قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار11%

قاعدة لا ضرر ولا ضرار مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 360

قاعدة لا ضرر ولا ضرار
  • البداية
  • السابق
  • 360 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 194250 / تحميل: 7764
الحجم الحجم الحجم
قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الثاني : تحديد الضرر المنفي ب‍ ( لا ضرر ) بملاحظة طبيعة معناه التركيبي ـ علىٰ المختار ـ ويملاحظة اقترانه ب‍ ( لا ضرار ) بنحولا يقتضي نفي الضرر أصلاً في جملة من الموارد المذكورة.

اما الجزء الأَوّل : فيظهر بملاحظة امرين :

الأَمر الأَوّل : في التدقيق في مفهوم الضرر. ان الضرر في الشيء كالمال ـ مثلاً ـ ليس مطلق عروض النقص عليه بل كونه أنقص عما ينبغي ان يكون عليه من الكمية أو المالية ، كما لوعرضت علىٰ المال آفة توجب نقص ماليته ، أو نقصت كميته بضياع أو سرقة أو غصب أو بصرف المالك له فيما لا يعدّ مؤونه له ولا يعود منه فائدة عليه ، فاما لو صرف فيما يرجع إلىٰ مؤونة الشخص وشؤونه أو ينتفع منه بنحو مناسب معه فانه لا يكون ذلك ضرراً عليه ، ولذا لا يعتبر صرف المال في مؤونته ومؤونة عياله فيما يحتاجون اليه ـ من المأكل والمشرب والملبس والعلاج والوقاية والتنظيف وسائرحاجاتهم ـ إضراراً بالمال لا لغة ولا عرفاً ، وكذلك صرف المال في اداء الحقوق العرفية للغير وسائر الرغبات العقلائية كالسفر إلىٰ مكان آخر لغرض ثقافي أو اجتماعي ، وهكذا لو اشترك الشخص في مشروع عام أو جهة عامة يعم الانتفاع بها.

وبالجملة : فصرف الشخص المال في الشؤون المتعلقة بتعيش نفسه وعياله بحسب مستواه من العرف والعادة لا يعدّ ضرراً ، لان شأن المال ان يصرف في مثل هذه الامور بل عدم صرفه في مثل الانفاق علىٰ العيال يعدّ إضراراً بهم وظلماً عليهم.

واذا لم يكن صرف المال في ذلك إضراراً فلا ينقلب ضرراً بالالزام الشرعي ليكون الحكم الشرعي ضررياً.

وعلى ضوء هذا البيان : يظهر عدم صدق الضرر في جملة من الموارد

٢٢١

السابقة ، كما تنبّه له جمع من المحققين :

منها : ايجاب صرف المال فيما عليه من الحقوق بحسب العرف كالانفاق علىٰ من يجب الانفاق عليه عرفاً كالزوجة والاولاد وبعض الاقرباء بل المواشي ونحوها ، وكذلك صرف المال لتفريغ ذمته عما اشتراه من غيره ، أو اشتغلت به ذمته من جهة اتلافه لمال الغير أو بدلاً عن الانتفاع به.

ومنها : ايجاب الخمس والزكاة ـ في الجملة ـ فانها تصرف في مصارف عمدتها التحفظ علىٰ النظام والمصالح الاجتماعية العامة.

ومنها : ايجاب صرف المال في ازالة كثير من القذارات العرفية التي يحسن الاجتناب عنها. إلىٰ غير ذلك من الموارد المختلفة.

ويمكن ضبط الموارد الخارجة عن حدود الضرر ـ علىٰ ضوء البيان الذي ذكرناه ـ بنحو عام في حالات ثلاث :

الأُولى : أن يكون الحكم الشرعي في مورد لا يكون صرف المال فيه ضرراً عرفاً ، فانّه لا يكون الحكم حينئذٍ ضررياً وهذه الحالة هي التي يندرج تحتها أكثر الموارد السابقة.

الثانية : أن يكون الحكم الشرعي بملاحظة كشف الشارع عن كون المورد مصداقاً لجهة لا يعتبر صرف المال في تلك الجهة ضرراً ، فانه حينئذٍ يكون خارجاً عن الضرر تخصصاً وان لم تعرف مصداقية المورد لتلك الجهة لدى العرف ، نظير ما لو انكشفت مصداقية المورد من قبل غير الشارع كما في القذارات المستكشفة بالوسائل الحديثة فان صرف المال في ازالتها لا يعدّ ضرراً كما هو واضح رغم عدم تعرّف العرف علىٰ المصداق فيها أيضاً.

الثالثة : ان يكون الحكم الشرعي في مورد قد اعتبر القانون حقاً من الحقوق في ذلك المورد فلا يكون صرف المال فيه ضرراً ، فإنّ الاعتبار

٢٢٢

الشرعي لتلك الجهة يوجب انتفاء الضرر علىٰ نحو الورود.

الأَمر الثاني : ان قسماً من الأحكام المذكورة لا يوجب ضرراً في الحقيقة وانما يرجع إلىٰ عدم النفع أو تحديده ، وبين الضرر وعدم النفع فرق واضح ، فإن الضرر هو انتقاص الشيء الموجود ، وعدم النفع إنما هو عدم تحقّق الزيادة عليه ، فتوهم صدق الضرر في ذلك من قبيل توهّم صدقه علىٰ الحكم بعدم تملك الربا ـ وهو المقدار الزائد في المعاملة الربوية ـ.

واظهر موارد هذا القسم تشريع الخمس والزكاة.

١ ـ اما تشريع الخمس من الغنيمة بمعناها الاعم ـ وهو الظفر بالمال بلا عوض مادّي ـ فانه تحديد لنفع المغتنم لا اضرار به ، لان اعتبار الشارع الاغتنام سبباً للملكية يرجع إلىٰ توفير نفع للمغتنم ، فاذا فرضنا انَّ الشارع قد اعترف اولا بكون الاغتنام سبباً لملكية جميع الغنيمة كان ايجاب دفع خمسه بعد ذلك تنقيصا لماله وضرراً به. واما اذا لم يعترف منذ البدء بكون الاغتنام سبباً للملكية الا بالنسبة إلىٰ اربعة اخماس الغنيمة ـ فلا يكون ايجاب دفع الخمس إلىٰ من فرضه الشارع له ضرراً بالمغتنم لأنّه لم يملكه أصلاً.

ولتوضيح ذلك نتعرض لبعض موارد الخمس في الغنيمة :

منها : الغنيمة القتالية وهي التي يسيطر عليها المقاتلون المسلمون في قتال الكفّار ، فقد جعل الشارع اخذها سبباً للملكية ، إمضاءً لقانون الاغارة الذي كان قبل الإسلام علىٰ ان يقسم بين المقاتلين ومن بحكمهم ، واستثنى من ذلك الخمس علىٰ ان يكون للعناوين الخاصة ، ولو انه لم يجعل شيئاً للمغتنم ، لم يكن ذلك ضرراً عليه أصلاً فضلاً عن استثناء الخمس ، لعدم حق لهم لولا الجعل الشرعي أصلاً. وربما كان استثناء الخمس بعنوان انه حق الرئاسة كما كان هذا الحق متعارفاً في الجاهلية أيضاً حيث كان ربع الغنيمة التي يحصلون عليها بالاغارة لرئيس القبيلة أو العشيرة ويسمى

٢٢٣

مرباعاً(١) .

ومنها : المعادن وهي على المختار وفاقاً للمشهور من الانفال فيكون ملكاً للامام ، ومرجع جعل الخمس فيها إلىٰ الاذن في استخراجها وتمليك أربعة اخماسها للمستخرج توسعة على المؤمنين ، ويحق لوليّ الأَمر ان لا يأذن في استخراجها ، فينحصر حق استخراجها بالدولة ويصرف جميعها في سبيل مصالح المسلمين.

ومنها : الأرباح الزائدة وهي ـ بحسب الدقة والتحليل ـ احد مصاديق الغنيمة بمعناها اللغوي ، أي الفوز بالمال بلا عوض مالي. وقد اختلف فيها المنهج الرأسمالي والاشتراكي علىٰ طرفي افراط وتفريط ، والحلّ الوسط في ذلك ما تضمّنه فقه أهل البيتعليهم‌السلام من اقرار الرابح على اربعة اخماس ، واعتبار الخمس الباقي للعناوين الخاصّة.

ان قيل : ان هذا ضرر على الناس لان لكل انسان ان يحصل على ما يشاء من الاموال بأية وسيلة وعلى اي نهج فمنع التملك لمقدار الخمس سلب لهذا الحق.

قيل : انه لم يثبت مثل هذا الحق بشيء من الأَدلة ، فانه ليس مدركاً بالعقل النظري ولا من قضاء الوجدان والضمير الانساني ، ولا مما بنى عليه العقلاء بناءً عاماً ، أما الاولان فواضح واما الثالث فلاختلاف القوانين في حدود قانون الملكية الفردية حسب تقييم العقلاء للمصالح الفردية والاجتماعية وتنبههم لها.

واما تشريع الزكاة : ففيما يتعلق بالغلات الأَربع لا يمكن اعتباره حكماً ضررياً بعد ملاحظة ان شأن الزارع والفلاخ ليس الا اتخاذ بعض

__________________

(١) لسان العرب ٨ / ١٠١ ( ربع ).

٢٢٤

المعدات ، واما التنمية فانما هي بعوامل طبيعية خلقها الله تعالىٰ من الماء والمطر والشمس والجو وصلاحية التربة وغير ذلك حتى ان لبعض الطيور تأثيراً في ذلك بدفع الحشرات الضارة ، وقد اُشير إلى بعض هذه الجهات في سورة الواقعة حيث قال تعالى :( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ *ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ *لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ *إِنَّا لَمُغْرَمُونَ *بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) (١) ومفاده ان عمل الانسان انما يقتصر على الحرث وهو من مقدمات الزرع من كراب الارض والقاء البذر وسقي المبذور ، واما نفس الزرع وهو الإنبات فانه من فعله تعالى بما قدّره من عوامل مختلفة ولولا فعله سبحانه لأَصبح الزرع هشيماً لا يُنتفع به.

وكذلك لا تعتبر زكاة الأَنعام الثلاثة ضرراً بعد ملاحظة اختصاصها بالسائمة منها. وربّما لوحظ في فرض الزكاة عليها بعد حلول الحول عدم اجتماعها لدى صنف خاصّ من الناس وتيسر وقوعها في متناول من يريد اقتناءها لحوائجه الشخصية أو للتنمية.

وهكذا فرض الزكاة في الذهب والفضة المسكوكين مع حلول الحول عليهما ، فإنه ربما كان للزجر عن تجميعها أو غرامة على ذلك بملاحظة انهما كانا في العهد السابق نقداً ، وخاصة النقد كونه ميزاناً للمالية ووسيلة سهلة للتبادل بين الأَمتعة ، ولولاه لكان التبادل بينهما أمراً صعباً ومعرضاً للضرر والغبن وتوفر النقود وتداولها من وسائل ازدهار التجارة ونموها وذلك مورد اهتمام الشارع وعنايته كما لعله احد اسباب تحريم ( ربا الفضل ) ـ كما ذكرناه في بحث الربا ـ.

يضاف إلى ما ذكرنا ما يترتب على تشريع الخمس والزكاة من المصالح

__________________

(١) الواقعة ٥٦ : ٦٣ ـ ٦٧.

٢٢٥

الاجتماعية العامة ـ كما اشرنا اليه أوّلاً ـ بل هذا التشريع مما توجبه العدالة من جهة استفادة الجميع من الجهات العامة التي توفرها الدولة كبناء القناطر وتعبيد الطرق وتحقيق الأمن وغير ذلك.

فظهر ان التدقيق في ( الضرر ) مفهوماً وانطباقاً يوجب دفع دعوى التخصيص بالنسبة إلى جملة من الاحكام التي عدت ضررية بطبعها.

واما الجزء الثاني من هذا الحل ـ وهو تحديد الضرر المنفي ب‍ ( لا ضرر ) ـ فهو يتضمن جهات ثلاث.

الأَولى : ان الضرر المنفي منصرف عن كل ضرر تثبته الأَحكام الجزائية ، وذلك لأن الحكم المولوي لا بُدّ ان يدعمه قانون جزائي يثبت ضرراً على مخالفته سواء كان ضرراً دنيوياً أو اخروياً ، والاّ لم يكن حكماً مولوياً أصلاً بل كان حكماً ارشادياً ، اذ الحكم المولوي ـ على ما اوضحناه سابقاً ـ يتقوّم بما يستبطنه من الوعيد فاذا لوحظ الضرر الذي يولده الحكم الجزائي الذي يندمج في الحكم الشرعي فان الأَحكام الشرعيّة كلها ضررية ، اذ لا فرق في ذلك بين الضرر الدنيوي الذي يثبته مثل قوله سبحانه( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (١) وبين الضرر الاخروي الذي يثبته مثل قوله تعالىٰ :( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) (٢) وعلى هذا فنفي التسبيب إلى الضرر من المقنن إنما ينصرف إلى الضرر الابتدائي على الشخص دون ما كان جزاءاً على مخالفة القانون ، هذا ما ينبغي ملاحظته.

كما ينبغي أن يلاحظ أيضاً ان اضرار الحاكم لا يندرج تحت عنوان

__________________

(١) المائدة : ٥ / ٣٨.

(٢) النساء : ٤ / ١٠.

٢٢٦

( الضرار ) أيضاً لان الضرار بحسب كونه من باب المفاعلة يقتضي ان يكون بمعنى انهاء الضرر إلى الغير المستتبع لنسبة مماثلة من نفس الفاعل أو من الغير ولو بالقوة ، فلا ينطبق ذلك في مورد اضرار الحاكم لأنّه لا يستتبع إضراراً آخر لا من الحاكم لأَنّ عمله محدود بحد قانوني ، ولا من قبل المتضرر لان الحاكم بملاحظة الحماية القانونية له ليس في معرض أن يقع عليه ضرر ممن أجرى عليه الحكم كما هو واضح.

الجهة الثانية : ان الحديث بحسب المراد التفهيمي منه على المختار لا يشمل جملة من الاضرار فان المراد التفهيمي له هو نفي الزام المكلف بتحمل الضرر ، وعليه فلا ينفى الحكم الشرعي فيما لو أقدم المكلف بنفسه على تحمل الضرر كما اذا اشترى شيئاً مع اسقاط جميع الخيارات أو كان عالماً بالغبن أو العيب أو صالح صلحاً محاباتياً أو ألزم نفسه شيئاً بالنذر والعهد واليمين ، ففي مثل ذلك لا يعدّ إمضاء الشارع لما أنشأه المكلف تسبيباً من قبله لتحمل المكلف للضرر ، وانما الشخص هو الذي حمّل نفسه الضرر ابتداءً والشارع انما أقره على ذلك.

ولا يقال : ان المكلف في مورد العلم بالغبن ونحوه وان كان اقدم على الضرر ابتداءً ، لكنه لم يقدم عليه بقاءً وانما الشارع الزمه به بسبب حكمه باللزوم ـ كما ذكره غير واحد من المحققين ـ.

فانه يقال : إن اللزوم ليس حكماً تأسيسياً شرعياً وانما ينتزع من اطلاق المنشأ لما بعد الفسخ في موارد عدم الشرط ولو ارتكازاً ، وإنما الشارع أمضى ما انشأه المنشئ بحدوده.

الجهة الثالثة : إن اقتران ( لا ضرر ) ب‍ ( لا ضرار ) يمنع عن شموله لجملة من الاضرار ، وذلك لان ( لا ضرار ) كما تقدّم بحسب معناه التفهيمي يثبت عدة انواع من الأَحكام الضررية دفعاً لوقوع الاضرار :

٢٢٧

منها : احكام جزائية يستتبعها الاضرار بالمجتمع من قبيل حد السرقة والمحاربة وحد القصاص والتعزير.

ومنها : حق مكافحة الاضرار ولو بانزال الضرر على الغير كما في بعض مراتب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومنها : فروض مالية مقابل الإضرار كضمان الاتلاف وأروش الجنايات والديات التي تفرض على نفس الجاني.

ومنها : أحكام تمهيدية مانعة عن تحقيق الاضرار كحق الشفعة.

فالضرر الذي توجبه هذه الأَحكام غير مشمول ل‍ ( لا ضرر ) لان اقترانه ب‍ ( لا ضرر ) الذي يثبت مثل هذه الأَحكام يكون قرينة متصلة على تحديد مدلوله ومانعة عن شموله لمثل ذلك.

وهكذا يتضح بمجموع ما ذكرناه : عدم اتجاه ما ادعي من لزوم تخصيص الحديث في اكثر مدلوله بناءً على تفسيره بنفي الحكم الضرري.

الطريق الثاني : ـ في جواب الإِشكال ـ ان يقال ان ( لا ضرر ) ليس ظاهراً الا في نفي الحكم الذي ربما يترتب على امتثاله ضرر ، دون ما كان بطبعه ضررياً من قبيل الموارد المذكورة كالخمس والزكاة والحج وغيرها ، فهي خارجة عن مصب الحديث تخصصاً ، وذلك بأحد وجوه :

الوجه الأول : ما ذكره المحقق النائيني من ان قاعدة ( لا ضرر ) ناظرة إلى الأَحكام ومخصّصة لها بلسان الحكومة ، ولازم الحكومة ان يكون المحكوم بها حكماً لا يقتضي بطبعه ضرراً لأنّه لو اقتضى بطبعه ضرراً لوقع التعارض بينهما(١) .

وتوضيحه : ان قاعدة ( لا ضرر ) انما سيقت للحكومة على الأَدلة

__________________

(١) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني ص ٢١١.

٢٢٨

الواقعية ولا معنى للحكومة بالنسبة إلى الادلة التي تثبت أحكاماً ضررية بحسب طبعها ، لان النسبة بين ( لا ضرر ) وبينها هي التباين. والحكومة التضييقية ـ كالتخصيص ـ لا تعقل إلا مع كون النسبة بين الدليلين عموماً من وجه أو عموماً مطلقاً ، فإنها لا تفترق عن التخصيص الا بحسب اللسان حيث ان لسان الحكومة هو لسان مسالمة مع الدليل الآخر ، ولسان التخصيص لسان معارضة معه والا فهما يشتركان في المحتوى وهو تحديد حجية الدليل الآخر ؛ ولذلك لا تعقل الحكومة الا في مورد يعقل فيه التخصيص وبما ان التخصيص لا يعقل في مورد كون النسبة هي التباين فانه لا تعقل الحكومة معها ايضاً.

وليس المقصود بذلك أن كل مورد لم يحكم فيه بالتخصيص لا يحكم فيه بالحكومة ، اذ في بعض موارد العامين من وجه يلتزم بحكومة أحدهما على الآخر ولا يلتزم بتخصيصه به بل يتعارض الدليلان في المجمع فيتساقطان ، وإنّما المراد أن كل ما لا يعقل فيه التخصيص لا تعقل فيه الحكومة.

ويرد علىٰ ذلك أوّلاً : انّه لم يثبت كون ( لا ضرر ) مسوقاً للحكومة علىٰ الأدلة الأُخرىٰ ابتداءً حتىٰ يقال بموجبه انّه ناظر إلىٰ خصوص الأدلة التي تثبت بإطلاقها أو عمومها حكماً ضررياً ، لطرو عوارض خارجيّة ، ويحدّد مفاده بنفي الحكم الذي لا يكون بطبعه ضررياً ، بل الظاهر منه هو نفي التسبيب إلىٰ تحمل الضرر مطلقاً سواء كان الحكم المسبّب إلىٰ الضرر موجباً له بالذات أو بعروض عارض ، بل شموله للأول أوضح لأنّه أجلىٰ الأفراد فيكون إخراجه منه تخصيصاً في مفاده ويعود الإشكال.

وثانيا : انّ مبناه في تقريب نفي الحديث للحكم الضرري هو جعل الضرر عنواناً للحكم فيكون مصب النفي في الحديث نفس الحكم مباشرة ، وعلىٰ هذا المبنى لا يمكن اعتبار ( لا ضرر ) حاكماً علىٰ الأدلة الأوليّة ـ علىٰ

٢٢٩

ما سيتضح في التنبيه الثالث ـ لأنّ لسان نفي الحكم المثبت للموضوع في الدليل الآخر لسان معارضة مع لسان ذاك الدليل ، فإنّ الدليل يثبت الحكم للموضوع و ( لا ضرر ) ينفي ذلك الحكم عن موضوعه ولا معنىٰ للحكومة في مثل ذلك.

نعم يمكن تصوير الحكومة علىٰ المختار في مفاد الحديث من أنّه ينفي التسبيب الشرعي إلىٰ تحمل الضرر فيكون نفياً للتسبيب بالحكم الضرري بلسان نفي الضرر كناية ، لكن هذا اللسان إنما ينتج تقديم الدليل فيما أمكن الجمع الدلالي بينه وبين الدليل الآخر ليكون هذا حاكماً وذاك محكوماً به ، وذلك كما في مورد يكون ( لا ضرر ) فيه أخص من الدليل الآخر ولو في الجملة ، وأمّا إذا لم يمكن الجمع الدلالي بينهما بذلك بأن كانت النسبة بينهما هي التباين ـ كما هو الحال في مورد ( لا ضرر ) مع أدلة الأحكام الضررية بحسب طبعها ـ فلا وجه لتقدم الدليل الوارد بهذا اللسان علىٰ غيره كما هو واضح.

الوجه الثاني : ما عن السيد الأُستاذ (قده) من أن ( لا ضرر ) إنّما هو ناظر إلىٰ العمومات والاطلاقات الدالة علىٰ التكاليف التي قد تكون ضررية وقد لا تكون ضررية فيحدّدها بما إذا لم تكن ضررية ولا يتعرض للتكاليف التي هي بطبعها ضررية ، والشاهد علىٰ ذلك ان وجوب الحج والجهاد وغيرهما من الأحكام الضررية كانت ثابتة عند صدور هذا الكلام من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قضيّة سمرة ، ومع ذلك لم يعترض عليه أحد من الصحابة بجعل هذه الأحكام الشرعيّة(١) .

ويرد علية : أولاً : ان الاستشهاد يبتني علىٰ تصوّر أن الصحابة جميعاً

__________________

(١) لاحظ الدراسات ص ٣٣٢.

٢٣٠

فهموا مغزىٰ هذا الحديث علىٰ النحو الذي استظهرناه ، مع أن الشواهد المختلفة تدلّ علىٰ انّ أكثرهم لم يكونوا بهذه المنزلة ، وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبته التي خطبها في مسجد الخيف ـ وقد نقلها الفريقان ـ ( نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه ، يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب ، فربّ حامل فقه ليس بفقيه ، وربّ حامل فقه إلىٰ من هو أفقه منه )(١) . وفي الحديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( وليس كل أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسأله الشيء فيفهم وكان منهم من يسأله ويستفهمه ، حتىٰ أنهم كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتىٰ يسمعوا )(٢) . بل كانت معرفتهم بالقرآن كذلك وقد أوضحنا ذلك في بعض مباحث حجية ظواهر الكتاب ومقدمة بحث حجية خبر الواحد وذكرنا جملة من شواهد ذلك من روايات الفريقين.

وثانيا ً : انّه علىٰ تقدير فهمهم لمعنىٰ الحديث وثبوت عدم اعتراضهم أو سؤالهم أو بدعوىٰ أنّه لو كان لَنُقِلَ ـ لِتَوّفر الدواعي علىٰ نقله ـ فمن الممكن أن يكون الوجه في ذلك تنبّه فقهاء الصحابة للطريق السابق في حل الاشكال من عدم نفي ( لا ضرر ) لكل ضرر من جهة عدم صدق الضرر في كثير من هذه الموارد علىٰ ما سبق توضيحه. وما يبقى منها ـ من موارد قليلة ـ فإنّه ربما خصّص الحديث بالنسبة إليها لأنّ الخاص حيث وجد يتقدم علىٰ العام ، وإن كان يدور بين أن يكون ناسخاً أو مخصّصاً إلا انّه يحمل علىٰ الثاني بحسب المتفاهم العرفي ، فيمكن أن يكون الوجه في عدم اعتراضهم

__________________

(١) جامع احاديث الشيعة ١ / ٢٢٩ / ح ٣٤٧.

(٢) جامع احادبث الشيعة ١ / ١٦ / ح ٦٢.

٢٣١

بذلك تنبههم لهذا النحو من الجمع العرفي ولا شهادة في عدم الاعتراض بنفسه علىٰ اختصاص الضرر المنفي بما كان طارئاً.

وربما كان مقصوده بهذا الكلام ما يأتي في الوجه الثالث.

الوجه الثالث : ما يبتني علىٰ جهتين :

الأُولى : ان مورد هذه الكبرىٰ في قضية سمرة إنّما كان هو الضرر الطارئ لأن ملكية النخلة في ملك الغير تستتبع حق الاستطراق إليها متىٰ شاء مالكها ، كما ورد في الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه قضىٰ في رجل باع نخله واستثنىٰ نخلة فقضىٰ له ( بالمدخل إليها والمخرج منها ومدى جرائدها )(١) إلاّ أن عموم هذا الحق في مورد قضية سمرة للدخول بدون الاستئذان كان ضرراً علىٰ الأنصاري ، لأنّ البستان ـ الذي كانت فيه النخلة ـ كان محل سكناه وسكن أهله ، فكان الدخول بدون استئذان موجباً لهتك حرمتهم. وعلىٰ هذا : فالضرر الطارئ هو القدر المتيقن من مفاد الحديث لكونه مورداً لالقائه في جهته.

والجهة الأُخرىٰ : انَّ الأحكام التي هي بطبعها ضررية كانت من مشهورات أحكام الإسلام وحيث ان الصحابة كانوا حديثي عهد بالإسلام فكانوا يحسّون بثقل ذلك ومشقته ، ولم ينقل عن أحد منهم تصور شمول الحديث لهذه الأحكام ، فكان ذلك قرينة متصلة للكلام علىٰ أن المنفي شرعاً إنما هو خصوص الضرر الطارئ فلا ينعقد له ظهور في العموم.

التنبيه الثالث : في وجه تقديم ( لا ضرر ) علىٰ ادلة الأحكام الاولية.

وقد ذكر في ذلك وجوه كثيرة الا أن المشهور بين المحققين أنّه على نحو الحكومة التضييقية وهو الصحيح ، وحيث شاع لديهم التعرض لحقيقة

__________________

(١) الوسائل كتاب التجارة ابواب احكام العقود ١٨ / ٩١ / ح ٢٣٢١٩.

٢٣٢

الحكومة في المقام فلا بأس بالبحث عنها أوّلاً ، فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأَوّل : في حقيقة الحكومة التضييقية.

ويلاحظ انَّ الحكومة تُطلق على معنيين فتارة يراد بها الخصوصية التي توجد في الدليل الحاكم التي توجب تقديمه على الدليل الآخر متى لم يكن هناك مانع من ذلك ، وبهذا المعنى تعد الحكومة من المزايا الدلالية لأحد المتعارضين. واُخرى يراد بها التحكيم وهو العلاج الخاص بين الدليلين المتعارضين حيث يكون احدهما بأسلوب الحكومة كما يراد بالتخصيص أيضاً نوع علاج خاص بين العام والخاص أو العامّين من وجه وحقيقة هذا العلاج الحكم بأوسعية مقام الاثبات عن مقام الثبوت في الدليل الآخر تقديماً للدليل المتضمن لاسلوب الحكومة ، فيقابل النسخ وغيره من وجوه التقديم. وهذا المعنى من شؤون المعنى الأَوّل وآثاره ، ونحن نبحث أوّلاً عن حقيقة الحكومة بالمعنى الأول ثم نتعرض لوجه تقديم الحاكم على المحكوم وكيفيته وشرائطه. وذلك في ضمن جهات :

الجهة الأولى : في ذكر تقسيمات الحكومة ومحل البحث من اقسامها :

التقسيم الأَوّل : ان محتوى الدليل ـ بحسب المراد الاستعمالي ـ يكون على أحد نوعين :

١ ـ ان يكون محتواه اعتباراً ادبياً تنزيليّاً وذلك من قبيل اثبات الحكم بلسان اثبات موضوعه أو نفيه بلسان نفيه كأن يقال بعد الأمر باكرام العلماء مثلاً ( المتقي عالم ) و ( الفاسق ليس بعالم ) فان الأَوّل يثبت وجوب الاكرام للمتقي بلسان تحقّق موضوع الوجوب وهو العالم ، كما أن الثاني ينفي وجوب الاكرام عن العالم الفاسق بلسان نفي تحقّق موضوعه. ومن الواضح ان اندراج المتقي تحت العالم وخروج العالم الفاسق عنه اعتبار ادبي تنزيلي.

٢٣٣

وسيجيء توضيح هذا القسم في التقسيم الثاني.

٢ ـ ان يكون محتواه اعتباراً حقيقياً متأصلاً. وقد يمثل لذلك بحكومة الامارات على الأَحكام التي اخذ العلم أو عدمه حداً لها كالاصول العملية وذلك على القول بأن مفاد ادلة حجية الامارات ـ كخبر الثقة أو الخبر الموثوق به ـ هو تتميم كشفها باعتبارها علماً. وذلك ليس على سبيل التنزيل والاعتبار الأَدبي ليكون تقدمها على الأصول العملية ونحوها على نحو الحكومة التنزيلية ، وإنما على سبيل الاعتبار المتأصل بملاحظة أن للعلم عند العقلاء قسمين : قسما تكوينياً وقسما اعتبارياً وقد أمضى الشارع ـ بما انه رئيس العقلاء ـ العلم الاعتباري العقلائي.

فعلى هذا الرأي اذا فسرنا عدم العلم المأخوذ في موضوع جريان الأَصل مثلاً ك‍ ( رفع ما لا يعلمون ) بعدم العلم التكويني وقامت امارة كخبر الثقة على الحرمة فان هذه الحالة تخرج عن حدود الأَصل بنحو الحكومة ، لأَن العقلاء يرون انفسهم عالمين علماً قانونياً فلا يجدون انفسهم مشمولين ك‍ ( رفع ما لا يعلمون ) رغم تفسير العلم بالعلم التكويني.

ولا يمكن اعتبار ذلك من قبيل الورود لتوقف الورود على انتفاء الموضوع في الدليل الأَوّل وجداناً بمؤونة من التعبد ، وعدم العلم التكويني الموضوع في دليل الأَصل حسب الفرض لا ينتفي وجداناً بوجود علم اعتباري ( نعم ) لو كان موضوع الأَصل عدم العلم الجامع بين العلم التكويني والعلم الاعتباري ، لكان تقدّم الامارة عليه بنحو الورود لانتفاء الموضوع حينئذٍ حقيقة بمعونة الاعتبار.

ويلاحظ : ان هذا النوع من الحكومة تترتب عليه آثار التضييق والتوسعة معاً فانه يوجب تضييق الدليل المحكوم بحسب المراد التفهيمي ، ان كان موضوعه كالأَصل عدم الماهية ، وتوسعته ان كان موضوعه وجود

٢٣٤

الماهية كما في جواز الاخبار عما يعلم ونحوه.

هذا الا ان ثبوت هذا النوع من الحكومة محل تأمل.

وعلى تقديره فهو خارج عما هو المقصود بالبحث في المقام فان ( لا ضرر ) ليس بمندرج في هذا القسم.

وتحقيق القول في هذا القسم من الحكومة ( في وجه تقديم الامارات على الأصول ) قد تعرضنا له في محلّه من علم الاصول.

التقسيم الثاني : ان مفاد الدليل الحاكم اما توسعة في الدليل المحكوم أو تضييق فيه ، وبهذا الاعتبار تنقسم الحكومة إلى قسمين :

١ ـ الحكومة على نحو التوسعة. وهي في الاعتبارات الأَدبية عبارة عن تنزيل شيء منزلة شيء آخر ليترتب عليه الحكم الثابت لذلك الشيء ، اثباتاً للحكم بلسان جعل موضوعه. واختيار هذا الاسلوب من قبل المتكلم قد يكون لأَجل إثارة نفس الاهتمام الثابت للحكم الأَوّل من جهة تكراره والتأكيد عليه بالنسبة إلىٰ الحكم الثاني ، فيعدل المتكلم عن الاسلوب الصريح إلى هذا الاسلوب الذي يظهره بيان حدود موضوع الحكم الأَوّل استغلالاً للتأثير النفسي الثابت للمنزل عليه لتحقيق مثله بالنسبة إلى المنزل.

ومثال ذلك : ما ورد من ان الفقاع خمر فان اعتبار الفقاع خمراً تنزيلاً إنما يقصد به تفهيماً كونه حراماً أيضاً كالخمر ، ولكن اختير هذا التعبير بدلاً عن أن يقال ( ان الفقاع حرام ) لكي يوجد تجاهه نفس الاحساس الموجود تجاه الخمر ، لأَنّ الخمر من جهة التشديدات المؤكدة حولها قد اكتسبت طابعاً خاصاً من المبغوضية والحرمة ، واعتبار الفقاع خمراً يثير في نفس المخاطب نفس الاحساس الموجود تجاه الخمر بالنسبة اليه.

وما ذكرناه هو النكتة العامة في الاعتبارات الأَدبية من قبيل اعتبار زيدٍ اسداً ، فان العدول عن التصريح بشجاعته في ذلك انما هو لاثارة نفس

٢٣٥

المشاعر التي يثيرها عنوان الاسد عند المخاطب تجاه زيد ، وقد أوضحنا ذلك في بعض مباحث الأَلفاظ في علم الاصول.

وهذا القسم أيضاً ليس بمقصود بالبحث فان ( لا ضرر ) ليس من هذا القبيل بالنسبة إلى ادلة الأَحكام.

٢ ـ الحكومة على نحو التضييق. وهي ان يكون مؤدى الدليل الحاكم تحديد ثبوت الحكم لموضوعه نافياً لتصورثبوته له بنحو عامّ ، وذلك كأن ينفي موضوع الحكم أو متعلقه بغرض نفي نفس الحكم على سبيل الكناية كقولهعليه‌السلام : ( لا ربا بين الوالد والولد ) فان المقصود من نفي الربا هو نفي حرمته لا نفي حقيقته ولكنه تعرض لذلك بلسان نفي الموضوع على نحو الكناية دون التصريح.

وهذا القسم هو المقصود بالبحث في المقام.

الجهة الثانية : في أقسام الحكومة التنزيلية. ومواردها واختلاف مؤدى الدليل الحاكم بحسبها.

ان الحكومة التنزيلية تنقسم إلىٰ قسمين :

الأَوّل : ان يكون بلسان الاثبات ومفاده اعطاء شيء حدّ شيء اخر وتنزيله منزلته ، كما اذا قام الدليل على ان ( ولد المسلم مسلم ) فان الإسلام بما انه عبارة عن عقيدة خاصة فلا يتصف به غير المميّز ، ولكن الدليل المذكور ينزِّل ولد المسلم منزلة المسلم فيضيق دائرة الدليل الدال على ان غير المسلم نجس مثلاً.

الثاني : ان يكون بلسان النفي ، وهو الأَكثر تداولا في الأَدلة.

وللنفي التنزيلي ـ باعتبار مصبّه ـ موارد يختلف بحسبها نوع المراد التفهيمي من الدليل الحاكم :

١ ـ ان يكون المنفي موضوعاً لدى العقلاء لاعتبار متأصّل كالعقود

٢٣٦

والايقاعات. والمراد التفهيمي بنفي الطبيعي في ذلك نفي الآثار القانونية التي ينشأ المعنى بداعي ترتيبها ، كحصول الفراق بالطلاق ، واذا كان المنفي حصة من الطبيعي الموضوع للحكم كقوله : ( لا طلاق إلا باشهاد ) كان مقتضاه اشتراط ترتب تلك الآثار بحصول الشرط المذكور.

٢ ـ ان يكون المنفي موضوعاً لأحكام شرعية ك‍ ( لا شك لكثير الشك ) و ( لا شك للامام مع حفظ المأموم ) والمراد التفهيمي بنفي الطبيعي في ذلك عدم ترتب ذلك بالنسبة إلىٰ الحصة الخاصّة.

٣ ـ ان يكون المنفي متعلقاً للحكم ك‍ ( لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ) و ( لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة ) ، و ( لا ربا بين الوالد والولد ) والمراد التفهيمي بنفي الطبيعي في ذلك نفي ثبوت الحكم لها ايجاباً أو تحريماً ، ومرجعه إلى اشتراط المتعلّق بالشرط المذكور.

٤ ـ أن يكون المنفي نفس الحكم الشرعي كما في ( كل شيء لك حلال ) و ( رفع ما لا يعلمون ) بناء على كون ( ما ) كناية عن الحكم الواقعي ، اذ لا يراد بمثل هذه الأَلسنة التصويب ودوران الاحكام مدار علم المكلف وجهله ، ولا ثبوت حكم ظاهري في مورد الجهل بالحكم الواقعي ـ كما عليه كثير من الاصوليين ـ بل مفادها عدم ترتب اثر الحكم ، كاستحقاق العقوبة على مخالفته في ظرف الجهل بوجوده ارشاداً إلى عدم كون الحكم بحد من فسّر بحيث يكون احتمال وجوده منجزاً له. وقد أوضحنا ذلك في مبحث اصالة البراءة.

٥ ـ ان يكون المنفي انتساب المعنى إلى المكلّف ـ كما في حديث الرفع ـ اذا كانت ( ما ) كناية عن الفعل دون الحكم ، وذلك بناءً على المختار من أنه لا يعني رفع الفعل في حدّ نفسه ، ولذلك لا يرتفع الحكم فيما كان الأَثر مترتباً على نفس الفعل من دون اعتبار صدوره من الفاعل ، كما لو القى

٢٣٧

النجس في الماء عن اكراه ، فإنه ينجس الماء حينئذٍ لكون نجاسة الماء اثراً لنفس الملاقاة بالمعنى اسم المصدري. وانما المقصود بذلك نفي انتسابه إلى المكلف فيرتفع الأَثر المترتب على ذلك كبيع المكره وطلاقه.

٦ ـ ان يكون المنفي طبيعة توهم تسبيب الشارع إلى تحقّقها سواء كانت متعلقاً للحكم أو معلولاً له في وعاء الخارج ، من قبيل ما لو قيل : ( لا حرج في الدين ) فان الحرج ليس متعلقاً للحكم ، وانما هو امر يترتب علىٰ الحكم فيكون المقصود بنفي الطبيعة حينئذٍ نفي جعل الحكم المؤدي اليها ، ولكن عبر عن نفيه تنزيلاً بنفي تحقّق الطبيعة خارجاً.

هذه هي موارد النفي التنزيلي وما ذكرناه انما هو خصوص ما كان منها من قبيل الحكومة ، بأن كان نظر المتكلم في نفيه التنزيلي للمعنى إلىٰ فكرة مخالفة لمؤدى الكلام ـ على ما هو معيار الحكومة على التحقيق كما يأتي ـ.

وهناك مورد سابع لا يندرج في الحكومة وهو حيث يستفاد منه الزجر والتحريم المولوي من قبيل قوله تعالى :( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِّ ) (١) وضابطه ـ كما يظهر مما تقدّم ـ أن يكون مصب النفي طبيعة تكوينية ذات آثار خارجيّة يرغب المكلفون فيها لانسجامها مع القوى الشهوية أو الغضبية للنفس ، من دون ان يكون هذا الخطاب مسبوقاً بحكم مخالف له ولو توهماً كالأمر بعد الحظر أو بعد توهمه.

ووجه عدم اندراج هذا المورد في الحكومة كونه مقيداً بعدم سبق حكم مخالف له ولو توهماً ، ومع هذا القيد لا يمكن ان يتوفّر فيه الشرط السابق من نظر المتكلم إلى فكرة مخالفة ، ووجه تقييده بذلك انه لو سبق الخطاب حكم آخر ، كان مفاده هدم ذلك الحكم ونفي التسبيب إلى الطبيعة ، فيندرج حينئذٍ

__________________

(١) البقرة : ٢ / ١٩٧.

٢٣٨

في المورد السادس من الموارد السابقة.

ويلاحظ ان سرّ اختلاف المحتوى في اكثر هذه الموارد قد تقدّم ايضاحه مفصّلاً في ذكر الضابط العامّ لاختلاف محتوى صيغ الحكم عند ذكر المسلك المختار في الحديث ، ويظهر الحال في الباقي أيضاً على ضوء ذلك.

هذا وهناك تقسيم اخر لموارد الحكومة يتردّد في كلمات المحقق النائيني ومن وافقه(١) وملخصه : ان الدليل الحاكم على قسمين :

١ ـ ان يكون شارحاً لعقد الوضع من الدليل المحكوم ، والمراد بعقد الوضع ما يعمّ موضوع الحكم ومتعلقه كحديث ( لا ربا بين الوالد والولد ) بالنسبة إلى دليل حرمة الربا وفساده ، فان الربا متعلق للحرمة وموضوع للفساد.

٢ ـ ان يكون شارحاً لعقد الحمل منه ـ وهو الحكم ـ ومثّل له ب‍ ( لا ضرر ) بناءً علىٰ مختاره (قده) من ان الضرر عنوان ثانوي للحكم ، وقد ذكر أن هذا القسم اظهر افراد الحكومة ، لأن هدم الموضوع يرجع بالواسطة إلى التعرض للحكم.

ولكن هذا التقسيم غير تامّ.

اما أوّلاً : فلانّ كون القسم الثاني من قبيل الحكومة مبني على مبناه من ان مناط الحكومة هو النظر إلى دليل آخر ، وأما على المختار من ان مناطه ان يكون لسان الدليل لسان مسالمة مع العامّ فلا يكون منها لان لسان الدليل في هذا القسم لا محالة لسان معارضة ، لأنّه ينفي ما يثبته العامّ صريحاً ، مع ان التمثيل لهذا القسم بحديث ( لا ضرر ) انما يتجه على مبناه وهو غير تام

__________________

(١) لاحظ رسالة ( لا ضرر ) تقريرات المحقق النائيني : ٢١٣ وفوائد الأصول ٤ : ٥٩٢ ـ ٥٩٣ مفصلاً ، وأجود التقريرات ٢ : ١٦٢ ـ ١٦٣ و ٥٠٥ ـ ٥٠٧ ، ومصباح الأصول ٢ / ٥٤١ ـ ٥٤٢.

٢٣٩

كما مرّ ، وسيتضح القول في ذلك تفصيلاً.

وامّا ثانياً : فلان القسمة غير حاصرة ، إذ لا يشمل مثلاً ما اذا كان الدليل الحاكم متعرضاً لنفي ما يكون معلولاً للحكم في الخارج ك‍ ( لا حرج في الدين ).

الجهة الثالثة : في حقيقة الحكومة التضييقية مع المقارنة بينها وبين التخصيص.

ان الصفات التي يتصف بها الدليل ـ كالحكومة والورود والتزاحم والتعارض ـ تنقسم إلى قسمين :

ففئة منها يتصف بها الدليل بلحاظ محتواه ـ أعني مدلوله التفهيمي ـ كحالة التعارض والورود ، فانّ التعارض مثلاً ليس الاّ حالة تصادم بين المدلولين التفهيميين للدليلين ، ولذا لا يتحقق التعارض بين قولين يتحد المدلول التفهيمي لهما وان اختلف المراد الاستعمالي فيهما ك‍ ( زيد جواد ) و ( زيد كثير الرماد ) وكذلك الورود فان ورود احد الدليلين على الآخر انما هو باعتبار واقع مؤداه من غير اعتبار باسلوب الدليل.

وهناك فئة اُخرى يتصف بها الدليل بلحاظ أسلوبه ولسانه في التعبير عن المعنى ، لا بلحاظ واقع مؤداه ومحتواه ، ولذلك يمكن ان يتصف الدليلان المتماثلان في المحتوى بوصفين متقابلين من هذه الفئة لمجرد الاختلاف في الاسلوب.

ومن هذه الفئة على ما نراه هي الحكومة والتخصيص.

فحقيقة الحكومة إنما هي تحديد العموم بأسلوب مسالم معه وهو اسلوب التنزيل والكناية ـ الذي هو اداء للمعنى بلسان غير مباشر ـ كنفي الملزوم استعمالاً مع ارادة نفي ما يتوهّم لازماً له. وانما كان ذلك اسلوب مسالمة لأنّ الدليل الحاكم الذي يصاغ بهذا الاسلوب لا يمثل محتواه

٢٤٠

المعارض للعام المحكوم ـ بلسان معارض معه ـ بأن يثبت ما نفاه العامّ أو ينفي ما أثبته ، وانما يؤدي ذلك بلسان منسجم معه حيث يمثل نفسه على انه بيان لحدود الموضوع وعدم تحققه في المورد ـ مثلاً ـ ليتمثل انتفاءً الحكم في المورد انتفاءً طبيعياً باعتبار عدم تحقّق موضوعه ، فهو يتضمن نحواً من الالتواء وعدم الصراحة في أداء المعنى.

وحقيقة التخصيص على العكس فإنها عبارة عن تحديد العموم بأسلوب معارض معه وهو اسلوب الصراحة بأن ينفي ما يثبته العام أو يثبت ما ينفيه صريحاً ، من غير أن يلجأ إلى طريقةٍ غير مباشرة كان ينفي الموضوع لينتهي بذلك إلى نفي الحكم ، فالدليل المخصص ـ على خلاف الحاكم ـ يعكس معارضة محتواه مع العموم فيكون مفاده استعمالاً موافقاً لما يراد به تفهيماً من دون لف ودوران في عرض المعنى.

وبذلك يظهر ان الحاكم والمخصص أسلوبان مختلفان في أداء المعنى الواحد وتفهمه فقول الشارع ( لا يجب اكرام العالم الفاسق ) وقوله ( العالم الفاسق ليس بعالم ) كلاهما يدلان على معنى تفهيمي واحد وهو عدم وجوب اكرام العالم الفاسق ، لكنهما يختلفان في المراد الاستعمالي أي في اسلوب التعبير عن نفي الحكم حيث يؤديه الأَوّل صراحة والثاني على نحو الكناية من غير تصريح ، وذلك تفنن أدبي في اساليب إبراز المعنى الواحد.

هذا ولكن هناك اتجاه آخر في حقيقة الحكومة هو المعروف بين الاصوليين ، وهو ان قوام الحكومة بنظر أحد الدليلين إلى الدليل الآخر وسوقه قرينة شخصية لبيان المراد من ذلك الدليل سواء كان ذلك بلسان التنزيل كما في نفي الحكم بلسان نفي موضوعه أم لا كما لو جعل الحكم المضاف إلى العام منفياً عن حصّة أو فرد من الموضوع كأن يقال ( وجوب إكرام العلماء غير ثابت للفاسق أو لزيد ) لان هذا اللسان ناظر إلى اثبات الحكم للعامّ.

٢٤١

ولكن هذا الاتجاه ليس بصحيح عندنا وتوضيحه : ان لكل باب مورداً متيقناً له ، يكون أساساً في تحليل ذلك الباب ومأخذاً لملاكه وتحديده ، كموارد قصور القدرة اتفاقاً بالنسبة إلى باب التزاحم مثلاً ، فكل تحليل لأي باب إنما يصح ـ بعد تمامية تصوّره في حدّ نفسه ـ اذا أمكن شموله للمورد المتيقن للباب ، ولا ضير بعد ذلك لاندراج موارد أُخرى تحت الباب وعدم اندراجها ، والاّ لم يكن تحليلاً لذلك الباب وانما يكون تحديداً لظاهرة اُخرى.

وموارد التنزيل بالنسبة إلى الحكومة من هذا القبيل فانها هي القدر المتيقن لها فلا يصح أي تحليل للحكومة الاّ اذا تم اندراج موارد التنزيل فيه وليس بامكان احد أن ينكر تحقّق الحكومة في موارد نفي الحكم بنفي موضوعه من قبيل قوله ( العالم الفاسق ليس بعالم ) مثلاً.

والاتجاه المذكور غير قادر على ذلك ، لان لسان التنزيل لا يقتضي نظراً إلى دليل آخر أصلاً لا بالمطابقة ـ كما هو واضح ـ ولا بالالتزام ، لأَن دلالته عليه بالالتزام انما تتم لو كانت صحة هذا اللسان لغة أو بلاغة تقتضي نظره إلى دليل آخر ، وليس الأَمر كذلك ، فان صحة هذا اللسان لغة انما تتوقف على وجود تناسب بين المعنى الاستعمالي والمراد التفهيمي ـ كما هو شأن كل اعتبار ادبي ـ ولا تعلق لذلك بالنظر إلى دليل آخر. كما ان صحته بلاغة ـ بمعنى النكتة المصححة للعدول إلى هذا اللسان من اللسان الصريح ـ انما هي الحذر من مواجهة احساسات المخاطب ضد الكلام حيث يكون ثبوت الحكم لموضوعه بنحو عامّ مرتكزاً في ذهنه ولا أهمية لوجود دليل آخر وعدمه في ذلك. وسوف يتضح هذا من خلال التعرض للمصحح اللغوي والبلاغي لهذا اللسان ، ثم سنعود إلى بيان الموضوع بعد ذلك تفصيلاً.

الجهة الرابعة : في المصحّح اللغوي للسان التنزيل

٢٤٢

ان الاعتبار التنزيلي اعتبار أدبي يختلف فيه العنصر المعنوي عن العنصر الشكلي للكلام وكل اعتبار أدبي بحاجة إلى مصححين لغوي وبلاغي.

١ ـ فالمصحح اللغوي : هو العلاقة والتناسب بين المعنى الاعتباري ( المجازي ) والمعنى الحقيقي ، وذلك انه كلما عبّر عن معنى خاص بعنصر شكلي يختلف عنه فإنه لا بُدّ من تسانخ وتناسب بين الأمرين ليصح بذلك التعبير عن المعنى المراد بالشكل الخاص ، وبدون توفر ذلك لا يصح استعمال اللفظ في التعبير عن المراد لغة بل يكون خطأ وقد تعرضنا لمصحّح الاستعمال المجازي وحدوده بنحو عام في مباحث الألفاظ.

٢ ـ والمصحح البلاغي : ـ وقد يعبّر عنه بالنكتة البلاغية أو وجه العدول عن التعبير الحقيقي ـ وهو الجهة التي توجب اداء المعنى بنحو الاعتبار الأَدبي دون التصريح ، وذلك لان العدول عن التعبير الحقيقي وان كان يصح لغة من دون نكتة لوجود المصحح اللغوي للاستعمال ، الاّ أن مقتضى البلاغة اختيار التعبير الصريح في اداء المعنى ما لم يوجد دافع لاستعمال التعبير المجازي.

ويتضح الفرق بين المصححين في المثال الآتي :

اذا عبرنا عن زيد بالأَسد ، فالمصحح اللغوي لهذا التعبير هو التشابه بينهما في صفة الشجاعة ولكن المصحح البلاغي لذلك هو قصد تحقيق نفس الإحساس الموجود تجاه الأَسد بالنسبة إلى زيد.

والمصحح اللغوي لاسلوب التنزيل هو احدى نكتتين :

١ ـ النكتة الأولىٰ : التناسب الكائن بين التسبيب إلى عدم تحقّق الطبيعة في الخارج وبين المفاد الاستعمالي لصيغة النفي من انتفائها خارجاً ، فحيث كان المعنى المراد مصداقاً للتسبيب إلى عدم تحقّق الطبيعة صحّ ان

٢٤٣

يكون محتوىً لصيغة النفي على اساس التناسب المذكور. وأوضح مصداق للتسبيب إلى ذلك هو تحريم الطبيعة تحريماً مولوياً لا سيّما اذا انضم إلى ذلك تشريع اتخاذ وسائل اجرائية للصدّ من تحققها خارجاً كما هو مفاد مقطع ( لا ضرار ) من حديث ( لا ضرر ولا ضرار ) على ما سبق توضيحه.

ولكن لا ينحصر مصداقه بذلك ، بل يتحقق في الموارد التالية أيضاً :

١ ـ فصل الماهية الاعتبارية عن اثارها الوضعية التي تترتب عليها عقلاءً ـ كما في المورد الأَوّل من الموارد السابقة للنفي التنزيلي ، فهذا المعنى يكون مصداقاً للتسبيب إلى عدم الماهية خارجاً باعتبار ان مطلوبية مثل هذه الماهيات كالعقود والايقاعات ليست لذاتها ، بأن تكون في حدّ انفسها مما يدعو اليها قوة نفسية للانسان ـ كالغضب والشهوة ـ وانما هي لأجل تلك الآثار التي تترتب عليها فاذا فصلت عنها كان ذلك موجباً لزوال الرغبة ومؤدياً إلى انتفاء الماهية خارجاً.

ولأجل ذلك قلنا فيما تقدّم ان استعمال صيغة النهي في مثل هذا المورد ليس مجازاً لان فصل الطبيعة عن آثارها يوجب انزجار المكلف عنها بالامكان فيكون الزجر عنها زجراً حقيقياً طبعاً.

٢ ـ تحديد الماهية التي هي متعلق للأَمر المولوي ـ كما في المورد الثالث من الموارد السابقة للنفي التنزيلي ـ.

وهذا المعنى أيضاً يكون مصداقاً للتسبيب إلى عدم تحقّق الماهية ، وذلك من جهة ان الرغبة إلى الماهية في هذا المورد أيضاً ليست لذاتها وانما لأَجل امتثال الأَمر وتفريغ الذمة عن المأمور به ، فاذا حدد الشارع الماهية المأمور بها وأخرج منها حصة خاصة كان ذلك موجباً لزوال الرغبة عن تلك الحصة ومؤدياً إلى انتفائها خارجاً.

ولذلك أيضاً قلنا بان استعمال صيغة النهي في هذا المورد ليس مجازاً

٢٤٤

ـ نظير ما سبق في المورد السابق ـ بنفس النكتة.

ويجمع هذين الموردين أمران :

أوّلاً : ان كون محتوى النفي فيهما مصداقاً للتسبيب إلى عدم الماهية انما هو على أساس استلزامه لانتفاء السبب إلى تحقّق الماهية حيث كانت الرغبة اليها لا لنفسها وانما لجهة خاصة فأوجب محتوى النفي زوالها.

وثانياً : ان التسبيب فيهما تسبيب حقيقي ولو عرفاً ـ على خلاف المورد الثالث الآتي ـ وذلك من جهة ان إعدام العلّة سبب لعدم معلولها ، ومحتوى النفي فيهما موجب لعدم العلّة في تحقّق الماهية ـ وهي الباعث عليها والمرغب فيها ـ.

١ ـ هدم الحكم الموجب لتحقق الماهية التي هي مرغوب عنها في حدّ نفسها ، وفي قوّة الهدم بيان عدم وجود مثل هذا الحكم حيث يتوهّم أو يحتمل وجوده ، وذلك كما في المورد السادس من الموارد السابقة للنفي التنزيلي.

وهذه الجهة أيضاً مصداق للتسبيب إلى عدم تحقّق الماهية لأَن الماهية حيث كانت مرغوبة عنها لذاتها لم يكن هناك سبب لإيجادها ، الا ثبوت حكم موجب لها وحيث ان هدم الحكم أو بيان عدم وجوده يزيل هذا السبب كان ذلك مؤدياً إلى عدم ايجاد الماهية.

لكن هذا مصداق تنزيلي للتسبيب وليس حقيقياً ـ كما في الموردين الأَولين ـ لأَن السبب الحقيقي لعدم الماهية في هذه الحالة انما هي الرغبة الطبيعية عنها ، وانما كان وجود الحكم الموجب لها أو توهم وجوده مانعاً عن فاعلية تلك الرغبة ، وبهدم الحكم أو بيان عدمه يزول هذا العائق.

٢ ـ النكتة الثانية : تناسب واجدية حصة من الماهية لنقص أو فقدها لكمال ، فانّ ذلك يصحح نفي تحقّق الماهية بها تنزيلاً لوجودها منزلة

٢٤٥

عدمها ، ومن هذا القبيل نفي الانسانية عمن لم لكن له أخلاق فاضلة.

وتنطبق هذه النكتة أيضاً في موارد :

١ ـ اذا كان المنفي موضوعاً لحكم شرعي كما في المورد الثاني من الموارد السابقة للنفي التنزيلي ، وذلك كما لو قيل ( الفاسق ليس بعالم ) بعد ما قيل ( اكرم العالم ) فإن الفسق حيث كان صفة نقص في العالم صح نفي العالم في حالة وجوده تنزيلاً ، وهكذا قوله ( لا شك لكثير الشك ) فان كثرة الشك لما كانت توجب نقصاً في اعتبار الشك وقيمته صحّ نفي تحقّق أصل الشك معها.

٢ ـ اذا كان المنفي حصة من ماهية منهي عنها ـ كما في بعض أقسام المورد الثالث من الموارد المذكورة ـ ك‍ ( لا ربا بين الوالد والولد ) فان الحق العظيم الذي يثبت للوالد على الولد يوجب كون الزيادة ـ المسمّاة بالربا ـ كلا زيادة بالنسبة اليه.

٣ ـ اذا كان المنفي نفس الحكم الشرعي لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته ـ كما في المورد الرابع من تلك الموارد ـ فان عدم الاستحقاق حيث انه صفة نقص في الحكم عرفاً صح نفيه تنزيلاً.

وتتجلى هذه النكتة في الحكومة بلسان الاثبات إذا كان المعنى المثبت صفة نقص كما لو قيل إن ( ولد الكافر كافر ) فإن إثبات تلك الصفة تنزيلاً يكون على أساس نقص مناسب لتلك الصفة وهي كون الانسان ولداً للكافر الذي يعد صفة نقص فيه.

وامّا اذا كان المعنى المثبت صفة كمال فتنطبق فيها نكتة أخرى هي عكس تلك النكتة وهي واجدية الشيء لكمال يناسب تلك الصفة كما لو قيل ان ( ولد المسلم مسلم ) فان كون الانسان ولداً لمسلم تعتبر صفة كمال فيه وهي تناسب الصفة المثبتة له من الاسلام.

٢٤٦

ويلاحظ ان هذه النكتة قابلة للتطبيق في بعض موارد النكتة الأُولى : فمثلاً يمكن أن يقال في ( لا صلاة الا بطهور ) ـ وهو مما يندرج في المورد الثاني منها ـ إن مصحح النفي فاقدية الصلاة في هذه الحالة لكمال وهي الاقتران بالطهارة.

فظهر مما ذكرنا : انه لا يمكن ان يكون ادّعاء اقتضاء لسان التنزيل للنظر إلى دليل آخر مبنيّاً على اقتضاء المصحح اللغوي للتنزيل لمثل هذا المعنى ، فان المصحح للتنزيل في كل اعتبار ادبي هو التسانخ بين المراد الاستعمالي والمراد التفهيمي وليس للنظر دخلٌ في ذلك.

الجهة الخامسة : في المصحح البلاغي للسان التنزيل.

قد ذكرنا في الأَمر السابق ان البلاغة تقتضي اختيار المتكلم للاسلوب الصريح في مرحلة أداء المعنى ورفض الأَساليب الملتوية والمعقدة ، لأَن الاسلوب الصريح أسلوب طبيعي وواضح في الأداء والتفهيم ، ولذلك لا بُدّ ان يكون العدول عن هذا الاسلوب واختيار اسلوب التنزيل والكناية في موارد الحكومة مبنياً على مصحح بلاغي من مراعاة جهة تتوفر في هذا الاسلوب دون الاسلوب المباشر الصريح.

وبما ان هذا الاسلوب أسلوب أدبي ، فنشير أوّلاً إلى النكتة العامة في الاعتبارات الأَدبية ثم نتعرض لتحليل النكتة في مقامنا هذا على ضوء ذلك :

١ ـ اما النكتة العامة في الاعتبارات الأَدبية فهي التصرف بمشاعر المخاطبين وعواطفهم واحساساتهم باختيار أسهل طرق التعبير وأحسنها واوفاها ، ليصل المتكلم من خلالها إلى مقاصده بصورة لا تجرح ولا تمسّ تلك الأحاسيس والعواطف ، بل ليستفيد منها في الوصول إلى مقاصده تلك. وهذه الجهة هي فلسفة البلاغة وسرّها. ولا بدّ في ذلك من ملاحظة الحالات النفسية للمخاطبين فيما يتعلق بالموضوع بنحو عام ليتسنى التفاعل معها

٢٤٧

تفاعلاً مناسباً ولأجل هذا المعنى كان علم البيان في الحقيقة من العلوم النفسية.

وقد يقتضي ما ذكرنا اختيار أساليب مختلفة حسب اختلاف المقامات ، ولذلك عرف هذا العلم بانه ( علم يعرف به أداء المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة وخفائها ) الاّ ان الصحيح ان يقال في التعريف ( بطرق مختلفة في التأثير في النفس شدّة وضعفاً ) لان سرّ الاختلاف في الاسلوب ليس اختلاف الأَساليب في مستوى الوضوح وانما منشأه اختلافها في الوقع والتأثير النفسي المطلوب حصوله في نفس المخاطب ونوعه.

فالتعبير الحقيقي والتشبيه والاستعارة مثلاً أساليب تختلف في درجة اثارة المعنى في نفس المخاطب كما لو قيل ( زيد شجاع ) أو ( زيد كالأَسد ) أو ( جاء الاسد ) ، فإثارة الاستعارة للاحساس بشجاعة زيد أقوى من اثارة التشبيه كما ان اثارة التشبيه بدورها أقوى من إثارة التعبير الحقيقي.

واما النكتة الموجبة لاختيار أسلوب الكناية من قبل الشارع في مقام بيان تحديد الحكم فهي ترتكز على أمرين :

أحدهما : اختلاف هذا الاسلوب عن أسلوب التصريح في نوع إثارة المعنى. ويظهر ذلك فيما لو استخدمنا هذين الاسلوبين في مقابل فكرة عامة مخالفة لمحتواهما ، فأسلوب التصريح ـ بلحاظ انه يمثل المعنى على ما هو عليه ـ يكون جارحاً لتلك الفكرة معارضاً لها ، ولذا قلنا إن لسانه لسان المعارضة مع العامّ واذا كان المخاطب بالكلام مقتنعاً بتلك الفكرة المخالفة وكان الترابط بين الحكم والموضوع ـ مثل ـ في ذهنه ترابطاً وثيقاً ، فان مواجهته بهذا الاسلوب يثير احساسه ضد مؤدّى الكلام طبعاً فيوجب انكاره أو استنكاره له ، من جهة كون ذلك مجابهة واضحة مع ما ارتكز في ذهنه من الارتباط بينهما.

٢٤٨

واما اسلوب الكناية فإنه يثير المعنى بنحو لا يمسّ باعتقاد المخاطب ومشاعره واحساسه ، لان مظهره مظهر المسالمة والاعتراف بتلك الفكرة حيث إنه ينفي تحقّق الموضوع مثلاً ليترتب عليه انتفاء الحكم انتفاءً طبيعياًً ، وبذلك يخيّل المتكلم لمخاطبه بانه لا يعارض اعتقاده بثبوت الحكم للموضوع ، بنحو عامّ بل يقرّه عليه ويعترف له به حتى كانه لو كان الموضوع متحققاً في المورد لثبت الحكم.

وبذلك يكون المعنى أوقع في نفس المخاطب وأقرب إلى قبوله واذعانه.

وبهذا يظهر اختلاف هذين الاسلوبين في نوع التأثير الاحساسي.

الأَمر الثاني : اختلاف المواضيع التشريعية التي يتعرض لها الدليل الحاكم أو المخصص في ارتكاز فكرة مخالفة لمؤداه في ذهن المخاطب وعدمه.

فقد يكون المخاطب بالدليل خالي الذهن عن اية فكرة عامة مقابلة ، أو يكون له فكرة مقابلة إلا انها غير مرتكزة في ذهنه ، فتزول بمجرّد اطلاعه على الدليل ـ حتى وان كان له مستند في تلك الفكرة من عموم أو اطلاق ـ.

ففي هذه الحالة لا مصحح بلاغي للتعبير بلسان الحكومة حتى وان كان هناك عموم أو اطلاق على خلاف مؤدى الدليل ـ بل المناسب ان يعبّر المتكلم بلسان صريح بعدم وجوب اكرام العالم الفاسق مثلاً لو كان الدليل الأول هو ( اكرم العلماء ) ، ولا موجب لأَن ينفي عنه العلم لينتج عدم وجوب اكرامه.

وقد يكون المخاطب بالدليل ذا ارتكاز ذهني في الموضوع على خلاف مؤدى الدليل ـ والمراد بالارتكاز الفكرة الثابتة في الذهن الراسخة في عمقه بحيث يصعب رفع اليد عنه احساساً ، وان اطّلع على دليل على

٢٤٩

خلافه ـ.

وفي هذه الحالة يعدل المتكلم البليغ عن النفي الصريح للحكم إلى لسان النفي غير المباشر ، تجنّباً عن إثارة مشاعر المخاطب وأحاسيسه واختياراً لأحسن طرق التعبير مع الجمهور وأسهلها ، لجلبهم إلى المقاصد المنشودة حيث يشتدّ الارتباط الاحساسي في اذهانهم ويصعب تفكيك شمول الحكم وعزله عن بعض الحصص.

ويلاحظ أن منشأ الارتكاز الذهني لا يكون امراً ادراكيّاً محضاً كقيام عموم أو اطلاق ، لأَنّ ذلك بمجرده لا يستدعي مقاومة ذهنية للمخاطب في مقابل الدليل الحاكم ، بل يرتفع الاعتقاد الإدراكي بقيام ذلك.

وانما يكون منشأه امراً احساسياً يستوجب ثبوت المعنى في نفس المخاطب واستقراره في ذهنه وتعلقه به ، وذلك لأَحد أمور :

١ ـ شدة مناسبة الحكم والموضوع في الأَذهان ، كما لو اراد الشارع تحديد حكم وجوب اكرام العالم وكان المجتمع يرى انه لا يمكن ان يكون هناك عالم لا يجب اكرامه لما في نفوسهم من احساس الاحترام والتقدير بالنسبة إلى العلماء. وحينئذٍ لما كان الشارع لا يريد أن يجابه مثل هذه المرتكزات الذهنية بصورة علنية فانه يقول ( الفاسق ليس بعالم ).

ويمكن تخريج كثير من الامثلة السابقة في الامر الثاني على هذه النكتة وذلك من قبيل ( لا طلاق الا باشهاد ) فان استعمال هذا الاسلوب في هذه الجملة ربما كان بلحاظ شدّة المناسبة بين الطلاق الانشائي والطلاق الشرعي. وكذلك نفي المتعلق في ( لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ) ربما كان باعتبار شدة التناسب بين الصلاة وبين المطلوبية شرعاً ، وهكذا نفي الحكم في ( رفع ما لا يعلمون ) ربما كان باعتبار ما انغرس في الاذهان من أن الحكم الشرعى يوجب الموافقة له عقلاً.

٢٥٠

٢ ـ اشتهار ثبوت الحكم للموضوع بالدعايات ووسائل النشر والاعلام ونحوها مما يوجب تلقيناً نفسياً للمجتمع. ولعل هذه الجهة هي الموجبة لاستعمال هذا الاسلوب في مواضيع كان محتوى الدليل فيها مخالفاً لما هو المشهور لدى العامة ك‍ ( لا طلاق إلا باشهاد ) فإن العامة ترى صحة الطلاق بلا اشهاد.

٣ ـ أن يكون العموم الملحوظ لدى المخاطب ذا لسان آبٍ عن التخصيص كما قد يقال في قوله تعالى :( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا ) (١) ففي هذه الحالة لا يناسب استخدام الاسلوب الصريح وهو اسلوب التخصيص ، باعتبار منافاته مع لسان العامّ. بل لا بُدّ من اختيار أسلوب الحكومة المنسجم معه كما مرّ ذلك.

فهذه بعض مناشئ الارتكاز الذهني بين الحكم وموضوعه.

فمثل هذه العوامل والاسباب هي التي تقتضي أن يعبر الشارع عن مقصوده بلسان غير مباشر حتى لا يصطدم بالمشاعر والاحاسيس والمرتكزات الذهنية المحترمة لدى الجمهور.

فهذه هي النكتة العامة لأسلوب الحكومة.

لكن هذه النكتة إنما هي فيما كان مصبّ النفي أو الاثبات فيها نفس الحكم أو ما يرتبط به كالموارد الخمسة الأُولى من موارد السلب التنزيلي التي سبق ذكرها في الأَمر الأَوّل ، وأما حيث يكون مصب ذلك امرا خارجياً مسبباً عن الحكم كالحرج والضرر ـ وهو المورد السادس من تلك الموارد ـ فإنه لا تتأتى فيه هذه النكتة كما هو واضح. بل لا يبعد ان تكون النكتة في العدول إلى لسان التنزيل في مثل ذلك بيان عدم تناسب ثبوت الحكم المسبّب إلى

__________________

(١) يونس ١٠ / ٣٦.

٢٥١

الحرج والضرر مع المصلحة العامة.

الجهة السادسة : في اقتضاء لسان التنزيل ( وهو لسان الحكومة ) نظر الدليل إلى ارتكاز ذهني للمخاطب على خلافه ـ لا إلى عموم أو اطلاق ـ.

قد ظهر مما ذكرنا أن اسلوب التنزيل ـ وهو لسان الحكومة باعتبار مصححه البلاغي ـ يقتضي نظر المتكلم إلى ارتكاز ذهني مخالف للدليل ، حيث إن اختيار الاسلوب غير المباشر بالذات ، إنما هو لعدم مجابهة هذا الارتكاز وذلك جرياً على النكتة العامة للاعتبارات الأدبية من اختيار الاسلوب المناسب مع مشاعر المخاطب واحساسه.

وبذلك يتضح بان الفكرة المخالفة التي ينظر الدليل الحاكم إلى ردِّها إنما هي الاعتقاد المرتكز في ذهن المخاطب ، وليس معنى متمثلاً في الأَدلّة بحسب مقام الاثبات من عموم أو اطلاق ، كما اشتهر لدى الاصوليين حيث قالوا ان قوام الحكومة بوجود عموم أو اطلاق يكون الدليل الحاكم ناظراً اليه ؛ اذ يرد على ذلك :

أوّلاً : ان مصحح هذا الاسلوب كما ذكرناه في تحليل الموضوع ليس النظر إلىٰ دليل آخر ، وانما إلى ارتكاز مخالف سواء كان عليه دليل من عموم أو اطلاق أو غيرهما أم لا ؟ ومجرد وجود العموم أو الاطلاق لا يصحح اختيار هذا اللسان والعدول عن التعبير الصريح من قبل البليغ لأَن هذا الاسلوب اسلوب ادبي يتضمن اثبات الشيء أو نفيه تنزيلاً ، والاسلوب الأَدبي انما تصححه نكتة بلاغية تتعلق بكيفية التأثير في المخاطب ، ومجرد النظر إلى دليل آخر ليس كذلك كما هو واضح.

وثانياً : انه يصح استعمال هذا اللسان بالبداهة اللغوية حتى فيما لم يكن هناك عموم أو اطلاق اذا كان هناك ارتكاز ذهني للعرف يخالف بعمومه مؤدى الدليل ، اما من جهة تصور الإجماع الحجة أو لشدة تناسب الحكم

٢٥٢

والموضوع أو لغير ذلك من عوامل الارتكاز الذهني.

ومن هنا صحّ قولهعليه‌السلام ( لا طلاق الا باشهاد ) مثلاً رغم ورود الأَمر بالإشهاد في الآية عقيب ذكر الطلاق مما يمنع عن تحقّق إطلاق لها في ذلك ، قال تعالىٰ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) (١) ثم قال في الآية التالية :( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) (٢) .

فهذا يؤكد أنّه ليس مصحح هذا الاسلوب ومقتضاه وجود عموم أو اطلاق ، بل العبرة بالارتكاز الذهني للمخاطب ولو كان على خلاف الدليل كما في الطلاق باعتبار اشتهار فتوى العامة فيه.

وثالثاً : انه قد يكون صدور الدليل المتضمن لهذا الاسلوب على أساس عدم وجود دليل على الحكم فلا يعقل ثبوت مفاده مع وجود الدليل عليه وذلك كما في ( رفع ما لا يعلمون ) ( وكل شيء لك حلال ).

وهكذا يتضح انه لا تتوقف صحة استعمال هذا الاسلوب على وجود عموم أو اطلاق فلا يكون صدور الحاكم لغواً لو لم يكن هناك دليل محكوم في رتبة سابقة ـ على ما هو المعروف منهم بين الاعلام ـ.

نعم هنا نكتة أخرى هي أن ردّ الارتكاز الذهني ـ ولو بنحوغير صريح ـ يستبطن نفي ما يكون حجة على هذا الارتكاز لدى المخاطب ـ بما في ذلك العموم والاطلاق ـ فيما اذا كان المتكلم مطلعاً عليه فيكون تحديد ذلك ملحوظاً بنحو غير مباشر في لسان التنزيل ، إلا ان هذا اللحاظ غير المباشر

__________________

(١) الطلاق ٦٥ / ١.

(٢) الطلاق ٦٥ / ٢.

٢٥٣

ليس هو المصحح لهذا الاسلوب كما هو واضح.

الجهة السابعة : في مدى اشتراك الحكومة والتخصيص في الأحكام.

قد ظهر بما ذكرنا ان الحكومة والتخصيص متحدان بحسب المحتوى ، وانما يختلفان في أسلوب أداء المعنى ، حيث انه اسلوب مسالم للعموم في الأَوّل ، ومعارض معه في الثاني. ويتفرع على هذه الجهة اشتراك الحاكم والمخصص في الأَوصاف والأَحكام المنوطة بمحتوى الدليل دون الأحكام المنوطة باسلوبه.

توضيح ذلك : ان الاحكام التي تثبت للدليل المخصّص أو العامّ على قسمين :

١ ـ القسم الأَوّل : ما يكون منوطاً بمحتوى الدليل ، وهو القسم الأَكبر منها لأن اكثر الأَحكام المذكورة للخاص في المباحث المختلفة انما تثبت له باعتبار واقعه من اخراج بعض افراد العام عن تحته وفيما يلي بعض امثلة ذلك :

منها : اتصاف المخصص المنفصل بكونه معارضاً مع العام ، فان التعارض كما اشرنا من قبل انما هو وصف للدليل بلحاظ مدلوله التفهيمي لا باعتبار لسانه ومعناه الاستعمالي.

ومنها : تأثير المخصص في تحديد ظهور العامّ حيث يكون متصلاً ، وفي تحديد حجيته حيث يكون منفصلاً فان هذا التأثير انما هو بلحاظ محتواه المصادم للعامّ ، لا باعتبار أسلوبه كما هو واضح. وكذلك القول في مدى اعتبار ظهور العام وحجيته مع الشك في المخصص المتصل أو المنفصل.

ومنها : امتناع تخصيص الأحكام العقلية ، وسرّ الامتناع ان التخصيص يرجع إلى أوسعية مقام الاثبات عن مقام الثبوت في الحكم المخصّص ،

٢٥٤

والحكم العقلي ليس له مقامان إثبات وثبوت ، واستلزام التخصيص لذلك أيضاً بلحاظ محتواه لا بلحاظ مفاده الاستعمالي.

ومنها : امتناع تخصيص العام في اكثر افراده من جهة لزوم التناسب بين التعبير في مقام الاثبات وبين مقام الثبوت فلا يناسب التعبير بالعموم اثباتاً ، الاّ حيث يثبت الحكم لما يناسب العموم في الواقع وتخصيص العام بهذه الكثرة ينقض التناسب المذكور.

ومنها : كون التخصيص أهون وجوه التصرف في الظاهر ولذا يتعين حيث يدور الأَمر بينه وبين حمل الأَمر على الاستحباب في مثل ( يستحب إكرام العلماء ) و ( اكرم العالم العادل ) ووجه ذلك : استلزامه رفع اليد عن اصالة العموم واصالة العموم اضعف الظهورات المنعقدة للكلام ، بخلاف حمله على الاستحباب فإنه مستوجب لرفع اليد عن ظهور الأَمر في الوجوب وهو ظهور قوي.

فهذا القسم من احكام المخصص يشترك معه فيها الدليل الحاكم ، لأَنها منوطة بمحتوى الدليل وهو متحد فيهما ، ولو لم تثبت تلك الأحكام للحاكم كان مرجعه إلى تأثير أسلوب الدليل في تحقّق الوصف أو الحكم المنوط بمحتواه أو في عدم تحققه وهو امر غير معقول.

وبذلك يظهر النظر في جملة من كلمات المحقق النائيني (قده) حيث فصل بين موارد الحكومة والتخصيص في جملة من المواضيع السابقة :

منها : تفصيله بينهما في تحقّق التعارض بين الدليلين حيث قال بتحققه في موارد التخصيص دون الحكومة ـ وسيأتي توضيح ذلك ـ.

ومنها : ما يظهر من بعض كلماته في بحث حجية الظن(١) من انه اذا

__________________

(١) لاحظ أجود التقريرات ٢ : ٧٧.

٢٥٥

شكّ في التخصيص أمكن الرجوع إلى العام وذلك كما لو قال ( اكرم العلماء ) وشك في انه هل قال ( لا تكرم العالم الفاسق ) أو لا. ولكن اذا شك في الحكومة لم يمكن الرجوع إلى العام كما لو شك في انه هل قال ( العالم الفاسق ليس بعالم ) أم لا ، وكأن مبنى ذلك أن التمسك بالعام في مورد الحكومة المشكوكة يكون من قبيل الشبهة المصداقية لنفس العامّ ولا يجوز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لنفسه اتفاقاً.

٢ ـ والقسم الثاني : ما يكون منوطاً بالاسلوب الاستعمالي للدليل ، وله أمثلة :

منها : امتناع تخصيص العام حيث يكون لسانه بدرجة من القوة يأبى عن التخصيص كما قيل به في قوله( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا ) (١) وقوله ( ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً )(٢) فان هذا الحكم منوط بأسلوب الدليل المخصص لأنّه من جهة كونه أسلوب معارضة مع العام ، يكون كاسرا لقوة لسانه فيكون استخدامه في تحديد العام أمراً مستهجناً.

ومنها : إمكان كون المخصص عقليا فإن هذا الامكان باعتبار أن العقل إنما يدرك الواقع بصورته التي هو عليه كما هو شأن الدليل المخصص ـ حيث ان لسانه موافق لواقعه ـ.

ومنها : عدم نظر المخصص إلى فكرة مخالفة من ارتكاز ذهني للمخاطب أو عموم أو اطلاق الا في حالات خاصة كان يكون المنفي هو الحكم العام نحو ( وجوب اكرام العلماء لا يثبت في حقّ زيد ).

ووجه عدم نظره : أن الأسلوب الصريح أسلوب طبيعي لا يختص

__________________

(١) يونس ١٠ / ٣٦.

(٢) لاحظ جامع الأحاديث ـ أبواب النجاسات ـ الباب ٢٣ الحديث ٥ : ٤٤٣ ـ ج ١ : ٥٠ ـ ٥١.

٢٥٦

بقصد نفي فكرة مخالفة كما يختص الأسلوب الكنائي بذلك من جهة مصححه البلاغي.

وهذا القسم من أحكام المخصص لا يشترك فيها معه الدليل الحاكم لأنّه منوط بأسلوبه ، والدليل الحاكم يختلف عن المخصص في الأسلوب فان أسلوبه أسلوب كنائي غير مباشر.

ففي المثال الأول : يجوز تحديد العامّ الآبي عن التخصيص بلسان الحكومة ، لأن لسانه لسان مسالم للعموم فلا يكسر شوكة لسان العموم حتى يكون مستهجناً. وبذلك أجبنا فيما سبق عما قيل من استهجان تخصيص ( لا ضرر ) لانه حكم امتناني ، مع أن تفسيره بنفي الحكم الضرري موجب لتخصيصه لا محالة كما سبق التعرض له.

وفي المثال الثاني لا يجوز كون الحاكم عقلياً لأن اسلوب الحكومة تعبير عن الشيء بغير ما هو عليه لأنّه اعتبار أدبي ، والأعتبار الأدبي اما اعطاء حد شيء لشيء آخر أو سلب حد الشيء عن نفسه ، وهذا يغاير كيفية ادراك العقل.

وربما يظهر من كلمات بعض الأَعاظم ـ في مبحث الاستصحاب ـ نفي امكان كون الحاكم عقلائياً ـ أيضاً ـ لكن قد يقال في دفع ذلك ان الفكرة الذهنية للعقلاء كما يمكن ان تكون على امر حقيقي فكذلك يمكن ان تكون على امر اعتباري كما قد يقال بذلك في اعتبار الامارات علماً.

وفي المثال الثالث : يكون الدليل الحاكم بمقتضى مصححه البلاغي مقتضياً للنظر إلى فكرة مخالفة كما تقدّم توضيحه سابقاً.

ويتفرع على هذا الفرق بين الحاكم والمخصص توفر الحاكم على مزية دلالية عامة ، من حيث اقتضاء اسلوبه للنظر إلى الله ليل المخالف ـ ولو

٢٥٧

بنحو غير مباشر ـ ولأجل ذلك يتقدم أحد العامين من وجه على الآخر اذا كان بأسلوب الحكومة من غير حاجة إلى مزية اخرى ، وهذا بخلاف المخصص فانه لا يستتبع اسلوبه المباشر أية مزية دلالية وانما يكون تقدمه رهين وجود مزايا خارجة عن مقتضاه الطبيعي توجب أظهريته على العام فيتقدم بملاك الأظهرية.

الجهة الثامنة : في وجه تقدّم الحاكم على المحكوم.

إن في وجه تقدّم الحاكم على المحكوم وجوها ثلاثة :

الوجه الأوّل : ما ذكره المحقق النائيني والسيد الاستاذ0 من أنّه لا تعارض بين الحاكم والمحكوم أصلاً وذلك بأحد تقريبين :

الأول : ما في كلمات المحقق النائيني ومن وافقه(١) من عدم معقولية المعارضة بين الحاكم والمحكوم من جهة أن المحكوم يثبت حكماً على تقدير ، غير متعرض لثبوت ذلك التقدير ونفيه ، وأما الدليل الحاكم فهو ناظر إلى إثبات ذلك التقدير ونفيه.

وتوضيحه : ان التعارض بين الدليلين فرع تعرّضهما لنقطة واحدة ، والحاكم والمحكوم ليسا كذلك اذ كل منهما يتعرض لما لا يتعرض له الآخر ، فان الحاكم مثلاً يتعرض لوجود الموضوع أو لنفيه وأما المحكوم فهو يتعرض لاثبات الحكم لموضوعه على نحو القضية الحقيقية ، وهذا المقدار لا تعرض فيه لوجود الموضوع في المورد وعدمه لان القضية الحقيقية في قوة القضية الشرطية ، وكما أن القضية الشرطية لا تتعرض لوجود الشرط ، وانما تفيد ثبوت التالي عند ثبوت الشرط ، فكذلك القضية الحقيقية لا تتعرض لوجود الموضوع وانما مفادها ثبوت الحكم عند تحقّق الموضوع.

__________________

(١) لاحظ أجود التقريرات ٢ : ٥٠٥ ـ ٥٠٦ ، ونظيره مصباح الأصول ٢ : ٥٤٢ إلا أنّه خصه بالحكومة علىٰ عقد الوضع.

٢٥٨

ويرد عليه : إن التعارض بين الدليلين ليس بحسب المراد الاستعمالي فيهما قطعاً ، وإلاّ لم يقع التعارض بين القول المثبت لمعنى مع القول النافي له بلسان المجاز أو الكناية ، كما لو قيل ( زيد بخيل ) و ( زيد كثير الرماد ) أو ( زيد جبان ) و ( زيد أسد ) لأن كل منهما بحسب المراد الاستعمالي يتعرض لما لا يتعرض له الآخر.

وانما العبرة في التعارض بالمراد التفهيمي من الدليلين وهو مختلف في الحاكم والمحكوم ، فإن الحاكم وان كان ينفي ما هو موضوع للمحكوم استعمالاً ـ مثلاً ـ الا ان المراد به تفهيماً نفي نفس الحكم الذي يثبته المحكوم فهما متعارضان.

يضاف إلى ذلك انّ هذا لا يتم في قسم من قسمي الحكومة لدى هؤلاء وهو حيث يكون الحاكم متعرضاً لعقد الحمل من المحكوم ، فإنه حينئذٍ يتعرض لنفس ما يثبته المحكوم أو ينفيه كما هو واضح.

الثاني : ما قد يظهر من بعض كلمات السيد الأستاذ (قده) من ان الدليل الحاكم شارح للمراد من المحكوم ومبين للمراد منه والشارح لا يعارض المشروح.

ويرد عليه :

أوّلاً : إن مبنى إدعاء الشارحية هو الاعتقاد بأن الحاكم ناظر إلى المحكوم ومسوق للتعرض له ، وقد سبق عدم تمامية هذا الرأي بل أوضحنا ان الحاكم انما ينظر إلى الارتكاز الثابت في ذهن المخاطب على الارتباط بين الحكم وموضوعه بنحو عامّ ، وهذا النظر هو مصحح لسانه التنزيلي دون النظر إلى اطلاق وعموم.

وثانياً : ان الشارحية انما هي سمة لأسلوب الدليل الحاكم ولسانه واما واقعه ومحتواه فهو كالمخصّص واقع في المعارضة مع العام حيث إنهما جميعاً يقتضيان كون مقام الاثبات في الدليل العام اوسع من مقام الثبوت

٢٥٩

على خلاف المراد التفهيمي للدليل المزبور.

وبذلك يتّضح أنّه لا يتم تقديم الحاكم على اساس عدم معارضته مع المحكوم وشرحه له.

نعم : لو فسرنا التعارض بالتنافي في الحجية ـ كما ذهب إليه المحقق الخراساني ـ لم يكن هناك تعارض بين الحاكم والمحكوم كسائر موارد الجمع العرفي لكن حجية أحد الدليلين فيهما في طول حجية الآخر ، لكن عدم التعارض بين الدليلين بهذا المعنى لا يغني عن وجود نكتة دلالية مثلاً تفرض تقديم أحد الدليلين على الآخر ، بل هومتفرع على وجود مثل هذه النكتة.

الوجه الثاني : أن يقال إن الحاكم مسوق لتحديد المحكوم لكونه ناظراً إليه مباشرة فهو قرينة شخصية قد نصبها المتكلم على مراده بالمحكوم.

وهذا الوجه مبني على الرأي المعروف لدى الأصوليين من تقوم الحكومة بنظر الحاكم إلى الدليل المحكوم وقد سبق انه غير تام.

الوجه الثالث : ما هو المختار وهو ان اسلوب الحكومة وإن لم يكن مسوقاً للنظر إلى أي دليل آخر بل هو ناظر بالاصالة إلى ارتكاز ذهني عامّ مخالف لمؤدى الدليل لكنه ناظر بنحو غير مباشر إلى نفي ما يكون حجة على هذا الارتكاز المخالف ، وبذلك يستبطن تحديد تلك الحجة متى كانت عموماً أو اطلاقاً ، وهذه مزية دلالية تستوجب تقديمه على تلك الحجة وتحديدها به.

بقي هنا امران :

الأَمر الأَوّل : انه قد يوحي كلمات كثير من الأصوليين ان الدليل الحاكم بموجب نظره إلى المحكوم يوجب تقدمه عليه مطلقاً بلا استثناء وشذوذ ، وهذا لا يخلو عن غلوّ وافراط ، فان هناك جملة من الحالات تطرأ على هذا الأسلوب ـ كما تطرأ على اسلوب التصريح ـ لا يجوز فيها تقديمه

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360