قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار11%

قاعدة لا ضرر ولا ضرار مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 360

قاعدة لا ضرر ولا ضرار
  • البداية
  • السابق
  • 360 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 201543 / تحميل: 8087
الحجم الحجم الحجم
قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وأمّا الجهة الثانية : فلاشتمال السند علىٰ علي بن الحسين السعدآبادي ومحمد بن موسىٰ بن المتوكل.

فأمّا علي بن الحسين السعدآبادي فهو ممّن لم يوثق وإن بنى جمع علىٰ وثاقته استناداً إلىٰ بعض الوجوه الضعيفة : ( منها ) كونه من مشايخ ابن قولويه في كتاب كامل الزيارات بناءاً علىٰ استفادة توثيق جميع رواة هذا الكتاب أو خصوص مشايخ مؤلفه من الكلام المذكور في مقدمته(١) .

ولكن الصحيح ان العبارة المذكورة في المقدّمة لا تدل علىٰ هذا المعنىٰ بل مفادها انه لم يورد في كتابه روايات الضعفاء والمجروحين ، لذا لم يكن قد اخرجها الرجال الثقات المشهورون بالحديث والعلم ، المعبر عنهم بنقّاد الاحاديث كمحمد بن الحسن بن الوليد وسعد بن عبد الله واضرابهما وأما لو كان قد اخرجها بعض هؤلاء سواءاً كانوا من مشايخه أو مشايخ مشايخه فهو يعتمدها ويوردها في كتابه ، فكأنّهقدس‌سره يكتفي في الاعتماد علىٰ روايات الشذاذ من الرجال ـ علىٰ حد تعبيره ـ بايرادها من قبل بعض هؤلاء الاعاظم من نقّاد الاحاديث.

وهذا المعنىٰ مضافاً إلىٰ كونه ظاهر عبارته المشار اليها ـ كما يتبين عند التأمل ـ مقرون ببعض الشواهد الخارجية المذكورة في محلها.

__________________

ولا يرسل إلا عن ثقة. ( وأمّا الحل ) فإن الشيخ قد تكفل في التهذيبين لحل ظاهرة التعارض بين الاخبار وذلك ممّا الجأه احياناً إلىٰ اتباع الاسلوب الاقناعي في البحث المتمثل في حمل جملة من الروايات علىٰ بعض المحامل البعيدة ، أو المناقشة في حجيتها ببعض الوجوه التي لا تنسجم مع مبانيه الرجالية والاصولية المذكورة في سائر كتبه. وهذا ظاهر لمن تتبع طريقتهقدس‌سره في الكتابين ، ولتوضيحه وذكر الشواهد عليه مجال آخر ، وعلىٰ هذا فلا يمكن الاستناد إلىٰ ما ذكره في التهذيبين خلافاً لما صرح به هو في كتاب العدة أو ذكره غيره من اعلام الرجاليين.

(١) كامل الزيارات : ٤.

٢١

فليس مراده وثاقة جميع من وقع في أسانيد رواياته فإن منهم من لا شائبة في ضعفه وليس مراده وثاقة عامة مشايخه فإن منهم من لا تنطبق عليهم الصفة التي وصفهم بهاقدس‌سره وهي كونهم مشهورين بالحديث والعلم.

و ( منها ) كونه ـ أي السعدآبادي ـ من شيوخ الاجازات الذين لا حاجة إلىٰ التنصيص علىٰ وثاقتهم بل لا يضر ضعفهم بعد تواتر الكتاب الذي اجازوا روايته ، ويرد عليه أنّه لم يثبت اقتصار الاصحاب علىٰ الاستجازة من الثقات فقط بل ثبت خلاف ذلك ـ كما يعلم بمراجعة كتب الرجال ـ. وأيضاً لم يعرف الكتاب الذي اخرج منه الصدوق رواية الصيقل ليقال إنّه متواتر فلا يقدح عدم وثاقة السعدآبادي في جواز الاعتماد علىٰ روايته.

و ( منها ) كونه أحد العدّة الذين يروي الكليني بواسطتهم عن البرقي وقد روى عنه أيضاً علي بن إبراهيم وعلي بن الحسين والد الصدوق وأبو غالب الزراري وغيرهم من الاجلاء ففي ذلك دلالة علىٰ وثاقته. وفيه إنّه لم يثبت اقتصار هؤلاء علىٰ الرواية عن الثقات كما سبقت الإشارة إليه.

هذا وقد حاول العلامة شيخ الشريعةقدس‌سره تصحيح سند الصدوق إلىٰ الحسن الصيقل حتىٰ علىٰ تقدير عدم ثبوت وثاقة السعدآبادي بدعوىٰ أنّ للصدوق طريقاً آخر إلىٰ البرقي وهو صحيح بالاتفاق فإنّه يروي عنه أيضاً بتوسط أبيه ومحمد بن الحسن بن الوليد عن سعد بن عبد الله عن البرقي وهذا السند صحيح اتفاقاً(١) . ويرد عليه أنّ هذا الطريق يختص بما يرويه الصدوق في الفقيه مبتدئاً باسم البرقي لا إلىٰ جميع الروايات التي وقع البرقي في طرقها وهذا واضح ، نعم يمكن تعميم الطريق المذكور لما نحن فيه ونظائره فيما إذا ثبت أمران :

__________________

(١) رسالة ( لا ضرر ولا ضرار ) : ٥٤ ـ ٥٥.

٢٢

الأول : إن الصدوق قد أخذ رواية الصيقل من كتاب البرقي بالرغم من انه لم يبتدأ باسمه.

الثاني : إنّ السند المذكور إلىٰ البرقي في المشيخة مسند إلىٰ كتبه لا إلىٰ خصوص رواياته المبدوءة باسمه في الفقيه ، ولكن لا يمكن اثبات شيء من الأمرين ؛ أما الأول : فواضح. وأمّا الثاني ، فلما أوضحناه في محله من انّ سند الصدوق إلىٰ شخص في المشيخه إنما هو سنده إلىٰ الروايات المبدوءة باسم ذلك الشخص في الفقيه ، ولا يمكن تعميمه إلىٰ كتبه إلا بدليل يوجب ذلك كأن يصرح الصدوق نفسه بذلك كما صرح به عند ذكر طريقه إلىٰ علي بن جعفر حيث قال : ( وكذلك جميع كتاب علي بن جعفر فقد رويته بهذا الاسناد ) وكذلك صرّح به عند ذكر طريقه إلىٰ الكليني فقال : ( وكذلك جميع كتاب الكافي فقد رويته عنهم عنه عن رجاله ).

والحاصل انّ طريق الصدوق إلىٰ الحسن الصيقل ضعيف بعلي بن الحسين السعدآبادي ولا يمكن تصحيحه بشيء من الوجوه المذكورة.

وأمّا الخدشة فيه من ناحية محمّد بن موسى بن المتوكل ؛ الذي لم يوثق في كلمات الاعلام المتقدمين كالشيخ والنجاشي وإنما وثقه بعض المتأخرين كابن طاووس والعلامة ؛ ففي غير محلها ، إذ يرد عليها مضافاً إلىٰ ضعف التفريق بين توثيقات المتقدمين والمتأخرين أمثال ابن طاووس والعلامة ـ كما اوضحناه في محله(١) ـ إنّه قد وقع في اسناد رواية ادعى ابن طاووس في فلاح السائل الاجماع علىٰ وثاقة رواتها مما يكشف عن توثيق بعض المتقدمين له علىٰ أقل تقدير.

فتحصل مما ذكرناه ان رواية الحسن الصيقل ضعيفة سنداً وإن حاول

__________________

(١) باعتبار أنه لا فرق بينهما في احتمال الحدس ولا فرق بينهما في دعوىٰ الحس.

٢٣

بعض الأعاظم تصحيحها.

هذا ما في كتبنا من نقل قضية سمرة من دون جملة ( لا ضرر ).

وأمّا ما في ( كتب العامة ) فقد نقلت في جملة منها ـ مع اختلاف في كيفية طرح الشكوى والمخاصمة ـ ونشير إلىٰ بعضها :

( منها ) ما في سنن أبي داود ، فقد روى باسناده عن واصل مولى عيينة قال سمعت أبا جعفر محمد بن علي يحدّث عن سمرة بن جندب ، انّه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الانصار قال ومع الرجل أهله قال فكان سمرة يدخل إلىٰ نخله فيتأذى به ويشق عليه فطلب اليه أن يناقله فأبىٰ فأتىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذكر ذلك له فطلب اليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبيعه فأبىٰ فطلب اليه أن يناقله فأبىٰ ، قال فهبه له ولك كذا وكذا ـ مراراً رغبة فيه ـ فأبىٰ فقال أنت مضار ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للانصاري : اذهب فاقلع نخله(١) .

و ( منها ) ما في مصابيح السنة للبغوي(٢) .

و ( منها ) ما في الفائق للزمخشري(٣) ، والمروي فيهما لا يختلف عمّا في سنن أبي داود إلا يسيراً.

و ( منها ) ما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد قال روى واصل مولى ابن عيينة ، عن جعفر بن محمّد بن عليعليهم‌السلام ، عن آبائه قال كان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل من الانصار فكان يؤذيه ، فشكا الانصاري ذلك إلىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعث إلىٰ سمرة فدعاه

__________________

(١) سنن ابي داود ٣ : ٣١٥ / ٣٦٣٦.

(٢) مصابيح السنة ٢ / ٣٧٢ / ٢٢٢٠.

(٣) الفائق في غريب الحديث ٢ / ٤٤٢.

٢٤

فقال له بع نخلك من هذا وخذ ثمنه قال : لا أفعل ، قال : فخذ نخلاً مكان نخلك قال لا أفعل. قال : فاشتر منه بستانه قال لا افعل قال فاترك لي هذا النخل ولك الجنة قال : لا افعل فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للانصاري : اذهب فاقطع نخله فإنّه لا حق له فيه(١) .

فظهر من مجموع ما تقدّم انّ قضية سمرة وإن نقلت في كتب الفريقين بطرق متعددة ، إلا انها لم تذكر مقرونة بجملة ( لا ضرر ولا ضرار ) إلا في كتبنا وبطريق واحد فقط ، فلا ينبغي الخلط بين ثبوت هذه القضية في نفسها وبين ثبوتها مقرونة بهذه الجملة ، فإنّه إن صحت دعوىٰ استفاضة أصل القضية فلا تصح دعوىٰ استفاضتها مقرونة بهذه الجملة كما يظهر من المحكي عن المحقق النائينيقدس‌سره .

هذا بعض ما يتعلق بقضية سمرة واقترانها بجملة ( لا ضرر ولا ضرار ) وللكلام في ذلك تتمة يأتي في البحث الثاني ان شاء الله تعالى.

٢ ـ حديث الشفعة .

وقد رواه المشايخ الثلاثة :

١ ـ رواه الكليني ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن عبد الله بن حلال ، عن عقبة بن خالد ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : قضىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة بين الشركاء في الارضين والمساكن وقال : لا ضرر ولاضرار ، وقال : إذا رفّت الارف وحُدّت الحدود فلا شفعة(٢) .

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤ / ٧٨.

(٢) الكافي ٥ / ٢٨٠ / ٤.

٢٥

٢ ـ ورواه الشيخ في التهذيب(١) باسناده عن محمّد بن يحيى ، والظاهر انه أخرجه عن الكافي لما أوضحناه في شرح مشيخة التهذيبين من انه كلّما ابتدأ الشيخ باسم بعض مشايخ الكليني كمحمد بن يحيى وعلي بن إبراهيم ونظرائهما ، فإنه قد أخذ الحديث من الكافي لا من كتبهم(٢) إلا مع التصريح بخلاف ذلك. وإن كان ظاهر كلامه في أول المشيخة يوهم انه لم يبتدئ ، إلا باسم من أخذ الحديث من كتابه أو اصله ، ولكن هذا وإن كان هو الغالب علىٰ أحاديث التهذيبين إلا أنّه لا كلية له كما تدل عليه القرائن الكثيرة ، وعلىٰ هذا فلا يمكن عدّ التهذيب في المقام مصدراً مستقلاً لهذا الحديث.

٣ ـ ورواه الصدوق(٣) باسناده عن عقبة بن خالد كما نقله الكليني ولكنه اسند الجملة الثالثة من الحديث إلىٰ الامام الصادقعليه‌السلام قال : ( وقال الصادقعليه‌السلام : إذا رفت الأُرُف ) ، قال صاحب الوسائل بعد نقل الحديث عن الكافي والتهذيب : ورواه الصدوق باسناده عن عقبة بن خالد وزاد ( ولا شفعة إلا لشريك غير مقاسم )(٤) ولكن الظاهر ان هذه الجملة من كلام الصدوق نفسه وليست زيادة في الرواية علىٰ نقله ولذا لم ينقلها في الوافي(٥)

__________________

(١) التهذيب ٧ / ١٦٤ / ٧٢٧.

(٢) اقام مد ظله قرائن عديدة علىٰ هذا المدعى من نفس المشيخة وخارجها ومما يختص منها بالمقام أن المراجع لرجال الشيخ وفهرسته ، يجد انّهقدس‌سره لم يذكر محمّد بن يحيى العطار في الفهرست وإنّما ذكره في الرجال قائلاً ( روى الكليني عنه قمي كثير الرواية ) ، ولكن النجاشي عنونه وقال ( له كتب منها كتاب مقتل الحسين وكتاب النوادر ) فيستظهر من ذلك انّ كتب محمّد بن يحيى لم تصل إلىٰ الشيخقدس‌سره لينقل منها مباشرة وإلاّ فكيف لم يذكرها في الفهرست مع انّ غايته فيه الاستيفاء قدر الإمكان كما يعلم من مقدمته.

(٣) الفقيه ٣ / ٤٥ / ١٥٤.

(٤) الوسائل ٢٥ : ٤٠٠ / ٣٢٢١٨.

(٥) الوافي مجلد ٣ جزء ١٠ / ١٠٣.

٢٦

عن الفقيه ، ومن راحع الفقيه يجد أنّ دأب الصدوققدس‌سره علىٰ تعقيب بعض الروايات بكلام لنفسه من دون فصل مشعر بالتغاير ـ كما ان الامر كذلك في التهذيب ـ ومن هنا قد يشتبه الامر علىٰ الناظر فيعد كلامه جزءاً من الرواية.

و كيف كان فتحقيق الكلام في هذه الرواية يقع في ضمن جهات :

( الجهة الأولىٰ ) في سندها ، وهو ضعيف لأن رواية الكليني والشيخ مخدوشة ب‍ ( محمّد بن عبد الله بن هلال ) و ( عقبة بن خالد ) فإن الأَول لم يوثق بل لم يذكره القدماء من أعلام الرجاليين ، وربما يوثق : لوقوعه في اسانيد كامل الزيارات أو لأنّه من شيوخ محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب الذي هو من أجلاء الطبقة السابعة ، ولرواية جماعة أُخرى من الاجلاء عنه ولكن قد تقدّم ضعف هذه الوجوه ، وأما الثاني فهو وإن ذكره النجاشي والشيخ إلا أنهما لم يوثقاه ، نعم وثقه صاحب الوسائل (قده) لرواية الكشي مدحه ودعاء الصادق له ورواية الكليني في الجنائز مدحاً له ، ولأن له كتاباً ذكره الشيخ والنجاشي وربما يوثق لكونه من رجال الكامل وجميع ذلك ضعيف ايضاً.

وبما تقدّم يظهر ضعف رواية الصدوق أيضاً ؛ لأنها تنتهي إلىٰ عقبة بن خالد نفسه ، مضافاً إلىٰ أنها مرسلة حيث ان الصدوق (قده) لم يذكر طريقه إلىٰ عقبة في المشيخة ، وأمّا دفع الارسال عنها بأن للشيخ (قده) طريقاً معتبراً في الفهرست إلىٰ كتاب عقبة وقد توسطه الصدوق فيعلم بذلك سنده اليه فتخرج الروايات التي ابتدأ فيها باسمه في الفقيه عن الارسال ( فمخدوش ) إذ لم يثبت ان الصدوق التزم في الفقيه أن لا يبتدئ إلا باسم من أخذ الحديث من كتابه ، بل ثبت خلافه في جملة من الموارد كما سبقت الاشارة إلىٰ ذلك ، وعلىٰ ضوء ذلك فمن أين يعلم إنّه أخذ حديث عقبة هذا من كتابه مباشرة لا من كتب مشايخه أو مشايخ مشايخه مثلاً كي يجدي استكشاف طريقه الى

٢٧

كتاب عقبة في اخراج رواياته في الفقيه عن الارسال فتأمل.

والذي يهون الامر ان مورد الاشكال في سند الكليني والشيخ إلىٰ عقبة إنما هو محمّد بن عبد الله بن هلال ـ كما تقدّم ـ وهو مذكور أيضاً في السند المذكور في الفهرست إلىٰ كتاب عقبة ، فإن أمكن تصحيح طريق الكليني والشيخ بوجه فلا حاجة إلىٰ دفع شبهة الارسال عن رواية الصدوق بما ذكر.

الجهة الثانية : في انجبار ضعف سندها بعمل الأَصحاب وعدمه.

قد يقال إن رواية عقبة هذه وإن كانت ضعيفة سنداً إلا انّها منجبرة بعمل الاصحاب ، فقد أوردها المشايخ الثلاثة في كتبهم من غير ردّ ظاهر وكذا من بعدهم من المتأخرين فيستظهر من ذلك عملهم بها واعتمادهم عليها.

وفي مقابل ذلك قد يدعى وهنها باعراض الاصحاب عنها فيلزم طرحها حتىٰ وان امكن تصحيح سندها ببعض الوجوه المتقدمة ، وتقريب دعوىٰ الاعراض أن يقال إنَّ مقتضىٰ استخدام الجمع لا المثنىٰ في قولهعليه‌السلام ( قضىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة بين الشركاء ) ثبوت الشفعة لازيد من شريك واحد ، وهذا خلاف المشهور ، فإنّ المشهور بينهم شهرة عظيمة كادت أن تكون اجماعاً عدم ثبوت حق الشفعة إلا مع وحدة الشريك ، فالشفعة مجعولة عندهم لازالة الشيوع في الأموال لا لتقليله ، ولم يخالف في ذلك غير ابن الجنيد حيث حكم بثبوتها للشركاء مطلقاً ، وغير الصدوق حيث قال بثبوتها للشركاء في خصوص العقار كما نقله عنهما السيد المرتضى في الانتصار(١) وردّ عليهما قائلاً : ( إن اجماع الإماميّة تقدّم الرجلين فلا اعتبار بخلافهما ) ونقل أيضاً : متن رواية عقبة هذه وعدّها من اخبار الاحاد التي لا توجب علماً وذكر وجهين في تأويلها.

__________________

(١) الانتصار : ٢١٧ ـ ٢١٨.

٢٨

وقال الشيخ في الخلاف(١) بعد اختيار المسلك المشهور : دليلنا علىٰ المسألة الأولىٰ إنّه إذا كان الشريك واحداً فلا خلاف في ثبوت الشفعة وإذا كانوا أكثر من ذلك فلا دليل علىٰ ثبوت الشفعة لهم ، واخبار اصحابنا التي يعتمدونها ذكرناها في الكتاب الكبير فنصرة القول الآخر اخبار رويت في هذا المعنىٰ والاقوى عندي الاول.

هذا ولكن يمكن أن يقال إنّه لا يظهر من الرواية ما يخالف المسلك المشهور ولذا لم يعتبرها الشيخ في التهذيبين من الاخبار المخالفة في الباب ، ففي التهذيب(٢) نقلها علىٰ انها من الاخبار الموافقة ولم يعلق عليها بشيء ، كما فعل ذلك بالنسبة إلىٰ بعض الاخبار الآخر ، وفي الاستبصار(٣) نقل عدّة اخبار تدل علىٰ ثبوت الشفعة في اكثر من شريكين وردها ولم يذكر هذه الرواية في ضمنها رغم إنّه أوردها في التهذيب.

والوجه في ذلك ان استخدام صيغة الجمع في الرواية إنّما هو باعتبار ذكر لفظتي ( الأرضين ) ( والمساكن ) فيها ، فهو من مقابلة الجمع بالجمع وظاهره الانحلال ، فلا دلالة في الرواية علىٰ ثبوت الشفعة للشركاء بلحاظ مورد واحد من ارض أو مسكن لتقتضي خلاف ما هو المشهور في المسألة حتىٰ يدعىٰ وهناً باعراض الاصحاب عنها. هذا بالنسبة لدعوى وهنها بإعراض الأَصحاب.

وأما دعوىٰ انجبارها بعمل الاصحاب فهي في غير محلها أيضاً ، لأن كبرى الانجبار غير مسلمة علىٰ اطلاقها بل للانجبار مواضع خاصة ليس المقام منها وتوضيح ذلك موكول إلىٰ محله.

الجهة الثالثة : وهي عمدة ما ركز عليه في كلماتهم : في انّه هل يظهر

__________________

(١) الخلاف ٣ : ٤٣٥ ـ ٤٣٦ مسألة ١١.

(٢) التهذيب ٧ / ١٦٤ / ٧٢٧.

(٣) الاستبصار ٣ / ١١٦ ـ ١١٧ / ٤١٦ ـ ٤١٨.

٢٩

من الرواية ارتباط قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) ، بالحكم فيها بثبوت الشفعة للشركاء أم لا ؟ وعلىٰ التقدير الاول فهل هناك قرينة خارجيّة توجب رفع اليد عن هذا الظهور أم لا ؟

ووجه العناية بهذا البحث : انّه لو ارتبطت جملة ( لا ضرر ولا ضرار ) بالحكم بثبوت الشفعة ، فإن ذلك يقتضي عدم إمكان تفسير هذه الجملة بما استظهره بعضهم منها من ارادة النهي التحريمي فقط ، ولذا أصر جماعة منهم علىٰ عدم الارتباط بينهما أوّلهم العلآمة شيخ الشريعة (قده) حيث قال في رسالته(١) وهو يشرح منشأ ميله النفسي إلىٰ ذلك : إن الراجح في نظري القاصر إرادة النهي التكليفي من حديث الضرر ، وكنت استظهر منه ـ عند البحث عنه في اوقات مختلفة ـ إرادة التحريم التكليفي فقط ، إلا إنّه يمنعني عن الجزم بذلك حديث الشفعة وحديث النهي عن منع فضل الماء ، حيث إن اللفظ واحد ولا مجال لارادة ما عدا الحكم الوضعي في حديث الشفعة ، ولا التحريم في منع فضل الماء بناءً علىٰ ما اشتهر عند الفريقين من حمل النهي علىٰ التنزيه ، فكنت أتشبث ببعض الأُمور في دفع الاشكال ، إلىٰ أن استرحت في هذه الاواخر وتبين عندي ان حديث الشفعة والناهي عن منع الفضل لم يكونا حال صدورهما من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مذيّلين بحديث الضرر ، وان الجمع بينهما وبينه جمع من الراوي بين روايتين صادرتين عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وقتين مختلفين.

واضاف قده : وهذا المعنىٰ وإن كان دعوىٰ عظيمة وأمراً يثقل تحمله علىٰ كثيرين ويأبىٰ عن تصديقه كثير من الناظرين إلا انّه مجزوم به عندي.

وقد وافقه في هذا الادعاء جمع منهم المحقق النائيني والاصفهاني

__________________

(١) رسالة لا ضرر ولا ضرار : ٢٨.

٣٠

٠ (١) وقد وافقاه في كيفية الاستدلال علىٰ ذلك أيضاً في الجملة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

و الكلام يقع تارة في تحقيق ظهور الرواية وأُخرى في ملاحظة القرائن الخارجية فهنا بحثان :

أمّا البحث الأَول : لا اشكال ظاهراً في ظهور سياق الحديث في الارتباط بين الحكم بثبوت الشفعة للشركاء وبين كبرى لا ضرر ولا ضرار ، وقد اعترف بذلك جمع ممّن اصروا علىٰ عدم الارتباط بينهما بحكم القرائن الخارجية كالعلامة شيخ الشريعة والمحقق النائيني٠ ، ولكن لتوضيح الامر لابد من ملاحظة نقطتين :

النقطة الأولىٰ : في تعيين فاعل ( قال ) في الجملة الثانية أي ( وقال لا ضرر ولا ضرار ) فإن المحتمل في ذلك ابتداءً وجهان :

١ ـ أن يكون هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويكون قوله ( قال ) عطفاً علىٰ قوله ( قضىٰ رسول الله ).

٢ ـ ان يكون هو الامام الصادقعليه‌السلام ويكون قوله ( قال ) عطفاً علىٰ قوله ( قال قضىٰ رسول الله ) ويكون مقصودهعليه‌السلام من اضافة هذه الجملة علىٰ حكاية قضاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجملة الأولىٰ بيان حكمة تشريع الشفعة ، كما أن مقصودهعليه‌السلام باضافة الجملة الثالثة توضيح معنىٰ الشركاء في الجملة الأولىٰ وبيان أن المراد به المالك للكسر المشاع كما ذهب اليه المحدّثون من العامة ، خلافاً لغيرهم ممّن ذهبوا إلىٰ ثبوت حق الشفعة للشريك المقاسم والجار ونحوهما.

__________________

(١) رسالة لا ضرر ولا ضرار تقريرات المحقق النائيني ص ١٩٤ ، نهاية الدراية للمحقق الاصفهاني ٢ / ٣٢٢.

٣١

والظاهر من الحديث هو الوجه الاول أمّا ( اولاً ) فلأن الظاهر من الرواية أن ( قال ) في الجملة الثانية معطوف علىٰ أقرب فعل سبقه مما يصبح أن يكون معطوفاً عليه وهو ( قضىٰ ) لا علىٰ ما قبله وهو ( قال ) في الجملة الأولىٰ ، وأما ( ثانياً ) فلمعروفية صدور هذه الجملة ( لا ضرر ولا ضرار ) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدى الفريقين ممّا يوجب انصراف القول اليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم يصرّح بخلافه.

ويقوى ظهور الحديث في هذا الوجه بناءً علىٰ رواية الفقيه من اسناد الجملة الثالثة إلىٰ الصادقعليه‌السلام ، فإنّه لو كان قائل الجملة الثانية هو الصادقعليه‌السلام أيضاً لما كان هناك وجه لتغيير سوق الكلام في الجملة الثالثة دون الثانية بل كان العكس هو الانسب ، فالتصريح في الجملة الثالثة بعد الاضمار في الجملة الثانية يعيّن كون القائل في الجملة الثانية هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلا انّ الشأن في اثبات وقوع التصريح بالقائل في الجملة الثالثة من هذه الرواية بمجرد نسخة الفقيه إذ لم يرد في نقل الكافي والتهذيب ، ولا يمكن ترجيح نسخة الفقيه علىٰ نسختهما إلا بناءً علىٰ تقديم اصالة عدم الغفلة في جانب الزيادة علىٰ اصالة عدم الغفلة في جانب النقيصة ولكن هذا لم يثبت بدليل واضح كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

هذا مع ان الجملة الثالثة منقولة في كتب العامة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً فيقوى احتمال ان يكون اسنادها إلىٰ الصادقعليه‌السلام في نسخة الفقيه اجتهاداً من الصدوق (قده) أو بعض من تقدمه من الرواة.

وربما يرجح الاحتمال الثاني في الرواية ـ أي كون فاعل قال في الجملة الثانية هو الصادقعليه‌السلام ـ بأن الفيض الكاشاني نقل في

٣٢

الوافي(١) قوله ( قال ) من الجملة الثانية معقّباً بقولهعليه‌السلام ، وهذا يناسب كون القائل هو الامامعليه‌السلام لا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلا لقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو المعهود بالنسبة إلىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الروايات.

ولكن يرد عليه اولاً بأنّه لم يعلم وجود هذه الجملة أيعليه‌السلام في نقل عقبة بن خالد فربما كانت اضافة من النساخ أو من صاحب الوافي (قده) استظهاراً ، وثانياً إن استعمال جملةعليه‌السلام بالنسبة إلىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مذكور في بعض الموارد(٢) كما يظهر ذلك بالتتبع فلا ينبغي أن يعد ذلك مرجحاً للاحتمال الثاني.

فتلخص مما ذكرناه أنَّ الرواية ظاهرة في كون قائل الجملة الثانية ـ كالأولى ـ هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

النقطة الثانية : في انّه بعد ما ثبت أن الجملة الثانية كالأُولى من كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فينبغي أن يبحث هل ان الجمع بينهما من قبيل الجمع في الرواية أي أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع بين قضائه بثبوت الشفعة للشركاء وبين قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) ، أو انّه من قبيل الجمع في المروي فيكون من قبل الامامعليه‌السلام أو الراوي ؟.

ففي المقام ثلاثة احتمالات :

١ ـ أن يكون الجمع من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢ ـ أن يكون من قبل الامامعليه‌السلام .

٣ ـ أن يكون من قبل الراوي عنه.

__________________

(١) الوافي مجلد ٣ جزء ١٠ / ١٠٣.

(٢) الفقيه ٤ / ٢٥٨ وفي الوسائل ٣٠ : ١٥٠ واعلم انّه إذا أُطلق في الرواية لفظ ( قالعليه‌السلام ) فالمراد به النبي الخ.

٣٣

والفارق بين هذه الاحتمالات انّه علىٰ الاحتمال الأخير لا يجب فرض ترابط بين مضمون الجملتين فإنّهما ـ علىٰ هذا الاحتمال ـ روايتان مختلفتان جمع الراوي بينهما في النقل.

وأمّا علىٰ الاحتمالين الأَولين حيث يكون الجمع من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الامامعليه‌السلام فلا بد من فرض ترابط بينهما في المفاد كما هو واضح فإنّه إذا كان الجمع من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا بُدّ ان يفرض ان الجملة الثانية تتكفل لبيان حكمة تشريع الشفعة ، وكذا إذا كان الجمع من قبل الامامعليه‌السلام فإنّه لا بُدّ ان يفرض ان اضافة الجملة الثانية جاءت بياناً لحكمة التشريع أو بغرض تأييد ثبوت الجملة الأولىٰ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بانسجامها مع القول المعروف عنه من انّه ( لا ضرر ولا ضرار ) من باب التطبيق لقاعدة الأخذ بشواهد الكتاب والسنة في تقويم الأَحاديث كما صرحت بذلك الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام (١) .

هذه هي الاحتمالات المتصورة. وأمّا الترجيح بين هذه الاحتمالات : فالظاهر ان اضعفها الاحتمال الاخير أي احتمال كون الجمع بين الجملتين من قبل الراوي ، إذ لو كان كذلك لكرّر كلمة ( قال ) مرتين عند نقله الجملة الثانية حتىٰ يقع قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا مقولاً لقول آخر من الامامعليه‌السلام ، فظاهر عدم تكرار لفظة ( قال ) ان قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) وقد عقد في الكافي ١ / ٥٥ باباً لذكر هذه الروايات كما فعل من قبله البرقي في المحاسن ، وقد بحث السيّد الاستاذ مد ظله عن مفاد هذه الاخبار في ابحاثه الاصولية في بحث حجية الخبر الواحد وتعارض الادلة الشرعيّة وانتهى إلىٰ تفسيرها بتفسير مختلف عن التفسير المتعارف لدى المتأخرين وهو انها تنيط اعتبار الحديث ـ وإن كان صحيحاً سنداً ـ بانسجام محتواه مع المبادئ الشرعيّة الثابتة بالكتاب والسنة وسيأتي لهذا توضيح في الفصل الثالث من هذا الكتاب.

٣٤

وقضاءه معاً كانا مقولين لقول واحد من الامامعليه‌السلام ممّا يعني ان الجمع بينهما إنّما كان من قبلهعليه‌السلام إمّا ابتداءً أو تبعاً لجمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهما.

وبعد سقوط الاحتمال المزبور يدور الأَمر بين الاحتمالين الأَولين ولعل اقربهما هو الاحتمال الأَول أي كون الجمع بين قضاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله إنّما جاء من قبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه.

البحث الثاني : في أنه بعد أن ثبت ان مقتضىٰ ظاهر الحديث هو الارتباط بين الحكم بثبوت الشفعة وبين كبرى لا ضرر ولا ضرار فهل هناك قرائن خارجيّة توجب رفع اليد عن الظهور المذكور وتثبت أن الجمع بين الجملتين إنّما كان من قبل الراوي للحديث ـ وهو عقبة بن خالد ـ أم لا ؟ قولان :

ذهب إلىٰ الأَول العلامة شيخ الشريعة ووافقه فيه جمع ممّن تأخر عنه فقالوا ان هناك قرائن تشهد علىٰ ان الجمع بين الجملتين إنما جاء من قبل عقبة بن خالد ، وانّه لا ارتباط بين كبرى لا ضرر ولا ضرار والحكم بثبوت الشفعة للشركاء في الأرضين والمساكن.

و لكن الصحيح عندنا هو القول الثاني لعدم تمامية تلك الشواهد المدعاة بل هناك بعض القرائن المساندة لظهور الحديث في الارتباط بين الجملتين.

منها ان كون الجمع بينهما من قبل الراوي لا ينسجم مع تكرار ( لا ضرر ولا ضرار ) بعد حديث منع فضل الماء ـ كما سيأتي في القضية الثالثة ـ فإنّه لو كان عقبة بن خالد هو الذي اتبع ذكر قضائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة بحديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو حديث ( لا ضرر ولا ضرار ) فلماذا كرّر ذكر هذا الحديث مرة أُخرى بعد حديث منع فضل الماء ؟ وأي

٣٥

مبرر لهذا التكرار ما دام يفترض عدم الارتباط بينه وبين ذينك الحديثين ـ أي حديث الشفعة وحديث منع فضل الماء ـ ، فالتكرار المذكور قرينة واضحة علىٰ ان تعقيب حديث الشفعة بحديث لا ضرر إنما كان لأجل الارتباط بينهما بملاحظة الجمع بينهما من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الامامعليه‌السلام .

و أمّا ما يمكن أن يستشهد به للقول الأول فوجوه :

الوجه الأَول : ما ذكره العلامة شيخ الشريعة (قده) في رسالته(١) قائلاً : يظهر بعد التروي والتأمل التام في الروايات أن الحديث الجامع لأَقضية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما قضىٰ به في مواضع مختلفة وموارد متشتتة كان معروفاً ، عند الفريقين.

أما من طرقنا فبرواية عقبة بن خالد عن الصادقعليه‌السلام .

وأما من طرق أهل السنة فبرواية عبادة بن الصامت فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده الكبير الجامع لثلاثين الف عن عبادة بن الصامت(٢) قال إن من قضاء رسول الله أن المعدن جبار والبئر جبار والعجماء جرحها جبار وقضى في الركاز الخمس ، وقضى إن ثمر النخل لمن أبرّها إلا أن يشترط المبتاع

وقد نقلقدس‌سره هذا الحديث بطوله وهو يشتمل علىٰ عشرين قضاءاً ، وجاء في السادس منها ( وقضى بالشفعة بين الشركاء في الارضين والدور ) ، وجاء في الخامس عشر منها ( وقضى أن لا ضرر ولا ضرار ) ، كما جاء في السابع عشر والثامن عشر منها ( وقضى بين أهل المدينة في النخل : لا

__________________

(١) رسالة لا ضرر ولا ضرار : ٢٨ ـ ٣٤.

(٢) روي حديث عبادة هذا في صحيح أبي عوانة والمعجم الكبير للطبراني أيضاً كما جاء في مختصر كنز العمال بهامش مسند احمد ٢ / ٢٠٣.

٣٦

يمنع نقع بئر وقضى بين أهل البادية إنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل الكلأ )(١) .

وقالرحمه‌الله بعد نقل الحديث ( وهذه الفقرات كلها أو جلّها مروية من طرقنا ، موزعة علىٰ الأبواب وغالبها برواية عقبة بن خالد وبعضها برواية غيره ، وجملة منها برواية السكوني ، والذي اعتقده انّها كانت مجتمعة في رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام إلا ان أئمة الحديث فرقوها علىٰ الأبواب ).

ثم تعرض (قده) لتخريج هذه القضايا من طرقنا إلا إنّه لم يخرّج من القضايا العشرين التي وردت في خبر عبادة سوى اثني عشر ، منها سبعة عن عقبة بن خالد ـ وهي ثلاثة موارد مضافاً إلىٰ الموارد التي ذكرناها ممّا اختلف فيه النقلان ـ وخمسة لم يذكر الراوي لها.

ثم قال ره : قد عرفت بما نقلنا مطابقة ما روي في طرق القوم مع ما روي من طرقنا من غير زيادة ونقيصة ، بل بعنوان تلك الالفاظ غالباً إلا الحديثين الاخيرين المرويّين عندنا من غير زيادة قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) وتلك. المطابقة بين الفقرات ممّا يؤكد الوثوق بأن الاخيرين أيضاً كانا مطابقين لما رواه عبادة من عدم التذييل بحديث الضرر ، وأن غرض الراوي انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال كذا وقال كذا ، لا انّه كان متصلاً به وفي ذيله مما يرجع إلىٰ انّه كان حديث الشفعة مذيلاً بحديث الضرر وكذلك الناهي عن منع فضل الماء واسقطهما عبادة بن الصامت في نقله وانّه روى جميع الفقرات مطابقة للواقع إلا الفقرتين من غير خصوصية فيهما ، ولا تصوّر نفع له أو ضرر عليه في النقل للذيل وتركه.

ثم قال قده : وبعد هذا كله : فظهور كون هذا الذيل متصلاً بحديث

__________________

(١) مسند أحمد ٥ : ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

٣٧

الشفعة حال صدوره ليس ظهوراً لفظياً وضعياً لا يرفع اليد عنه إلا بداع قوي وظهور أقوىٰ ، بل هو ظهور ضعيف يرتفع بالتأمل فيما نقلناه ، سيّما مع ما علم من استقراء رواياته ـ أي روايات عبادة ـ من اتقانه وضبطه وما صرّحوا به إنّه كان من اجلاء الشيعة.

ثم ذكر ( ره ) بعض ما يدل علىٰ جلالة عبادة وشهادته المشاهد مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجوعه بعده إلىٰ أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وملخص ما أفادهقدس‌سره انّه وإن كان ظاهر رواية عقبة ان كبرى لا ضرركانت ذيلاً لحديثي الشفعة ومنع فضل الماء في مرحلة سابقة علىٰ نقل عقبة ، إلا انّه يجب رفع اليد عن هذا الظهور الذي هو ضعيف اساساً بملاحظة ان اقضية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رويت بطريق العامة عن عبادة بن الصامت ولم يذكر فيها هذه الكبرىٰ ذيلاً لحديثي الشفعة ومنع فضل الماء بل جاء ذكرها قضاءاً مستقلاً ، وحيث ان عقبة بن خالد قد روى أيضاً اقضية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما يدل علىٰ ذلك وجود جملة منها منقولة عنه في الجوامع الحديثية الموجودة بأيدينا ـ والمظنون انّها كانت مجتمعة في روايته وإنّما فرّقها أصحاب الكتب ليلحقوا كل قضية ببابها فيستنتج من ضم هذا إلىٰ ذاك أن الجمع بين حديثي الشفعة ومنع فضل الماء وحديث لا ضرر في رواية عقبة إنما هو من قبيل الجمع في الرواية علىٰ حذو ذلك في حديث عبادة.

هذا ملخص كلامهقدس‌سره في هذا الوجه وقد وافقه عليه جمع من المحققين(١) .

ولتحقيق ما أفاده ( ره ) لا بُدّ من البحث :

__________________

(١) لاحظ رسالة لا ضرر ولا ضرار تقريرات المحقق النائيني : ١٩٤ ، ونهاية الدراية للمحقق الاصفهاني ٢ / ٣٢٢.

٣٨

اولاً عن مدى اعتبار أصل حديث عبادة بن الصامت.

و ثانياً عمّا يقتضيه الموقف في الحكم بينه وبين حديث عقبة بن خالد فهنا جهتان :

الجهة الأولىٰ : في اعتبار حديث عبادة وعدمه ، ويلاحظ بهذا الشأن أُمور :

الأَول : أنّه لو ثبتت وثاقة عبادة بن الصامت ـ كما ذكره العلامة شيخ الشريعة قده ـ فلا طريق لنا لاثبات وثاقة غيره من رجال سند الحديث المذكور ، لأنهم من رجال العامة غير المذكورين في كتبنا ، فلا تجدي وثاقة عبادة وحده في إمكان الاعتماد علىٰ حديثه هذا بعد عدم نقله بطريق معتبر عندنا.

الثاني : إن هذا الحديث لم تثبت صحته حتىٰ عند العامة الذين رووه واثبتوه في كتبهم فإنه حديث مرسل منقطع الاسناد كما تعرض لذلك جملة من علمائهم فإنّ إسحاق الراوي عن عبادة بن الصامت حديثه هذا لم يدركه ، كما نص علىٰ ذلك البخاري والترمذي وابن عدي وغيرهم(١) .

الثالث : إنّ ما ذكرهقدس‌سره من معروفية أقضية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجتمعة عند العامة برواية عبادة بن الصامت لم يقترن بشاهد أصلاً بل ربما كانت الشواهد علىٰ خلافه ، ويظهر ذلك بملاحظة سند الحديث ومصدره.

أمّا عن سند الحديث فلأنّه قد تفرّد بنقل هذه الاقضية مجتمعة عن

__________________

(١) كما في تهذيب التهذيب ١ / ٢٢٤ وتحفة الأشراف ٤ : ٢٣٩ وابن ماجة ٢ : ٧٨٤ ذيل الحديث ٢٣٤٠.

٣٩

عبادة : إسحاق بن يحيى وتفرد بروايتها عن إسحاق موسى بن عقبة ، فليس لها حظّ من الشهرة الروائية.

وأما عن مصدر الحديث فلأن هذا الحديث لم يوجد بطوله في مجاميعهم الحديثية المهمة كالصحاح الستة ـ بل لم ينقل في شيء من صحاحهم جملة ( لا ضرر ولا ضرار ) إلا في سنن ابن ماجة(١) ـ كما أن كثيراً من فقراتها الاخرى غير مذكورة فيها ، فكيف يدّعى مع ذلك شهرته ومعروفيته عندهم.

نعم ورد ذكره في مسند احمد وصحيح أبي عوانة ومعجم الطبراني ولكن هذه الكتب الثلاثة ليست بتلك فسّر والاعتبار عندهم ، واشهرها مسند احمد الذي اطّلع العلامة شيخ الشريعة علىٰ تضمنه لهذا الحديث ، غير انّ المسند تدور حوله جملة من الشبهات :

( منها ) انّه بصورته المعروفة ليس من جمع احمد بن حنبل ولذا لم يروه عنه تلامذته من غير أهل بيته وإنّما نقله عنه أهل بيته خاصة سيّما ابنه عبد الله ، فعن شمس الدين الجزري : إن الامام احمد شرع في جمع المسند لكنه في أوراق متناثرة وفرقه في اجزاء منفردة علىٰ نحو ما تكون المسوّدة ثم توقّع حلول المنية قبل حصول الأمنية فبادر باسماعه لاولاده وأهل بيته ومات قبل تنقيحه وتهذيبه فبقي علىٰ حاله ثم جاء بعده ابنه عبد الله فألحق به ما يشاكله وضم اليه من مسموعاته ما يشابهه ويماثله(٢) .

ومنها : ان المسند الموجود بايدينا ليس جميعه من رواية احمد بل لابنه

__________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ / ٧٨٤ / ٢٣٤٠ و ١٤٣١.

(٢) تاربخ المذاهب الإسلامية محمود أبو زهرة ٢ / ٥٢٤ ـ ٥٢٥.

٤٠

عبدالله فيه اضافات كثيرة قيل إنّها نحو عشرة الآف(١) ، كما قيل إن لأَحمد ابن جعفر القطيعي الراوي عن ابنه عبد الله بعض الزيادات(٢) . وربما كانت روايتنا هذه مما الحقه عبد الله بن احمد بمسند ابيه(٣) فإنّه رواها أَوَّلاً عن غير أبيه قال حدثنا أبوكامل الجحدري ، حدثنا الفضيل بن سليمان قال : ( حدثنا موسى بن عقبة ، عن إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، عن عبادة قال : إن من قضاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخ ، ثم نقلها عن أبيه ، عن الصلت بن مسعود ، عن الفضيل بن سليمان الخ ).

الجهة الثانية : في المقارنة بين حديث عبادة بن الصامت وحديث عقبة ابن خالد وأنه هل ينبغي توجيه الثاني بما يوافق الاول من حيث كون حديث لا ضرر ولا ضرار قضاءً مستقلاً لا ربط له بحديث الشفعة ولا بغيره ـ كما صنعه العلامة شيخ الشريعة (قده) ـ أم لا ، لعدم تمامية ما افاده بهذا الصدد ؟

الظاهر هو الثاني لعدة ملاحظات :

أولاها : ما تقدّم بيانه آنفاً من أن حديث لا ضرر مذكور في رواية عقبة مرتين : تارة عقيب حديث الشفعة واُخرى عقيب حديث منع فضل الماء ، ولا يمكن تخريج ذلك مع البناء علىٰ إنّه كان قضاء مستقلاً في رواية عقبة ـ كما هو كذلك في رواية عبادة ـ فإنّه لا معنىٰ لتكرار قضاء واحد في مجموعة واحدة ، فتكرر جملة لا ضرر ولا ضرار خير دليل علىٰ كونها مرتبطة بالحديثين المذكورين قبلها وذيلاً لهما ، ولو كانت قضاءً مستقلاً لاقتصر عقبة على

__________________

(١ و ٢) علوم الحديث ومصطلحه لصبحي صالح : ٣٩٥.

(٣) ومن هنا نسب جماعة من علماء العامة هذا الحديث أو بعض قطعه إلىٰ زيادات عبد الله في مسند أبيه ( منهم ) السيوطي في جمع الجوامع ـ كما جاء في كنز العمال الذي هو مرتب جمع الجوامع ٤ / ٦١ ـ ٦٢ ح ٩٥١٩ ، و ( منهم ) ابن تيمية صاحب منتقىٰ الأخبار ، لاحظ نيل الأوطار : ٥ / ٣٨٥ و ٣٨٨.

٤١

ذكرها مرة واحده عقيب احدهما كما هو واضح.

ثانيتها : إن الأنسب بمعنىٰ ( لا ضرر ولا ضرار ) وعدّه من أقضية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكون قد القي في مورد خاص ـ كما ورد في رواية عقبة ـ لا أن يكون كلاماً مستقلاً قد أُلقي ابتداءً كما تضمنه حديث عبادة ، وسيأتي لهذا توضيح في الجواب عن الوجه الثاني.

ثالثتها : إنّه لم يثبت ما ذكرهقدس‌سره من أن عقبة بن خالد قد روى اقضية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجتمعة ـ كما فعل عبادة ـ ليتم ما استظهره (قده) بناءً علىٰ ذلك من ان الجمع بين حديث لا ضرر وحديث الشفعة جاء نتيجة للجمع بين اقضية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رواية عقبة لا لكونه ذيلاً له كما يوهمه ظاهر روايته.

فإنّ الذي ثبت روايته عن عقبة من القضايا العشرين التي رواها عبادة إنّما هي سبع قضايا فقط ، وهذا المقدار لا يدل بوجه علىٰ ما ادعاه ( ره ) من ان عقبة نقل أو تصدى لنقل اقضية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجتمعة.

ومن الغريب ما افاده (قده) من معروفية الاقضية المذكورة لدى الخاصة عن طريق عقبة رغم انحصار الراوي عنه بمحمد بن عبد الله بن هلال ، وعدم ثبوت نقله لأغلبها ، وعدم رواية المنقول منها مجتمعاً في شيء من مصادر الحديث الموجودة بايدينا

فدعوىٰ اشتهار اقضية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدى الخاصة من طريق عقبة تماثل دعوىٰ اشتهارها لدى العامة من طريق عبادة الذي تقدّم بيان ضعفه.

رابعتها : إنّهقدس‌سره استبعد تذييل قضاء النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موردي حديث الشفعة ومنع فضل الماء بكبرى ( لا ضرر ولا ضرار ) مع عدم رواية عبادة لها قائلاً ان لازم ذلك أنّه روى جميع فقرات الحديث

٤٢

مطابقة للواقع إلا الفقرتين من غير خصوصية فيهما ولا تصور نفع له أو ضرر عليه في النقل للذيل وتركه.

ولكن هذا الاستبعاد في غير محله ، لأن مجرد عدم تصور نفع له في الترك أو ضرر عليه في النقل لا يقوم حجة علىٰ عدم وجود الذيل واقعاً ، إذ ترك نقل بعض الحديث قد ينشأ من عدم العناية به أو عدم التنبه له أو نسيانه إلىٰ غير ذلك من العوامل والاسباب ولا ينحصر بالنفع والضرر الشخصي.

خامستها : إن احاديثنا اوثق ـ نوعاً ـ في كيفية النقل من احاديث العامة واقرب إلىٰ الصحة والاعتبار ، وذلك مما اوضحناه في مبحث ( تاريخ تدوين الحديث ) من مباحث حجية خبر الواحد من ان تدوين الاحاديث عند العامة ، قد تأخر عن عصر صاحب الرسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يزيد علىٰ مائة عام ، مما استتبع ذلك اتكاء رواتهم علىٰ الحفظ في نقل الروايات ، ومعلوم ان ذلك يفضي في حالات كثيرة إلىٰ إهمال خصوصيات الكلام ، لأن ذاكرة الرواة غير المعصومين لا تستوعب عادة جميع خصوصيات الرواية وملابساتها.

وهذه العلّة لا توجد في رواياتنا بالشكل الذي يوجد في روايات العامة ، لأن رواياتنا متلقاة عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام وخصوصاً الصادقينعليهما‌السلام ، وقد تم تأليف الكثير من الأصول والكتب والمصنفات في عصرهما.

وعلى ضوء هذا فلا يستبعد في المقام أن يكون عدم ذكر كبرى لا ضرر ولا ضرار ـ في رواية عبادة ـ في ذيل حديثي الشفعة ومنع فضل الماء ، وذكرها مستقلاً مستنداً إلىٰ توهم بعض رواة تلك الرواية كونها قضاءاً مستقلاً ، ويكون ذكرها في رواية عقبة في ذيل الحديثين استدراكاً من الامامعليه‌السلام لما فات رواة العامة من الحديث ، وتكميلاً لما حدث فيه من النقص.

٤٣

فعلى هذا الاساس فرواية عقبة أحق بالاعتماد من حديث عبادة في كيفية النقل.

هذا كله مضافاً إلىٰ أن المقام داخل في كبرى دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة ، إذ يدور أمر حديثي الشفعة ومنع فضل الماء بين أن يكونا مشتملين علىٰ كبرى لا ضرر ولا ضرار ـ كما في رواية عقبة ـ وعدمه ـ كما في رواية عبادة ـ ، ومقتضى ما ذهب إليه العلامة شيخ الشريعةقدس‌سره من ترجيح جانب الزيادة في امثال ذلك هو ترجيح رواية عقبة لا عبادة.

نعم ، هذا لا يتجه علىٰ المختار ـ علىٰ ما سيأتي توضيحه ـ من عدم ثبوت ترجيح جانب الزيادة عند دوران الامر بينها وبين النقيصة بل العبرة في الترجيح بتوفر القرائن والمناسبات التي تورث الاطمئنان. ولا يبعد ثبوت الزيادة إذا كانت جملة تامة الدلالة مع ورودها في خبر صحيح.

وكيف كان فقد ظهر بما تقدّم عدم تمامية هذا الوجه الذي ذكره (قده) كقرينة خارجيّة علىٰ كون الجمع بين حديثي الشفعة ومنع فضل الماء وكبرى لا ضرر من قبل الراوي.

الوجه الثاني : ما افاده المحقق النائينيقدس‌سره (١) من انّه لو كان ـ لا ضرر ولا ضرار ـ من تتمة قضية أُخرى في رواية عقبة لزم خلوّ رواياته الواردة في الاقضية عن هذا القضاء ، الذي هو من اشهر قضاياهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه لو كان تتمة لقضية أُخرى لا يصحّ عدّه من قضاياهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستقلاً.

و يرد عليه :

اولاً : إنّه لم يثبت كون هذا القضاء من أشهر قضاياه صلّى الله عليه

__________________

(١) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني : ١٩٤.

٤٤

وآله في العصر الأَول ، وقياس العصور المتأخرة بالعصر الأَول في غير محله.

وثانياً : إن ما ذكره ( ره ) مبني علىٰ أن عقبة بن خالد قد روى جميع أقضية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو معظمها ، فيقال حينئذٍ إنّه إذا كان قد أورد ( لا ضرر ) في ذيل حديثي الشفعة ومنع فضل الماء ، فهذا يعني أنّه قد فاته أن ينقل قضاءاً مستقلاً من اشهر أقضية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع إنه نقل معظم أقضية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بعيد.

ولكن قد ذكرنا فيما سبق إنّه لم تثبت رواية عقبة إلا للقليل من أقضية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يتجه الاستبعاد المذكور.

وثالثاً : أن كون ( لا ضرر ) قضاءاً لا ينافي وقوعه في ضمن مورد خاص حتىٰ يرجع عدم نقله في غير ذلك المورد من قبل عقبة إلىٰ عدم نقله له كقضاء ، بل يمكن أن يقال إنّ الانسب بعدّه قضاءاً أن يكون قد أُلقي في واقعة خاصة لا ابتداءاً ، لأنّ الكلام الابتدائي لا يعبّر عنه إنّه من قضايا المتكلم بل يقال إنه من حِكمه أو من جوامع كلمه.

ويشهد لهذا كلمات بعض متقدمي الأُصوليين كالشيخ في العدة والشهيد في تمهيد القواعد حيث ناقشا في استفادة العموم من الروايات المتضمنة لقوله ( قضىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) علىٰ أساس أنها تحكي عن أحكام ذكرت في موارد جزئية فلا يمكن أن يستفاد منها العموم ، وأنها من جوامع كلمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل هي قضاء في مورد خاص.

قال الشيخ في العدّة ـ بعد ما فرق بين عبارة ( قضىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشاهد واليمين ) وبين عبارة ( قضىٰ أن الخراج بالضمان وإن الشفعة للجار ) ، بأنه يفهم من الأَوّل حكاية فعل لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا غير ، ولكن السابق إلىٰ الفهم من الاخير أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك قولاً لا انّه عمل به فحسب ـ قال : إلا أنه وإن كان كذلك فهو لا يقتضي صحة

٤٥

التعلق به لأنّه لا يعلم إنّه قال ذلك بلفظ يقتضي العموم ، أو بقول يقتضي الخصوص ويفيد الحكم في تلك العين ، وإذا كان كذلك صار مثل الأول في انّه ينبغي أن يلحق بالمجمل ، وإذا ثبتت هذه الجملة فيما روى إنّه قضىٰ بالشاهد واليمين وان الخراج بالضمان لما قلناه ، إلا أن يدل ـ دليل علىٰ الحاق غيره به فيحكم به(١) .

وقال الشهيد الثاني في تمهيد القواعد(٢) : قول الصحابي مثلاً انّه نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الغرر وقضى بالشاهد واليمين ، لا يفيد العموم علىٰ تقدير دلالة المفرد المعرّف علىٰ العموم ، لأن الحجة في المحكي وهو كلام الرسول لا في الحكاية ، والمحكي قد يكون خاصاً فيتوهم عاماً ، وكذا قوله ( سمعته يقول قضيت بالشفعة للجار ) لاحتمال أن تكون ( ال ) للعهد ، كذا قال في المحصول وتبعه عليه مختصروا كلامه وغيرهم من المحققين ، إلىٰ آخر ما ذكره في ذلك.

الوجه الثالث : ما أشار اليه المحقق النائيني (قده) واوضحه السيد الاستاذقدس‌سره من أن حديث لا ضرر إنّما يمكن اعتباره ذيلاً لحديث الشفعة إذا كان مصححاً لجعل حق الشفعة بجسب مفاده ومحتواه ، ولكنه ليس كذلك لأن مفاده هو نفي الحكم الضرري اما ابتداءاً أو بلسان نفي الموضوع ، والضرر في مورد ثبوت حق الشفعة إنّما يأتي من قبل بيع الشريك حصته ، فلو كان ذلك مورداً لقاعدة ( لا ضرر ) لزم الحكم ببطلان البيع ، ولو كان الضرر ناشئاً من لزوم البيع لزم الحكم بثبوت الخيار بأن يكون له حق ردّ المبيع إلىٰ البائع ، وامّا جعل حق الشفعة له لجبران الضرر وتداركه بأن ينقل المبيع إلىٰ ملكه فهو انما يكون مستنداً إلىٰ قاعدة ( لا ضرر ) إذا كانت دالة

__________________

(١) عدة الأصول ١ / ١٤٧ مخطوط.

(٢) تمهيد القواعد ذيل القاعدة (٥٧).

٤٦

على جعل حكم يتدارك به الضرر ولكنها لا تدل علىٰ ذلك وإنما تدل علىٰ نفي الحكم الضرري(١) .

و يلاحظ عليه :

أول اً : إنّ ايراد هذه القاعدة بعد حديث الشفعة باعتبار تناسب الجملة الثانية منها أي قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لا ضرار ) مع حق الشفعة بأن تكون حكمة لجعل حق الشفعة ـ علىٰ ما سيأتي توضيحه في الجواب عن الوجه الرابع ـ وعلىٰ هذا فلا يتوقّف ارتباط القاعدة بحديث الشفعة علىٰ تفسير ( لا ضرر ) بوجه يقتضي جعل الحكم الذي يتدارك به الضرر لكي يقال إن حديث لا ضرر لا يدل علىٰ ذلك.

وثانيا ً : إن مرجع الوجه المذكور إلىٰ انّه لمّا كان المختار في معنىٰ ( لا ضرر ) هو نفي الحكم الضرري دون غيره من المعاني التي سيأتي البحث عنها ، وهو لا يناسب الترابط بين الجملتين علىٰ ما هو ظاهر الكلام ، فلا بُدّ من رفع اليد عن هذا الظهور واعتبار الجمع بينهما من قبيل الجمع في الرواية ، وهذا الكلام لا يخلو عن غرابة ، لأنّه يمكن أن يقال بأنّ نفس ورود هذه الجملة في ذيل حديث الشفعة قرينة علىٰ كون معناها غير نفي الحكم الضرري ، ولا وجه لاختيار معنىٰ للجملة مسبقاً كأصل مفروض من دون ملاحظة القرائن المحتفة بها ، ثم الاعتراض علىٰ ترابط الجملة مع حديث الشفعة بعدم انسجام ذلك مع هذا المعنىٰ ، واستكشاف كون الجمع بينهما من قبيل الجمع في الرواية ، بل الأحرى أن يعكس الأمر فيجعل ظهور الكلام في ترابط الحديث مع قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) المذكورة ذيلاً له من وجوه ضعف استظهار ذلك المعنىٰ من جملة ( لا ضرر ) كما هو واضح.

__________________

(١) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني : ١٩٥ ، ومصباح الأصول ٢ / ٥٢١.

٤٧

وثالثا : إنّه لو فرضنا انّ قوله ( لا ضرر ) في قضية سمرة مثلاً بمعنىٰ نفي الحكم الضرري ، لا بمعنىٰ جعل الحكم الذي يتدارك به الضرر ، ولكن لا مانع من كونه في ذيل حديث الشفعة بهذا المعنىٰ الثاني إذا كان هذا الحديث بما له من الظهور السياقي لا يساعد مع المعنىٰ الأول ، فيختلف معناه بحسب اختلاف الموردين ، إذ لا موجب للالتزام بوحدة المراد منه في جميع الموارد ، حتىٰ يكون ظهوره في المعنىٰ الأول في سائر الموارد مقتضياً لارادته في ذيل حديث الشفعة أيضاً ليستلزم ذلك انفصاله عن معنىٰ هذا الحديث وسياقه فتدبر.

الوجه الرابع : ما افاده المحقق النائينيقدس‌سره وذكر بعضه في كلام السيد الأُستاذ (قده) أيضاً(١) ، وحاصله :

إنّ الترابط بين ( لا ضرر ) وبين جعل حق الشفعة إمّا بلحاظ كون الأول علة للثاني ، أو بلحاظ كونه حكمة لتشريعه وكلاهما باطل.

أما الأَول : فلأن الضرر إذا كان علّة للحكم بثبوت حق الشفعة فلا بُدّ أن يدور هذا الحكم مداره وجوداً وعدماً ، لأن هذا شأن العلّة كما في قولنا ( لا تاكل الرمان لأنّه حامض ) ، مع انّ هذا غير متحقق في المقام بلا اشكال فإن الحكم بالشفعة غير محدد بترتب الضرر الشخصي للشريك من البيع ، بل بين موارد ثبوت حق الشفعة وتضرر الشريك بالبيع عموم وخصوص من وجه ، فربّما يتضرر الشريك ولا يكون له حق الشفعة ، كما إذا كان الشركاء أكثر من اثنين ، وقد يثبت حق الشفعة بلا ترتب ضرر علىٰ أحد الشريكين ببيع الآخر ، كما إذا كان الشريك البائع مؤذياً وكان المشتري ورعاً باراً محسناً إلىٰ شريكه ، وربّما يجتمعان كما هو واضح.

اذاً لا يصح ادراج الحكم بثبوت

__________________

(١) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني : ١٩٥ ، ومصباح الأصول ٢ / ٥٢١.

٤٨

الشفعة تحت كبرى ( لا ضرر ).

واما الثاني : فلأنّ وقوع الضرر علىٰ الشريك أمرٌ اتفاقي ، وعلّة التشريع وإن لم يعتبر كونها أمراً دائمياً ولكنه يعتبر أن تكون امراً غالبياً أو كثير الوقوع ، فإن الضرر الاتفاقي ليس بتلك المثابة من فسّر بحيث يجعل له حكم كلي لئلا يقع الناس فيه.

و يلاحظ عليهأوَّلاً : إن ما ذكر من عدم علّية ترتب الضرر بأن يكون تمام الموضوع للحكم بثبوت الشفعة وإن كان تاماً إلا أن ما ذكر من عدم كونه حكمة له أيضاً في غير محله فإنّ توجه الضرر إلىٰ الشريك بانتقال حصة شريكه إلىٰ شخص آخر ليس امراً نادراً ، بحيث لا يصلح أن يكون حكمة لتشريع حق الشفعة ، بل نفس الشركة في العين بحدّ ذاتها أمر يوجب كون الشركاء في معرض الضرر ببغي بعضهم علىٰ بعض ، كما أُشير اليه في الآية الكريمة( وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) (١) بناءاً علىٰ تفسير الخلطاء بالشركاء المختلطة أموالهم كما عن جمع من المفسرين.

وقد ابطل في بعض القوانين الحديثة الوقف الذري معللاً بأنه يوجب ركود الملك وتقليل منافعه وصيرورته مثاراً للاختلاف والتضرر ، وقد أفتى جمع من الفقهاء بجواز بيع الوقف عند اختلاف الموقوف عليهم ، بحيث يخاف منه تلف الأموال والأنفس.

وقد علّل في بعض الروايات عدم ارث الزوجة من العقار بأنّ ذلك احتراز من تزوجها برجل آخر فيفسد الميراث علىٰ أهله ، ففي صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : لا ترث النساء من عقار الدور شيئاً ولكن يقوّم البناء والطوب وتعطى ثمنها أو ربعها ، قال : وإنّما ذلك

__________________

(١) سورة ص ٣٨ / ٢٤.

٤٩

لئلا يتزوجن فيفسدن علىٰ أهل المواريث مواريثهم(١) .

والحاصل انّ دعوىٰ ندرة توجه الضرر إلىٰ الشريك من عدم جعل حق الشفعة له لا يمكن المساعدة عليها.

ويشهد لذلك انّ كثيراً من فقهاء العامة قد علّلوا ثبوت الشفعة بدفع الضرر ، قال ابن رشد(٢) ( ذهب مالك والشافعي وأهل المدينة إلىٰ انّه لا شفعة إلا للشريك ما لم يقاسم ، وقال أهل العراق الشفعة مرتبة فأولى الناس بالشفعة الشريك الذي لم يقاسم ثم الشريك المقاسم إذا بقيت في الطرق أو في الصحن شركة ، ثم الجار الملاصق ، وقال أهل المدينة لا شفعة للجار ولا للشريك المقاسم ) ، ثم قال في ذكر احتجاج أهل العراق ( ومن طريق المعنىٰ لهم أيضاً إنّه لما كان المقصود بالشفعة دفع الضرر الداخل من الشركة ، وكان هذا المعنىٰ موجوداً في الجار وجب أن يلحق به ، ولأهل المدينة أن يقولوا وجود الضرر في الشركة أعظم منه في الجوار ).

واحتج السيد المرتضى (قده) علىٰ العامة في شمول الشفعة لغير الارضين لعموم العلّة ، وقال ( وممّا يمكن أن يعارضوا به إنّ الشفعة عندكم إنّما وجبت لازالة الضرر عن الشفيع ، وهذا المعنىٰ موجود في جميع المبيعات من الامتعة والحيوان ، فإذا قالوا حق الشفعة إنّما يجب خوفاً من الضرر علىٰ طريق الدوام ، وهذا المعنىٰ لا يثبت إلا في الارضين والعقارات دون العروض ، قلنا في الامتعة ما يبقى علىٰ وجه الدهر مثل بقاء العقارات والارضين كالياقوت وما أشبهه من الحجارة والحديث ، فيدوم الاستضرار بالشركة فيه ، وأنتم لا توجبون فيه الشفعة ، وبعد فإنّ ازالة الضرر الدائم أو

__________________

(١) الوسائل ٢٦ : ٢٠٨ ح ٣٢٨٤٢ باب ٦.

(٢) بداية المجتهد ٢ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٥٠

المنقطع واجبة في العقل والشرع ، وليس وجوب إزالتها مختصّة بالمستمر دون المنقطع ، فلو كان التأذي بالشركة في العروض منقطعاً علىٰ ما ادعيتم لكانت ازالته واجبة علىٰ كل حال )(١) .

والحاصل انّ دفع الضرر صالح لأَن يكون حكمة لتشريع حق الشفعة ، وليس ذلك بأقلّ من تشريع الحج للتفقه في الدين وبسط أمر الولاية أو تشريع العدة لأَجل عدم اختلاط المياه ، أو تشريع غسل الجمعة لازالة ريح الآباط وغير ذلك من الامثلة المضروبة لما هو حكمة لجعل حكم شرعي.

وثانيا ً : إن لحاظ دفع الضررحكمة لتشريع حق الشفعة لا يمنع من اعتبار ( لا ضرر ولا ضرار ) كبرى كلية وقاعدة مستقلة في حد نفسها ، إذ لا مانع من أن يكون أمر واحد قد لوحظ حكمة بالنسبة إلىٰ جعل حكم مع انّه بنفسه موضوع لحكم آخر ، كما اتفق ذلك بالنسبة إلىٰ ال‍ ( لا حرج ) ، فإن عدم الحرج النوعي حكمة لعدم ايجاب السؤال مثلاً ـ كما دلّ عليه النص ـ في حين انّ الحرج الشخصي موجب لرفع كل حكم يلزم منه الحرج علىٰ المكلف.

وثالث اً : إنّ اعتبار ( لا ضرر ولا ضرار ) حكمة للحكم بثبوت الشفعة لا ينافي تفسيره بشيء من المعاني التي فسّر بها في كلمات الاعلام ، وذلك لأنّه ان فسّر بنفي الحكم الضرري أو بالنهي عن الاضرار بالغير فغاية الأمر أن هذا المعنىٰ لا يتأتى في مورد حديث الشفعة ، فلا بد أن يكون المقصود بقوله ( لا ضرر ولا ضرار ) في ذيل هذا الحديث مجرد نفي الضرر والضرار كحكمة للحكم بثبوت الشفعة ، وأمّا في غير هذا الحديث فلا مانع من تفسيره بغير ذلك فتأمل.

وإن فسر بما هو المختار من أنّ مفاد ( لا ضرر ) هو نفي التسبيب الى

__________________

(١) الانتصار : ٢١٥.

٥١

تحمل الضرر ، ومفاد ( لا ضرار ) التسبيب إلىٰ نفي الاضرار بالغير بما يشمل تحريم وتشريع ما يمنع من تحققه خارجاً وجعل الأَحكام الرافعة لموضوعه ، فعلى هذا القول يمكن تطبيق نفس هذا المعنىٰ علىٰ مورد حديث الشفعة بملاحظة الجملة الثانية أي ( لا ضرار ) باعتبار انّ الحكم بالشفعة بنفسه مثال للحكم الرافع لموضوع الاضرار بالغير كما اتضح ذلك مما تقدم.

ثم إنّ ما ذكرناه من كون الارتباط بين قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) وبين جعل حق الشفعة للشريك إنّما هو بمناط كون ( لا ضرر ) حكمة لجعل هذا الحق ، لا مناص من الالتزام به لو كان الجمع بين حديث الشفعة ولا ضرر من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو الأَقرب ، وأما علىٰ الاحتمال الآخر الذي سبق ان ذكرناه من كون الجمع بينهما من قبل الامامعليه‌السلام ، فبالامكان أن يُخرّج الارتباط بينهما علىٰ وجه آخر ، وقد أشرنا اليه فيما مضى أيضاً وهو أن يكون ذكر ( لا ضرر ) بعد نقل قضاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة من باب الأخذ بشواهد السنة لكون قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لا ضرر ولا ضرار ) كلاماً مشهوراً عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأراد الامامعليه‌السلام بذكره الاستشهاد لثبوت القضاء المذكور عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتوافقه مع ذلك الكلام الثابت عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقيناً.

هذا وقد تحصل من جميع ما تقدّم انّ الوجوه الأربعة التي ذكرت لدعوى عدم الارتباط بين قضاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة وبين قوله لا ضرر ولا ضرار ، خلافاً لظاهر رواية عقبة بن خالد ممّا لا يمكن المساعدة عليها.

٣ ـ حديث منع فضل الماء

وقد رواه الكليني عن محمّد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمّد بن عبد الله بن هلال ، عن عقبة بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه

٥٢

السلام قال : قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أهل المدينة في مشارب النخيل إنّه لا يمنع نقع البئر ، وقضى بين أهل البادية إنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلأ ، وقال : لا ضرر ولا ضرار(١) .

والكلام في هذا الحديث من جهات :

الجهة الأولىٰ : في سنده ، وهو ضعيف علىٰ غرار ما تقدّم في سند حديث الشفعة فإن سندهما واحد ، وقد سبق انّ كلاً من ( محمّد بن عبد الله ابن هلال ) و ( عقبة بن خالد ) لم تثبت وثاقتهما عندنا وإن وثقهما بعض لرواية الاجلاء عنهما ، أو لكونهما من رجال كامل الزيارات وشبه ذلك مما تقدّم الاشكال فيه.

الجهة الثانية : في شرح مفادها اجمالاً ، أمّا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القضاء الأَول ( نقع البئر ) ففي النسخ التي رأيناها من الكافي ( نقع الشيء ) بدل ( نقع البئر ) وهو تصحيف كما نبّه عليه في الوافي(٢) ويشهد له مناسبة الحكم والموضوع ، مضافاً إلىٰ انّ الرواية مذكورة في كتب العامة وفيها ( نقع البئر )(٣) . قال ابن الأثير في النهاية(٤) في شرح الحديث : فيه نهى أن يمنع نقع البئر ـ أي فضل مائها ـ لأنّه ينقع به العطش أي يروي ( وشرب حتىٰ نقع أي روي ) وقيل النقع الماء الناقع وهو المجتمع ، ومنه الحديث لا يباع نقع البئر ولا رهو الماء وقال ( رهو الماء مجتمعه ).

وأما قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القضاء الثاني ( لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلأ ) ففي المراد به وجوه :

__________________

(١) الكافي ٥ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ح ٦.

(٢) الوافي المجلد ٣ الجزء ١٠ / ١٣٦.

(٣) لاحظ مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٣٢٧ وسنن ابن ماجة ٢ / ٨٢٨ وموطأ مالك ٢ / ٧٤٥. ٢٤ ـ ٢٥. ٢٣.

(٤) النهاية ٥ / ١٠٨.

٥٣

الأول : إن الأَعراب لمّا كانوا ينزلون إلىٰ الماء والكلأ كانت طاثفة منهم تأتي إلىٰ الماء لحاجتها ، وطائفة تأتي إلىٰ الكلأ لحاجتها فإذا منعت الطائفة الأولىٰ من الماء امتنعت الطائفة الأُخرىٰ من الكلأ ، فكان ذلك منعاً لهم عن الكلأ أيضاً.

وهذا الاحتمال ذكره في الوافي(١) وهو بعيد أولاً لأنّ الحاجة إلىٰ الماء والكلأ مشتركة بين الجميع فلا وجه لفرض كونهم علىٰ طائفتين ، طائفة تحتاج إلىٰ الماء وطائفة تحتاج إلىٰ الكلأ.

وثانياً إنّ ظاهره أن مصب النهي هو المنع من الماء بلحاظ أنّ من عواقبه غالباً ترك الكلاء مع أن ظاهر الحديث الارتباط بين الجملتين في تعلق النهي.

الثاني : إنّ المراد أنّ أصحاب الماء لو منعوا فضل مائهم منعهم الله من الكلأ ذكره في الوافي أيضاً(٢) ، وهو بعيد كسابقه لأنّ ظاهر السياق اتحاد فاعل ( يمنع ) في الجملتين ـ أي انّ مانع الماء هو مانع الكلأ ـ ، وبما انّ ظاهر الجملة الأولىٰ انّ مانع الماء هم أصحابه فلا يناسب أن يكون مانع الكلأ هو الله تعالى.

الثالث : إنّ المراد إنّه لا يمنع قوم فضل مائهم عن الرعاة ، لأنّه مستلزم لمنعهم عن الكلأ المباح أيضاً ، فإنّ الرعاة إذا منعوا من الماء في ارض لم يأتوها للكلأ فقط ، لحاجتهم إلىٰ الماء والكلأ في وقت واحد ولا يسعهم التفكيك بينهما ، وهذا الوجه ذكره ابن حجر(٣) قائلاً ( والمعنىٰ أن يكون حول البئركلأ ليس عنده ماء غيره ، ولا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلا إذا تمكنوا من سقي بهائمهم من تلك البئر ، لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعي ، فيستلزم

__________________

(١ و ٢) الوافي المجلد ٣ جزء ١٠ / ١٣٦.

(٣) فتح الباري ٥ / ٢٤ ـ ٢٥.

٥٤

منعهم من الماء منعهم من الكلأ ) قال ( وإلى هذا التفسير ذهب الجمهور ) وفرّع عليه إنّه لو لم يكن هناك كلأ يرعىٰ فلا نهي عن المنع لانتفاء العلّة ؛ لأَن هذا الوجه مبني علىٰ أن يكون قوله ( ليمنع به فضل كلأ ) علة للنهي عن منع فضل الماء بتقدير ( لا ) النافية فيه ، فيكون المعنىٰ ( لئلا يمنع به فضل كلأ ) وهذا هو الفارق بينه وبين الوجه الأَول ، فإنّ محصل الأَول أن مصب النهي هو المنع من الماء بلحاظ أن من عواقبه ترك الكلأ ، لا انّه علّة له ، بينما مفاد هذا الوجه أنه لا نهي عن منع الماء إلا إذا كان سبباً لمنع الكلأ ، ولذلك يكون هذا الوجه خلاف الظاهر جداً.

الرابع : إنّ المراد انه لا يمنع قوم فضل الماء المباح عن الرعاة لأجل أن يمنعوهم عن الكلأ المباح احتفاظاً به لانفسهم فالمنع عن الكلأ ـ علىٰ هذا الوجه ـ علّة للمنع من فضل الماء نفسه ، لا علّة للنهي عن منع فضل الماء كما في الوجه السابق وقد ذكر هذا المعنىٰ في الوافي(١) قائلاً ( قيل كان بعضهم يمنع فضل الماء من مواشي المسلمين حتىٰ لا تأكل مواشيهم العشب والكلأ الذي حول مائه ، فنهىعليه‌السلام عن المنع لأنّه لو منع لم ينزل حول بئره أحد فحرّموا الكلأ المباح حنيئذٍ ).

وحكى ابن حجر هذا الوجه في موضع آخر من فتح الباري(٢) عن المهلب قال : ( قال المهلب المراد رجل كان له بئر وحولها كلأ مباح ـ وهو بفتح الكاف واللام مهموز ما يرعى ـ فأراد الاختصاص به ، فيمنع فضل ماء بئره وأن ترده نِعَمُ غيره للشرب ، ولا حاجة به إلىٰ الماء الذي يمنعه وإنما حاجته إلىٰ الكلأ ، وهو لا يقدر علىٰ منعه لكونه غير مملوك له ، فيمنع الماء فيتوفر له الكلأ ، لأنّ النعم لا تستغني عن الماء بل إذا رعت الكلأ عطشت

__________________

(١) الوافي المجلد ٣ جزء ١٠ / ١٣٦.

(٢) فتح الباري ١٢ : ٢٩٦ طبعة اوفسيت لبنان علىٰ طبعة بولاق في مصر.

٥٥

ويكون ماء غير البئر بعيداً عنها ، فيرغب صاحبها عن ذلك الكلأ فيتوفر لصاحب البئر بهذه الحيلة ) ثم قال فمقتضى الحديث حينئذٍ انّه لا يمنع فضل الماء بوجه من الوجوه ، لأنّه إذا لم يمنع بسبب غيره كالمحافظة علىٰ الكلأ فأولى أن لا يمنع بسبب نفسه.

وهذا الوجه هو المنساق من ظاهر الحديث فهو صحيح.

الجهة الثالثة : في ارتباط النهي عن منع فضل الماء بقوله ( لا ضرر ولا ضرار ) المذكور بعده.

والكلام في هذه الجهة يقع تارة فيما يقتضيه ظاهر الحديث في نفسه ، وأُخرى فيما تقتضيه القرائن الخارجية.

أما ظاهر الحديث فمقتضاه الترابط بينهما علىٰ حذو ما تقدّم في حديث الشفعة لاتحادهما سياقاً ، وقد سبق انّ الظاهرمن مثل هذا السياق هو الارتباط بين الجملتين ، وكون الجمع بينهما إمّا من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الامامعليه‌السلام دون الراوي.

واما القرائن الخارجية فقد اختار العلاّمة شيخ الشريعة وجمع من المحققين أن مقتضاها عدم الترابط بين الجملتين وكون الجمع بينهما من قبل الراوي كما سبق ذلك في حديث الشفعة.

ولكن يمكن لنا أن نقول ـ كما تقدّم نظيره في حديث الشفعة ـ : إنّ تكرار قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) بعد حديث الشفعة وحديث منع فضل الماء جميعاً ، قرينة واضحة علىٰ الارتباط بينه وبين كل منهما ، فإنّه لو كان المجمع من قبل الراوي لما كان لذكرحديث ( لا ضرر ولا ضرار ) مرتين مبرر اصلاً.

بل يمتاز المقام عن حديث الشفعة في انّ قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) ورد هنا معطوفاً بالفاء في جملة من نسخ الرواية ، والعطف بالفاء لا مصحح له لولا الارتباط بين الجملتين ، فهو مرجح احتمالي لصالح القول بالارتباط ، مع أن ورود العطف بالواو في بعض النسخ الأُخرىٰ ليس مرجحاً احتمالياً

٥٦

للقول بعدم الارتباط ، بل هومنسجم مع كلا القولين كما لا يخفى.

وربّما يقال ـ كما عن العلامة شيخ الشريعة (قده) ـ ( بأنّ ما في بعض النسخ من عطف قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) علىٰ الجملة التي قبلها بالفاء تصحيف قطعاً ، لأن النسخ الصحيحة المعتمدة في الكافي متفقة علىٰ الواو(١) .

أقول : المذكور في النسخ المطبوعة للكافي هو العطف بالواو(٢) علىٰ الجملة التي قبلها ولكن المذكور في الوسائل والوافي وجملة من الكتب الناقلة لهذا الحديث ـ كالعوائد للنراقي والرسائل للشيخ الاعظم الانصاري وغيرهما ـ هو العطف بالفاء(٣) ، ولا يمكن القطع بصحة الأول وكون الثاني تصحيفاً ، فإنّ النسخ الموجودة بايدينا من الكافي لا تخلو من الغلط والتصحيف كما مر مثاله قريباً وهو تحريف ( نقع البئر ) ب‍ ( نقع الشيء ) في عامة نسخه ، ومنها النسخة التي وصلت إلىٰ المحدث الكاشاني وصاحب الوسائل.

ثم إنّ الوجوه التي ذكرت كقرائن خارجيّة علىٰ عدم الارتباط بين حديث منع فضل الماء وقوله ( لا ضرر ولا ضرار ) ، منها ما سبق بيانه في حديث الشفعة وهو وجهان :

أولهما : ما ذكره العلاّمة شيخ الشريعة (قده) من ادعاء انّ الجمع يين الجملتين إنّما كان من قبل عقبة في سياق الجمع بين قضايا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بقرينة التفكيك بينهما في حديث عبادة بن الصامت المنقول في كتب العامة.

ثانيهما : ما أفاده المحقق النائيني (قده) من انّه لو كان ( لا ضرر ) ذيلاً

__________________

(١) رسالة لا ضرر : ٢٣.

(٢) الكافي ٥ / ١٩٣ ط جديد ٦ / ٢٩٢ ذيل الحديث ٢.

(٣) الوافي المجلد ٣ الجزء ١٠ / ١٣٦ ، الوسائل ٢٥ : ٤٢٠ ح ٢. ومرآة العقول ١٩ : ٣٩٤ ح ٢. العوائد : ١٧ ٠ الرسائل ٢ : ٥٣٣ و ٥٣٤.

٥٧

لقضية أُخرى ، لزم خلو قضاياه ـ في رواية عقبة ـ عن هذا القضاء رغم انّه من اشهر قضاياه.

وقد تقدّم الكلام في تحقيق هذين الوجهين فلا موجب للاعادة.

و هناك وجهان آخران قد يستدلّ بهما لهذا المدعىٰ في خصوص المقام وهما :

الوجه الأول : إنّ حديث منع فضل الماء مذكور في بعض روايات الخاصة وكثير من روايات العامة من غير تذييل بقوله ( لا ضرر ولا ضرار ) ، وهذا يقوّي احتمال كون الجمع بينهما في رواية عقبة بن خالد من فعل الراوي من دون ارتباط بينهما في الاصل.

أمّا في روايات الخاصة فقد ورد في الفقيه(١) مرسلاً ( قال وقضىعليه‌السلام في أهل البوادي أن لا يمنعوا فضل ماء ولا يبيعوا فضل الكلأ ) هكذا في المطبوعة النجفية للفقيه ، وفي بعض النسخ ( لكي لا يمنعوا فضل الكلأ ) ولعلّه الصحيح.

وأمّا في روايات العامة فقد ورد في صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجة وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل وغيرها(٢) .

ويمكن الجواب عنه اولا : بالنقض بقضية سمرة بن جندب ، فإنّها وردت مذيّلة بقوله ( لا ضرر ولا ضرار ) في رواية زرارة ، ولكنها خالية عن هذا الذيل في روايات العامة وفي بعض رواياتنا كما تقدّم ذلك مفصلاً.

وثانياً : بالحل ، وهو انّ رواية الصدوق مرسلة ولا اعتماد علىٰ مراسيله وإن كانت بصيغة جزمية ـ كما حقق في محله ـ ، مضافاً إلىٰ أن ( من لا يحضره الفقيه ) كتاب فقهي في الاساس يتضمن الفتوى بمتون الاحاديث ،

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ / ١٥٠ ح ٦٦٢.

(٢) لاحظ المعجم المفهرس لالفاظ الحديث النبوي مادة ( فضل ).

٥٨

فلا يلزم في مثله مراعاة نقل الحديث بتمامه إذا كان بعض فقراته لا يرتبط بما هو مقصود المؤلف كما في المقام ، فإنّ قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) يجري مجرى التعليل الذي لا حاجة إلىٰ ذكره في مقام الافتاء بمضمون الرواية.

وأمّا روايات العامة فقد تقدّم الكلام في مدى ما يمكن الاعتماد عليه في مقابل رواياتنا عند الحديث عن رواية عبادة بن الصامت فلاحظ.

الوجه الثاني : إنّ مضمون حديث منع فضل الماء يأبى عن الالتزام بالترابط بينه وبين قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) وذلك من جهتين :

الأولى : إنّ منع المالك فضل ماله عن الغير لا يعدّ ضرراً بالنسبة إلىٰ الغير ، وإنّما هو من قبيل عدم النفع ومعلوم إنّ عدم النفع لا يعد ضرراً.

الثانية : إنّ النهي في مورد الحديث تنزيهي قطعاً ، لعدم حرمة منع فضل المال عن الغير بالضرورة فلا يندرج ذلك تحت كبرى ( لا ضرر ولا ضرار ) بأيٍّ من معانيها.

والتحقيق انّ مرجع هاتين الجهتين إلىٰ جهة واحدة ، وهي عدم ثبوت حق للغير في الاستفادة من فضل الماء لأنّه إذا كان له حق في ذلك فإن منعه عنه يكون ضرراً عليه لأنّه تنقيص لحقه ، فلا يكون النهي عن منعه حينئذٍ نهياً تنزيهياً ، فيمكن تطبيق كبرى لا ضرر ولا ضرار علىٰ مورده ، وأمّا إذا لم يكن له حق في ذلك اتجه الاشكال في انطباق ( لا ضرر ) من الجهتين ـ موضوعاً وحكماً ـ فجهة الاشكال أساساً : انّه لا حق للغير في الاستفادة من فضل الماء.

والصحيح عدم اتجاه هذا الاشكال وتوضيحه : انّ الآبار التي كان أهل البادية ـ وهم الأعراب الرحّل ـ يستفيدون من مائها امّا انّها كانت من المباحات الاصلية ، أو ما هي في حكمها ، ـ كالآبار الموقوفة وقفاً عاماً لاستفادة الناس منها ـ كما لا يبعد أن ذلك كان هو الغالب فيها ، لعدم كونهم

٥٩

مستقرّين حولها وحينئذٍ فلا اشكال في انّه ليس لمن سبق إلىٰ شيء منها حق منع الغير عمّا فضل من استفادته ، اذ ليس له إلا حق السبق في الاستفادة فقط.

وإمّا انّها كانت من الاملاك الشخصية أو ما هي بحكمها ، وحينئذٍ فقد يتوهّم انّه لا اشكال في عدم استحقاق الغير الاستفادة من فضل مائها ، وانعقاد الضرورة علىٰ ذلك ، ولكن الذي يتضح بملاحظة كلمات الفريقين والمشهور بين المتقدمين ان للغير حق الشرب منها لنفسه ولماشيته ، وكون القول بعدم ثبوت هذا الحق له واستحباب البذل للمالك شاذاً بين القدماء.

قال الشيخ في الخلاف(١) : ( إذا ملك البئر بالاحياء وخرج ماؤها فهو احق بمائها من غيره بقدر حاجته وحاجة ماشيته ، وما يفضل عن ذلك يجب عليه بذله لغيره لحاجته اليه للشرب له أو لماشيته ، ولا يجب عليه بذله لسقي زرعه بل يستحب له ذلك ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو عبيد بن خربوز يستحب له ذلك لسقي غيره وسقي مواشيه وسقي زرعه ، ولا يجب علىٰ حال ، ومن الناس من قال يجب عليه بذله بلا عوض لشرب الماشية ولسقي الزرع ، ومنهم من قال يجب عليه بالعوض ، فأما بلا عوض فلا ، ثم ذكر في الاستدلال علىٰ مختاره ثلاث روايات جميعها من طرق العامة ، ويشبه كلامه هنا كلامه في المبسوط.

وفي المختلف(٢) بعد نقل كلام الشيخ ما لفظه ( وبه قال ابن الجنيد والوجه : الاستحباب في الجميع وبه قال ابن البراج ، إذ لا يجب علىٰ الانسان بذل ماله لغيره ) ثم ذكر ما استدل به الشيخ وناقش فيه ، بأنّ هذه احاديث لم تثبت عندنا صحتها ، ولو ثبتت حملت علىٰ الكراهة.

__________________

(١) الخلاف ٢ / ١٢٩ ، ١٣٢.

(٢) مختلف الشيعة ٢ / ١٥.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360