صلح الحسن (عليه السلام)

صلح الحسن (عليه السلام)10%

صلح الحسن (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 400

  • البداية
  • السابق
  • 400 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47192 / تحميل: 8014
الحجم الحجم الحجم
صلح الحسن (عليه السلام)

صلح الحسن (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

للتغافل عن عناصر الموضوع التي كان لها أروع الاثر في النتائج التي توخاها الحسن بن علي من صلحه مع معاوية بن أبي سفيان. ولذلك، ولما لهذه التفاصيل الحساسة الثقيلة على النفس من الاهمية القصوى لموضوعنا العام، فلابد لنا من مسايرة هذا الموضوع في سائر خطواته، حتى ينتهى بنا أو ننتهي به الى النتائج الواضحة المملاة عن مقدماتها المسلمة، بما في هذه النتائج من مجد المظلوم ( الغالب ) وخزاية الظالم ( المغلوب )، فنقول:

١

الوفاء بالشرط الاول

كان هذا الشرط هو الشرط الوحيد الذي لمعاوية على الحسن.

فكان هو الشرط الوحيد الذي حظي بالوفاء من شروط هذه المعاهدة اطلاقاً.

ثم لا يعهد من الحسن بعد توقيعه الصلح، أي محاولة لنقض شرطه هذا ولا التحدث بذلك، ولا الرضا بالحديث عنه.

وجاءه زعماء شيعته بعد أن أعلن معاوية التخلّف عن شروطه، فعرضوا عليه - وقد رجع الى المدينة - أنفسهم واتباعهم للجهاد بين يديه، ووعده الكوفيون منهم باخلاء الكوفة من عاملها الاموي، وضمنوا له الكراع والسلاح لاعادة الكرة على الشام، فلم تهزه العواصف ولا قلقلته حوافز الانصار المتوثبين.

فقال له سليمان بن صرد، وهو اذ ذاك سيد العراق ورئيسهم - على حد تعبير ابن قتيبة عنه -: « وزعم - يعني معاوية - على رؤوس الناس ما قد سمعت: اني كنت شرطت لقوم شروطاً ووعدتهم عدات ومنيتهم أمانيّ

٣٠١

فان كل ما هنالك تحت قدميَّ هاتين، وواللّه ما عنى بذلك الا نقض ما بينك وبينه، فأعد الحرب خدعة وأْذَنْ لي أشخص الى الكوفة، فأخرج عاملها منها وأُظهر فيها خلعه، وانبذ اليه على سواء، ان اللّه لا يهدي كيد الخائنين.

« ثم سكت ابن صرد، فتكلم كل من حضر مجلسه بمثل مقالته، وكلهم يقول: ابعث سليمان بن صرد وابعثنا معه، ثم الحقنا، اذا علمت انا قد أشخصنا عامله، وأظهرنا خلعه(١) ».

وجاءه - ايضاً - حجر بن عدي الكندي، ومركزه القويّ في العراق مركزه، كما ستعرف قريباً.

وجاءه المسيب بن نجية، فارس مضر الحمراء كلها، اذا عدّ من أشرافها عشرة كان هو أحدهم - على حد تعبير زفر بن الحارث الكلابي عنه -.

وجاءه آخرون من نظرائهم، وكلهم لم يحظ من الحسن الا بالرّد الجميل والاستمهال الى موت معاوية، لانه صاحب عهده فيما تعاهدا عليه، ولانه كان قد درس من أحوال الكوفة في تجربته الاولى، ما أغناه عن تجارب أخرى.

وكان آخر جوابه اليهم قوله: « ليكن كل رجل منكم حلساً من أحلاس(٢) بيته ما دام معاوية حياً، فان يهلك معاوية، ونحن وانتم احياء، سألنا اللّه العزيمة على رشدنا، والمعونة على أمرنا، وأن لا يكلنا الى انفسنا، فان اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون(٣) ».

__________________

١ - ابن قتيبة ( ج ١: ص ١٥١ ).

٢ - فلان حلس بيته يعني ( ملازم بيته لا يبرحه ).

٣ - الامامة والسياسة ( ج ١ ص ١٥٢ ).

٣٠٢

٢

الوفاء بالشرط الثاني

أجمع المؤرخون - بما فيهم المتحزبون والمستقلون - على أن العهد لذي أعطاه معاوية للحسن في شروط الصلح، هو أن لا يعهد بالامر من بعده الى أحد، ومعنى ذلك رجوع الامر من بعده الى صاحبه الشرعي، أعني الحسن بن علي فان لم يكن فللحسين أخيه، تمشياً مع مفهوم الشرط القائل بتسليم الامر محدوداً بحياته، ومفهوم سلبه صلاحية العهد الى أحد من بعده.

وأجمع المؤرخون - بعد ذلك - على أن معاوية نقض هذا العهد علناً، وعهد من بعده الى ابنه يزيد ( المعروف!!! ).

ولسنا الآن بصدد مناقشة معاوية على نقضه العهد بعد ميثاقه، وهو - على كل حال - جماع غلطاته التي أركسه « الصلح » فيها من حيث يدري أو لا يدري، ولكنا وقد مررنا على موقف معاوية من عهوده مراتٍ ومرات، لا نريد ان نمر هنا على تعيينه يزيد ابنه لخلافة المسلمين دون أن نقول: انه ارتكب بهذا العمل الجريء أكبر اثم في دينه، وأفظع جريمة في الصالح العام. وقد كان من أبرز النتائج، لاعمال معاوية الارتجالية الجريئة هذه، ان تنحرف قيادة الاسلام عن منهجها القويم، وان تفقد الرعية قدوتها العملية، وان تسود الاثرة، ويضطرب حبل الثقة بين الافراد والجماعات، وأن ينعدم التجاوب والتفاعل الوجداني بين القادة والاتباع. فتتوزع الميول وتتباين المقاصد، ثم لا يزال الامر يأخذ بهم سفالاً، حتى يستعد الى الثورات الدامية والانتفاضات الداخلية التي كان لابد منها لتدارك الاخطاء والتنبه على الاخطار. دع عنك ما كان يقال عن يزيد هذا، وعن قابلياته الشخصية والخلقية التي عجت بها التواريخ، من يومه الى يومنا، والتي

٣٠٣

كان من آثارها - في حكومته - ما كان ( مما لا نريد التوسع في ذكره )، وانما جل ما نريد هو التنبيه على الغلطة الكبرى التي أتاها معاوية، فتقمص بها مسؤولية الحرمات الاسلامية التي انتهكها بهذه الغلطة غير متحرج ولا متأثم.

وكان من الاساليب العجيبة التي توفر على روايتها أصدقاء الرجل فضلاً عن أعدائه، فيما لجأ اليه يوم نصب ابنه ولياً لعهد المسلمين، ما يكفينا للتأكد من وزنه كمسلم فضلاً عن وزنه كخليفة!! وانها لصفحة من أنكد صفحات التاريخ، وأبعدها عن « الاسلام » روحاً ومعنى وأهدافاً، ولولا أنها - بنتائجها التي تنكشف عنها في معاوية وفي المجتمع الذي كان يدور في فلك معاوية - أحد شرايين بحثنا الواسع فيما يهدف اليه هذا البحث من بيان أسرار الحسن فيما أتاه من الصلح، لاعرضنا عن ذكرها، ولكُنّا أحرص على سترها، رغم افتضاحها المكشوف مدى ثلاثة عشر قرناً.

أما الآن فسنعرض خلاصة من نصوص المؤرخين، دون ان نتعمد الشرح والتعليق في الاثناء، لان هذه النصوص بذاتها غنية عن الشرح والتعليق.

هكذا بايع معاوية ليزيد:

قال ابو الفرج الاصفهاني: « وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن وسعد بن ابي وقاص، فدس اليهما سماً، فماتا منه(١) ».

وقال ابن قتيبة الدينوري: « ثم لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن الا يسيراً حتى بايع ليزيد بالشام وكتب ببيعته الى الآفاق(٢) ».

وقال ابن الاثير: « وكان ابتداء ذلك وأوله من المغيرة بن شعبة، فان

__________________

١ - المقاتل ( ص ٢٩ ).

٢ - الامامة والسياسة ( ج ١: ص ١٦٠ ).

٣٠٤

معاوية أراد ان يعزله عن الكوفة، ويستعمل عوضه سعيد بن العاص، فبلغه ذلك، فقال: الرأي ان أشخص الى معاوية فاستعفيه، ليظهر للناس كراهتي للولاية، فسار الى معاوية وقال لاصحابه حين وصل اليه: ان لم أكسبكم الآن ولاية وامارة لا أفعل ذلك ابداً، ومضى حتى دخل على يزيد(١) وقال له: انه ذهب أعيان اصحاب النبي صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم، وكبراء قريش وذوو أسنانهم!(٢) وانما بقي أبناؤهم، وأنت من أفضلهم! وأحسنهم رأياً! وأعلمهم بالسنة!! والسياسة!، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟ قال: أَوَترى ذلك يتم؟ قال: نعم. فدخل على أبيه، وأخبره بما قال المغيرة، فأحضر المغيرة وقال له: ما يقول يزيد؟. فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان، وفي يزيد خلف (! )، فاعقد له، فان حدث بك حادث كان كهفاً للناس وخلفاً منك، ولا تسفك دماءٌ (!! ). ولا تكون فتنة (!! ). قال: ومن لي بهذا؟ قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. قال: فارجع الى عملك، وتحدث مع من تثق اليه في ذلك، وترى ونرى.

« فودّعه ورجع الى أصحابه. فقالوا: مه؟. قال: لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد!!، وفتقت عليهم فتقاً لا يرتق أبداً!(٣) ».

« وتواطأ معاوية مع رؤساء الوفود المناصحين له، أن يخطبوا ويذكروا

__________________

١ - وذكر البيهقي في المحاسن والمساوئ ( ج ١: ص ١٠٨ ) مناورة المغيرة بن شعبة هذه، ولكنه رأى أو روى ان المغيرة ابتدأ بمعاوية اولاً، وان معاوية لما وثق منه أرجعه الى عمله وقال له: « انصرف الى عملك، وأحكم الامر لابن اخيك، وأعاده على البريد يركض ( كذا ) ».

٢ - انظر الى مكانة السن في عرف المغيرة

٣ - كامل ابن الاثير ( ج ٣: ص ١٩٨ - ٢٠١ ). وفي هذا الحديث ما يشعرك بروحية المغيرة بن شعبة ومدى غيرة هذا الصحابي ذي الفتوق على أمة محمد (ص)!.

٣٠٥

فضل يزيد!! فلما اجتمعت عند معاوية وفود الامصار، وفيهم الاحنف بن قيس الفهري، فقال له: اذا جلست على المنبر، وفرغت من بعض موعظتي وكلامي فاستأذن للقيام فاذا أذنا لك، فاحمد اللّه تعالى واذكر يزيد، وقل فيه الذي يحق له من حسن الثناء عليه!! ثم ادعني الى توليته!. ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي وعبيد اللّه بن مسعدة الفزاري وثور بن معن السلمي وعبد اللّه بن عصام الاشعري، فأمرهم ان يقوموا اذا فرغ الضحاك، وان يصدقوا قوله!! فقام هؤلاء النفر خطباء يشيدون بيزيد!! الى أن قام الاحنف بن قيس [ ولم يكن من الممثلين الذين رتبهم معاوية لهذه الرواية ] فقال:

« أصلح اللّه الامير، ان الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف، ومعروف زمان مؤتنف، وقد حلبت الدهور وجربت الامور، فاعرف من تسند اليه الامر بعدك، ثم اعص من يأمرك، ولا يغررك من يشير عليك ولا ينظر اليك، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق، لا يرضون بهذا، ولا يبايعون ليزيد ما دام الحسن حياً ».

ثم أردف قائلاً:

« وقد علمت يا معاوية، أنك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليه مقصاً، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود اللّه ما قد علمت، ليكون له الامر من بعدك(١) . فان تف فأنت أهل الوفاء، وان تغدر تظلم. واللّه ان وراء الحسن خيولاً جياداً، وأذرعاً شداداً، وسيوفاً حداداً. وان تدن له شبراً من غدر، تجد وراءه باعاً من نصر. وانك تعلم من أهل العراق، ما أحبوك منذ أبغضوك، ولا أبغضوا علياً وحسناً منذ أحبوهما، وما نزل

__________________

١ - واخطأ فهم هذه الحقبة من الزمن كثير ممن كتب عنها، فقال حسن مراد في « الدولة الاموية » ( ص ٧٠ ): « ومن هنا نرى أن عهد معاوية بالخلافة لابنه يزيد على ما سيجيء لم يكن انتقالاً غير منتظر!! ». وقد عرفت من كلام الاحنف هنا ومن كلامنا في البحوث الآنفة أنه كان انتقالاً غير منتظر.

٣٠٦

عليهم في ذلك غيَرٌ من السماء، وان السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين، لعلى عواتقهم، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم(١) ».

أقول: وكلام الاحنف هذا، صريح بأن معاوية حاول البيعة لابنه يزيد في حياة الحسن بن علي، بينما صرح آخرون، بأن بيعة يزيد انما وقعت بعد وفاة الحسن، حتى قال ابو الفرج: « انه سم الحسن وسعد بن ابي وقاص تمهيداً لبيعة ابنه يزيد » ( كما اشير اليه ). اذاً فقد كان لمعاوية محاولتان لهذا التصميم: احداهما في حياة الحسن رغم العهود والأيمان والمواثيق، وهي انما فشلت لمكان وجود صاحب العهد حياً. وثانيتهما بعد وفاة الحسنعليه‌السلام ، وهي التي تمت بأساليبها الظالمة التي عرضها أكثر المؤرخين.

« فعزل مروان عن المدينة حين عجز عن أخذ البيعة على أهلها ليزيد، وولى المدينة سعيد بن العاص، فاظهر الغلظة وأخذهم بالعزم والشدة، وسطاً بكل من ابطأ عن البيعة ليزيد، فأبطأ الناس عنها الا اليسير، لا سيما بني هاشم، فانه لم يجبه منهم أحد.

« أما مروان فذهب الى الشام مغاضباً، وواجه معاوية بكلام طويل قال فيه: وأقم الامر يا ابن أبي سفيان، واهدأ من تأميرك الصبيان، واعلم أن لك في قومك نظراء، وأنهم على مناوأتك وزراء

- ثم سكت لانه رزقه الف دينار في كل هلال!! -

« وكتب معاوية الى عبد اللّه بن عباس والى عبد اللّه بن الزبير والى عبد اللّه بن جعفر والى الحسين بن علي، يدعوهم الى البيعة ليزيد!.

- وكان كتابه الى الحسينعليه‌السلام ما لفظه -:

« أما بعد. فقد انتهت اليَّ منك امور، لم اكن اظنك بها، رغبةً

__________________

١ - ابن قتيبة ( ج ١ ص ١٥٦ - ١٥٨ )، والمسعودي - هامش ابن الاثير ( ج ٦ ص ١٠٠ - ١٠٢ ).

٣٠٧

بك عنها، وان احق الناس بالوفاء من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك اللّه بها، فلا تنازع الى قطيعتك، واتق اللّه!!. ولا تردَّنَّ هذه الامة في فتنة!!. وانظر لنفسك ودينك وأمة محمد، ولا يستخفنَّك الذين لا يوقنون!! ».

- فكتب اليه الحسين بما يلي -:

« أما بعد فقد جاءني كتابك، تذكر فيه أنها انتهت اليك مني أمور لم تكن تظنني بها رغبةً بي عنها، وان الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد عليها الا اللّه تعالى. واما ما ذكرت انه رقى اليك عني، فانما رقاه الملاقون المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الجمع. وكذب الغاوون المارقون، ما أردت حرباً ولا خلافاً. واني اخشى اللّه في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلين، حزب الظلم وأعوان الشيطان الرجيم. الست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين، الذين كانوا يستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟. فقتلتهم ظلماً وعدواناً، من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة والعهود المؤكدة، جراءة على اللّه واستخفافاً بعهده، أَوَلست بقاتل عمرو بن الحمق الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة؟ فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم(١) لنزلت من شعف(٢) الجبال. أولست المدعي زياداً في الاسلام فزعمت أنه ابن أبي سفيان؟، وقد قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم، أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم سلطته على أهل الاسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويصلبهم على جذوع النخل!. سبحان اللّه يا معاوية، لكأنك لست من هذه الامة وليسوا منك!!. أولست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه اليك زياد أنه على دين علي؟، ودين علي هو دين ابن عمه صلى اللّه عليه وسلم الذي

__________________

١ - العصم [ جمع اعصم ] وهو: ( الظبي في ذراعيه او في احداهما بياض وسائره أسود او احمر ).

٢ - الشعفة بالتحريك: ( رأس الجبل ). وشعفة كل شيء: ( اعلاه ) وجمعه: [ شعف ] محركاً في النص.

٣٠٨

أجلسك مجلسك الذي انت فيه، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين، رحلة الشتاء والصيف، فوضعها اللّه عنكم بنا، منةً عليكم!.

وقلت فيما قلت: لا تردَّ هذه الامة في فتنة. واني لا أعلم فتنة لها أعظم من امارتك عليها.

وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولامة محمد، واني واللّه ما أعرف أفضل من جهادك ( أي: قتالك )، فان أفعل، فانه قربة الى ربي، وان لم أفعل، فأستغفر اللّه لذنبي، واسأله التوفيق لما يحب ويرضى.

وقلت فيما قلت: متى تكدني أكدك، فكدني يا معاوية فيما بدا لك، فلعمري لقديماً يُكاد الصالحون، واني لارجو ان لا تضر الا نفسك، ولا تمحق الا عملك، فكدني ما بدا لك!.

« واتق اللّه يا معاوية!، واعلم ان للّه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها! واعلم ان اللّه ليس بناس لك قتلك بالظنة وأخذك بالتهمة، وامارتك صبياً يشرب الشراب ويلعب بالكلاب!!. ما أراك الا وقد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية، والسلام(١) ».

ثم قدم معاوية بعد ذلك الى المدينة، ومعه خلق كثير من أهل الشام عدهم ابن الاثير بألف فارس. قال: « ثم دخل على عائشة، وكان قد بلغها انه ذكر الحسين وأصحابه وقال: لاقتلنهم ان لم يبايعوا فقالت له فيما قالت: وارفق بهم فانهم يصيرون الى ما تحب، ان شاء اللّه!!(٢) ».

وقال الدينوري(٣) بعد ذكره ورود معاوية الى المدينة: « ثم جلس معاوية صبيحة اليوم الثاني، وأجلس كتابه بحيث يسمعون ما يأمر به،

__________________

١ - ابن قتيبة ( ج ١ ص ٦٣ - ٦٥ ).

٢ - أقول: ولنا ان نفهم من هذه اللغة أن ام المؤمنين نفسها كانت قد صارت الى ما يحب معاوية من البيعة ليزيد!!

٣ - ( ج ١ ص ١٦٨ - ١٧٢ ).

٣٠٩

وأمر حاجبه ان لا يأذن لاحد من الناس وان قرب. ثم أرسل الى الحسين بن علي وعبد اللّه بن عباس، فسبق ابن عباس، فأجلسه عن يساره، وشاغله بالحديث حتى أقبل الحسين ودخل، فأجلسه عن يمينه، وسأله عن حال بني الحسن (!! ) وأسنانهم، فأخبره.

« ثم خطب معاوية خطبة أثنى فيها على اللّه ورسوله وذكر الشيخين وعثمان، ثم ذكر أمر يزيد، وانه يحاول ببيعته سدّ خلل الرعية!، وذكر علمه بالقرآن والسنة!، واتصافه بالحلم!، وأنه يفوقهما سياسة ومناظرة! وان كانا أكبر منه سناً(١) ، وأفضل قرابة. واستشهد بتولية النبي صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم عمرو بن العاص في غزوة « ذات السلاسل » على أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة ثم استجابهما عما ذكر ».

قال: « فتهيأ ابن عباس للكلام، فقال له الحسين: على رسلك، فانا المراد(٢) ، ونصيبي في التهمة أوفر.

وقام الحسين، فحمد اللّه تعالى وصلى على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال:

« أما بعد - يا معاوية -، فلن يؤدي القائل وان أطنب في صفة الرسول صلى اللّه عليه وسلم من جميع جزءاً، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول اللّه(٣) من ايجاز الصفة، والتنكب عن استبلاغ البيعة. وهيهات هيهات يا معاوية، فضح الصبح فحمة الدجا، وبهرت الشمس انوار السُرُج، ولقد فضلت حتى أفرطتَ، واستأثرت حتى أجحفت ومنعت حتى بخلتَ، وجرتَ حتى جاوزتَ، ما بذلتَ لذي حق من اسمٍ حقه

__________________

١ - سبق ان معاوية كان يحتج على الحسن بكبر سنه، ولم تكن له حجة غيرها على استحقاقه الخلافة دونه. فما لهذه الباء لا تجر هنا؟!!.

٢ - لانه هو صاحب الحق بالخلافة بعد الحسن، كما نص عليه جده رسول اللّه (ص) اولاً، وكما نصت عليه معاهدة الصلح ثانياً.

٣ - يشير الى اعراضه عن ذكر أمير المؤمنينعليه‌السلام فيمن ذكره بعد رسول اللّه (ص).

٣١٠

من نصيب، حتى أخذ الشيطان حظه الاوفر(١) ، ونصيبه الأكمل.

« وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لامة محمد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوباً أو تنعت غائباً، أو تخبر عما كأنك احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السُبَّق لاترابهن، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي - تجده ناصراً.

ودع عنك ما تحاول!!. فما أغناك ان تلقى اللّه بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فواللّه ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتى ملئت الاسقية، وما بينك وبين الموت الا غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص

« وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما صار ذلك لعمرو يومئذ، حتى أنف القوم امرته، وكرهوا تقديمه، وعدوا عليه أفعاله، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لا جرم معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم. فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الاحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف ضاهيت بصاحب تابعاً؟ وحولك من يؤمن في صحبته، ويعتمد في دينه وقرابته، تتخطاهم الى مسرف مفتون، تريد أن تلبس الناس شبهة، يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقى بها في آخرتك. ان هذا لهو الخسران المبين، واستغفر اللّه لي ولكم ».

قال: « فنظر معاوية الى ابن عباس، فقال: ما هذا يا ابن عباس؟ ولما عندك أدهى وأمرّ! فقال ابن عباس: لعمر اللّه، انه لذرية الرسول، وأحد أصحاب الكساء، ومن البيت المطهر فالهُ عما تريد، فان لك في

__________________

١ - يريد ان هذا الاجحاف المقصود كان هو منية الشيطان في تأريث الخلاف

٣١١

الناس مقنعاً، حتى يحكم اللّه بأمره، وهو خير الحاكمين.

ثم خرج معاوية الى مكة كما يحدثنا ابن الاثير وغيره من المؤرخين، قال: « وسبقه الحسين بن علي وعبد اللّه بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر اليها. ولما كان آخر أيامه بمكة، أحضر هؤلاء وقال لهم: اني أحببت ان اتقدم اليكم، انه قد أعذر من انذر، اني كنت اخطب فيكم، فيقوم اليَّ القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس، فأحمل ذلك وأصفح. واني قائم بمقالة، فأقسم باللّه لئن ردَّ عليَّ أحدكم كلمةٌ في مقامي هذا، لا ترجع اليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه، فلا يبقينَّ رجل الا على نفسه!.

ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين، ومع كل واحد سيف، فان ذهب رجل منهم يردّ عليَّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما!!

ثم خرج وخرجوا معه، حتى أتى المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: ان هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا يبتز أمرٌ دونهم، ولا يقضى الا عن مشورتهم. وانهم قد رضوا وبايعوا يزيد!! فبايعوا على اسم اللّه!. فبايع الناس. انتهى ملخصاً.

وولدت هذه البيعة البغيضة ولكن بعد اعسار شديد، لم تنجع فيه الا السيوف المشهورة على رؤوس الرجال، فاذا هي بنت مؤامرات ومناورات وارهاب!.

واذا كانت هذه هي خلافة الاسلام، فعلى الاسلام السلام.

وأخرج البخاري في صحيحه عن النبي (ص): « ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم، الا حرم اللّه عليه الجنة ».

٣١٢

٣

الوفاء بالشرط الثالث

قال ابن الاثير « ان معاوية كان اذا قنت سبّ علياً وابن عباس والحسن والحسين والاشتر(١) ». ونقل أبو عثمان الجاحظ في كتاب [ الرد على الامامية ]: « ان معاوية كان يقول في آخر خطبته: اللهم ان أبا تراب - يعني علياً - الحد في دينك، وصدَّ عن سبيلك، فالعنه لعناً وبيلاً وعذبه عذاباً اليماً. وكتب بذلك الى الآفاق، فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر(٢) ».

وقيل لمروان: « ما لكم تسبونه على المنابر؟ » فقال: « لا يستقيم لنا الامر الا بذلك!! »

وكان من مجهود معاوية في هذا السبيل ما طفحت به السير والتواريخ. وهو - على هذا - أول من سن الجهر بسب صحابة الرسول، وأول من فتح هذا الباب على مصراعيه لمن جاء من بعده، ولا نعرف أن أحداً سبقه الى مثل هذا اللهم الا ما كان من عائشة يوم قالت: « اقتلوا نعثلاً فقد كفر!! »، ثم لا نعهد في علماء المسلمين من حكم على عائشة بالكفر، ولا على معاوية بالمروق من الدين، لانهما استباحا سبَّ الصحابة، أو لانهما أوغلا في السب حتى عمدا الى التكفير. ومما لا شك فيه أن حكم الامثال واحد لا يختلف مع الزمان، ولذلك، فانا لا نجد مساغاً الى الحكم على من نال من معاوية أو نال من صحابي آخر، الا بما حكم به علماء المسلمين على معاوية وعائشة في نيلهما من علي وعثمان، لا أقل ولا أكثر.

وأما الاثر المزعوم القائل « بأيهم اقتديتم اهتديتم »، فقد خُصَّ حتى سقط عمومه عن الحجية، والا لكان السبابون للصحابة من الصحابة أولى

__________________

١ - « النصائح الكافية » لابن عقيل ( ص ١٩ - ٢٠ ).

٢ - « النصائح الكافية » لابن عقيل ( ص ١٩ - ٢٠ ).

٣١٣

بالعمل به. ولو كف معاوية لسانه عن النجوم من آل محمد (ص) الذين كان عليه ان يقتدي بهم ليهتدي، لكف الناس ألسنتهم عنه وعن أمثاله من الظالمين، ولماتت النعرات ولتم الصلح بصلاح المسلمين.

ولكنها كانت البذرة الخبيثة التي زرعها الرجل عامداً، ثم تعاهدها هو وذووه بالتغذية والسَّقي، فاذا بها شجرة العوسج في تاريخ الاسلام، استغفلوا بها البسطاء ولبسوا بها على عقول الجهلاء، وجعلوا من السبّة في التاريخ « سُنّة » في المسلمين، يتنادون عليها، ويحتفلون بها، ويحتجون(١) على تركها اذا تركت!!

وما لمعاوية فيما قدم لنفسه من هذه الباقيات من عذر يرجى، ولا فيما أخَّر لتاريخه من مجد يحسد عليه أو يطرى. واذا كان الدهاء هو فشل الانسان فيما قدّم وفيما أخّر، فمعاوية أدهى الدهاة!.

وكان من أروع مظاهر الدهاء فيه موقفه من صلح الحسنعليه‌السلام بما جرَّ عليه هذا الصلح من ويلات معنوية ونكبات تاريخية في حياته وبعد مماته!!.

وكان معنى الصلح في مفهوم الناس، واعني الصلح الذي لج هو في تحصيله حتى أقام الدنيا وأقعدها - هو ان يُحطم السنان وان يكمَّ اللسان وان يكون كل وشأنه. وفق الحدود التي ستقررها المعاهدة فيما يتفق عليه الفريقان. وجاءت المادة الثالثة من اتفاقيتهما، وهي صريحة بوجوب الكف عن السب، فكان على معاوية ان يكف، لو انه أراد الصلح حقيقة، أو أراد الوفاء بالشروط كما يفرضه الذمام والعهد والايمان.

ولكن الرجل لم يطلب الصلح الا ليسرح الجنود، وليأمن غائلة حربه مع الحسن ابن رسول اللّه (ص) - كما اشير اليه -، لم يشأ ان يرجع في صلحه الى التزام المقررات، أو الاكتراث بالمعاهدات، فوقَّع الصلح ولكنه انما وقعه حبراً على ورق، وحلف الايمان وأعطى المواثيق ولكنه

__________________

١ - سبق في الفصل ( ١٤ ) زيادة توضيح للبحث مع ذكر المصادر بأرقامها.

٣١٤

أرسلها ارسالاً لا يتحسس من ورائه ذمةً ولا سؤالاً. وجاء الكوفة، وسبق الى منبرها فذكر علياً ونال منه، ثم نال من الحسن، فقام الحسين ليرد عليه، فأخذ الحسن بيده فأجلسه، ثم قام فقال ما شاء أن يقول من أسلوب حكيم، ودعوة حق الى صراط مستقيم [ وقد مرّت خطبة الحسن بطولها وما قاله معاوية قبلها في الفصل(١٨) ].

وكان فيما هتف الناس به للحسن على خطابه وجوابه، ما لم يرض له معاوية، وهو اذ ذاك لا يزال ثملاً بخمرة الانتصار الموهوم، فرأى أن ينظم حملة جديدة لتربيب الخلق الذي لا يُحسد عليه - خلق السباب والشتم والطعن في الناس -، رغم أن المثالية الاسلامية تناقض هذا الخلق وتنكره على الناس وتدعوهم الى التراحم والتحابب والاخوة في الدين، وتقول فيما تقول: « لا يكون المؤمن سباباً ولا فحّاشاً ولا طعاناً ولا لعاناً ».

« فقال ابو الحسن علي بن محمد بن أبي يوسف المدائني في كتاب الاحداث: كتب معاوية نسخة واحدة بعد عام الجماعة، أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب - يعني علياًعليه‌السلام - وأهل بيته. فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر، يلعنون علياً ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة عليعليه‌السلام (١) ».

ودعا المغيرة بن شعبة وهو يريد أن يستعمله على الكوفة - بعد الصلح - فقال له: أما بعد. فان لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا، ولا يجزي عنك الحليم بغير التعليم، وقد أردت ايصاءك بأشياء كثيرة، انا تاركها، اعتماداً على بصرك. ولست تاركاً ايصاءك بخصلة واحدة، لا تترك شتم علي وذمه!!(٢) ».

ثم خلفَ المغيرة على الكوفة زياد « فكان يجمع الناس بباب قصره

__________________

١ - ابن ابي الحديد ( ج ٣ ص ١٥ ).

٢ - ابن الاثير ( ج ٣ ص ١٨٧ )، والطبري ( ج ٦ ص ١٤١ ).

٣١٥

يحرضهم على لعن علي، فمن أبى عرضه على السيف!!(١) ».

وأما في البصرة. فانه استعمل عليها بسر بن أرطاة « فكان يخطب على منبرها فيشتم علياً، ويقول: ناشدت اللّه رجلاً علم أني صادق الا صدقني أو كاذب الا كذبني ». قال الطبري في تاريخه: « فقال له أبو بكرة: اللهم انا لا نعلمك الا كاذباً!، قال: فأمر به فخنق، ثم أنقذوه منه!!(٢) ».

واما في المدينة، وواليه عليها مروان بن الحكم، فكان لا يدع سب عليعليه‌السلام على المنبر كل جمعة. قال ابن حجر المكي: « وكان الحسن يعلم ذلك ولا يدخل المسجد الا عند الاقامة، فلم يرض بذلك مروان، حتى أرسل الى الحسن في بيته بالسب البليغ لابيه وله!!(٣) ».

« ولما حج معاوية - بعد الصلح - طاف بالبيت ومعه سعد بن أبي وقاص، فلما فرغ انصرف معاوية الى دار الندوة، فأجلسه معه على سريره، ووقع معاوية في علي وشرع في سبه، فزحف سعد، ثم قال: أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي!. واللّه لأن يكون فيَّ خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحبّ اليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس!. واللّه لأن اكون صهر الرسول صلى اللّه عليه وسلم، لي من الولد ما لعلي، أحب اليَّ من ان يكون لي ما طلعت عليه الشمس!. وللّه لأن يكون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لي ما قاله يوم خيبر: لاعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبه اللّه ورسوله ويحب اللّه ورسوله، ليس بفرّار، يفتح اللّه على يديه، أحب اليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس!. واللّه لأن يكون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لي ما قاله له في غزوة تبوك: ألا ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي، أحب اليَّ من ان يكون لي ما طلعت عليه الشمس!، وايم اللّه

__________________

١ - المسعودي ( هامش ابن الاثير ج ٦ ص ٩٩ ).

٢ - الطبري ( ج ٦ ص ٩٦ ) وابن الاثير ( ج ٣ ص ١٠٥ ).

٣ - يراجع النصائح الكافية ( ص ٧٣ الطبعة الاولى ).

٣١٦

لادخلت لك داراً ما بقيت(١) ».

وروى المسعودي من جواب معاوية لسعد، ما نربأ بقلمنا عن التصريح به لقبحه، ولكنه على كل حال دليل جديد على مبلغ اسفاف الرجل في خلقه وفي آدابه وفي مجاملاته

٤

الوفاء بالشرط الرابع

قال الطبري ( ج ٦ ص ٩٥ ): « وحال أهل البصرة بينه - يعني بين الحسن - وبين خراج دارابجرد، وقالوا: فيئُنا ».

وقال ابن الاثير ( ج ٣ ص ١٦٢ ): « وكان منعهم - يعني منع أهل البصرة - بأمر من معاوية ايضاً!! ».

٥

الوفاء بالشرط الخامس

وكان الشرط - كما علمت - هو العهد بالامان العام، والامان لشيعة علي على الخصوص، وأن لا يبغي للحسنينعليهما‌السلام وأهل بيتهما غائلة سراً ولا جهراً.

وللمؤرخين فيما يرجع الى موضوع هذا الشرط نصوص كثيرة، بعضها وصف للكوارث الداجية التي جوبه بها الشيعة من الحكام الامويين في عهد معاوية، وبعضها قضايا فردية فيما نكب به معاوية الشخصيات الممتازة من أصحاب أمير المؤمنين، وبعضها خيانته تجاه الحسن والحسين خاصة. وليكن عرضنا لهذه النصوص هنا على الترتيب المذكور ايضاً.

__________________

١ - المسعودي ( هامش ابن الاثير ج ٦ ص ٨١ - ٨٢ ).

٣١٧

٣١٨

 

معاوية وشيعة علي ( ع )

٣١٩

كانت السياسة الاموية التي وضعها معاوية ثم تبعه عليها الامراء الامويون من بعده، هي أن يخلقوا من أنفسهم سادة يستأثرون بكل محمدة في الناس، فما الكرم ولا الحلم ولا الدهاء ولا الشجاعة ولا الفصاحة الا بعض هباتهم الخاصة التي احتجزوها من دون الناس جميعاً، وقد وضعوا في سبيل تركيز هذه السياسة المتعمدة، التاريخ الزائف الذي ظل يفيض بسلسلة من الاحاديث الموضوعة، والقصص المصطنع، والاكاذيب المنوعة، والادعاء الفارغ، وأمروا الوّعاظ المأجورين، ومعلمي الكتاتيب في سائر بلدان المملكة الاسلامية، بدراسة الامالي الاموية بما فيها من مدح زائف أو قدح كاذب، وعملوا كل ما كان بوسعهم أن يعملوه ليثيروا في قلوب الناشئة من أولاد الناس الغرور بحبهم، والانقياد المطلق لدهائهم، فاذا بهذه الناشئة بعد لأي جنود لامية يتخاصمون بدمائهم البريئة لاهدافها، واذا بسيول الدماء تصبغ بقاع الارض لتستقيم صفوف الخدم والحشم والوكلاء والمقدمين في بلاد الاسياد المتغلبين.

ولم يكن ثمة هدف آخر غير هدف الاستئثار بالسيادة والملك والثراء واللذات الدنيوية الرخيصة، وهو ما كان يضيق به المعنيون بدينهم من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن المسلمين الثابتين على الاخلاص للّه في اسلاميتهم، ومن هنا كان مبعث الشقاق المتواصل الحلقات بين هذه الطبقة من أموية الاسلام، وتلك الفئة من حملة تراث الاسلام ودعاته المخلصين.

جاء في تاريخ الطبري ( ج ٧ ص ١٠٤ ) استطراد مقتضب يرفعه الى زيد بن أنس عن الوضع العام الذي كان يرزح تحته معاشر الشيعة في أيام معاوية، وكان فيما يقوله أحدهم وهو يخاطبهم: « انكم كنتم تقتلون

٣٢٠

وتقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل أعينكم وترفعون على جذوع النخل في حب أهل بيت نبيكم وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوكم!! ».

والحديث على اقتضابه تفصيل غريب ومعرض رهيب لم يحدثنا المسعودي الا بطرف منه فيما نقلناه عنه قريباً.

أما المدائني المتوفى سنة ٢٢٥، وسليم بن قيس المتوفي سنة ٧٠، فانهما عرضا صورة كاملة من هذه المعارض الرهيبة والمآسي الكئيبة، وكان سليم بن قيس أحد شهودها المروّعين بها، لانه عاش معاصراً لمعاوية ومات بعده بعشر سنين، ولا شاهد كشاهد عيان، ولذلك فلنؤثر لفظه، وان كان المدائني يكاد لا يختلف عنه في قليل ولا كثير، قال:

« قدم معاوية حاجاً - في خلافته - بعدما قتل أمير المؤمنين وصالح الحسن واستقبله أهل المدينة وفيهم قيس بن سعد - وكان سيد الانصار وابن سيدهم - فدار بينهما الحديث حتى انتهيا الى [ الخلافة ]. فقال قيس: ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لاحد من العرب والعجم في الخلافة حق مع علي وولده من بعده. فغضب معاوية ونادى مناديه وكتب بذلك نسخة واحدة الى عماله: ( ألا برئت الذمة ممن روى حديثاً في مناقب علي وأهل بيته!! ). وقامت الخطباء في كل كورة ومكان على المنابر بلعن علي بن أبي طالب والبراءة منه، والوقيعة في أهل بيته، واللعنة لهم بما ليس فيهم. ثم ان معاوية مرّ بحلقة من قريش، فلما رأوه قاموا اليه غير عبد اللّه بن عباس، فقال له: يا ابن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك الا لموجدة عليّ بقتالي اياكم يوم صفين، يا ابن عباس ان ابن عمي عثمان قتل مظلوماً، قال ابن عباس: فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوماً فسلم الامر الى ولده، وهذا ابنه. قال: ان عمر قتله مشرك، قال ابن عباس: فمن قتل عثمان؟ قال: قتله المسلمون، قال: فذلك أدحض لحجتك، ان كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس الا بحق، قال: فانا كتبنا الى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته، فكف

٣٢١

لسانك يا ابن عباس. قال: فتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال: لا، قال: فتنهانا عن تأويله؟ قال: نعم، قال: فنقرأه ولا نسأل عما عنى اللّه به؟ قال: نعم، قال: فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟ قال: العمل به، قال: فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى اللّه بما أنزل علينا؟ قال: سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك، قال: انما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط؟! قال: فاقرأوا القرآن ولا ترووا شيئاً مما أنزل اللّه فيكم ومما قال رسول اللّه، وارووا ما سوى ذلك! قال ابن عباس: قال اللّه تعالى: يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه الا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. قال معاوية: يا ابن عباس اكفني نفسك وكف عني لسانك، وان كنت لابد فاعلاً فليكن سراً ولا تسمعه أحداً علانية! - ثم رجع الى منزله واشتد البلاء بالامصار كلها على شيعة علي وأهل بيته، وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة، واستعمل عليها زياداً، وجمع له العراقين، وكان يتتبَّع الشيعة وهو بهم عالم، لأنه كان منهم، فقتلهم تحت كل كوكب، وتحت كل حجر ومدر واحلأهم وأخافهم، وقطع الايدي والارجل منهم، وصلبهم على جذوع النخل، وسمل أعينهم، وطردهم وشردهم، وكتب معاوية الى قضاته وولاته في الامصار أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقبه شهادة!! وكتب الى عماله، انظروا من قبلكم من شيعة عثمان الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقبه فأكرموهم وشرّفوهم، واكتبوا الي بما يروي كل واحد منهم فيه باسمه واسم أبيه، وبعث اليهم بالصلات والكُسا، وأكثر القطائع للعرب والموالي فكثروا، وتنافسوا في المنازل والضياع، واتسعت عليهم الدنيا، ثم كتب الى عماله: ان الحديث قد كثر في عثمان فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوهم الى الرواية في أبي بكر وعمر، فقرأ كل قاض وأمير كتابه على الناس، وأخذ الناس في الروايات فيهم وفي مناقبهم، ثم كتب نسخة جمع فيها جميع ما روي فيهم من المناقب، وأنفذها الى عماله، وأمرهم بقراءتها على المنابر. وفي كل

٣٢٢

كورة، وفي كل مسجد، وأمرهم أن ينفذوا الى معلمي الكتاتيب أن يعلموها صبيانهم حتى يرووها ويتعلموها كما يتعلمون القرآن حتى علموها بناتهم ونساءهم وخدمهم - ثم كتب الى عماله نسخة واحدة: ( انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان )، ثم كتب كتاباً آخر: ( من اتهمتموه ولم تقم عليه بينة فاقتلوه!! ) فقتلوهم على التهم والظن والشبه تحت كل كوكب، حتى لقد كان الرجل يسقط بالكلمة فتضرب عنقه!!. وجعل الامر لا يزداد الا شدة، وكثر عددهم، وأظهروا أحاديثهم الكاذبة فنشأ الناس على ذلك، لا يتعلمون الا منهم. وكان أعظم الناس في ذلك القرّاء المراؤون المتصنعون الذين يظهرون الحزن والخشوع والنسك ويكذبون، ليحظوا عند ولاتهم، ويصيبوا بذلك الاموال والقطائع والمنازل. حتى صارت أحاديثهم في أيدي من يحسب انها حق فرووها وعلموها. وصارت في أيدي المتدينين الذين لا يستحلون الكذب، فقبلوها وهم يرون أنها حق، ولو علموا انها باطل لم يرووها ولم يتدينوا بها، فلما مات الحسن بن عليعليه‌السلام . لم تزل الفتنة والبلاء يعظمان ويشتدان ».

اقول: وروى مثل ذلك بكامله ابو الحسن المدائني فيما أخذه عنه ابن أبي الحديد ( ج ٣ ص ١٥ - ١٦ ) وقال في آخره:

« فلم يزل الامر كذلك حتى مات الحسن بن عليعليه‌السلام ، فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل الا وهو خائف على دمه أو طريد في الارض ».

وكان هذا أسلوباً من الحوادث تستسيغه المحاكمة في ظروف الفريقين، ويصدقه التناسق التاريخي في تسلسل الاحداث. ولا يضيره اغفال المؤرخين الآخرين لأنهم - ولنعذرهم - انما كانوا يكتبون للسياسة القائمة، أو لما لا يضيرها على الاقل.

وتقدم أن الطبري والمسعودي ألمحا الى كل ذلك باختصار. وعلى

٣٢٣

هذا فمصادر هذه المادة: سليم بن قيس، المدائني، ابن ابي الحديد، الطبري، المسعودي.

وفي سبيل اللّه أشلاء مضرجة، وشمل شتيت، وحطام من مساكن يشرد أهلها أو يساقون الى الجزر سوق القطيع! فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.

وتلك هي تعبئة معاوية لاقتناص الخلافة في الاسلام له ولبنيه!.

وتلك هي طريقته البكر في وفائه بعهود اللّه ومواثيقه!.

وزاد سليم بن قيس بعد ذلك فقال:

« ولما كان قبل موت معاوية بسنة، حج الحسين بن علي وعبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن جعفر فجمع الحسين بني هاشم، ثم رجالهم ونساءهم ومواليهم ومن حج منهم من الانصار، ممن يعرفه الحسينعليه‌السلام وأهل بيته، ثم أرسل رسلاً: لا تدعوا أحداً حجّ العام من أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعروفين بالصلاح والنسك الا اجمعوهم لي، فاجتمع اليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل، وهم في سرادقه، عامتهم من التابعين، ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . فقام فيهم خطيباً.

« فحمد اللّه واثنى عليه ثم قال: أما بعد، فان هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم. واني أريد أن اسألكم عن شيء فان صدقت فصدقوني وان كذبت فكذبوني، اسمعوا مقالتي، واكتبوا قولي، ثم ارجعوا الى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس، ووثقتم به فادعوهم الى ما تعلمون من حقنا. فاني أتخوف أن يدرس هذا الامر ويذهب الحق ويغلب، واللّه متم نوره ولو كره الكافرون.

« وما ترك شيئاً مما أنزله اللّه فيهم من القرآن الا تلاه وفسره، ولا

٣٢٤

شيئاً مما قاله رسول اللّه صلى الله عليه وآله في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته الا رواه وكل ذلك يقول أصحابه، اللهم نعم وقد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعي: اللهم قد حدثني به من أصدقه وأئتمنه من الصحابة. فقال: أنشدكم اللّه الا حدثتم به من تثقون به وبدينه ».

معاوية وزعماء الشيعة

وكان موقف معاوية من زعماء الشيعة بعد صلحه مع الحسن موقف المنتقم الحاقد الذي لا تأخذه بهم رأفة ولا ذمة ولا « عهد »، وكان لخوفه من الدعاوة الفعالة التي يحملها هؤلاء السادة من زعماء الشيعة أثره فيما توفر عليه من القصد الى ايذائهم واقصائهم وقتلهم والتنكيل بهم. ولسنا الآن بسبيل استقصاء ما عمله معاوية تجاه هؤلاء الشيعة، ولا استقصاء ما كان ينويه بهم من خطط بعيدة الاهداف. ولكننا - لندل على مدى وفاء هذا الاموي بشروطه وأيمانه - سنورد في هذا الفصل بعض أعماله تجاههم وبعض نواياه بهم. وفي قليل من هذه الامثلة كفاية عن الكثير آثرنا تركه أو خفي علينا علمه.

وقد خسر تاريخ هؤلاء الشيعة انصاف المؤرخين بعد ذلك، ولعب التعصب الذميم دوره المهم في طمس معالم هذا التاريخ أحفل ما يكون بالقضايا البارزة التي كان من حقها أن تأخذ مكانها من عبرة الاجيال. وكان للسلطات الحاكمة عملها في توجيه ما يكتب للتاريخ أو يملى للحديث، حتى فيما يتناول أئمة الشيعة فضلاً عن زعمائهم أو سوادهم.

« روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم في تاريخه ما يناسب هذا قال: ان اكثر الاحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقرباً اليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم!.

« وقال المدائني عن عصر معاوية: وظهر حديث كثير موضوع،

٣٢٥

وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان اعظم الناس في ذلك بليةً القراء المراؤون، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الاحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقرّبوا مجلسهم، ويصيبوا به الاموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الاخبار والاحاديث الى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها، وهم يظنون انها حق، ولو علموا انها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها(١) ».

وقال ابن أبي الحديد: « وذكر شيخنا أبو جعفر الاسكافي أن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليعليه‌السلام ، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه. منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة. ومن التابعين عروة بن الزبير(٢) ».

اقول: وشيء قليل من حيدة في النظر ودقة في الاستنتاج يكفينا للقناعة بألوان التصرفات الكيفية الواسعة النطاق التي نكب بها كل من حديث الاسلام وتاريخ أحداثه معاً. حتى لقد يعز على المتتبع في ماجريات الحوادث الاسلامية الاولى ان لا يجد قضية من مهمات القضايا الاسلامية يومئذ سلمت في تناسقها التاريخي من الاصطدام بالمفارقات البعيدة التي تغمرها بالشك، ثم لا تزال تأخذ بها بين التيارات المتعاكسة ذات اليمين وذات الشمال.

ولا حاجة بنا بعد ذلك الى جمع الشهادات والتصريحات على شيوع الوضع(٣) وكثرة الوضاعين، لان خير شهود كل شيء ما كان منه مباشرة.

وكانت قضية الحسن بن عليعليهما‌السلام بملابساتها وذيولها احدى

__________________

١ و ٢ - ابن أبي الحديد ( ج ٣ ص ١٦ ) و ( ج ١ ص ٣٥٨ ).

٣ - وللعلامة الاميني النجفي في « كتاب الغدير » ( ج ٥ من ص ١٨٥ الى ٣٢٩ ) بحثه القيم عن الوضاعين الكذابين جمع فيه ستمائة وعشرين كذاباً وضاعاً ممن سلكهم القوم في رواة الحديث والتاريخ. فليراجع.

٣٢٦

هاتيك القضايا التي لعبت الاهواء في التحدث عنها وضعاً ورفعاً وجمعاً وتفريقاً، وفقدت تحت تأثير هذا التلاعب المؤسف الذي لم يكن كله مقصوداً، كما لم يكن كله غير مقصود، روعة واقعها الاول. وكان من طبيعة هذا الوضع أن تختلف عليه الافهام، ويكثر حوله النقض والابرام. وما هي الا كنموذج واحد من قضايا كثيرة في تاريخ الاسلام ظلمها التاريخ وجللها بالظلام.

وانهم ليعرفون، وهم يؤرخون الحسن، مكانة الحسن في التاريخ ويعلمون أنهم انما يكتبون عن « أحد الاحدين » في العالم الاسلامي كله.

فكيف بهم اذا جاوزوا فيما يؤرخون مثل هذه النقطة المركزة، الى نقاط لا تبلغ في موضوعها خطورة امام؟.

لذلك يجب أن لا نطمع في موضوع [ معاوية وزعماء الشيعة ] بالحصول على الحقائق الكافية التي تملأ نهم البحث، ولا بالوقوف على الاحصاءات الصحيحة التي تسدّ نطاق الموضوع، بما يتناسب وحديث المدائني، وتفاصيل سليم بن قيس.

ذلك لأن كل شيء من هذا القبيل، وكل شيء من تاريخ الشيعة الصحيح، قد طغت عليه التصرفات المعارضة، وأكلته الاكاذيب المأجورة على طول التاريخ.

وليس لنا الآن، الا أن نعود فنتسقط الاخبار من هنا ومن هنالك لنعرض شيئاً له صورته التاريخية التي نعتقد أنها - على فظاعتها - قليل من كثير، وبعض من كل.

واليك الآن القائمة المحزونة التي تحمل أسماء هؤلاء بما فيهم من صحابة وتابعين، ولندرس على ضوء هذه القائمة جواب معاوية على الشرط الخامس من شروط معاهدة الصلح. ثم لنتدرج مع فقرات هذا الشرط فيما نأتي عليه من فصول.

٣٢٧

أ - الشهداء المقتولون صبراً

١ - حجر بن عدي الكندي:

يعرف بحجر الخير، ويكنى بأبي عبد الرحمن بن عدي بن الحرث بن عمرو بن حجر المقلب بآكل المرار [ ملك الكنديين ]. وقيل هو ابن عدي بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الاكرمين من كندة(١) ، ومن ذؤابتها العليا.

صحابي من أعيان أصحاب علي وابنه الحسنعليهما‌السلام ، وسيد من سادات المسلمين في الكوفة ومن أبدالها.

وفد هو وأخوه هانئ بن عدي على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال في الاستيعاب: « كان حجر من فضلاء الصحابة، وصغر سنه عن كبارهم »، وذكره بمثل ذلك في أسد الغابة، ووصفه الحاكم في المستدرك بأنه: « راهب

__________________

١ - وكندة هي من بني كهلان، وبلادهم في اليمن، ثم كان من كبرائهم في العراق - وكهلان وحمير ابنا سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وسبأ اسم يجمع القبيلتين كلتيهما. وكان يقال: ان العرب تعد البيوتات المشهورة بالكبر والشرف بعد بيت هاشم بن عبد مناف أربعة بيوت: بيت قيس الفزاري، والدارميين، وبني شيبان، وبيت اليمن من بني الحارث بن كعب - واما كندة فلا يعدون من أهل البيوتات انما كانوا ملوكاً. ومنهم « الملك الضليل - امرؤ القيس » وكان لهم ملك باليمن وبالحجاز - وبقي لكندة مجدها في الاسلام، فمن كندة من كان له ذكر في الفتوح والثورات، ومنهم من ولي الولايات، ومنهم من تقلد القضاء كحسين بن حسن الحجري، ومنهم الشعراء كجعفر بن عفان المكفوف شاعر الشيعة، وكان هانئ بن الجعد بن عدي - ابن أخي حجر - من أشراف الكوفة، وكان جعفر بن الاشعث وابنه العباس بن جعفر من شيعة الامام ابي الحسن موسى بن جعفر وابنه الرضاعليهما‌السلام . اما الاشعث بن قيس الكندي فكان اكبر منافقي الكوفة. أسلم ثم ارتد بعد النبي ثم أسلم وقبل أبو بكر اسلامه، وزوجه أخته وهي أم محمد بن الاشعث، وتزوج الامام الحسن ابنته، وهي التي سقته السم باغراء معاوية اياها.

٣٢٨

أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

وبلغ من عبادته أنه ما أحدث الا توضأ وما توضأ الا صلى. وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان ظاهر الزهد، مجاب الدعوة(١) ، ثقة من الثقات المصطفين، اختار الآخرة على الدنيا حتى سلم نفسه للقتل دون البراءة من امامه، وانه مقام تزل فيه الاقدام وتزيغ الاحلام.

كان في الجيش الذي فتح الشام، وفي الجيش الذي فتح القادسية، وشهد الجمل مع علي، وكان أمير كندة يوم صفين، وأمير الميسرة يوم النهروان، وهو الشجاع المطرق الذي قهر الضحاك بن قيس في غربي تدمر. وهو القائل: « نحن بنو الحرب وأهلها، نلقحها وننتجها، قد ضارستنا وضارسناها ».

ثم كان أول من قتل صبراً في الاسلام.

قتله وستة من أصحابه معاوية بن أبي سفيان سنة ٥١ في « مرج عذراء » بغوطة دمشق على بعد ١٢ ميلاً منها. وقبره الى اليوم ظاهر مشهور، وعليه قبة محكمة تظهر عليها آثار القدم في جانب مسجد واسع، ومعه في ضريحه أصحابه المقتولون معه وسنأتي على ذكرهم.

وهدم زياد ابن أبيه دار حجر في الكوفة.

السبب في قتله

أنه كان يرد على المغيرة وزياد حين يشتمان علياًعليه‌السلام ، ويقول: « أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تزكون أولى بالذم، وكان

__________________

١ - قال في الاصابة ( ج ١ ص ٣٢٩ ): « أصابته جنابة - وهو أسير - فقال للموكل به أعطني شرابي أتطهر به، ولا تعطني غداً شيئاً، فقال: أخاف ان تموت عطشاً فيقتلني معاوية. قال: فدعا اللّه فانسكبت له سحابة بالماء، فأخذ منها الذي احتاج اليه فقال له أصحابه: ادع اللّه أن يخلصنا، فقال: اللهم خر لنا ».

٣٢٩

اذا جهر بكلمته هذه، وافقه أكثر من ثلثي الناس، وقالوا: « صدق واللّه حجر وبر ».

أما المغيرة بن شعبة فقد قدر المعنويات التي تعزز حجراً كصحابي فاضل، وكرأس من رجالات علي في الكوفة، وكأمير عربي يرث تاج الكنديين من أقرباء الجدود، وسمع بأذنيه تأييد الناس دعوته غير آبهين بالقوة، ولا خائفين نقمة السلطان، فرأى أن يتمهل في أمره وأن يعتذر الى ذوي مشورته الذين كانوا يحرضونه على التنكيل به. ثم قال لهم: « اني قد قتلته ». قالوا: « وكيف ذلك؟ » قال: « انه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيهاً بما ترونه، فيأخذه عند اول وهلة فيقتله شر قتلة ». وكان المغيرة في موقفه من حجر المنافق الحكيم، وكذلك كان فيما أجاب به صعصعة بن صوحان يوم فتنة المستورد بن علفة الخارجي سنة ٤٣ قال له: « واياك أن يبلغني عنك أنك تظهر شيئاً من فضل علي علانية، فانك لست بذاكر من فضل علي شيئاً أجهله، بل أنا أعلم بذلك!!. ولكن هذا السلطان - يعني معاوية - قد ظهر، وقد أخذنا باظهار عيبه للناس، فنحن ندع كثيراً مما أمرنا به، ونذكر الشيء الذي لا نجد من ذكره بداً، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقية(١) ».

وولي ابن سمية الكوفة بعد هلاك المغيرة سنة ٥٠ أو ٥١، فرأى أن يخدم أمويته « المزعومة » بقتل حجر بن عدي ليريحها من أكبر المشاغبين عليها. ولكنه جهل أن دم حجر سيظل يشاغب على تاريخ أمية ما عرف الناس هذين الاسمين.

وأطال الوالي الجديد خطبته يوم الجمعة حتى ضاق وقت الصلاة - ولصلاة الجمعة وقتها المحدود - فقال حجر - وكان لا يفارق جمعتهم وجماعتهم -: « الصلاة! » فمضى زياد في خطبته. فقال ثانياً: « الصلاة! » فمضى في خطبته. وخشي حجر فوت الفريضة فضرب بيده الى كف من

__________________

١ - الطبري ( ج ٦ ص ١٠٨ ).

٣٣٠

الحصا، وثار الى الصلاة وثار الناس معه.

وما كان أبو عبد الرحمن بمكانته الاجتماعية وبروحه العابدة الزاهدة بالذي يترخص في دينه أو يلجأ الى مجاملة المترخصين، وكان يظن ان في هؤلاء بقية من الحسن قد تنفعها الذكرى وقد يجدي معها الانكار، فأنكر انتصافاً للحق المهضوم، وجاهد لدينه ولامامه ولصلاته بلسانه، كما كان يجاهد بسيفه في فتوح الاسلام.

وجاءت قائمة جرائمه - في عرف بني أمية - أنه يرد السب عن عليعليه‌السلام ، وأنه يريد الصلاة لوقتها، ولا شيء غير ذلك!.

ودعا زياد « حواشيه الطيعة » الذين كانوا يبادلونه الذمم بالنعم أمثال عمر بن سعد [ قاتل الحسينعليه‌السلام ]، والمنذر بن الزبير، وشمر بن ذي الجوشن العامري، واسماعيل واسحق ابني طلحة بن عبد اللّه، وخالد بن عرفطة، وشبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، وعمرو بن الحجاج، وزجر بن قيس و « درازن » أخرى من هذه النماذج التي طلقت المروءة ثلاثاً، وكانوا سبعين رجلاً، عدهم الطبري في تاريخه واحداً واحداً [ ج ٦ ص ١٥٠ - ١٥١ ]، وماز من بينهم أبا بردة بن أبي موسى الاشعري لانه كان أضعفهم عنده او لانه كان أقواهم عند معاوية، وقال له اكتب: -

« بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى الاشعري للّه رب العالمين!!، أشهد ان حجر بن عدي خلع الطاعة، وفارق الجماعة!! ولعن الخليفة، ودعا الى الحرب، وجمع اليه الجموع يدعوهم الى نكث البيعة، وكفر باللّه عزّ وجل كفرة صلعاء!! ».

وقال للسبعين: « على مثل هذه الشهادة فاشهدوا. أما واللّه لاجهدن على قطع خيط هذا الخائن الاحمق!! ». فشهد على هذه الصحيفة الخائنة الحمقاء سبعون من اشراف الكوفة و « ابناء البيوتات »!! وكتب الى معاوية في حجر وكثر عليه فكتب اليه معاوية: « شده في الحديد واحمله اليّ ».

٣٣١

ولنتذكر هنا سوابق هذه الحفنة من أبناء بيوتات الكوفة في قضية الحسن بن عليعليهما‌السلام أيام خلافته، وهل كان الفارون من الزحف في مسكن، والمتألبون على الشر في المدائن، والمكاتبون معاوية على الغدر بالامام وتسليمه اياه الا هؤلاء؟. فمن هو اذاً الذي خلع الطاعة وفارق الجماعة ونكث البيعة أحجر بن عدي أم هم؟

ثم لنتذكر مواقف هؤلاء أنفسهم في فاجعة الحسينعليه‌السلام بكربلاء، وكانوا يومئذ سيوف الجبابرة الامويين الذين تحملوا مسؤوليات تلك الاحداث المؤلمة التي لا حد لفظاعتها في تاريخ العرب والاسلام.

موقف الكوفة في حادثة حجر:         

وكان باستطاعة حجر ان يشعل نار الثورة التي تقض مضجع معاوية في الكوفة، لو انه شاء المقاومة بالسلاح. وفهم معاوية ذلك حين راح يقول - بعد مقتل حجر -: « لو بقي حجر لاشفقت أن يعيدها حرباً أخرى »، وفهم زياد ذلك حين اتبع حجراً بريده وقال له: « اركض الى معاوية وقل له: ان كان لك في سلطانك حاجة فاكفني حجراً ».

ولكن الزعيم الشيعي الذي كان قد درس على الامام الحسن بن عليعليهما‌السلام تضحياته الغالية في سبيل حقن الدماء، منع قومه من الحرب صريحاً.

ولكن جماعة من أصحابه اشتبكت بشرطة زياد و ( بخاريته ) عند أبواب كندة، وجماعة أخرى التحمت بهم عند باب داره - قرب جبانة كندة - وكان من ابطال هاتين الموقعتين عبد اللّه بن خليفة الطائي، وعمرو بن الحمق الخزاعي - وسنأتي على ذكرهما في الفصول القريبة -، وعبد الرحمن بن محرز الطمحي، وعائذ بن حملة التميمي، وقيس بن يزيد، وعبيدة بن عمرو، وقيس بن شمر، وعمير بن يزيد الكندي المعروف ( بأبي العمرّطة ). قالوا: « وكان سيف أبي العمرطة أول سيف ضرب

٣٣٢

به في الكوفة يوم حجر ». - وخرج قيس بن فهدان الكندي على حمار له، يسير في مجالس كندة يحرضهم على الحرب.

وحصب أهل الكوفة زياداً(١) - وكان ذلك هو ميراثه الشرعي من اُمه سمية.

أما حجر نفسه فأصر على قومه بأن يردوا السيوف الى أغمادها، وقال لهم: « لا تقاتلوا فاني لا أحب ان اعرضكم للهلاك وانا آخذ في بعض هذه السكك ».

وأخطأته عيون زياد التي كانت تلاحقه، لان الناس كلهم أو اكثر من ثلثي الناس كانوا يمنعون حجراً من هذه العيون.

وهكذا ضاق زياد بحجر وأصحابه، فجمع اشراف الكوفة وقال لهم: « يا أهل الكوفة: اتشجون بيد وتأسون بأخرى، أبدانكم معي، وأهواؤكم مع حجر، أنتم معي واخوانكم وابناؤكم وعشائركم مع حجر. هذا واللّه من دحسكم وغشكم. واللّه لتظهرن لي براءتكم، أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم » ثم قال: « فليقم كل امرئ منكم الى هذه الجماعة حول حجر. فليدع كل رجل منكم أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته، حتى تقيموا عنه كل من استطعتم أن تقيموه ».

ثم أمر زياد أمير شرطته [ شداد بن الهيثم الهلالي ] بالقبض على حجر. وعلم ان شرطته ستعجز عنه، فدعا محمد بن الاشعث الكندي، وقال له: « يا أبا ميثاء، أما واللّه لتأتينني بحجر، أو لا ادع لك نخلة الا قطعتها، ولا داراً الا هدمتها، ثم لا تسلم حتى أقطعك ارباً ارباً! » قال له: « أمهلني حتى أطلبه ». قال « امهلتك ثلاثاً، فان جئت به والا عّد نفسك في الهلكى! ».

أقول: ولِمَ كلّ هذا الحنق؟ أللدين وما كان ابن سمية بأولى به

__________________

١ - قال الطبري: « ومن يومه اتخذ المقصورة » ( ج ٦ ص ١٣٢ ).

٣٣٣

من الصحابي العابد الذي كان يصلي كل يوم وليلة الف ركعة، ثم لا ذنب له الا أن ينهى عن المنكر ويريد الفرائض لوقتها؟! - أم للدنيا، وقد خسروا في مقتل حجر صبابة معنوياتهم في التاريخ!!

وحاول زياد ان يقتل الكنديين بعضهم ببعض بما أمر به ابن الاشعث الكندي، وكان ذلك من جملة الاساليب الرثة التي يتوارثها الحاكمون بأمرهم في الشعوب المغلوبة على أمرها في القديم والحديث.

وعلم حجر ما أراده زياد في الكنديين وأصحابهم فقال: « ولكن سمع وطاعة ».

ودارت الشرطة للقبض على الاسماء البارزة من مؤازريه، فجمعوا تسعة من أهل الكوفة وأربعة من غيرها - برواية المسعودي -.

وعدهم ابن الاثير هكذا: « حجر بن عدي الكندي، والارقم بن عبد اللّه الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وكدام بن حيان، وعبد الرحمن بن حسان العنزيان، ومحرز بن شهاب التميمي، وعبد اللّه بن حوبة السعدي التميمي ». قال: « فهؤلاء اثنا عشر رجلاً. واتبعهم زياد برجلين وهما: عتبة بن الاخنس من سعد بن بكر، وسعد بن نمران الهمداني. فقوموا أربعة عشر رجلاً ».

ونشط - اذ ذاك - المشاؤون بالنميم، وما كان أكثرهم في هذا البلد المنكوب!

ومكث حجر في سجن الكوفة عشرة أيام حتى جمعوا اليه من أصحابه من ذكرنا، ثم أمر بهم فسيقوا الى الشام. وكان كل ما في الكوفة يدل على تمخض الوضع عن وثبة لا يدرى مدى بلائها على الحاكم والمحكوم.

ولكن زياداً فطن الى ذلك، فأمر باخراجهم « عشية » ليتستر بالظلام،

٣٣٤

فيخفف من عرامة هذا الظلم المفضوح.

ونظر قبيصة بن ربيعة - أحد اصحاب حجر - فاذا هو يمر على داره في جبانة « عرزم » واذا بناته مشرفات يبكينه، فكلمهن ووعظهن بما سنأتي على ذكره عند ترجمته، ثم انصرف.

وانشأت ابنة حجر في احدى لياليها السود وقد قطع الخوف على أبيها نياط قلبها وهي تخاطب القمر - وقيل بل الابيات لهند بنت زيد الانصارية ترثي حجراً:

ترفّع أيها القمر المنير

لعلك أن ترى حجراً يسير

يسير الى معاوية بن حرب

ليقتله كما زعم الامير

ويصلبه على بابي دمشق

وتأكل من محاسنه النسور

تجبرت الجبابر بعد حجر

وطاب لها الخورنق والسدير

وأصبحت البلاد له محولاً

كأن لم يحيها مزن مطير

ألا يا حجر حجر بني عدي

تلقتك السلامة والسرور

أخاف عليك ما أردى علياً

وشيخاً في دمشق له زئير

فان تهلك فكل عميد قوم

من الدنيا الى هلك يصير

مقتله

وصاروا بهم الى عذراء، وكانت قرية على اثني عشر ميلاً من دمشق، فحبسوا هناك، ودار البريد بين معاوية وزياد، فما زادهم التأخير الا عذاباً. وجاءهم أعور معاوية في رهط من أصحابه يحملون أمره بقتلهم ومعهم اكفانهم فقال لحجر: « انَّ امير المؤمنين أمرني بقتلك يا رأس الضلال!! ومعدن الكفر والطغيان!! والمتولي لابي تراب، وقتل أصحابك الا أن ترجعوا عن كفركم، وتلعنوا صاحبكم وتتبرأوا منه » - فقال حجر وأصحابه: « ان الصبر على حد السيف لأيسر علينا مما تدعوننا

٣٣٥

اليه ثم القدوم على اللّه وعلى نبيه وعلى وصيّه أحبّ الينا من دخول النار ».

وحفرت القبور، وقام حجر وأصحابه يصلون عامة الليل، فلما كان الغد قدموهم ليقتلوهم فقال لهم حجر: « اتركوني اتوضأ وأصل فاني ما توضأت الا صليت ». فتركوه فصلى ثم انصرف، وقال: « واللّه ما صليت صلاة أخفّ منها، ولولا أن تظنوا فيّ جزعاً من الموت لاستكثرت منها ».

ثم قال: « اللهم انا نستعديك على أمتنا، فان اهل الكوفة شهدوا علينا، وان أهل الشام يقتلوننا، أما واللّه لئن قتلتموني بها، فاني لاول فارس من المسلمين هلك في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها(١) ».

ثم مشى اليه هدبة بن فياض القضاعي بالسيف، فارتعد - فقالوا له: « زعمت أنك لا تجزع من الموت، فابرأ من صاحبك وندعك!! ».

فقال: « مالي لا أجزع وأرى قبراً محفوراً، وكفناً منشوراً، وسيفاً مشهوراً، واني واللّه ان جزعت من القتل، لا أقول ما يسخط الرب! ».

وشفع في سبعة من أصحاب حجر ذوو حزانتهم من المقربين لدى معاوية في الشام.

وعرض الباقون على السيف، وقال حجر في آخر ما قال: « لا تطلقوا عني حديداً، ولا تغسلوا عني دماً، فاني لاق معاوية غداً على الجادة واني مخاصم ». وذكر معاوية كلمة حجر هذه فغصّ بها ساعة هلك - معاوية - فجعل يغرغر بالصوت ويقول: « يومي منك يا حجر يوم طويل ».

فاجعته في المسلمين

حج معاوية بعد قتله حجراً وأصحابه فمر بعائشة « واستأذن عليها

__________________

١ - ابن الاثير ( ج ٣ ص ١٩٢ ) وقال ابن سعد ومصعب الزبيري فيما رواه الحاكم عنه عند ذكر حجر: « وقتل بمرج عذراء بامر معاوية وكان حجر هو الذي افتتحها فغدر بها ». أقول: وهو معنى قوله هنا: « وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها » يعني يوم فتحها.

٣٣٦

فأذنت له، فلما قعد قالت له: يا معاوية أأمنت ان اخبئ لك من يقتلك؟ قال: بيت الامن دخلت، قالت: يا معاوية أما خشيت اللّه في قتل حجر وأصحابه؟(١) ». وقالت: « لولا انا لم نغير شيئاً الا صارت بنا الامور الى ما هو اشد منه لغيَّرنا قتل حجر، أما واللّه ان كان ما علمتُ لمسلماً حجاجاً معتمراً(٢) ».

وكتب شريح بن هاني الى معاوية يذكر حجراً ويفتيه بحرمة دمه وماله ويقول فيه: « انه ممن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال(٣) ».

وكان ابن عمر - منذ أخذ حجر - يتخبر عنه فأخبر بقتله وهو بالسوق فأطلق حبوته وولى وهو يبكي(٤) .

ودخل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على معاوية وقد قتل حجراً وأصحابه، فقال له: « أين غاب عنك حلم أبي سفيان!؟ » قال: « غاب عني حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت!! » قال: « واللّه لا تعد لك العرب حلماً بعد هذا أبداً ولا رأياً، قتلت قوماً بعث بهم اليك أسارى من المسلمين ».

وقال مالك بن هبيرة السكوني حين أبى معاوية أن يهب له حجراً، وقد اجتمع اليه قومه من كندة والسكون وناس من اليمن كثير، فقال: « واللّه لنحن اغنى عن معاوية من معاوية عنا وانا لنجد في قومه(٥) منه بدلاً ولا يجد منا في الناس خلفاً ».

وقيل لابي اسحق السبيعي: « متى ذل الناس؟ » فقال: « حين مات الحسن، وادُّعي زياد، وقتل حجر بن عدي(٦) ».

وقال الحسن البصري: « أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه

__________________

١ - الطبري ( ج ٦ ص ١٥٦ ).

٢ - ابن الاثير ( ج ٣ ص ١٩٣ ).

٣ - و ٤ - الطبري ( ج ٦ ص ١٥٣ ).

٥ - يعني بني هاشم.

٦ - ابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ١٨ ).

٣٣٧

منهن الا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الامة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها - يعني الخلافة - بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجراً. ويل له من حجر وأصحاب حجر - مرتين -(١) ».

ومات الربيع بن زياد الحارثي غماً لمقتل حجر، وكان عاملاً لمعاوية على خراسان. قال ابن الاثير ( ج ٣ ص ١٩٥ ): « وكان سبب موته أنه سخط قتل حجر بن عدي، حتى انه قال: لا تزال العرب تقتل صبراً بعده، ولو نفرت عند قتله، لم يقتل رجل منهم صبراً، ولكنها قرت فذلت، ثم مكث بعد هذا الكلام جمعة، ثم خرج يوم الجمعة فقال: أيها الناس، انى قد مللت الحياة فاني داع بدعوة فأمنوا. ثم رفع يديه بعد الصلاة فقال: اللهم ان كان لي عندك خير فاقبضني اليك عاجلاً، وأمن الناس - ثم خرج، فما توارت ثيابه حتى سقط(٢) ».

وكتب الحسينعليه‌السلام الى معاوية في رسالة له: « ألست القاتل حجراً أخا كندة، والمصلين العابدين، الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ولا يخافون في اللّه لومة لائم؟. قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعدما كنت أعطيتهم الايمان المغلظة والمواثيق المؤكدة [ يشير الى نصوص المادة الخامسة من معاهدة الصلح ] أن لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ولا باحنة تجدها في نفسك عليهم(٣) ».

ثم جاء دور التاريخ فخصص نصر بن مزاحم المنقري كتاباً في مقتل حجر بن عدي، ولوط بن يحيى بن سعيد الازدي كتاباً(٤) ، وهشام بن محمد

__________________

١ - الطبري ( ج ٦ ص ١٥٧ ) وغيره.

٢ - وذكر ذلك كل من الاستيعاب واسد الغابة والدرجات الرفيعة والشيخ في الامالي.

٣ - البحار ( ج ١٠ ص ١٤٩ ).

٤ - فهرست ابن النديم ( ص ١٣٦ ).

٣٣٨

ابن السائب كتاباً في حجر، وكتاباً آخر في مقتل رشيد وميثم وجويرية بن مشهر(١) ».

الاحاديث في حجر وأصحابه

قال ابن عساكر: « ان عائشة بعد أن انكرت على معاوية قتله حجراً وأصحابه، قالت: سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: سيقتل بعذراء - الموضع الذي قتل فيه حجر وأصحابه - أناس يغضب الله لهم وأهل السماء ».

وروى مثله بطريق آخر عنها.

وروى البيهقي في الدلائل ويعقوب بن سفيان في تاريخه: « عن عبد اللّه بن زرير الغافقي قال: سمعت علي بن أبي طالبعليه‌السلام يقول: يا أهل العراق، سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء، مثلهم كمثل أصحاب الاخدود ».

الشهداء من أصحاب حجر

علمنا - مما سبق - أن اصحاب حجر صفوة من رجال اللّه القليلين، وأنهم « المصلون العابدون، الذين ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ولا يخافون في اللّه لومة لائم » على حد تعبير الحسينعليه‌السلام عنهم فيما كتبه الى معاوية.

ورأينا - الى ذلك - كيف يذكرهم كبراء المسلمين الآخرون كلما ذكروا حجراً.

واذا شاءت المقادير، أو شاءت الرقابات الاموية طمس أخبارهم وتناسي آثارهم، فانهم شهداء المبادئ، وقرابين الحق المغصوب، وكفاهم ذلك فضلاً ومجداً وظهوراً في التاريخ.

__________________

١ - النجاشي ( ص ٣٠٦ ).

٣٣٩

ولقي معاوية في حجته « المقبولة » بعد قتل هذه الزمرة الكريمة، الحسين بن عليعليهما‌السلام في مكة، فقال له - مزهواً -: « هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه شيعة أبيك؟ ». قال: « وما صنعت بهم؟ » قال: « قتلناهم وكفنّاهم وصلينا عليهم ودفناهم!! » فضحك الحسينعليه‌السلام ، ثم قال: « خصمك القوم يا معاوية، لكنا لو قتلنا شيعتك، ما كفنّاهم، ولا صلينا عليهم، ولا قبرناهم(١) ».

واليك الآن اسماء الشهداء الممتحنين مرتبة على الحروف وملحقة بما يتصل بكل منهم من معلومات:

أ - شريك بن شداد أو ثداد الحضرمي وسماه آخر عريك بن شداد.

ب - صيفي بن فسيل الشيباني، رأس في اصحاب حجر حديد القلب شديد العقيدة سديد القول. القي القبض عليه واحضر لزياد فقال له: « يا عدو اللّه!! ما تقول في أبي تراب؟ »، قال: « ما اعرف ابا تراب »، قال: « ما أعرفك به؟ »، قال: « ما أعرفه »، قال: « اما تعرف علي بن أبي طالب؟ »، قال: « بلى »، قال: « فذاك ابو تراب »، قال: « كلا، ذاك أبو الحسن والحسينعليه‌السلام ». فقال له صاحب الشرطة: « يقول لك الامير: هو أبو تراب، وتقول انت: لا؟ »، قال: « وان كذب الامير أتريد ان أكذب انا واشهد على باطل كما شهد!؟ » [ انظر الى خلقه وصلابته ] قال له زياد: « وهذا ايضاً مع ذنبك!!، عليَّ بالعصا »، فأتي بها، فقال: « ما قولك؟ »، قال: « أحسن قول أنا قائله في عبد من عباد اللّه المؤمنين »، قال: « اضربوا عاتقه بالعصا حتى يلصق بالارض »، فضرب حتى لزم الارض!! ثم قال: « أقلعوا عنه - ايه ما قولك في علي؟ »،

__________________

١ - البحار وغيره، وروى مثلها الطبري عن الحسن ولا يصح لان فجائع حجر وأصحابه كانت بعد وفاة الحسن بسنتين. وروى مثلها ابن الاثير عن الحسن البصري قال: « فقال: حجوهم ورب الكعبة ».

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400