قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار0%

قاعدة لا ضرر ولا ضرار مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 360

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف: آية الله السيد علي الحسيني السيستاني
تصنيف:

الصفحات: 360
المشاهدات: 154726
تحميل: 4887

توضيحات:

قاعدة لا ضرر ولا ضرار
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 360 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154726 / تحميل: 4887
الحجم الحجم الحجم
قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف:
العربية

في الحديث عنوان ثانوي متولد من الحكم ، ونسبته اليه نسبة السبب التوليدي إلىٰ مسبّبه ، كالقتل إلىٰ قطع الرقبة والاحراق إلىٰ الإلقاء في النار والايلام إلىٰ الضرب ونحو ذلك.

واطلاق العناوين التوليدية علىٰ اسبابها شائع متعارف لا يحتاج إلىٰ أية عناية فيكون مجازاً والمقام من هذا القبيل ، فيكون المراد من نفي الضرر نفي سببه المتحد معه وهو الحكم ، والفرق بين هذا المسلك ومسلكنا أننا نرى أن المنفي هو التسبيب للضرر ولازمه نفي الحكم الضرري بينما هذا المسلك يرى أن المنفي مباشرة هو الحكم الضرري.

( ان قيل ) : انه يعتبر في العنوان التوليدي عدم تخلل ارادة من فاعل مختار بينه وبين السبب كعدم تخلّلها بين الإلقاء والاحراق ، والمقام ليس من هذا القبيل في مثل ايجاد الوضوء والحج الضرريين ، لأَن الحكم فعل للشارع والضرر انما يترتب علىٰ امتثال العبد بارادته واختياره ، فكيف يحمل الضرر علىٰ الحكم.

( قيل ) : إن ارادة العبد في عين كونها اختيارية مقهورة لارادة الله سبحانه ، لان العبد ملزم عقلاً ومجبور شرعاً بالامتثال ، فالعلة التامة لوقوع المتوضئ أو الشريك أو الجار في الضرر هي الجعل الشرعي.

ولكن هذا التقريب ضعيف :

أوّلاً : لان الإشكال المطروح لا واقع له ، فان المقام ليس من قبيل الأَسباب والمسببات التوليدية ، ومجرد كون ارادة العبد مقهورة لارادة المولى لا يجعله من قبيلها موضوعاً ولا يلحقه بها حكماً ، مضافاً إلىٰ أن ذلك انما يتأتى في ارادة العبد المطيع دون العاصي كما اعترف به ومن المعلوم أن الاحكام لا تختص بالمطيعين دون العصاة.

وثانياً : ان الضرر المترتب علىٰ العمل لا يترتب عليه دائماً مباشرة ،

١٦١

بل قد يكون العمل مجرد معدّ للضرر كما لو كان الوضوء مما يوجب استعداد المزاج لمرض ما. وحينئنذٍ لا يمكن اتصاف الحكم بانه ضرر بلحاظ توليده للعمل المضرّ.

وثالثاً : إن العنوان التوليدي إنما ينطبق علىٰ سببه بالمعنى المصدري المتضمّن للنسبة الصدورية لا بالمعنى الاسم المصدري ونحوه مما لا يتضمن نسبة صدورية ولذا لا يقال علىٰ الالقاء انه احتراق ولكن يقال إنه احراق ، لأن الاحراق يتضمن نسبة صدورية دون الاحتراق ، وعلىٰ هذا فما ينطبق علىٰ الحكم هو عنوان الاضرار والضرار لا عنوان ( الضرر ) لأنّه معنىٰ اسم مصدري علىٰ ما سبق.

ورابعاً : ان هذا المقدار ليس إلا تصويراً لتفسير الحديث بنفي الحكم الضرري وذلك لا يقتضي تعيّنه بعد عدم انحصار ما يحتمل معنىٰ للحديث بهذا التصوير.

المسلك الثاني : أن يكون المراد بالحديث النهي عن الضرر والاضرار.

وهذا المسلك هو العمدة في تفسير الحديث في مقابل تفسيره بنفي الحكم الضرري ، وقد ذهب اليه جمع من اللغويين ونقل عن بعض فقهاء العامة. وقد اختاره من المتأخرين جماعة منهم صاحب العناوين والعلامة شيخ الشريعة.

وعلى هذا المسلك يكون مفاد ( لا ضرر ) متحداً مع مفاد ( لا ضرار ) ـ بعد الاعتراف بوحدة معنىٰ المادة فيهما علىٰ ما تقدّم تحقيقه ـ فيكون التكرار لمجرّد التأكيد كما نقل عن بعض اللغويين علىٰ ما مرّ. وربما قال جمع منهم بالتفرقة بينهما تخلّصاً عن التكرار بوجوه ضعيفة سبق التعرض لها ولنقدها.

١٦٢

وينحلّ هذا المسلك في نفسه الىٰ عدة وجوه ، لأن النهي الذي يتضمنه الحديث تارة يجعل نهياً تحريمياً أولياً ، واخرىٰ يقال إنّه نهي تحريمي سلطاني وثالثة يدعى أنّه جامع بين النهي التكليفي والإرشادي.

ونحن نتعرض لتحقيق أصل هذا المسلك وفق الوجه الاول من هذه الوجوه لأنّه اقواها وأرجحها ، ثم نتعرض للوجهين الآخرين عقيب ذلك ، وان كانت جملة من الأبحاث الآتية في هذا الصدد ممّا يتعلق بأصل هذا المسلك فتنطبق علىٰ جميع الوجوه.

ولتحقيق هذا المسلك لا بُدّ من البحث :

أولا ً : في تصويره.

وثانياً : فيما ذكر ترجيحاً له واثباتاً لتعيّنه.

وثالثاً : فيما يرد علىٰ هذا المسلك أو اورد عليه.

ورابعاً : في الوجهين الأخيرين مما قيل بناءً عليه.

فهنا ابحاث اربعة :

البحث الأَوّل : في تصوير هذا المبنى. وهو يتوقّف علىٰ توضيح امرين :

الأَوّل : كيفية ارادة النهي من هذا التركيب.

لا اشكال في ان مفاد ( لا ) في الحديث هو النفي فيكون معنىٰ الحديث استعمالاً الإخبار عن نفي الضرر والضرار علىٰ ما هو المنساق منه ، وانما اريد النهي ـ علىٰ تقديره ـ في مرحلة الإرادة تجوزاً.

والجهة المصححة لهذا الاستعمال هي التناسب الموجود بين نفي الطبيعة وبين التسبيب إلىٰ انتفائها باعتبارها فعلاً محرماً.

واما العناية الموجبة لهذا التجوز فهي اظهار المبالغة في الزجر عن الشيء حتىٰ كأنّ الفعل لا يوجد خارجاً أصلاً ، كما تستعمل صيغة الاثبات

١٦٣

في البعث إلىٰ الشيء بمثل هذه العناية وقد ذكرفي علم المعاني أنّه قد يقع الخبر موقع الانشاء لاظهار الحرص في وقوع الفعل حتىٰ يخيّل اليه حاصلاً وقد اوضحنا القول في ذلك بتفصيل في بحث استعمال الجملة الخبرية في مقام الطلب من علم الاصول.

الثاني : في ثبوت استعمال هذا التركيب في النهي.

لا إشكال في ثبوت استعمال الجملة الخبرية بأقسامها في غير مورد الانشاء الطلبي والزجري سواء كانت جملة اسمية ك‍ ( هي طالق ) أو جملة فعلية بالفعل الماضي ك‍ ( بعت ) و ( اشتريت ) أو بالفعل المضارع نحو ( إني أريد أن انكحك ).

لكن الامر ليس كذلك في مورد الإنشاء الطلبي والزجري علىٰ ما يشهد به موارد الاستعمالات فلم يثبت استعمالها في مورد إنشاء هذين المعنيين ، اذا كانت الجملة اسمية من قبيل ( زيد قائم ) أو ( زيد ليس بقائم ) بان يراد بالأَوّل بعثه إلىٰ القيام وبالثاني زجره عنه وإن كان الاستعمال صحيحاً ممكناً كأن يقول الولد لولده ( أنا مسافر غداً وأنت معي ) ومراده طلب السفر معه.

واما في مورد الفعل الماضي فربما قيل انه لم يثبت أو لا يصح أيضاً كما عن السيد الأستاذ (قده)(١) .

لكنه ليس بواضح فانه يشيع استعماله في الدعاء ك‍ ( رحمك الله وأعزك ) كما يستعمل في معنىٰ الأمر اذا كان جزاءً ك‍ ( اذا استيقن انه زاد في صلاته ركعة اعاد صلاته ) وربما استعمل فيه ابتداءً كقولهعليه‌السلام ( أجزء امرؤ قرنه آسى أخاه بنفسه )(٢) .

__________________

(١) المحاضرات ج ٢ ص ١٣٧.

(٢) نهج البلاغة ( في حث اصحابه علىٰ القتال : ١٨٠ ـ ١٨١ ).

١٦٤

واما في مورد الفعل المضارع فلا اشكال في ثبوت استعمالها في البعث والزجر كما هو شائع ك‍ ( يعيد صلاته ) أو ( لا يعيد صلاته ) علىٰ ما هو واضح.

( واما تركيب لا النافية ) : ـ وهو مورد البحث هنا ـ فربما يشكل ذلك كما ذكر المحقق الخراساني ( ان ارادة النهي من النفي وان كان غير عزيز الا انه لم يعهد في مثل هذا التركيب )(١) وردّ عليه العلاّمة شيخ الشريعة بشيوع هذا المعنىٰ في التركيب وذكر جملة كثيرة من الأمثلة ادعى فيها انها تعني النهي(٢) .

والحق ان القولين لا يخلوان عن افراط وتفريط ، اما الأوّل فلمعهودية ارادة النهي من النفي كما في قوله تعالىٰ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِّ ) (٣) وغير ذلك من الاستعمالات. واما الثاني : فلأن شيوع هذا المعنىٰ في التركيب المزبور بالمستوى الذي يمثله ذكر تلك الامثلة غير ثابت فان جملة منها ليست بهذا المعنىٰ كما يأتي تفصيله في التعرض لما ذكر في ترجيح هذا المسلك.

لكن يكفي في ما هو الغرض في المقام ( من تصوير هذا المسلك ) اصل ثبوت استعمال هذا التركيب في هذا المعنى. وعلىٰ ضوء هذا يتضح تمامية هذا المسلك تصويراً.

البحث الثاني : في تعيين هذا المسلك وترجيحه.

و يستفاد من كلام العلاّمة شيخ الشريعة في هذا الصدد وجوه :

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٨٢.

(٢) رسالة لا ضرر له : ٣٧ ـ ٣٩.

(٣) البقرة ٢ : ١٩٧.

١٦٥

الوجه الأَوّل : ما يظهر من مجموع كلامه(١) من تعين ارادة النهي في الحديث نظراً إلىٰ شيوع ارادته من هذا التركيب في مثل هذا الموضوع دون غيره من المعاني التي يصح ان تراد بهذا التركيب.

وهذا ينحلّ إلىٰ عقدين سلبي وايجابي.

اما العقد السلبي : وهو عدم شيوع غيره ، فلأَن في قبال احتمال النهي وجهين :

احدهما : نفي المسبّب وارادة نفي السبب كما هو مبنى تفسيره بنفي الحكم الضرري.

والثاني : نفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

والأَوّل غير معهود في هذا التركيب أصلاً. والثاني معهود لكن فيما لا يماثل المقام موضوعاً وهو ما اذا ثبت حكم لموضوع عامّ واريد نفيه عن بعض اصنافه ك‍ ( لا سهو في سهو ) ومن الواضح ان المقام ليس من هذا القبيل ، اذ لم يجعل لنفس الضرر حكم يراد نفيه عن بعض اصنافه ، واما نفي حكم موضوع آخر عنه فارادته تحتاج إلىٰ قرينة واضحة وهي منتفية في مقامنا.

واما العقد الإيجابي : ـ وهو شيوع ارادة النهي من هذا التركيب ـ فقد ذكر له امثلة من الكتاب والسنة وقال بعدها ( ولو ذهبنا لنستقصي ما وقع من نظائرها في الروايات واستعمالات الفصحاء ـ نظماً ونثراً ـ لطال المقال وأدى إلى الملل وفيما ذكرنا كفاية في اثبات شيوع هذا المعنى في هذا التركيب ، اعني تركيب ( لا ) التي لنفي الجنس(٢) .

__________________

(١) يظهر ذلك بملاحظة ما ذكره أوّل الفصل الثامن من شيوع ارادة النهي وما ذكره بعد ذلك ص ٣٧ ـ ٤٠ حول سائر الاحتمالات.

(٢) رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة ص ٣٧ ـ ٣٩.

١٦٦

والامثلة التي ذكرها هي كما يلي :

١ ـ قوله تعالى :( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِّ ) (١) .

٢ ـ وقوله تعالى :( فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ ) (٢) في مجمع البيان : معنىٰ ( لا مساس ) أي لا يمسّ بعضنا بعضاً(٣) .

٣ ـ ومثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام ).

٤ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا جلب ولا جنب ولا اعتراض ).

٥ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا خصى في الإسلام ولا بنيان كنيسة ).

٦ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا حمى في الإسلام ولا مناجشة ).

٧ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا حمى في الاراك ).

٨ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا حمى الا حمى الله ورسوله ).

٩ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا سبق إلا في خفّ أو حافر أو نصل ).

١٠ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا صمات يوم إلىٰ الليل ).

١١ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا صرورة في الإسلام ).

١٢ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ).

١٣ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة ايام ).

١٤ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا غش بين المسلمين ).

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٧.

(٢) طه ٢٠ : ٩٧.

(٢) ط جديد ج ٤ ص ٢٨.

١٦٧

و يرد على هذا الوجه :

أوّلا ً : ما تقدّم من ان شيوع ارادة النهي من هذا التركيب لا يؤثّر في تقوية هذا الاحتمال وتضعيف سائر الاحتمالات بمجرّد التماثل التركيبي بين المقام وبين الموارد الاخرى ، مع اختلافها في ملابسات وخصوصيات مؤثرة في تغيير المعنى ، بل لا بد من احراز اتحادها في ذلك. وجملة ( لا ضرر ) لا تشترك مع الامثلة المضروبة في هذه الجهة لان طبيعة الموضوع المنفي فيها امر مرغوب عنه مما يجعل الانسان لا يتحمله الا بتصوّر تسبيب شرعي فالنفي الوارد في هذا السياق النفسي يهدف بالطبع إلى ابطال التصوّر المذكور ، ونفي التسبيب الشرعي إلى ذلك ، وليس شيء من هذه الأمثلة من هذا القبيل فانها بين طبائع خارجيّة مرغوبة لذاتها لانسجامها مع القوى الشهوية والغضبية ، وبين طبائع اعتبارية مرغوبة لآثارها القانونية ـ كما سيتّضح مما يأتي ـ فشيوع ارادة النهي في هذا المجال لا يحسم الموقف لصالح احتمال النهي في الحديث.

وثانيا ً : ان استعمال هذا التركيب في النهي ليس بشائع بالمستوى المدعى ، إذ جملة من الأمثلة المذكورة انما هي من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه ، اما لتعذّر ارادة النهي فيها وان افادت التحريم أو لعدم ظهورها في ذلك.

اما القسم الأَوّل : ـ وهو ما يتعذر ارادة النهي منها ـ فهو ما اقترن بكلمة ( في الإسلام ) فان وجود هذه الكلمة يقتضي كون نفي الماهية بلحاظ عالم التشريع أي عدم وقوعه موضوعاً للحكم لا نفيها خارجاً بداعي الزجر عن ايجادها.

ففي هذا القسم حتى لو اريد التحريم ـ كما في ( لا خصى في الإسلام ) مثلاً ـ فانما يكون ذلك على سبيل نفي الحكم ( اي الجواز ) بلسان نفي

١٦٨

موضوعه لا علىٰ ارادة النهي ، وان كان نفي الجواز والنهي يرجعان إلىٰ مؤدى واحد ، إلا انه لا ينبغي الخلط بينهما في مقام التدقيق في انحاء استعماله هذا التركيب كما هو واضح.

واما القسم الثاني : ـ وهو ما لا يكون ظاهراً في التحريم ـ فهو الموارد التي كان المنفي فيها ماهية اعتبارية ، فان نفي الماهية الاعتبارية ظاهر حسب تناسبات الحكم للموضوع في نفي صحتها ـ كما تقدّم توضيح ذلك في ذكر الضابط العام لتشخيص محتوى صيغ الحكم ـ فتكون هذه الموارد من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

سواء في ذلك ما كان النفي فيه نفياً للماهية خارجاً أو في وعاء التشريع.

فمن الأَوّل قوله ( لا سبق إلا في خفّ أو حافر أو نصل ) فان المراد بالسبق العقد الخاص فالمقصود بالحديث بطلانه الا في الموارد المستثناة ، وثبوت حرمته بدليل آخر لا يقضي باستفادته من هذا الدليل.

ومن الثاني : قوله ( لا شغار في الإسلام ) فان الشغار نوع خاص من النكاح كان معروفاً في الجاهلية وقوله ( لا حمى في الإسلام ) فان المراد بالحمى اعتبار مرعى ومرتع مختصاً بشخص أو قبيلة ، فيمنع الغير من الرعي فيه وهذا نوع من الحكم الوضعي الذي يندمج فيه الحكم التحريمي ومرجع نفيه إلىٰ الغائه أو اسقاط ما كان يترتب عليه من الآثار في العرف الجاهلي لا تحريمه تحريماً مولويّاً.

ويحتمل ان يكون من هذا القبيل قوله ( لا رهبانية في الإسلام ) بناءً علىٰ انها التزام وتعهّد نفسي بترك الاشتغال بالدنيا وملاذها والعزلة من اهلها والتعمد إلىٰ مشاقها ، فيكون المراد بنفيها الغاء هذا العهد وعدم استتباعه لوجوب الوفاء فلا يكون في هذا المورد تحريم مولوي.

١٦٩

وبذلك ظهر أن معنىٰ النهي لا يتجه في الأَمثلة المذكورة ، إلا فيما لم يقترن بزيادة في الإسلام وكان المتعلق ماهية خارجيّة يؤتى بها لبعض الدواعي الشهوية والغضبية ك‍( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِّ ) (١) .

الوجه الثاني : تبادر النهي من الحديث وانسباقه إلىٰ الذهن. قال (قده) ( في كلام له عن هذا المسلك ) : ( وهو الذي لا تسبق الأَذهان الفارغة عن الشبهات العلمية إلا اليه )(٢) وقال ( وبالجملة : فلا اشكال في ان المتبادر إلىٰ الأذهان الخالية من اهل المحاورات قبل ان ترد عليها شبهة التمسك بالحديث في نفي الحكم الوضعي ليس الا النهي التكليفي )(٣) .

( ويلاحظ عليه ) : انه لا يتجه التمسك بالتبادر في المقام ـ كما سبق ـ وذلك لان الشك ( تارة ) يكون في تشخيص المراد الاستعمالي وضعاً أو انصرافاً و ( أخرى ) في تشخيص توافق المراد التفهيمي مع المراد الاستعمالي وعدمه. ( وثالثة ) في تشخيص المراد التفهيمي المردد بين وجوه بعد العلم بعدم توافقه مع المراد الاستعمالي. والتمسّك بالتبادر انما يتّجه في المرحلة الأولىٰ لاثبات العلقة الوضعية أو الانصراف. واما في المرحلتين الاخيرتين فلا عبرة بادعاء التبادر بل المناط في المرحلة الثانية وجود القرينة المعينة لهذا المعنىٰ او ذاك بعد وجود القرينة الصارفة عن المراد الاستعمالي. ومن المعلوم ان حمل الحديث علىٰ النهي ليس تحديداً لمدلوله الاستعمالي وانما هو اقتراح في المراد التفهيمي بعد الاعتراف بتخالفه مع المراد الاستعمالي.

فلا بُدّ اذن من ملاحظة الجهات المحيطة بهذا الحديث لملاحظة مدى توفّر القرينة علىٰ أحد الوجوه المقترحة في تحديد المراد التفهيمي وقد

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٧.

(٢ و ٣) رسالة لا ضرر : ٤٠ ـ ٤١ ( الفصل الثامن ).

١٧٠

عرفت مقتضاها في كل من الجملتين.

الوجه الثالث : ما ذكره بعد ذلك بقوله ( مضافاً إلى ما عرفت من ان الثابت من صدور هذا الحديث الشريف انما هو ما كان في قضية سمرة بن جندب وأنه ثبت فيها ( لا ضرر ولا ضرار على مؤمن ) ولا شك ان اللفظ بهذه الزيادة ظاهر في النهي(١) .

( ويلاحظ عليه )أوّلاً : ان هذه الزيادة لم ترد الا في مرسلة ابن مسكان عن زرارة وهي ليست بحجة وعلى تقدير حجيتها فان موثقة ابن بكير ـ التي تنقل نفس القضية عن زرارة دون تلك الزيادة ـ مقدمة عليها على ما مر تحقيقه في البحث عن متن الحديث في الفصل الأَوّل.

وثانيا ً : انه على تقدير ثبوت هذه الزيادة فانا لا نسلم منافاته مع ارادة نفي التسبيب إلىٰ الحكم الضرري اذ يمكن نفي ذلك بالنسبة إلى المؤمن.

الوجه الرابع : ما ذكره بقوله ( على ان قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسمرة انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن ـ كما في رواية ابن مسكان عن زرارة ـ انما هو بمنزلة صغرى وكبرى ، فلو اريد التحريم كان معناه انك رجل مضار والمضارّة حرام وهو المناسب لتلك الصغرى ، لكن لو اريد غيره مما يقولون صار معناه انك رجل مضار والحكم الموجب للضرر منفي أو الحكم المجعول منفي في صورة الضرر ، ولا اظن بالاذهان المستقيمة ارتضاءه )(٢) .

ويرد عليه أوّلا ً : ان القول المذكور لم يتضمنه الا رواية ابن مسكان. وقد سبق عدم اعتبارها في الفصل الأَوّل.

__________________

(١) نفس المصدر ص ٤١.

(٢) رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة : ٤١ ـ ٤٢.

١٧١

وثانيا ً : ان مقتضى ما ذكره استفادة التحريم من ( لا ضرار ) ـ لا من ( لا ضرر ) ولا منهما جميعاً ـ لأَنّ المستعمل في التطبيق هو وصف باب المفاعلة ـ وهو مضار ـ وعليه فلا مانع من ان يراد ب‍ ( لا ضرار ) نفي التسبيب إلى الضرر بنفي الحكم الضرري ويراد ب‍ ( لا ضرار ) الحرمة التكليفية فتتناسب الصغرى مع الكبرى.

الوجه الخامس : اتفاق اهل اللغة على فهم معنى النهي من الحديث.

قال (قده) ( في كلام له ) : ( ولنذكر بعض كلمات ائمة اللغة ومهرة أهل اللسان تراهم متفقين على ارادة النهي لا يرتابون فيه ولا يحتملون غيره ، ففي النهاية الاثيرية : قوله ( لا ضرر ) اي لا يضر الرجل اخاه فينقصه شيء من حقه ، والضرار فعال من الضر اي لا يجازيه على اضراره بادخال ( الضرر عليه ). وفي لسان العرب ـ وهو كتاب جليل في اللغة في عشرين مجلداً(١) ـ معنى قوله ( لا ضرر ) لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقه. و ( لا ضرر ) أي لا يجازيه على اضراره بادخال ( الضرر عليه ). وفي تاج العروس مثل هذا بعينه ، وكذا الطريحي في المجمع )(٢) .

و في هذا الوجه ملاحظتان :

الأُولى : في مدى اصالة هذه المصادر الخمسة في ذكر هذا الرأي ومدى التزام مؤلفيها به.

١ ـ وأمَّا النهاية لابن الأثير ( ت ٦٠٦ ه‍ ) فقد تقدّم انها في جزء مهم

__________________

(١) قد طبع الكتاب أوّلاً في عشرين مجلداً وعليه جرى هذا القائل وقد طبع ثانياً في بيروت في خمسة وعشرين مجلداً وقد جاء قي مقدمة هذه الطبعة ١ / ٦ انه ثلائون مجلداً كما جاء في مقدمة تاج العروس انه سبعة وعشرون مجلداً. منه.

(٢) لسان العرب ٤ / ٤٨٢ ، مجمع البحرين ٣ / ٣٧٣ ، تاج العروس ٣ / ٣٤٨ ، النهاية لابن الأثير ٣ / ٨١ ، رسالة لا ضرر لشيخ الشريعة : ٤٣.

١٧٢

منها تجميع لكتاب غريبي الحديث والقرآن لابي عبيد احمد بن محمّد الهروي المتوفى سنة ( ٤٠١ ه‍ ) وكتاب الغيث في تهذيب القرآن والحديث للحافظ ابي موسى محمّد الاصفهاني ( ت ٥٨١ ه‍ ) وقد جعل لكل منهما علامة. وقد جعل هنا علامة الأَوّل مما يعني انه نقله عن كتاب الهروي وليس من كلامه هو.

٢ ـ ( واما لسان العرب لابن منظور ت ٧١١ ه‍ ) فهو وان كان كتاباً جامعاً الا انه ليس الا تجميعاً لعددة كتب لغوية وهي تهذيب اللغة للازهري ( ت‌ ٣٧٠‌ ه‍ ) ‌والصحاح للجوهري ( ت ٣٩٣ ه‍ ) ونقد الصحاح لابن بري والمحكم لابن سيدة الأَندلسي والنهاية لابن الاثير.

وقد صرح بذلك مؤلفه في مقدمة كتابه كما صرّح بانه ليس مسؤولاً عما في الكتاب(١) وقد اعتبره بعض محققي هذه الكتب كالنهاية كتاب اللسان نسخة من نسخها في مرحلة تحقيقها(٢) وقد نقل في اللسان عبارتين تتضمنان تفسير

__________________

(١) قال في مقدمة لسان العرب ١ / ٨ ط بيروت ( وليس لي في هذا الكتاب فضيلة أمتّ بها ولا وسيلة اتمسك بها سوى اني جمعت فيه ما تفرق في تلك الكتب من العلوم وبسطت القول فيه ولم اشبع باليسير وطالب العلم منهوم فمن وقف فيه علىٰ صواب أو ذيل أو صحة أو خلل فعهدته علىٰ المصنف الأَوّل وحمده وذمه لأَصله الذي عليه المعول لانني نقلت من كل أصل مضمونه ولم ابدل منه شيئاً فيقال انما اثمه علىٰ الذين يبدلون بل اديت الأَمانة في نقل الأصول بالنص وما تصرفت فيه بكلام غير ما فيه من النص فليعتد من ينقل من كتابي هذا انه ينقل عن الأصول الخمسة وليغن عن الاهتداء بنجومها فقد غابت لما طلعت شمسه ) وقد اكد ذلك في اثناء الكتاب ففي ٤ / ٤٢ ( قال عبد الله محمّد بن المكرم : شرطي في هذا الكتاب ان اذكر ما قاله مصنفو الكتب الخمسة التي عنيتها في خطبته لكن هذه نكتة لم يسعني اهمالها. قال الهيثمي ).

(٢) لاحظ مقدمة النهاية : ١٩ قال ( ولما كان ابن منظور قد افرغ النهاية في لسان العرب فقد اعتبرنا ما جاء من النهاية في اللسان نسخة وأثبتنا ما بينه وبينها من فروق ).

١٧٣

الحديث بالنهي :

احداهما : عبارة النهاية لابن الأثير وقد نسبها اليه صريحاً.

والثانية : عبارة الأزهري في تهذيب اللغة ولم يصرح باسمه وانما عبر بقوله ( قال : وروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) والكلام الذي نقله هذا القائل هو جزء من هذه العبارة. فليس ذلك قول لابن منظور نفسه.

٣ ـ واما الدر النثير للسيوطي ( ت ٩١١ ه‍ ) فهو :

أوّلاً : مختصر نهاية ابن الأثير واسمه الكامل ( الدر النثير تلخيص نهاية ابن الأثير ) وقد اضاف على ذلك اضافات قليلة كما ذكر في مقدمة محقق النهاية(١) وعبارته في المقام نص عبارة ابن الأثير فهو الحقيقة ليس مصدراً آخر.

وثانياً : ان الظاهر ان السيوطي لا يلتزم بان معنى ( لا ضرر ) هو النهي ، فانه في كتبه الحديثية والفقهية جرى على ما بنى عليه اكثر فقهاء العامة من تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري ، ففي كتابه تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك نقل عن ابن داود قوله ( ان الفقه يدور علىٰ خمسة احاديث وهذا احدها )(٢) وفي كتابه الأَشباه والنظائر(٣) ـ وهو مؤلف في القواعد الفقهية ـ قد فرَّع عليها فروعاً كثيرة لا تنسجم الا مع التفسير المذكور كما تقدّم ذكر ذلك.

__________________

(١) قال في ص ٨ ثم رأى السيوطي ان يفرد زياداته على النهاية وسماها التذييل والتهذيب علىٰ نهاية الغريب. ( ويوجد هذا التذييل بآخر نسخة من نسخ النهاية بدار الكتب المصرية وهو في سبع ورقات ) وقد ذكر في ص ١٩ ـ ٢٠ ( وقد نظرنا في الدر النثير للسيوطي وسجلنا تحقيقاته وزياداته ومعظمها عن ابن الجوزي ولعلّه اطلع على غريبه فهو يكثر النقل عنه ).

(٢) المصدر ٢ / ٢٢.

(٣) الاشباه والنظائر ٨٤ ـ ٨٥.

١٧٤

٤ ـ واما تاج العروس للزبيدي : فالظاهر انه اخذ ما ذكره من النهاية اما مباشرة أو بتوسط لسان العرب أو الدر النثير ، فانها جميعاً من مصادره كما يظهر من مقدمة كتابه ، وقد اعتمد عليه محقق النهاية في تحقيق نصها ـ كما ذكره في مقدمتها ـ وعبارته في المقام عين عبارة النهاية.

مضافاً إلىٰ ان كلامه قد لا يدلّ علىٰ جزمه بذلك فانه لم يتضمن إلا نقل هذا التفسير حيث قال ( والاسم الضرر فعل واحد والضرار فعل الاثنين وبه فسر الحديث ( لا ضرر ولا ضرار ) ، اي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقّه ولا يجازيه علىٰ اضراره بادخال الضرر عليه ، وقيل هما بمعنىٰ وتكرارهما للتأكيد ).

٥ ـ واما مجمع البحرين : فهو أيضاً ذكر عين عبارة النهايه في المقام وقد صرح في المقدّمة بانها من مصادره.

وبذلك يتضح :

أوّلاً : ان ذكر هذا الرأي في كلمات هؤلاء لم يكن عن التزام به من قبلهم جميعاً ، بل كان ذكر اكثرهم لذلك علىٰ سبيل النقل ـ ولو احتمالاً ـ كما في المصادر الأَربعة الأولىٰ ، وذلك ان اكثر الكتب اللغوية شأنها تجميع الكلمات والاقوال كالجوامع الحديثية ، ولذا كانوا يذكرون الاسناد اليها في العهد الأوّل.

وثانياً : ان اصل هذا التفسير ينتهي إلىٰ كلامين تقدّم ذكرهما في أوّل هذا الفصل احدهما للازهري في تهذيب اللغة ، والثاني للهروي في الغريبين ، وسائر المتأخرين عنهما انما ذكروا نص هذين الكلامين أو احدهما ـ ولو ملخصاً ـ من دون تصرف زائد في ذلك.

وعلى ضوء ذلك يظهر ان ما ذكر من نسبة فهم هذا المعنىٰ إلىٰ مهرة اللغة لا يخلو عن نظر وتأمّل.

١٧٥

و الملاحظة الاخرى : انّ الاحتجاج بقول أهل اللغة ضعيف لعدم حجية اقوالهم في حد انفسها ـ علىٰ ما اوضحناه في علم الأصول ـ لا سيّما في مثل هذا الموضوع الذي لا يرتبط بتفسير مفرد لغوي ، وانما يرتبط بتشخيص المعنىٰ المجازي للكلمة ، وخصوصاً مع تعارضه مع فهم الفقهاء الذين هم اكثر اطلاعاً علىٰ المناسبات الدخيلة في تشخيص المراد التفهيمي ، لا سيّما في النصوص التشريعية حيت تقدّم أن اغلب فقهاء الفريقين فهموا من الحديث نفي مجعولية الحكم الضرري.

الوجه السادس والسابع والثامن : ما نقله (قده) عن صاحب العناوين من انه قال :

١ ـ ( والحق ان سياق الروايات يرشد إلىٰ ارادة النهي من ذلك ، وان المراد تحريم الضرر والضرار والمنع عنهما ، وذلك إمّا بحمل ( لا ) علىٰ معنىٰ النهي ، وامّا بتقديركلمة ( مشروع ومجوز ومباح ) في خبره مع بقائه علىٰ نفيه ، وعلىٰ التقديرين يفيد المنع والتحريم.

٢ ـ وهذا هو الانسب بملاحظة كون الشارع في مقام الحكم من حيث هو كذلك ، كما في مقام ما يوجد في دين وما لا يوجد ، وان كان كل من المعنيين مستلزماً للآخر إذ عدم كونه من الدين أيضاً معناه منعه فيه ومنعه فيه مستلزم لخروجه عنه.

٣ ـ مضافاً إلىٰ ان قولنا ( الضرر والضرار غير موجود في الدين ) معنىٰ يحتاج تنقيحه إلىٰ تكلفات ، فانّ الضرر مثلاً نقص المال أو ما يوجب نقصه ، وذلك ليس من الدين بديهة إذ الدين عبارة عن الاحكام لا الموضوعات ، فيحتاج حينئذٍ إلىٰ جعل المعنىٰ هكذا : ان الحكم الذي فيه ضرر أو ضرار

١٧٦

ليس من الدين ، وهذا غير متبادر وإن بالغ فيه بعض المعاصرين )(١) .

وهذه الوجوه غير تامة أيضاً.

أما الأَوّل : فلمنع إرشاد سياق الروايات إلىٰ ارادة النهي من ( لا ضرر ) لا سيّما علىٰ المختار من دلالة ( لا ضرار ) علىٰ النهي. كما ان الوجهين المذكورين لتخريج ارادة التحريم ضعيفان وانما الصواب ما تقدّم ذكره في تصوير هذا المسلك :

وامّا الثاني : فلأن كون الشارع في مقام الحكم والقضاء لا يقابل كونه في مقام بيان تحديد الأحكام الشرعيّة بعدم الضرر تطبيقاً لذلك في المورد كما هو واضح.

واما علىٰ الثالث : فلان مبناه ثبوت زيادة ( في الإسلام ) ليكون المنفي وجود الضرر في وعاء التشريع ، وأمّا علىٰ تقدير عدم ثبوتها ـ كما هو الصحيح ـ فان المنفي حينئذٍ يكون وجود الضرر في الخارج ، وهو غير مراد تفهيماً علىٰ كل تقدير سواء فسر بالنهي أو بنفي الحكم الضرري ، لكن مصححه علىٰ الأَول التسبيب إلىٰ عدم الإضرار وعلىٰ الثاني عدم التسبيب إلىٰ وقوع الضرر ولا ترجيح للأَوّل علىٰ الثاني بل سبق تعين الثاني.

الوجه التاسع : ما يمكن ان يقال علىٰ ضوء ما ذكره في موضع آخر حيث قال : ( انّ التخصيصات الكثيرة التي يدَّعون ورودها علىٰ القاعدة ليست كما يقولون ، وأنها مبتنية علىٰ ارادة المعنىٰ الذي رجَّحوه من التعميم للتكليفي والوضعي وللضرر الناشئ من اركان المعاملة وشروطها وما يترتب عليها مما هو خارج عنها(٢) فلعل التسليم بورود تلك التخصيصات على

__________________

(١) لاحظ رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة ـ الفصل الثامن ـ ص ٤٠ للسيد مير فتاح ، العنوان العاشر.

(٢) رسالة ( لا ضرر ) للعلاّمة شيخ الشريعة ـ الفصل التاسع ـ ص ٤٥.

١٧٧

الحديث في تفسيره بنفي الحكم الضرري يكون قرينة علىٰ بطلان هذا الاحتمال ، فيتعين احتمال النهي ، وبعبارة أخرى لازم تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري كثرة التخصيص بخلاف تفسيره بالنهي المولوي عن الاضرار ، فهذه قرينة عقلية علىٰ بطلان ـ تفسيره بنفي الحكم الضرري.

لكن هذا الوجه أيضاً غير تامّ لما سيأتي في التنبيه الثاني من تنبيهات القاعدة من عدم ثبوت استلزام ارادة نفي الحكم الضرري لتخصيص الحديث كذلك.

هذه هي الوجوه التي افادها العلاّمة شيخ الشريعة (قده) في ترجيح هذا المسلك ، وقد ظهر عدم نهوض شيء منها علىٰ ذلك. وعلىٰ هذا : فهذا المبنى ـ بعد تمامية تصويره ـ ليس له معيّن في حدّ نفسه في مقابل سائر الوجوه والمعاني التي يصح ارادتها من الحديث.

البحث الثالث : في مناقشة هذا المسلك.

ويظهر ذلك مما سبق في تحقيق معنىٰ الحديث علىٰ المختار.

ففيما يتعلّق ب‍ ( لا ضرر ) قد اوضحنا ان معنىٰ الضرر بما انه معنىٰ اسم مصدري لا يتضمن النسبة الصدورية ـ فلا تناسب بينه وبين احتمال النهي لانه ماهية مرغوب عنها لا تتحمّل إلا بتصوّر التسبيب الشرعي فيكون نفيه نفياً لذلك بالطبع ، وإنما المناسب مع النهي هو الإضرار والضرار ، مع تأيّد ذلك بفهم اكثر الفقهاء وأنسبيته مع بعض موارد الحديث كقضية سمرة علىٰ ما مرّ سابقاً.

واما فيما يرتبط ب‍ ( لا ضرار ) فان افادته للنهي صحيحة ، لكن لا يقتصر مفادها علىٰ ذلك لأَنَّ مؤداه التسبيب إلىٰ عدم الاضرار بالغير ، وهذا المعنىٰ كما يقتضي النهي عنه فانه يقتضي تشريع اتخاذ الوسائل الاجرائية لمكافحته علىٰ ما سبق ايضاً.

١٧٨

وقد يعترض على هذا المسلك بوجوه اخرى :

منها : ما تقدّم في اثناء المباحث السابقة وتقدم القول فيها.

ومنها : ما أورده السيد الاستاذ (قده) من انه لا يمكن الالتزام باحتمال النهي في المقام ، ( امّا بناءً ) على اشتمال الحديث علىٰ جملة ( في الإسلام ) كما في رواية الفقيه ونهاية ابن الأثير فظاهر ، لانّ هذا القيد كاشف عن ان المراد هو النفي في مقام التشريع لا نفي الوجود الخارجي بداعي الزجر ، ( وامّا بناءً ) على عدم ثبوت اشتمالها عليها كما هو الصحيح ، فلان حمل النفي على النهي يتوقّف على وجود قرينة صارفة عن ظهور الجملة في كونها خبرية ، كما هي ثابتة في قوله تعالى :( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ ) (١) فان العلم بوجود هذه الامور في الخارج مع العلم بعدم جواز الكذب علىٰ الله سبحانه وتعالى ، قرينة قطعية علىٰ ارادة النهي ، وأمّا في المقام فلا موجب لرفع اليد عن الظهور وحمل النفي على النهي ، لامكان حمل القضية على الخبرية(٢) .

وفيما ذكر نظر في كلا الشقين :

اما الشقّ الأَولّ : فيلاحظ على ما ذكر :

أوّلاً : انه لا وجه لذكره بعد ان كان مبناه ومبنى المعترض عليه جميعاً ـ وهو العلاّمة شيخ الشريعة ـ عدم صحة هذه الزيادة فالبحث في الصيغة التي ثبت ورود الحديث بها لا غيرها.

وثانياً : ان وجود هذه الزيادة وان كان يمنع عن جعل المقصود ب‍ ( لا ضرر ) نفس النهي عن الاضرار ، إلا انه لا يمنع من استفادة التحريم المولوي

__________________

(١) البقرة ٢ / ١٩٧.

(٢) لاحظ مصباح الأصول ٢ / ٥٢٦.

١٧٩

من الحديث على ان يكون من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه استعمالاً ، ويراد به تفهيماً نفي جواز الضرر في الشريعة الاسلامية ومدعى المعترض عليه هو دلالة الحديث على الحرمة سواءاً كانت مراداً استعمالياً أم تفهيمياً ، كما يظهر من آخر كلامه في المقام(١) .

ان قيل : انه يعتبر في نفي شيء في الشريعة المقدّسة ثبوت الحكم المنفي للشيء مسبقاً كأن يثبت له في الشرائع السابقة كما في قولهعليه‌السلام ( لا رهبانية في الإسلام ) فان الرهبانية كانت مشروعة في الامم السابقة فكان نفيها في الإسلام نفياً لمشروعيّتها ، والإضرار ليس كذلك ( فان حكمه السابق حيث لم يكن اباحة بل كان إمّا تحريماً أو قبيحاً على ما يستقلّ به العقل فارادة نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ينتج ضدّ المقصود وهو نفي الحرمة أو القبح الثابتين سابقاً ).

قيل : إن هذا البيانأوّلاً : منتقض بقوله ( لا مناجشة في الإسلام ) فانه لا اشكال في ان المراد نفي مشروعيتها مع أنها أيضاً قبيحة عقلاً. وقد ذكر الشيخ الأنصاري في المكاسب المحرمة بعد ذكر النجش انه يدل علىٰ قبحه العقل ، لأنّه غش وتلبيس واضرار فالنجش امّا منحصر بمورد الاضرار كما يظهر من المصباح المنير(٢) أو اعم من ذلك ، فكيف يوجّه نفي الحكم فيها بلسان نفي موضوعه مع أنّه قد ينتج ضد المقصود.

وثانياً : انه يمكن حل ذلك بملاحظة مجموع جهتين :

الأُولى : ان نفي الحكم بلسان نفي موضوعه لا يختص بما لو كان

__________________

(١) لاحظ مصباح الأصول ٢ / ٥٢٦.

(٢) المصباح المنير ٢ : ٥٩٤.

١٨٠