كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ٧

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 307

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 307
المشاهدات: 33396
تحميل: 4495


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33396 / تحميل: 4495
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 7

مؤلف:
العربية

107 و من خطبة له ع و هي من خطب الملاحم

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ وَ اَلظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ خَلَقَ اَلْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ إِذْ كَانَتِ اَلرَّوِيَّاتُ لاَ تَلِيقُ إِلاَّ بِذَوِي اَلضَّمَائِرِ وَ لَيْسَ بِذِي ضَمِيرٍ فِي نَفْسِهِ خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ اَلسُّتُرَاتِ وَ أَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ اَلسَّرِيرَاتِ الملاحم جمع ملحمة و هي الوقعة العظيمة في الحرب و لما كانت دلائل إثبات الصانع ظاهرة ظهور الشمس وصفه ع بكونه ظهر و تجلى لخلقه و دلهم عليه بخلقه إياهم و إيجاده لهم.ثم أكد ذلك بقوله و الظاهر لقلوبهم بحجته و لم يقل لعيونهم لأنه غير مرئي و لكنه ظاهر للقلوب بما أودعها من الحجج الدالة عليه.ثم نفى عنه الروية و الفكر و التمثيل بين خاطرين ليعمل على أحدهما لأن ذلك إنما يكون لأرباب الضمائر و القلوب أولي النوازع المختلفة و البواعث المتضادة.ثم وصفه بأن علمه محيط بالظاهر و الباطن و الماضي و المستقبل فقال إن علمه خرق باطن الغيوب المستورة و أحاط بالغامض من عقائد السرائر

١٨١

مِنْهَا فِي ذِكْرِ اَلنَّبِيِّ ص اِخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ اَلْأَنْبِيَاءِ وَ مِشْكَاةِ اَلضِّيَاءِ وَ ذُؤَابَةِ اَلْعَلْيَاءِ وَ سُرَّةِ اَلْبَطْحَاءِ وَ مَصَابِيحِ اَلظُّلْمَةِ وَ يَنَابِيعِ اَلْحِكْمَةِ شجرة الأنبياء أولاد إبراهيم ع لأن أكثر الأنبياء منهم و المشكاة كوة غير نافذة يجعل فيها المصباح و الذؤابة طائفة من شعر الرأس و سرة البطحاء وسطها و بنو كعب بن لؤي يفخرون على بني عامر بن لؤي بأنهم سكنوا البطاح و سكنت عامر بالجبال المحيطة بمكة و سكن معها بنو فهر بن مالك رهط أبي عبيدة بن الجراح و غيره قال الشاعر

فحللت منها بالبطاح

و حل غيرك بالظواهر

و قال طريح بن إسماعيل

أنت ابن مسلنطح البطاح و لم

تطرق عليك الحني و الولج

و قال بعض الطالبيين

و أنا ابن معتلج البطاح إذا غدا

غيري و راح على متون ظواهر

١٨٢

يفتر عني ركنها و حطيمها

كالجفن يفتح عن سواد الناظر

كجبالها شرفي و مثل سهولها

خلقي و مثل ظبائهن مجاوري

وَ مِنْهَا طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَ أَحْمَى مَوَاسِمَهُ يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ اَلْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَ آذَانٍ صُمٍّ وَ أَلْسِنَةٍ بُكْمٍ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ اَلْغَفْلَةِ وَ مَوَاطِنَ اَلْحَيْرَةِ إنما قال دوار بطبه لأن الطبيب الدوار أكثر تجربة أو يكون عنى به أنه يدور على من يعالجه لأن الصالحين يدورون على مرضى القلوب فيعالجونهم و يقال إن المسيح رئي خارجا من بيت مومسة فقيل له يا سيدنا أ مثلك يكون هاهنا فقال إنما يأتي الطبيب المرضي.و المراهم الأدوية المركبة للجراحات و القروح و المواسم حدائد يوسم بها الخيل و غيرها.ثم ذكر أنه إنما يعالج بذلك من يحتاج إليه و هم أولو القلوب العمي و الآذان الصم و الألسنة البكم أي الخرس و هذا تقسيم صحيح حاصر لأن الضلال و مخالفة

١٨٣

الحق يكون بثلاثة أمور إما بجهل القلب أو بعدم سماع المواعظ و الحجج أو بالإمساك عن شهادة التوحيد و تلاوة الذكر فهذه أصول الضلال و أما أفعال المعاصي ففروع عليها

فصل في التقسيم و ما ورد فيه من الكلام

و صحة التقسيم باب من أبواب علم البيان و منه قوله سبحانه( ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ ) .و هذه قسمة صحيحة لأن المكلفين إما كافر أو مؤمن أو ذو المنزلة بين المنزلتين هكذا قسم أصحابنا الآية على مذهبهم في الوعيد.و غيرهم يقول العباد إما عاص ظالم لنفسه أو مطيع مبادر إلى الخير أو مقتصد بينهما.و من التقسيم أيضا قوله( وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ اَلْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ اَلْمَيْمَنَةِ وَ أَصْحابُ اَلْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ اَلْمَشْئَمَةِ وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ ) و مثل ذلك.و قوله تعالى( هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً ) لأن الناس عند رؤية البرق بين خائف و طامع.و وقف سائل على مجلس الحسن البصري فقال رحم الله عبدا أعطى من سعة أو واسى من كفاف أو آثر من قلة فقال الحسن لم تترك لأحد عذرا.

١٨٤

و من التقسيمات الفاسدة في الشعر قول البحتري

ذاك وادي الأراك فاحبس قليلا

مقصرا في ملامة أو مطيلا

قف مشوقا أو مسعدا أو حزينا

أو معينا أو عاذرا أو عذولا

فالتقسيم في البيت الأول صحيح و في الثاني غير صحيح لأن المشوق يكون حزينا و المسعد يكون معينا فكذلك يكون عاذرا و يكون مشوقا و يكون حزينا.و قد وقع المتنبي في مثل ذلك فقال

فافخر فإن الناس فيك ثلاثة

مستعظم أو حاسد أو جاهل

فإن المستعظم يكون حاسدا و الحاسد يكون مستعظما.و من الأبيات التي ليس تقسيمها بصحيح ما ورد في شعر الحماسة

و أنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا

فخنت و إما قلت قولا بلا علم

فأنت من الأمر الذي قد أتيته

بمنزلة بين الخيانة و الإثم

و ذلك لأن الخيانة أخص من الإثم و الإثم شامل لها لأنه أعم منها فقد دخل أحد القسمين في الآخر و يمكن أن يعتذر له فيقال عنى بالإثم الكذب نفسه و كذلك هو المعني أيضا بقوله قولا بلا علم كأنه قال له إما أن أكون أفشيت سري إليك فخنتني أو لم أفش فكذبت علي فأنت فيما أتيت بين أن تكون خائنا أو كاذبا.و مما جاء من ذلك في النثر قول بعضهم من جريح مضرج بدمائه أو هارب لا يلتفت إلى ورائه و ذلك أن الجريح قد يكون هاربا و الهارب قد يكون جريحا.و قد أجاد البحتري لما قسم هذا المعنى و قال

١٨٥

غادرتهم أيدي المنية صبحا

للقنا بين ركع و سجود

فهم فرقتان بين قتيل

قبضت نفسه بحد الحديد

أو أسير غدا له السجن لحدا

فهو حي في حالة الملحود

فرقة للسيوف ينفذ فيها الحكم

قسرا و فرقة للقيود

و من ذلك قول بعض الأعراب النعم ثلاث نعمة في حال كونها و نعمة ترجى مستقبلة و نعمة تأتي غير محتسبة فأبقى الله عليك ما أنت فيه و حقق ظنك فيما ترتجيه و تفضل عليك بما لم تحتسبه و ذلك أنه أغفل النعمة الماضية و أيضا فإن النعمة التي تأتي غير محتسبة داخلة في قسم النعمة المستقبلة.و قد صحح القسمة أبو تمام فقال

جمعت لنا فرق الأماني منكم

بأبر من روح الحياة و أوصل

كالمزن من ماضي الرباب و مقبل

متنظر و مخيم متهلل

فصنيعة في يومها و صنيعة

قد أحولت و صنيعة لم تحول

فإن قلت فإن ما عنيت به فساد التقسيم على البحتري و المتنبي يلزمك مثله فيما شرحته لأن الأعمى القلب قد يكون أبكم اللسان أصم السمع.قلت إن الشاعرين ذكرا التقسيم بأو و أمير المؤمنين ع قسم بالواو و الواو للجمع فغير منكر أن تجتمع الأقسام الوحد أو أن تعطي معنى الانفراد فقط فافترق الموضعان

١٨٦

لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ اَلْحِكْمَةِ وَ لَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ اَلْعُلُومِ اَلثَّاقِبَةِ فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ اَلسَّائِمَةِ وَ اَلصُّخُورِ اَلْقَاسِيَةِ قَدِ اِنْجَابَتِ اَلسَّرَائِرُ لِأَهْلِ اَلْبَصَائِرِ وَ وَضَحَتْ مَحَجَّةُ اَلْحَقِّ لِخَابِطِهَا وَ أَسْفَرَتِ اَلسَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا وَ ظَهَرَتِ اَلْعَلاَمَةُ لِمُتَوَسِّمِهَا مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أَرْوَاحٍ وَ أَرْوَاحاً بِلاَ أَشْبَاحٍ وَ نُسَّاكاً بِلاَ صَلاَحٍ وَ تُجَّاراً بِلاَ أَرْبَاحٍ وَ أَيْقَاظاً نُوَّماً وَ شُهُوداً غُيَّباً وَ نَاظِرَةً عَمْيَاءَ وَ سَامِعَةً صَمَّاءَ وَ نَاطِقَةً بَكْمَاءَ انجابت انكشفت و المحجة الطريق و الخابط السائر على غير سبيل واضحة و أسفرت الساعة أضاءت و أشرقت و عن متعلقة بمحذوف و تقديره كاشفة عن وجهها.و المتوسم المتفرس أشباها بلا أرواح أي أشخاصا لا أرواح لها و لا عقول و أرواحا بلا أشباح يمكن أن يريد به الخفة و الطيش تشبيها بروح بلا جسد و يمكن أن يعني به نقصهم لأن الروح غير ذات الجسد ناقصة عن الاعتمال و التحريك اللذين كانا من فعلها حيث كانت تدير الجسد.و نساكا بلا صلاح نسبهم إلى النفاق و تجارا بلا أرباح نسبهم إلى الرياء و إيقاع الأعمال على غير وجهها.ثم وصفهم بالأمور المتضادة ظاهرا و هي مجتمعة في الحقيقة فقال أيقاظا نوما

١٨٧

لأنهم أولو يقظة و هم غفول عن الحق كالنيام و كذلك باقيها قال تعالى( فَإِنَّها لا تَعْمَى اَلْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ ) رَايَةُ ضَلاَلٍ قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا وَ تَفَرَّقَتْ بِشُعَبِهَا تَكِيلُكُمْ بِصَاعِهَا وَ تَخْبِطُكُمْ بِبَاعِهَا قَائِدُهَا خَارِجٌ مِنَ اَلْمِلَّةِ قَائِمٌ عَلَى اَلضَّلَّةِ فَلاَ يَبْقَى يَوْمَئِذٍ مِنْكُمْ إِلاَّ ثُفَالَةٌ كَثُفَالَةِ اَلْقِدْرِ أَوْ نُفَاضَةٌ كَنُفَاضَةِ اَلْعِكْمِ تَعْرُكُكُمْ عَرْكَ اَلْأَدِيمِ وَ تَدُوسُكُمْ دَوْسَ اَلْحَصِيدِ وَ تَسْتَخْلِصُ اَلْمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ اِسْتِخْلاَصَ اَلطَّيْرِ اَلْحَبَّةَ اَلْبَطِينَةَ مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ اَلْحَبِّ هذا كلام منقطع عما قبله لأن الشريف الرضيرحمه‌الله كان يلتقط الفصول التي في الطبقة العليا من الفصاحة من كلام أمير المؤمنين ع فيذكرها و يتخطى ما قبلها و ما بعدها و هو ع يذكر هاهنا ما يحدث في آخر الزمان من الفتن كظهور السفياني و غيره.و القطب في قوله ع قامت على قطبها الرئيس الذي عليه يدور أمر الجيش و الشعب القبيلة العظيمة و ليس التفرق للراية نفسها بل لنصارها و أصحابها فحذف المضاف و معنى تفرقهم أنهم يدعون إلى تلك الدعوة المخصوصة في بلاد متفرقة أي تفرق ذلك الجمع العظيم في الأقطار داعين إلى أمر واحد و يروى بشعبها جمع شعبة

١٨٨

و تقدير تكيلكم بصاعها تكيل لكم فحذف اللام كما في قوله تعالى( وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ ) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم و المعنى تحملكم على دينها و دعوتها و تعاملكم بما يعامل به من استجاب لها و يجوز أن يريد بقوله تكيلكم بصاعها يقهركم أربابها على الدخول في أمرهم و يتلاعبون بكم و يرفعونكم و يضعونكم كما يفعل كيال البر به إذا كاله بصاعه.و تخبطكم بباعها تظلمكم و تعسفكم قائدها ليس على ملة الإسلام بل مقيم على الضلالة يقال ضلة لك و إنه ليلومني ضلة إذا لم يوفق للرشاد في عذله.و الثفالة ما ثفل في القدر من الطبيخ و النفاضة ما سقط من الشي‏ء المنفوض.و العكم العدل و العكم أيضا نمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها.و عركت الشي‏ء دلكته بقوة و الحصيد الزرع المحصود.و معنى استخلاص الفتنة المؤمن أنها تخصه بنكايتها و أذاها كما قيل المؤمن ملقى و الكافر موقى

و في الخبر المرفوع آفات الدنيا أسرع إلى المؤمن من النار في يبيس العرفج : أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ اَلْمَذَاهِبُ وَ تَتِيهُ بِكُمُ اَلْغَيَاهِبُ وَ تَخْدَعُكُمُ اَلْكَوَاذِبُ وَ مِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ فَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ وَ لِكُلِّ غَيْبَةٍ إِيَابٌ فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ وَ أَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ وَ اِسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ

١٨٩

وَ لْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ وَ لْيَجْمَعْ شَمْلَهُ وَ لْيُحْضِرْ ذِهْنَهُ فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ اَلْأَمْرَ فَلْقَ اَلْخَرَزَةِ وَ قَرَفَهُ قَرْفَ اَلصَّمْغَةِ الغياهب الظلمات الواحد غيهب و تتيه بكم تجعلكم تائهين عدي الفعل اللازم بحرف الجر كما تقول في ذهب ذهبت به و التائه المتحير.و الكواذب هاهنا الأماني فحذف الموصوف و أبقى الصفة كقوله

إلا بكفي كان من أرمى البشر

أي بكفي غلام هذه صفته.و قوله و لكل أجل كتاب أظنه منقطعا أيضا عن الأول مثل الفصل الذي تقدم و قد كان قبله ما ينطبق عليه و يلتئم معه لا محالة و يمكن على بعد أن يكون متصلا بما هو مذكور هاهنا.و قوله و لكل غيبة إياب قد قاله عبيد بن الأبرص و استثنى من العموم الموت فقال

و كل ذي غيبة يئوب

و غائب الموت لا يئوب

و هو رأي زنادقة العرب فأما أمير المؤمنين و هو ثاني صاحب الشريعة التي جاءت بعود الموتى فإنه لا يستثني و يحمق عبيدا في استثنائه.و الرباني الذي أمرهم بالاستماع منه إنما يعني به نفسه ع و يقال رجل

١٩٠

رباني أي متأله عارف بالرب سبحانه و في وصف الحسن لأمير المؤمنين ع كان و الله رباني هذه الأمة و ذا فضلها و ذا قرابتها و ذا سابقتها.ثم قال و أحضروه قلوبكم أي اجعلوا قلوبكم حاضرة عنده أي لا تقنعوا لأنفسكم بحضور الأجساد و غيبة القلوب فإنكم لا تنتفعون بذلك و هتف بكم صاح و الرائد الذي يتقدم المنتجعين لينظر لهم الماء و الكلأ و في المثل الرائد لا يكذب أهله.و قوله و ليجمع شمله أي و ليجمع عزائمه و أفكاره لينظر فقد فلق هذا الرباني لكم الأمر أي شق ما كان مبهما و فتح ما كان مغلقا كما تفلق الخرزة فيعرف باطنها.و قرفه أي قشره كما تقشر الصمغة عن عود الشجرة و تقلع : فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ اَلْبَاطِلُ مَآخِذَهُ وَ رَكِبَ اَلْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ وَ عَظُمَتِ اَلطَّاغِيَةُ وَ قَلَّتِ اَلدَّاعِيَةُ وَ صَالَ اَلدَّهْرُ صِيَالَ اَلسَّبُعِ اَلْعَقُورِ وَ هَدَرَ فَنِيقُ اَلْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُومٍ وَ تَوَاخَى اَلنَّاسُ عَلَى اَلْفُجُورِ وَ تَهَاجَرُوا عَلَى اَلدِّينِ وَ تَحَابُّوا عَلَى اَلْكَذِبِ وَ تَبَاغَضُوا عَلَى اَلصِّدْقِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ اَلْوَلَدُ غَيْظاً وَ اَلْمَطَرُ قَيْظاً وَ تَفِيضُ اَللِّئَامُ فَيْضاً وَ تَغِيضُ اَلْكِرَامُ غَيْضاً وَ كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ اَلزَّمَانِ ذِئَاباً وَ سَلاَطِينُهُ سِبَاعاً وَ أَوْسَاطُهُ أُكَّالاً أَكَالاً وَ فُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً وَ غَارَ اَلصِّدْقُ وَ فَاضَ اَلْكَذِبُ وَ اُسْتُعْمِلَتِ اَلْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ وَ تَشَاجَرَ اَلنَّاسُ بِالْقُلُوبِ وَ صَارَ اَلْفُسُوقُ نَسَباً وَ اَلْعَفَافُ عَجَباً وَ لُبِسَ اَلْإِسْلاَمُ لُبْسَ اَلْفَرْوِ مَقْلُوباً

١٩١

تقول أخذ الباطل مأخذه كما تقول عمل عمله أي قوي سلطانه و قهر و مثله ركب الجهل مراكبه.و عظمت الطاغية أي الطغيان فاعلة بمعنى المصدر كقوله تعالى( لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ ) أي تكذيب و يجوز أن تكون الطاغية هاهنا صفة فاعل محذوف أي عظمت الفئة الطاغية و قلت الداعية مثله أي الفرقة الداعية.و صال حمل و وثب صولا و صولة يقال رب قول أشد من صول و الصيال و المصاولة هي المواثبة صايله صيالا و صيالة و الفحلان يتصاولان أي يتواثبان.و الفنيق فحل الإبل و هدر ردد صوته في حنجرته و إبل هوادر و كذلك هدر بالتشديد تهديرا و في المثل هو كالمهدر في العنة يضرب للرجل يصيح و يجلب و ليس وراء ذلك شي‏ء كالبعير الذي يحبس في العنة و هي الحظيرة و يمنع من الضراب و هو يهدر و قال الوليد بن عقبة لمعاوية

قطعت الدهر كالسدم المعنى

تهدر في دمشق و لا تريم

و الكظوم الإمساك و السكوت كظم البعير يكظم كظوما إذا أمسك الجرة و هو كاظم و إبل كظوم لا تجتر و قوم كظم ساكتون.و تواخى الناس صاروا إخوة و الأصل تآخى الناس فأبدلت الهمزة واوا كآزرته أي أعنته و وازرته.يقول اصطلحوا على الفجور و تهاجروا على الدين أي تعادوا و تقاطعوا.فإن قلت فإن من شعار الصالحين أن يهجروا في الدين و يعادوا فيه

١٩٢

قلت لم يذهب أمير المؤمنين حيث ظننت و إنما أراد أن صاحب الدين مهجور عندهم لأن صاحب الدين مهجور و صاحب الفجور جار عندهم مجرى الأخ في الحنو عليه و الحب له لأنه صاحب فجور.ثم قال كان الولد غيظا أي لكثرة عقوق الأبناء للآباء و صار المطر قيظا يقال إنه من علامات الساعة و أشراطها.و أوساطه أكالا أي طعاما يقال ما ذقت أكالا و في هذا الموضع إشكال لأنه لم ينقل هذا الحرف إلا في الجحد خاصة كقولهم ما بها صافر فالأجود الرواية الأخرى و هي آكالا بمد الهمزة على أفعال جمع أكل و هو ما أكل كقفل و أقفال و قد روي أكالا بضم الهمزة على فعال و قالوا إنه جمع أكل للمأكول كعرق و عراق و ظئر و ظؤار إلا أنه شاذ عن القياس و وزن واحدهما مخالف لوزن واحد أكال لو كان جمعا يقول صار أوساط الناس طعمة للولاة و أصحاب السلاطين و كالفريسة للأسد.و غار الماء سفل لنقصه و فاض سال.و تشاجر الناس تنازعوا و هي المشاجرة و شجر بين القوم إذا اختلف الأمر بينهم و اشتجروا مثل تشاجروا.و صار الفسوق نسبا يصير الفاسق صديق الفاسق حتى يكون ذلك كالنسب بينهم و حتى يعجب الناس من العفاف لقلته و عدمه.و لبس الإسلام لبس الفرو و للعرب عادة بذلك و هي أن تجعل الخمل إلى الجسد و تظهر الجلد و المراد انعكاس الأحكام الإسلامية في ذلك الزمان

١٩٣

108 و من خطبة له ع

كُلُّ شَيْ‏ءٍ خَاشِعٌ لَهُ وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ قَائِمٌ بِهِ غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ وَ عِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ وَ قُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ وَ مَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ وَ مَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ وَ مَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ وَ مَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ لَمْ تَرَكَ اَلْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ بَلْ كُنْتَ قَبْلَ اَلْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ لَمْ تَخْلُقِ اَلْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ وَ لاَ اِسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ وَ لاَ يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ وَ لاَ يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ وَ لاَ يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ وَ لاَ يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ وَ لاَ يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ وَ لاَ يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلاَنِيَةٌ وَ كُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ أَنْتَ اَلْأَبَدُ فَلاَ أَمَدَ لَكَ وَ أَنْتَ اَلْمُنْتَهَى فَلاَ مَحِيصَ عَنْكَ وَ أَنْتَ اَلْمَوْعِدُ فَلاَ مُنْجِيَ مَنْجَى مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ وَ إِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ وَ مَا أَصْغَرَ كُلِّ عَظِيمَةٍ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ وَ مَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ وَ مَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ وَ مَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي اَلدُّنْيَا وَ مَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ اَلآْخِرَةِ

١٩٤

قال كل شي‏ء خاضع لعظمة الله سبحانه و كل شي‏ء قائم به و هذه هي صفته الخاصة أعني كونه غنيا عن كل شي‏ء و لا شي‏ء من الأشياء يغني عنه أصلا.ثم قال غنى كل فقير و عز كل ذليل و قوة كل ضعيف و مفزع كل ملهوف.

جاء في الأثر من اعتز بغير الله ذل و من تكثر بغير الله قل و كان يقال ليس فقيرا من استغنى بالله و قال الحسن وا عجبا للوط نبي الله قال( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ ) أ تراه أراد ركنا أشد و أقوى من الله.و استدل العلماء على ثبوت الصانع سبحانه بما دل عليه فحوى قوله ع و مفزع كل ملهوف و ذلك أن النفوس ببدائها تفزع عند الشدائد و الخطوب الطارقة إلى الالتجاء إلى خالقها و بارئها أ لا ترى راكبي السفينة عند تلاطم الأمواج كيف يجأرون إليه سبحانه اضطرارا لا اختيارا فدل ذلك على أن العلم به مركوز في النفس قال سبحانه( وَ إِذا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ) .ثم قال ع من تكلم سمع نطقه و من سكت علم سره يعني أنه يعلم ما ظهر و ما بطن.ثم قال و من عاش فعليه رزقه و من مات فإليه منقلبه أي هو مدبر الدنيا و الآخرة و الحاكم فيهما.ثم انتقل عن الغيبة إلى الخطاب فقال لم ترك العيون

١٩٥

فصل في الكلام على الالتفات

و اعلم أن باب الانتقال من الغيبة إلى الخطاب و من الخطاب إلى الغيبة باب كبير من أبواب علم البيان و أكثر ما يقع ذلك إذا اشتدت عناية المتكلم بذلك المعنى المنتقل إليه كقوله سبحانه( اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ ) فأخبر عن غائب ثم انتقل إلى خطاب الحاضر فقال( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) قالوا لأن منزلة الحمد دون منزلة العبادة فإنك تحمد نظيرك و لا تعبده فجعل الحمد للغائب و جعل العبادة لحاضر يخاطب بالكاف لأن كاف الخطاب أشد تصريحا به سبحانه من الأخبار بلفظ الغيبة قالوا و لما انتهى إلى آخر السورة قال( صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) فأسند النعمة إلى مخاطب حاضر و قال في الغضب( غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) فأسنده إلى فاعل غير مسمى و لا معين و هو أحسن من أن يكون قال لم تغضب عليهم و في النعمة الذين أنعم عليهم.و من هذا الباب قوله تعالى( وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمنُ وَلَداً ) فأخبر بقالوا عن غائبين ثم قال( لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ) فأتى بلفظ الخطاب استعظاما للأمر كالمنكر على قوم حاضرين عنده.و من الانتقال عن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى( هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ ) ...الآية.

١٩٦

و فائدة ذلك أنه صرف الكلام من خطاب الحاضرين إلى أخبار قوم آخرين بحالهم كأنه يعدد على أولئك ذنوبهم و يشرح لهؤلاء بغيهم و عنادهم الحق و يقبح عندهم ما فعلوه و يقول أ لا تعجبون من حالهم كيف دعونا فلما رحمناهم و استجبنا دعاءهم عادوا إلى بغيهم و هذه الفائدة لو كانت الآية كلها على صيغة خطاب الحاضر مفقودة.قال ع ما رأتك العيون فتخبر عنك كما يخبر الإنسان عما شاهده بل أنت أزلي قديم موجود قبل الواصفين لك.فإن قلت فأي منافاة بين هذين الأمرين أ ليس من الممكن أن يكون سبحانه قبل الواصفين له و مع ذلك يدرك بالأبصار إذا خلق خلقه ثم يصفونه رأي عين قلت بل هاهنا منافاة ظاهرة و ذلك لأنه إذا كان قديما لم يكن جسما و لا عرضا و ما ليس بجسم و لا عرض تستحيل رؤيته فيستحيل أن يخبر عنه على سبيل المشاهدة.ثم ذكر ع أنه لم يخلق الخلق لاستيحاشه و تفرده و لا استعملهم بالعبادة لنفعه و قد تقدم شرح هذا.ثم قال لا تطلب أحدا فيسبقك أي يفوتك و لا يفلتك من أخذته.فإن قلت أي فائدة في قوله و لا يفلتك من أخذته لأن عدم الإفلات هو الأخذ فكأنه قال لا يفلتك من لم يفلتك قلت المراد أن من أخذت لا يستطيع أن يفلت كما يستطيع المأخوذون مع ملوك الدنيا أن يفلتوا بحيلة من الحيل.فإن قلت أفلت فعل لازم فما باله عداه.قلت تقدير الكلام لا يفلت منك فحذف حرف الجر كما قالوا استجبتك أي استجبت لك قال

١٩٧

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

و قالوا استغفرت الله الذنوب أي من الذنوب و قال الشاعر

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

رب العباد إليه الوجه و العمل

قوله ع و لا يرد أمرك من سخط قضاءك و لا يستغني عنك من تولى عن أمرك تحته سر عظيم و هو قول أصحابنا في جواب قول المجبرة لو وقع منا ما لا يريده لاقتضى ذلك نقصه إنه لا نقص في ذلك لأنه لا يريد الطاعات منا إرادة قهر و إلجاء و لو أرادها إرادة قهر لوقعت و غلبت إرادته إرادتنا و لكنه تعالى أراد منا أن نفعل نحن الطاعة اختيارا فلا يدل عدم وقوعها منا على نقصه و ضعفه كما لا يدل بالاتفاق بيننا و بينكم عدم وقوع ما أمر به على ضعفه و نقصه.ثم قال ع كل سر عندك علانية أي لا يختلف الحال عليه في الإحاطة بالجهر و السر لأنه عالم لذاته و نسبة ذاته إلى كل الأمور واحدة.ثم قال أنت الأبد فلا أمد لك هذا كلام علوي شريف لا يفهمه إلا الراسخون في العلم و فيه سمة من

قول النبي ص لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله و في مناجاة الحكماء لمحة منه أيضا و هو قولهم أنت الأزل السرمد و أنت الأبد الذي لا ينفد بل قولهم أنت الأبد الذي لا ينفد هو قوله أنت الأبد فلا أمد لك بعينه و نحن نشرحه هاهنا على موضوع هذا الكتاب فإنه كتاب أدب لا كتاب نظر فنقول إن له في العربية محملين أحدهما أن المراد به أنت ذو الأبد كما قالوا رجل خال أي ذو خال و الخال الخيلاء و رجل داء أي به داء و رجل

١٩٨

مال أي ذو مال و المحمل الثاني أنه لما كان الأزل و الأبد لا ينفكان عن وجوده سبحانه جعله ع كأنه أحدهما بعينه كقولهم أنت الطلاق لما أراد المبالغة في البينونة جعلها كأنها الطلاق نفسه و مثله قول الشاعر

فإن المندى رحلة فركوب

و قال أبو الفتح في الدمشقيات استدل أبو علي على صرف منى للموضع المخصوص بأنه مصدر منى يمني قال فقلت له أ تستدل بهذا على أنه مذكر لأن المصدر إلى التذكير فقال نعم فقلت فما تنكر ألا يكون فيه دلالة عليه لأنه لا ينكر أن يكون مذكر سمي به البقعة المؤنثة فلا ينصرف كامرأة سميتها بحجر و جبل و شبع و معي فقال إنما ذهبت إلى ذلك لأنه جعل كأنه المصدر بعينه لكثرة ما يعاني فيه ذلك فقلت الآن نعم.و من هذا الباب قوله

فإنما هي إقبال و إدبار

و قوله

و هن من الإخلاف قبلك و المطل

و قوله فلا منجى منك إلا إليك قد أخذه الفرزدق فقال لمعاوية:

إليك فررت منك و من زياد

و لم أحسب دمي لكما حلالا

ثم استعظم و استهول خلقه الذي يراه و ملكوته الذي يشاهده و استصغر و استحقر

١٩٩

ذلك بالإضافة إلى قدرته تعالى و إلى ما غاب عنا من سلطانه ثم تعجب من سبوغ نعمه تعالى في الدنيا و استصغر ذلك بالنسبة إلى نعم الآخرة و هذا حق لأنه لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي : مِنْهَا مِنْ مَلاَئِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ وَ رَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ وَ أَخْوَفُهُمْ لَكَ وَ أَقْرَبُهُمْ مِنْكَ لَمْ يَسْكُنُوا اَلْأَصْلاَبَ وَ لَمْ يُضَمَّنُوا اَلْأَرْحَامَ وَ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ وَ لَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ اَلْمَنُونِ وَ إِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ وَ اِسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ وَ كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ وَ قِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ وَ لَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ وَ لَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَ مَعْبُوداً بِحُسْنِ بَلاَئِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً وَ جَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً مَشْرَباً وَ مَطْعَماً وَ أَزْوَاجاً وَ خَدَماً وَ قُصُوراً وَ أَنْهَاراً وَ زُرُوعاً وَ ثِمَاراً ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا فَلاَ اَلدَّاعِيَ أَجَابُوا وَ لاَ فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا وَ لاَ إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اِشْتَاقُوا أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ اِفْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا وَ اِصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ وَ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ قَدْ خَرَقَتِ اَلشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ وَ أَمَاتَتِ اَلدُّنْيَا قَلْبَهُ وَ وَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا وَ لِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْ‏ءٌ مِنْهَا حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا وَ حَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا لاَ يَنْزَجِرُ مِنَ اَللَّهِ بِزَاجِرٍ وَ لاَ يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ وَ هُوَ يَرَى اَلْمَأْخُوذِينَ

٢٠٠