب واستيراده يؤثر في سعر الصرف والعلاقات النقدية بين الدول.

وقد أولى الإسلام مسألة الذهب عناية تامة، وجعله مقياساً للقيم، ووحدة نقدية لتقييم البضائع والخدمات المختلفة.

ولم يخلق الذهب - في النظرية الإسلامية - لغرض الاكتناز والزينة، وإنما خلق ليوظف في مصالح الناس، ولتتداوله الأمة فيما بينها ليخدم مصالحها.

فقد سئل ابو جعفر -عليه‌السلام - عن الدراهم والدنانير (وهي الذهب والفضة) فقالعليه‌السلام :

«هي خواتيم الله في أرضه، جعلها مصلحة لخلقه، وبها تستقيم شؤونهم ومطالبهم. فمن أكثر له منها فقام بحق الله، فذاك الذي طلبه، ومن أكثر له منها فبخل فذاك الذي حق عليه وعيد الله...»(١) .

____________________

(١) سفينة البحار: ١ / ٤٤٥.

٩٤

وأكد بصورة غير مباشرة على اتخاذ الذهب وحدة نقدية في المجتمع الإسلامي؛ فربط الذهب بأحكام ثابتة من الشريعة، كالديات وكثير من الكفارات.. كما فرض عليه ضريبة خاصة به.

الاستعمال المشروع وغير المشروع للذهب:

ومما تقدم، يستطيع الباحث أن يلمح: أن الغرض الرئيسي من الذهب في الفقه الإسلامي، هو التوظيف والتداول كنقد في الأسواق.

أما بقية وجوه استعمال الذهب، فقد حاول الإسلام أن يحددها أو يمنعها بشكل مباشر أو غير مباشر.

فالأغراض التي يستخدم فيها الذهب ثلاثة:

١ - الأغراض النقدية:

وهي من أهم وجوه الحاجة إلى الذهب.

وسنجد - فيما يأتي - أن الفقه الإسلامي حاول أن يجعل من الذهب النقد الرسمي للبلاد، ويعطي غطاءً ذهبياً كاملاً للنقود الورقية المتداولة في الأسواق.

٢ - الأغراض الصناعية:

ويستخدم الذهب كثيراً لأغراض صناعية، وفي صناعات مختلفة، كصياغة الحلي وصناعة الأواني الذهبية.

٩٥

وتعتبر الصياغة والصناعات الذهبية في الوقت الحاضر مصرفاً ضخماً من مصارف الذهب في العالم.. فيجمد الذهب بشكل أواني أو حلي عن التداول في الأسواق والتوظيف، ويفقده خاصية السيولة النقدية.

وقد حاول الإسلام أن يحدد هذا المصرف من مصارف الذهب ويشجب بعض وجوهه، فمنع الرجال من اتخاذ الحلي الذهبية، كما منع من استعمال الأواني الذهبية.

وطبيعي أن مجموع الذهب يستخدم سنوياً في هذه الأغراض لو استخدم في أغراض نقدية ووظف في الأسواق لعاد على الأمة بنفع كثير.

٣ - الإكتناز:

وهذا غرض آخر من الأغراض التي يستخدم فيها الذهب.

وتشيع هذه الظاهرة الاقتصادية في حالات الاضطراب والحرب، حيث يقبل الناس على تبديل أموالهم إلى الذهب والاحتفاظ به خوفاً من التلف.

وهذه الحالة تؤدي إلى سحب كميات كبيرة من الذهب من الأسواق؛ فتقل كمية الذهب الموجود، وتضطرب الأسعار. ثمّ يعود الذهب إلى الأسواق مرة أُخرى حين يعود الأمن إلى البلد، فيكثر، ويعود الاضطراب مرة أُخرى إلى الأسواق.

أما الاكتناز الدائم، فهو إهدار لفائدة هذه الأداة النافعة

٩٦

التي خلقها الله لخدمة مصالح الناس بلا جدوى. وأكثر ما تنتشر هذه العادة في الهند، حيث يحتفظ «مهاراجات» الهند بكميات كبيرة من الذهب.

وقد شجب الإسلام هذا التصرف المشين، وأعد للقائمين به عذاباً مُرّاً، حيث يقول الله - تعالى - :

( ... وَالَّذِينَ يَكِنزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها فيِ سَبيلِ اللهِ، فَبَشِّرْهُمْ بَعذابٍ ألَيمٍ. يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ؛ هذا ما كَنَزْتُمْ ِلأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُم تَكْنِزُونَ ) (١) .

ولقد انصرف بعض الاقتصاديين في العهد الأخير إلى تحديد نصيب كل غرض من الأغراض الثلاثة المتقدمة من ناتج الذهب السنوي.

فذهب الاقتصادي «Lefeldt » إلى أن الناتج السنوي من الذهب في الوقت الحاضر (سنة ١٩٣١) يبلغ ٤٠٠ مليون دولار، يستخدم منه في الأغراض الصناعية والاكتناز نحو ٢٠٠ مليون دولار - أي النصف - ويستخدم منه في الأغراض النقدية النصف الآخر.

وقد تناول هذا الموضوع بالبحث الخبراء الماليون في عصبة الأُمم، فتبين لهم أن ما يستخدم من الذهب لغير الأغراض

____________________

(١) سورة التوبة: ٣٤، ٣٥.

٩٧

النقدية سيتزايد بمعدل ١% في السنة»(١) .

ولا يحتاج إلى تأكيد أن هذا المبلغ الضخم - أي ما يساوي الذهب المستخدم في الأغراض النقدية - لو كان يضاف إلى الذهب الموظف في الأسواق، لكان له تأثير بالغ في تحسين الأوضاع الاقتصادية، وتيسير البضائع والخدمات في الأسواق للناس.

النظام النقدي للمجتمع الإسلامي:

تقسم الأوراق المالية، في الوقت الحاضر، إلى «أوراق الزامية» و«أوراق ائتمانية».

والأوراق المالية الإلزامية لا تمثل أية قيمة نقدية، وإنما تمثل فقط قيمة قانونية، تفرضها الدولة على السوق.

والأوراق الائتمانية على نحوين: فهي إما تعهدات بأداء مبلغ من المال إلى الشخص الذي يحمل ورقة التعهد لمدة معينة أو لحين الطلب، وإما أوراق نقدية تمثل كمية من الذهب في خزانة الدولة أو خزانة «البنك المركزي».

ولكل من هذه الأوراق حكم في التشريع الإسلامي...

فالأوراق الإلزامية يتوقف جواز إصدارها على أمرين:

نفوذ حكم الحاكم في اعتبار هذه الأوراق وإلزام المواطنين بقبولها

____________________

(١) مجلة «الهلال»: ٤٠ / ٢٤٤.

٩٨

وتداولها، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى توفير صفة المالية لها من ناحية شرعية. فإن تم هذان الأمران فلا شك في جواز إصدار الأوراق المالية الإلزامية، وإلزام المواطنين بتداولها في الأسواق، مع تقدير كامل للوضع المالي في البلاد، واتخاذ الاحتياطالت والتحفظات الكافية في إصدارها، بحيث لا يؤدي إلى اختلال الوضع المالي في الأسواق الداخلية، أو إلى هبوط قيمة هذه الأوراق في الأسواق الخارجية.

ولا نريد هنا أن نسهب في تفاصيل هذا البحث من ناحية فقهية، فلسنا في هذه الرسالة بصدد أكثر من عرض موجز لنظام التداول في الفقه الإسلامي.

أما أوراق التعهد المالي، فلا شك في جواز إصدارها من قبل المؤسسات المالية المجازة، ولا يجب على الجهة القائمة بإصدار هذه الأوراق أن تملك من الذخيرة النقدية ما يكفي لتغطية جميع هذه التعهدات. إذ لا يتداولها الناس باعتبارها نقوداً، تملك غطاءاً ذهبياً كاملاً.. وإنما هي تعهدات، يكفي فيها إطمئنان الزبائن إلى قدرة المؤسسة المالية على الوفاء بها.

ولكي لا تستغل المؤسسات المالية إعتماد الزبائن بها في الإكثار من إصدار هذه التعهدات بأكثر من قابلياتها المالية، لابد من إشراف مباشر عليها من قبل الجهات الحكومية المسؤولة في الدولة الإسلامية.

٩٩

ومثل هذه المهمة تدخل في مسائل الولاية العامة التي يلي شؤونها الحاكم الشرعي في الدولة.

وأما الأوراق النقدية التي تمثل كمية من الذهب، فيجب على الدولة أن تضمن لها غطاءاً نقدياً كاملاً في خزانة الدولة أو في خزانة البنك المركزي. ولا تكفي التغطية الناقصة.

والفرق بين أوراق التعهد المالي والأوراق النقدية، أن التعهدات المالية لا تمثل غير تعهد بدفع المال لأجل أو لحين الطلب، ولا يوجد في ظهر الورقة أية إشارة بتمثيل هذه الورقة لكمية نقدية من المال.. بينما نجد أن الأوراق النقدية المتداولة في الأسواق تمثل كمية نقدية من المال في خزانة الدولة أو خزانة البنك المركزي، وتشير إليها، ولا يتداولها الناس في الأسواق ما لم يطمئنوا إلى وجود تغطية كاملة لها من الذهب ولا يتعاطاها الناس كتعهد، وإنما يتعاطونها كنقد يمثل قيمة نقدية واقعية.

وأي عجز في خزانة الدولة عن تغطية هذه الأوراق يعتبر غشاً واغراءً بالجهل من الناحية الشرعية.

شرعية الأنظمة النقدية الاُخرى:

ويكفي من ناحية ثانية أن تعتمد الدولة على أنظمة اخرى غير نظام الذهب، فيجوز لها أن تعتمد على الأراضي الزراعية والمعادن التي تملكها الدولة لتغطية هذه الأوراق.. إذا كان الذهب الموجود لدى الدولة لا يكفي لتغطية الأوراق النقدية التي تريد الدولة أن تطرحها في السوق.

١٠٠

النظام المصرفي الحديث

تعتبر المصارف في الوقت الحاضر، العصب الحساس للحياة الاقتصادية.

وبغير العمليات المصرفية لا يمكن أن تستمر المؤسسات التجارية والصناعية والزراعية في نشاطها الإنتاجي والتجاري.

ولابد لنا ونحن بصدد البحث عن تداول النقد، أن ندرس النظام المصرفي على ضوء من التشريع الإسلامي، ونبحث عن الطرق المشروعة لمزاولة النشاط المصرفي.

نشأة النظام المصرفي وتاريخه:

وقبل أن نبحث عن الشكل المشروع للنشاط المصرفي، نستعرض نشأة النظام المصرفي بصورة موجزة؛ ليتاح لنا أن نربط الصورة المعاصرة للنشاط المصرفي بنشأته التأريخية.

كانت المصارف قبل هذا العصر دوراً للصيرفة.. تتعهد بحفظ الأمانات النقدية أزاء تعهد كتبي تدفعه إلى المودعين.

وبمرور الزمن، أخذت هذه التعهدات (الوثائق المالية) تحتل محل النقود والأوراق النقدية (الأوراق النائبة) وأصبح الناس يزاولون أعمالهم التجارية بهذه التعهدات في الأسواق.

١٠١

ولاحظ أصحاب هذه الدور، أن هذه الودائع النقدية تبقى محفوظة - في الغالب - من غير أن يسترجعها أصحابها لمدة من الزمن.

وما يبقى من هذه الودائع لدى الدار بصورة مستمرة خلال النشاط المالي الذي تقوم به، تتجاوز ٩٠% من الودائع.

فخطر لهم على بال استثمار ٩٠% من هذه الودائع النقدية عن طريق إقراض هذه الودائع المالية لقاء فائدة مالية.

كما تفتقت العبقرية الرأسمالية عن فكرة.. وهي أن وثوق الناس بمكانتها المالية تسمح لها بإصدار أوراق (وثائق) وتعهدات مالية تقوم مقام النقد في الأسواق أضعاف النقود والودائع المودعة لديها.

وأخذت تقرض المؤسسات الإنتاجية والتجارية مبالغ طائلة بهذه التعهدات المالية أو الوثائق المالية.

وكان الاحتياط النقدي الذي يملكه الصيرفي أو المصرفي لتغطية هذه التعهدات لا يتجاوز في أحسن الأحوال العُشر.

واتسع فيما بعد نشاطها المالي وأخذت تزاول وجوهاً أُخر من النشاط المالي، كخصم الكمبيالات، ونقل النقود، وصكوك السفر، وتيسير المعاملات التجارية مع الخارج.

وكذلك أصبح المصرف ضرورة إقتصادية لا يمكن الإستغناء عنها في الحياة الاقتصادية وفي الأسواق المالية والتجارية.

١٠٢

مفاسد النظام المصرفي:

للنظام المصرفي أهمية كبرى في تيسير أعمال المؤسسات الإنتاجية والتجارية داخل البلاد، وتنشيط الأسواق المالية والتجارية وبورصات المال والبضاعة.

ومع ذلك فقد أدّى ظهور النشاط المصرفي في العالم إلى ظهور كثير من المشاكل المالية.. نستعرض بعضها خلال هذا البحث، ونشير إلى موقف التشريع الإسلامي من كل واحدة منها.

١ - إصدار الأوراق المالية:

يعتبر إصدار الأوراق المالية من أهم وجوه النشاط المصرفي.

ويرجع تاريخ ذلك إلى القرن السادس عشر الميلادي؛ حيث كان الناس يتداولون في الأسواق إيصالات الودائع النقدية لدى الصيارفة كوسيلة للوفاء بالإلتزامات المالية.

ولأول مرة، حاول «بنك البندقية» سنة ١٥٨٧ م، إستغلال هذه الظاهرة، وإصدار وصولات متشابهة للإيداع النقدي، لغرض التداول في الأسواق.

فقد لاحظت المصارف أن الأشخاص الذين يودعون نقوداً لدى البنك لا يراجعون البنك لاسترجاع ودائعهم إلاّ بنسبة ١٠% من هذه الودائع خلال النشاط المصرفي.. فحاولت أن تصدر أوراقاً مالية وتعهدات بمقدار ٩٠% مما تملكه من رصيد من الودائع.

١٠٣

كما لاحظت أن الأشخاص الذين يحملون تعهدات مالية من قبل المصرف؛ قلما يتفق أن يراجعوا المصرف لتغطية هذه التعهدات بما لدى المصرف من النقود إلاّ بنسبة ١٠%.

وهذه الملاحظات شجعت أصحاب البنوك إلى الإكثار من إصدار الأوراق المالية والتعهدات المالية (البنكنوت).. مما أدى إلى ظهور الاختلال في الجهاز المصرفي، وعجز كثير من المصارف من تسديد تعهداتها، واضطراب الأسواق والبورصات المالية.

فقد قام بعض المضاربين والمحتالين بنشر أعداد كبيرة من الأوراق المصرفية المتباينة من حيث الوثوق بين أيدي الناس.

وحصلت إفلاسات لبعض المصارف ووقعت الخسائر من جراء ذلك لكثير من الناس. حتى أن الحكومة تحملت بعض الخسائر من جراء إيداع أموالها في مصارف لم تلبث أن أفلست(١) .

واختلال الجهاز المصرفي، أو ظهور عجز في هذا الجهاز، يؤدي سريعاً إلى تقلب قيم الأوراق المالية واضطراب الأسواق، وتضعضع أركان النظام المصرفي بصورة عامة في العالم.

ولذلك، فقد حاولت الدول أن تتدخل، بصورة مباشرة

____________________

(١) علم الاقتصاد: اثر ادوار بيرنز: ٣ / ٣٥٨.

١٠٤

أو غير مباشرة في تحديد عملية إصدار «البنكنوت»(١) بقابلية المصرف لتسديد تعهداتها المالية.

وحصرت أخيراً صلاحية إصدار«البنكنوت» ب «البنك المركزي» الذي تملكه الحكومة في البلاد وتشرف عليه بصورة مباشرة.

ولكن النتيجة لم تختلف منذ وضعت الحكومة يدها على إصدار «البنكنوت» وباشر «البنك المركزي» فقط بهذه المهمة.

وحسبنا الإشارة إلى أنه منذ توقف صرف الأوراق «البنكنوت» بالذهب فعلاً، أو قانوناً في مستهل الحرب العالمية الأولى، لم يسترد البنكنوت قابليته للصرف على أي نحو إلاّ لفترة قصيرة، بين عامي ١٩٣١ - ١٩٣٥.. ثمّ جاءت الأزمة المالية العالمية، وإنهارت قاعدة الذهب، وانقسمت العلاقة بين الذهب والبنكنوت في مختلف البلدان؛ بحيث لم يعد لحامل ورقة البنكنوت الحق في مبادلتها بأي شيء على الإطلاق(٢) .

موقف الإسلام من إصدار الأوراق المالية:

ولكي نتبين موقف الإسلام من قضية إصدار الأوراق المالية، يجب أن نميز بين الأوراق المالية التي يصدرها البنك باعتبارها

____________________

(١) «البنكنوت»: تعهد مصرفي بدفع مبلغ معين من وحدات النقد القانونية لحامل الورقة عند الطلب.

(٢) الاقتصاد: سامي الناصري.

١٠٥

تعهدات مالية باستحقاق حاملها للمبلغ المكتوب عليها على البنك، لأجل خاص أو لدى الطلب، اعتماداً على ما لها من ذخيرة مالية.

وبين الأوراق المالية التي يصدرها البنك باعتبار أنها تمثل قيماً نقدية خاصة، يتعهد البنك بأدائها لدى المطالبة.

والقسم الأول من الأوراق المالية لا يمثل غير استحقاق حاملها للمبلغ من البنك.. بينما القسم الثاني من الأوراق تمثل القيمة النقدية ذاتها.

والقسم الثاني من الأوراق المالية «البنكنوت» هي التي يتداولها الناس في الأسواق للوفاء بالالتزامات المالية.

ولذلك، ففي إصدار القسم الأول من الأوراق المالية، لا يشترط وجود رصيد نقدي لدى البنك، بل يكفي اطمئنان المصرف بقدرتها على القيام بوفاء تعهداتها المالية لدى الطلب أو عند حلول الأجل.

ولأجل تفادي المشاكل المالية التي تترتب على إكثار المصارف من إصدار هذه التعهدات، تقوم الدولة - بما لها من ولاية شرعية - بفرض رقابة خاصة على المصرف لتحديد إصدار هذا القسم من التهدات بإمكانيات المصرف المالية بنسبة مئوية خاصة، حسب ظروف السوق المالية.

فإن اعتماد الزبائن على التعهدات المصرفية يعود إلى الإطمئنان بقدرة المصرف على الوفاء. فلو أصدر المصرف أسناداً مالية

١٠٦

بأكثر من قابليته المالية وقدرته على الوفاء، يعتبر عمله هذا خيانة لزبائنه.

وفي مثل هذه الأحوال، يجب على الدولة أن تفرض رقابة خاصة على المصارف، لئلا تتجاوز حدود قدرتها على الوفاء في إصدار أوراق التعهد المالي.

وأما الأوراق المالية التي تمثل قيمة نقدية، فلا يجوز للمصرف أن يتجاوز رصيده المالي في إصدارها.

وذلك لأن المصرف بإصداره هذه الأوراق، يرمز إلى وجود مبالغ نقدية لديها، تساوي قيمتها الإسمية.

وأية زيادة لقيمة هذه الأوراق الإسمية عن رصيده المصرفي المالي يعتبر غشاً وإغراءً بالجهل.

والرصيد المالي الذي يجب أن يحتفظ به المصرف لتغطية هذه الأوراق، هو مجموعة الرأسمال الذي يقدمه المساهمون لإنشاء المصرف والاحتياط المالي الذي يدخره المصرف من ربحه الخاص خلال نشاطه المالي.

وبهذه الصورة، نرى أن النظام المصرفي الذي يقره الإسلام يسلم من كثير من ألوان الاضطراب والخلل المالي الذي تتعرض له المصارف خارج هذا المجتمع.. ويسود الأسواق المالية وبورصات المال في المجتمع إستقرار مالي واطمئنان عام، مما يشجع على النشاط التجاري والقيام بأعمال إنتاجية طويلة الأمد.

١٠٧

٢ - تمركز القوة في أيدي المساهمين:

يتكون رأسمال المصارف - عادة - من الرأسمال الذي يقدمه المساهمون الأوائل، والودائع تحت الطلب والمؤجلة التي يدعها الزبائن في المصارف، من أبناء الأمة عامة.

ولا يتجاوز الرأسمال الذي يودعه المساهمون الأوائل ثلاثة أجزاء من مائة(٣%) من مجموع الرأسمال، ويرجع ٩٧% من الرأسمال إلى زبائن المصرف.

ويقوم المصرف باستثمار هذا المبلغ الضخم، الذي يكون ٩٧% من رأسماله، في مختلف الأعمال الإنتاجية. ويستوفي فائدة هذه الأموال لصالحه الخاص، ولا يرجع إلى أصحابها الشرعيين إلاّ شيئاً يسيراً جداً بالنسبة إلى ما يجنيه المصرف من الفائدة.

ويضع المساهمون الأوائل - وهم لا يتجاوزون عدد الأصابع - أيديهم على هذه الثروة الطائلة، التي لا يملكون منها غير نسبة ضئيلة لا تتجاوز نسبة ٣%.

وإذا وضعنا هذه الثروة في إطارها الاجتماعي، وجدنا أن هؤلاء المساهمين يضعون أيديهم على أقوى سلاح في البلاد، ويسيطرون - عن طريق ذلك - على مقدَّرات البلاد، ويقررون بعد ذلك مصير الأُمة ويوجهون الوضع المالي بالشكل الذي يخدم مصالحهم..

١٠٨

بينما نجد أن أصحاب الودائع المالية - وهم الغالبية من أبناء الأُمة - لا يملكون شيئاً من أُمور المصرف، فضلاً من أن يملكوا تقرير مصير البلاد، أو يسيطروا على مقدرات الأُمة.

وخذ لذلك مثلاً «مصرف بنجاب القومي»، وقد كان من أنجح المصارف وأكثرها في القارة الهندية قبل وجود باكستان وكان مركزه في «لاهور».. فما كان رأس ماله الذاتي إلاّ عشرة ملايين روبية؛ ولكن كانت ودائعه التي كان يستعملها سنة ١٩٤٥ نحو ٥٢٠ مليون روبية.

والعجيب - بعد كل هذا - أن المصرف على الرغم من أنه كان يسيّر شؤونه كلها بما اجتمع عنده من الودائع، وهي تبلغ ٩٠ - ٩٥% ، بل ٩٨% أحياناً من مجموع ما لديه من مال فإنه لم يكن للمودعين أي حق في التدخل في نظامه وإدارته وسياسته، وإنما كان ذلك كله بيد المساهمين الذين هم المالكون للمصرف.. على حين لا يكاد يبلغ رأس مالهم ٢ أو ٣ أو ٤ أو ٥% من مجموع الموجودات(١) .

ولكم أن تقدروا مبلغ هؤلاء الرأسماليين من القوة والنفوذ بأنه ما كان عند عشرة مصارف في الهند - قبل تقسيم البلاد - إلاّ ١٧٠ مليون روبية.. ولكن كانت الودائع قد بلغت فيها ٦١٢٠ مليون روبية.. وكان عدد قليل، لا يتجاوز ١٥٠ أو

____________________

(١) الربا: ابو الاعلى المودودي: ٩٦، ٩٧.

١٠٩

٢٠٠ شخصاً على الأكثر، من الرأسماليين مستولياً عليها وعلى سياستها وإدارتها...

كل هذا عن بلاد ليس عهدها بتنظيم الرأسمال إلاّ حديثاً، وهو لا يبلغ مجموع الودائع في صناديق مصارفها أكثر من نصف جنيه لكل فرد من أهاليها بالمعدل.

ولكن تصوروا كيفية ارتكاز الثروة وتجمعها في مصارف البلاد الغربية، التي قد بلغ فيها هذا المعدل الفين، بل ثلاثة آلاف مرة منه في بلادنا الشرقية.

لقد كان هذا المعدل في المصارف التجارية وحدها - حسب إحصاء سنة ١٩٣٦ - في اميركا ١٣١٧ جنيهاً، وفي انكلترا ٦٦٤ جنيهاً وفي سويسرا ٢٧٥ جنيهاً، وفي ألمانيا ٣١٣ جنيهاً، وفي فرنسا ١٦٥ جنيهاً.

فعلى هذا النطاق الواسع يسلم أهالي تلك البلاد أموالهم المدخرة إلى رأسماليهم.. وعلى هذا النطاق الواسع تنجذب الثروة من كل بيت لترتكز في أيدي قليلة(١) .

وذلك يعني: ان هذه الطبقة قد وضعت أيديها على مقدرات البلاد ومصيره واتجاهه المالي، وصار بإمكانها أن توجه البلاد، من ناحية سياسية واقتصادية واجتماعية، إلى الوجهة التي تخدم أغراضها الخاصة، وتنمي إمكانياتها المالية، وتسند مكانتها الاجتماعية، وتبعد أبناء الأُمة - أصحاب الرأسمال الشرعيين -

____________________

(١) الربا: ابو الأعلى المودوي: ١٠١ - ١٠٣.

١١٠

عن المسرح المالي والسياسي.

فإن المال في الحياة الاجتماعية عصب الحياة الرئيسي. والذي يملك هذا السلاح القوي أو يملك أمره والسيطرة عليه فهو يملك الشيء الكثير من أمر المجتمع والقوى المؤثرة فيه.

ولذلك، ففي المجتمع الإسلامي، لا يملك المساهمون الأوائل أن يضعوا أيديهم على الرأسمال المدخر في المصرف إلاّ بقدر.

والدولة هي التي تشرف على سير المصارف ونشاطها وتنظيم أعمالها، حتى لا ينقلب المصرف، وهو قائم مالياً على أكتاف الأُمة، إلى مؤسسة تخدم أغراض المساهمين الأوائل فحسب، كما تلمس ذلك في المصارف الأهلية في الوقت الحاضر.

وبهذا الشكل تحفظ الدولة أموال الأُمة من أن تتمركز لصالح طبقة خاصة في المجتمع.

١١١

الشكل المشروع للنظام المصرفي في المجتمع الإسلامي

يتصور كثير أن المجتمع الإسلامي لا يفتح صدره للنشاط المصرفي. وإذا تم إنشاء مجتمع اسلامي تتوفر فيه عناصر هذا المجتمع، فيجب أن تغلق أبواب جميع المصارف الموجودة في البلاد، ويعطل النشاط المصرفي بصورة عامة!

ولكن ببعض التأمل يظهر لنا أن المجتمع الإسلامي بما يملك من مرونة لا يقصر عن احتضان هذه المؤسسة المالية كما لا يقصر عن احتضان أية مؤسسة أُخرى تفرض نفسها على حياة الإنسان المعاصر، وذلك ببعض التعديل في محتواها وشكلها.

ولكي يتاح لنا أن نلمس من قريب الشكل المشروع للنشاط المصرفي في المجتمع الإسلامي نستعرض وجوه هذا النشاط واحداً بعد واحدٍ على ضوء الفقه الإسلامي.

١ - القروض:

للقرض أهمية خاصة في نشاط المصارف. فهو يحتل في نشاط المصارف وأعماله الحجم الأكبر. ولذلك فلا يمكن أن نتصور أن يقوم مصرف دون أن يزاول هذا اللون من النشاط المالي، ودون

١١٢

أن تحتل هذه الفعالية المالية حجماً كبيراً من فعالياته ونشاطه.

ولا شك أن الشكل القائم الذي تمارسه المصارف في تقديم القروض للزبائن بشكل غير مشروع من الناحية الإسلامية. فالمصارف تطلب من الزبائن فائدة مالية أزاء ما تقدمه من قروض، وهو شيء محرم في الإسلام قطعاً، لا يشك أحد في حرمته وفي انطباق عنوان الربا عليه.

وليس من شك أن المصارف لا تستطيع، من ناحية مالية أن تقوم بتقديم القروض للزبائن، دون أن تطالب أصحابها بفائدة مالية، أزاء ما تقدمه من مال.

فهل من شكل مشروع يجمع بين انتفاع المصرف - كمؤسسة مالية - فيما تقدم من قروض وبين امتناع هذه المؤسسة المالية من الربا المحرم في الإسلام.

هذا هو السؤال الذي نطرحه في هذه الدراسة للإجابة. ولا شك أننا لو استطعنا أن نقدم الإجابة الصحيحة على هذا السؤال، ونعثر على الصيغة الكاملة للمصرف الإسلامي الذي لا يمارس (الربا) فيما يمارس من أعمال ونشاط مالي.. فقد استطعنا أن نفتح صدر المجتمع الإسلامي لهذه المؤسسة المالية، كما استطعنا أن ننقذ المجتمع مما تجره اليه هذه المؤسسات (في صيغتها الربوّية) من ويلات اقتصادية ومشاكل اجتماعية كثيرة.

وفيما يلي تصوير موجز لهذه الاطروحة:

١١٣

في المجتمع الإسلامي يجوز للحاكم الشرعي - بما له من سلطة تنفيذية - أن يفرض على المصارف الأهلية أن تستخدم الودائع النقدية تحت الطلب للقروض القصيرة والقروض الاستهلاكية(١) وتقديم قروض استهلاكية طويلة الأجل بنسبة خاصة من الودائع التي يتركها العملاء في المصرف، تحت الطلب أو الأجل، من غير مطالبة بفائدة.

وهناك قروض أُخرى غير هذه القروض الاستهلاكية والقصيرة الأجل، تقدمها المصارف لأصحاب الأعمال والاستثمار الصناعي والزراعي، والقيام بأعمال انتاجية.

ويختلف حكم هذه القروض عن القروض المتقدمة التي كان للدولة أن تلجئ المصرف إلى تقديمها بلا عوض مالي. فإن المال الذي يدفعه المصرف إلى أصحاب الأعمال لا يصرف في الاستهلاك ولإشباع حاجات شخصية، وإنما يستخدم لأغراض إنتاجية تدر كثيراً من الربح على المؤسسة.

ولا ريب أن هذا الإنتاج يحصل من عاملين رئيسيين هما: العمل، ورأس المال.

والفائدة المترتبة على هذه العملية تنبسط على هذين العاملين،

____________________

(١) القروض على نحوين: استهلاكية وانتاجية. أما الاستهلاكية، فهي التي يقصد بها الاستهلاك لاشباع حاجة معينة.

والانتاجية: هي التي يقصد بها استخدام المال لأغراض انتاجية.

١١٤

وتكون لكل منهما حصة من الفائدة - إذا كانت مقارنة العاملين المذكورين على نحو المضاربة(١) .

أما الضرر، فيلحق الرأسمال خاصة، ولا يتضرر العامل - صاحب العمل - ما لم يكن قد خان أو أفرط في الإتلاف.

والشريعة الإسلامية تعترف بالبنوك على هذا الأساس، وهو أقرب إلى العدالة الاجتماعية.

فإن العامل - وهو ذو حصة في الربح والإنتاج - قد خسر رأس ماله الخاص في هذه العملية (وهو العمل)، والبنك أو الرأسمالي أيضاً يخسر بدوره جزءً من رأس ماله، وهو تمام الخسارة الواردة على الرأسمال.

فالشريعة الإسلامية لا تقدم على تجميد النشاط المصرفي.. وغاية ما هناك أن المصارف - بمفهومها الإسلامي - هي مؤسسات مالية معدة لإجهاز الأشخاص بالمال اللازم على نحو «المضاربة» ليقوموا بدور الإنتاج، وتحمل الخسارات الواردة على الرأسمال، ما لم تكن هناك خيانة أو إتلاف من جانب العامل وينبسط الربح بين العامل والبنك حسب القرار الذي اتفقا عليه.

____________________

(١) المضاربة: هي أن يدفع الشخص إلى غيره مالاً ليتصرف فيه بالبيع والشراء وما يتصل بذلك، ويقتسمان الربح على قرار متفق عليه بين العامل وصاحب رأس المال. أما الخسارة فيتحمله رأس المال جميعاً. والعامل يخسر عمله فقط في حالة الخسارة.

١١٥

وبهذا الشكل يمكننا أن نتخلص من مشكلة الربا، فيما تقوم به المصارف من نشاط في هذا المجال.

والإصلاح المصرفي بهذا الشكل أمر ضروري لتحقيق العدالة الاجتماعية، ولتقدم الحالة الاقتصادية في البلاد.

ونحن ندلل على ذلك، ونوضح موقف البنوك من العمليات الاقتصادية في الشريعة الإسلامية.

قلنا: إن المصارف أجهزة مالية، تجلب الأموال من أصحابها على شكل القروض والودائع، فتقدمها إلى أصحاب الأعمال لتزود مؤسساتها الاقتصادية بها لتقوم بمهام الإنتاج.

فهي في الواقع جهاز وسيط يتوسط بين صاحب العمل (المنتج) والرأسمالي، وتستفيد هي من فرق النفع الذي تأخذه من العامل لتردّه إلى صاحب المال. وهذا ربح مشروع لا ضير فيه، أشبه شيء بحق العمالة، يتقاضاه البنك إزاء ما يقدمه من الخدمات الاقتصادية.

وهذه المسألة لها جوانب ثلاثة:

الأول: جانب العمال وأصحاب الأعمال.

الثاني: جانب أصحاب الأموال.

الثالث: جانب المصرف، وهو في الحقيقة وسيط بين هذين الجانبين ليس أكثر.

١١٦

وقد يدفع المصرف المال إلى صاحب العمل من رأسماله الخاص لا من الأموال المودعة عنده فيحصل للبنك شخصية ذات جانبين، يضرب احداهما مع العامل في الانتاج بتزويده بالمال اللازم والاختيار التام في الانتاج، ويتوسط الثاني في عقد هذه المضاربة.

أما في المصارف الحديثة، المقرر أن يقسم الربح بين المنتج وصاحب رأس المال بتوسط البنوك.. وكيفيته أن يأخذ صاحب المال من الربح الحاصل من الانتاج شيئاً مقرراً مقابل كل مئة من الرأسمال. ويتردد ذلك غالباً فيما بين ٣ - ٤%، وقلما يتفق أن يتجاوز هذين الحدين.

ويأخذ صاحب العمل ما بقي من الربح، بعد إخراج حق المصرف في العمالة من أصل الربح... هذا في حالة الربح.

أما لو تضررت المؤسسة الانتاجية، فلا ريب أن البنك لما لم يكن له دخل في أصل الشركة ليتحمل شيئاً من الضرر، والرأسمالي أيضاً يطالب - من غير شفقة - أصل ماله مضافاً اليه أرباحه في هذه المدة فإن الخسارة تبقى على عاتق العامل؛ فيضطره ذلك إلى أن يهجر الانتاج ويعتزل التجارة. وبذلك يقل الإقبال على الإنتاج والتصنيع، وتضعف الحركات التجارية والصناعية من جانب الرأسماليين وأصحاب الأعمال على السواء.

أما من جانب أصحاب الرأسمال، فلأنه يرى الأصلح لنفسه أن يودع أمواله في البنوك، ويطمئن إلى ربح خالص على

١١٧

الدوام، بدلاً من أن يعرضها لخطر التلف أو التضييع والتضرر في عمليات الاستيراد والتصنيع.

أما من جانب أصحاب الأعمال، فلأنهم يرون أن الربح ينبسط دائماً على العمل والرأسمال على قرار بينهم والخسارة تخصهم دون الرأسمال. فيحجمون عن الإنتاج ويقل النشاط الاقتصادي.

أما الطريقة الإسلامية، فهي أن يخفف العبء عن العامل ويحمل جانب الرأسمال لتنشيط العمليات الانتاجية في البلاد.

وهذا الاسلوب في تسيير الأعمال المصرفية أصلح لحاجة البلاد الاقتصادية، وأقرب إلى مفهوم العدالة الاجتماعية.

ذلك كله فيما يخص الإنتاج.

أما ربا الاستهلاك، فهو من أبشع أنواع الاختلاس والسرقة، ولا تبيحه الشريعة الإسلامية في حال(١) .

وبهذا الشكل يبدو أن تطوير أجهزة المصارف الحديثة بهذا الشكل، وإجراء تعديل بسيط في صيغة عمل المصارف الحديثة فيما يتعلق بحقل القروض، كفيل أن يجنب المجتمع من كثير من المشاكل النابعة من المؤسسات المالية والمصرفية الحديثة وأن يعطي صفة المشروعية لهذه المؤسسة المالية.

فالمصرف - بعد إجراء هذا التعديل - لا يبقى مؤسسة

____________________

(١) نشر هذا البحث من جانب كاتب هذه السطور سنة ١٣٨١ هجري في مجلة الإخاء الايرانية العدد(٢٣) السنة الثانية ٢٣ / ٧.

١١٨

للإقراض وتقديم القروض في قبال فائدة مالية كالمعتاد، وإنما يتحول إلى مؤسسة للوساطة.. والتعريف بين العامل وصاحب المال، ويتلقى أجراً إزاء هذه الوساطة.

ويقسط الربح في هذه الحالة بين العامل والرأسمالي على قرار يتفقان عليه، وبعد طرح حق المصرف في الوساطة، بينما يتحمل صاحب رأس المال كل الخسارة ولا يخسر العامل شيئاً غير ما خسر من جهد وعمل، بعد التأكد طبعاً من صدق العامل عن طريقة ضبط السجلات بصورة رسمية ودقيقة.

وفي هذه الحالة يتحول المصرف إلى جهاز إنساني - مالي يعمل في تطوير وإنعاش حركة الإنتاج والتجارة والزراعة والتصنيع، ويقدم خدمات مالية إلى أصحاب المشاريع الإنتاجية ويعمل في إسهام رؤوس الأموال المعطلة في الإنتاج، دون أن يأخذ المصرف أو الرأسمالي صفة الاستغلال والاستثمار.

وأما في النظام المصرفي القائم فعلاً، فالمصارف أجهزة مالية استثمارية تعمل في أن يجني أكبر حد ممكن من الربح، ولا يهمها أن يكون العامل قد ربح فعلاً في الإنتاج أو خسر... فإن المصرف على كل حال يطالب بالنسبة المقررة من الفائدة.

٢ - خصم «الكمبيلات» والسندات المالية:

وهو وجه آخر من أهم وجوه النشاط المصرفي، ويجوزه بعض الفقهاء باعتبار قيام البنك بشراء هذه الأوراق بقيمة دون

١١٩

قيمتها الاسمية.

وهو من بيع الدين بأقل منه. فإن ورقة الكمبيالة تمثل ديناً لحاملها على محررها بمبلغ من المال فيبيعها حامل الكمبيالة على المصرف بمبلغ أقل منه.

وبيع الدين بأقل منه جائز، من الناحية الفقهية، إذا لم يكن الدين من المكيل والموزون.

أما لو كان الدين من المكيل أو الموزون كالحنطة والشعير والذهب والفضة فلا يجوز بيعه بأقل منه لأنه من الربا في البيع.

فيجوز إذن خصم الكمبيالة، فيما لو كان الدين من غير المكيل والموزون، أو كان من المكيل والموزون وبيع بشيء آخر من غير نوعه.

هذا في خصم الكمبيالات فيما لو كان الدين حقيقياً.

أما في كمبيالات (المجاملة) فله وجه آخر لسنا بصدده الآن.

٣ - التحويل:

وهو وجه آخر من وجوه النشاط المصرفي. ولا بأس به من الناحية الشرعية. والفضل الذي يتقاضاه المصرف في هذه الحالة عمولة مشروعة إزاء قبول المصرف الحوالة، ودفع المبلغ إلى المحتال بأمر المحيل، فيما إذا لم يكن للمحيل رصيد في البنك المحال عليه، فإن المصرف حجة بريئة في هذه الحالة، ولا ملزم

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153