كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ٨

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 307

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 307
المشاهدات: 18821
تحميل: 4754


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18821 / تحميل: 4754
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 8

مؤلف:
العربية

يهاب الالتفات و قد تصدى

للحظة طرفه طرف السنان

و قال آخر:

قد ذبت بين حشاشة و ذماء

ما بين حر هوى و حر هواء

و منها أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير فإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس و ذلك نحو قوله تعالى( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) و كذلك قوله سبحانه( وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ ) و قوله تعالى( ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ) و نحو هذا

ما ورد عن النبي ص من قوله الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة و قال بعضهم لا تنال المكارم إلا بالمكاره.و قال أبو تمام:

يمدون من أيد عواص عواصم

تصول بأسياف قواض قواضب

و قال البحتري:

من كل ساجي الطرف أغيد أجيد

و مهفهف الكشحين أحوى أحور

و قال أيضا:

شواجر أرماح تقطع بينهم

شواجن أرحام ملوم قطوعها

٢٨١

و هذا البيت حسن الصنعة لأنه قد جمع بين التجنيس الناقص و بين المقلوب و هو أرماح و أرحام.و منها أن تكون الألفاظ مختلفة في الوزن و التركيب بحرف واحد كقوله تعالى( وَ اِلْتَفَّتِ اَلسَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَساقُ ) و كقوله تعالى( وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) و كقول النبي ص المسلم من سلم الناس من لسانه و يده و قول بعضهم الصديق لا يحاسب و العدو لا يحتسب له هكذا ذكر ابن الأثير هذه الأمثلة.قال و من هذا القسم قول أبي تمام:

أيام تدمى عينه تلك الدمى

حسنا و تقمر لبه الأقمار

بيض فهن إذا رمقن سوافرا

صور و هن إذا رمقن صوار

و كذلك قوله أيضا:

بدر أطاعت فيك بادرة النوى

ولعا و شمس أولعت بشماس

و قوله أيضا:

جهلوا فلم يستكثروا من طاعة

معروفة بعمارة الأعمار

و قوله أيضا:

إن الرماح إذا غرسن بمشهد

فجنى العوالي في ذراه معال

٢٨٢

و قوله أيضا:

إذا أحسن الأقوام أن يتطاولوا

بلا نعمة أحسنت أن تتطولا

و قوله أيضا:

شد ما استنزلتك عن دمعك الأظعان

حتى استهل صوب العزالي

أي ربع يكذب الدهر عنه

و هو ملقى على طريق الليالي

بين حال جنت عليه و حول

فهو نضو الأوحال و الأحوال

أي حسن في الذاهبين تولى

و جمال على ظهور الجمال

و دلال مخيم في ذرى الخيم

و حجل مقصر في الحجال

فالبيت الثالث و الخامس هما المقصودان بالتمثيل.و من ذلك قول علي بن جبلة:

و كم لك من يوم رفعت عماده

بذات جفون أو بذات جفان

و كقول البحتري:

نسيم الروض في ريح شمال

و صوب المزن في راح شمول

و كقوله أيضا:

جدير بأن تنشق عن ضوء وجهه

ضبابة نقع تحتها الموت ناقع

٢٨٣

و اعلم أن هذه الأمثلة لهذا القسم ذكرها ابن الأثير في كتابه و هو عندي مستدرك لأنه حد هذا القسم بما يختلف تركيبه يعني حروفه الأصلية و يختلف أيضا وزنه و يكون اختلاف تركيبه بحرف واحد هكذا قال في تحديده لهذا القسم و ليس بقمر و الأقمار تختلف بحرف واحد و كذلك عمارة و الأعمار و كذلك العوالي و المعالي و أما قوله تعالى( وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) فخارج عن هذا بالكلية لأن جميع أمثلة هذا القسم يختلف فيه الكلمات بالحروف الزائدة و هذه الآية اختلاف كلمتيها بحروف أصلية فليست من التجنيس الذي نحن بصدده بل هي من باب تجنيس التصحيف كقول البحتري:

و لم يكن المعتز بالله إذ سرى

ليعجز و المعتز بالله طالبه

ثم قال ابن الأثير في هذا القسم أيضا و من ذلك قول محمد بن وهيب الحميري:

قسمت صروف الدهر بأسا و نائلا

فمالك موتور و سيفك واتر

و هذا أيضا عندي مستدرك لأن اللفظتين كلاهما من الوتر و يرجعان إلى أصل واحد إلا أن أحد اللفظين مفعول و الآخر فاعل و ليس أحد يقول إن شاعرا لو قال في شعره ضارب و مضروب لكان قد جانس.و منها القسم المكنى بالمعكوس و هو على ضربين عكس لفظ و عكس حرف فالأول كقولهم عادات السادات سادات العادات و كقولهم شيم الأحرار أحرار الشيم.و من ذلك قول الأضبط بن قريع:

قد يجمع المال غير آكله

و يأكل المال غير من جمعه

٢٨٤

و يقطع الثوب غير لابسه

و يلبس الثوب غير من قطعه

و مثله قول المتنبي:

فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله

و لا مال في الدنيا لمن قل مجده

و مثله قول الرضيرحمه‌الله من أبيات يذم فيها الزمان:

أسف بمن يطير إلى المعالي

و طار بمن يسف إلى الدنايا

و مثله قول آخر:

إن الليالي للأنام مناهل

تطوى و تنشر بينها الأعمار

فقصارهن مع الهموم طويلة

و طوالهن مع السرور قصار

و لبعض شعراء الأندلس يذكر غلامه:

غيرتنا يد الزمان

فقد شبت و التحى

فاستحال الضحى دجى

و استحال الدجى ضحى

و يسمى هذا الضرب التبديل و قد مثله قدامة بن جعفر الكاتب بقولهم اشكر لمن أنعم عليك و أنعم على من شكرك.و مثله

قول النبي ص جار الدار أحق بدار الجار قالوا و منه قوله تعالى( يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ ) و لا أراه منه بل هو من باب الموازنة و مثلوه أيضا

بقول أمير المؤمنين ع أما بعد فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته و يسوءه فوت ما لم يكن ليدركه و بقول أبي تمام لأبي العميثل

٢٨٥

و أبي سعيد الضرير فإنهما قالا لما امتدح عبد الله بن طاهر بقصيدة و في افتتاحها تكلف و تعجرف لم لا تقول ما يفهم فقال لهما لم لا تفهمان ما يقال.و الضرب الثاني من هذا القسم عكس الحروف و هو كقول بعضهم و قد أهدى لصديق له كرسيا:

أهديت شيئا يقل لو لا

أحدوثة الفأل و التبرك

كرسي تفاءلت فيه لما

رأيت مقلوبه يسرك

و كقول الآخر:

كيف السرور بإقبال و آخره

إذا تأملته مقلوب إقبال

أي لا بقاء .و كقول الآخر:

جاذبتها و الريح تجذب عقربا

من فوق خد مثل قلب العقرب

و طفقت الثم ثغرها فتمنعت

و تحجبت عني بقلب العقرب

يريد برقعا و منها النوع المسمى المجنب و هو أن يجمع بين كلمتين إحداهما كالجنيبة التابعة للأخرى مثل قول بعضهم:

أبا الفياض لا تحسب بأني

لفقري من حلى الأشعار عار

فلي طبع كسلسال معين

زلال من ذرا الأحجار جار

و هذا في التحقيق هو الباب المسمى لزوم ما لا يلزم و ليس من باب التجنيس و منها المقلوب و هو ما يتساوى وزنه و تركيبه إلا أن حروفه تتقدم و تتأخر مثل قول أبي تمام

٢٨٦

بيض الصفائح لا سود الصحائف في

متونهن جلاء الشك و الريب

و قد ورد مثل ذلك في المنثور نحو ما روي عن النبي ص أنه يقال يوم القيامة لصاحب القرآن اقرأ و ارق.و قد تكلمت في كتابي المسمى بالعبقري الحسان على أقسام الصناعة البديعة نثرا و نظما و بينت أن كثيرا منها يتداخل و يقوم البعض من ذلك مقام بعض فليلمح من هناك : مِنْهَا وَ اِعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ وَ يَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَ يَمَلُّهُ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ فَإِنَّهُ لاَ يَجِدُ فِي اَلْمَوْتِ رَاحَةً وَ إِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اَلْحِكْمَةِ اَلَّتِي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ اَلْمَيِّتِ وَ بَصَرٌ لِلْعَيْنِ اَلْعَمْيَاءِ وَ سَمْعٌ لِلْأُذُنِ اَلصَّمَّاءِ وَ رِيٌّ لِلظَّمْآنِ وَ فِيهَا اَلْغِنَى كُلُّهُ وَ اَلسَّلاَمَةُ كِتَابُ اَللَّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ وَ تَنْطِقُونَ بِهِ وَ تَسْمَعُونَ بِهِ وَ يَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَ يَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَ لاَ يَخْتَلِفُ فِي اَللَّهِ وَ لاَ يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اَللَّهِ قَدِ اِصْطَلَحْتُمْ عَلَى اَلْغِلِّ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ نَبَتَ اَلْمَرْعَى عَلَى دِمَنِكُمْ وَ تَصَافَيْتُمْ عَلَى حُبِّ اَلآْمَالِ وَ تَعَادَيْتُمْ فِي كَسْبِ اَلْأَمْوَالِ لَقَدِ اِسْتَهَامَ بِكُمُ اَلْخَبِيثُ وَ تَاهَ بِكُمُ اَلْغُرُورُ وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَ أَنْفُسِكُمْ

٢٨٧

هذا الفصل ليس بمنتظم من أوله إلى آخره بل هو فصول متفرقة التقطها الرضي من خطبة طويلة على عادته في التقاط ما يستفصحه من كلامه ع و إن كان كل كلامه فصيحا و لكن كل واحد له هوى و محبة لشي‏ء مخصوص و ضروب الناس عشاق ضروبا.أما قوله كل شي‏ء مملول إلا الحياة فهو معنى قد طرقه الناس قديما و حديثا قال أبو الطيب:

و لذيذ الحياة أنفس في النفس

و أشهى من أن يمل و أحلى

و إذا الشيخ قال أف فما مل

حياة و لكن الضعف ملا

و قال أيضا:

أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه

حريصا عليها مستهاما بها صبا

فحب الجبان النفس أورده البقا

و حب الشجاع النفس أورده الحربا

و قال أبو العلاء:

فما رغبت في الموت كدر مسيرها

إلى الورد خمسا ثم تشربن من أجن

يصادفن صقرا كل يوم و ليلة

و يلقين شرا من مخالبه الحجن

و لا قلقات الليل باتت كأنها

من الأين و الإدلاج بعض القنا اللدن

٢٨٨

ضربن مليعا بالسنابك أربعا

إلى الماء لا يقدرن منه على معن

و خوف الردى آوى إلى الكهف أهله

و كلف نوحا و ابنه عمل السفن

و ما استعذبته روح موسى و آدم

و قد وعدا من بعده جنتي عدن

و لي من قصيدة أخاطب رجلين فرا في حرب:

عذرتكما إن الحمام لمبغض

و إن بقاء النفس للنفس محبوب

و يكره طعم الموت و الموت طالب

فكيف يلذ الموت و الموت مطلوب

و قال أبو الطيب أيضا:

طيب هذا النسيم أوقر في الأنفس

أن الحمام مر المذاق

و الأسى قبل فرقة الروح عجز

و الأسى لا يكون بعد الفراق

البحتري:

ما أطيب الأيام إلا أنها

يا صاحبي إذا مضت لم ترجع

و قال آخر:

أوفى يصفق بالجناح مغلسا

و يصيح من طرب إلى الندمان

يا طيب لذة هذه الدنيا لنا

لو أنها بقيت على الإنسان

و قال آخر:

أرى الناس يهوون البقاء سفاهة

و ذلك شي‏ء ما إليه سبيل

و من يأمن الأيام أما بلاؤها

فجم و أما خيرها فقليل

٢٨٩

و قال محمد بن وهيب الحميري:

و نحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها

و ما كنت منه فهو شي‏ء محبب

و هذا مأخوذ من قول أمير المؤمنين ع و قد قيل له ما أكثر حب الناس للدنيا فقال هم أبناؤها أ يلام الإنسان على حب أمه.و قال آخر:

يا موت ما أفجاك من نازل

تنزل بالمرء على رغمه

تستلب العذراء من خدرها

و تأخذ الواحد من أمه

أبو الطيب:

و هي معشوقة على الغدر لا تحفظ

عهدا و لا تتمم وصلا

كل دمع يسيل منها عليها

و بفك اليدين عنها نخلى

شيم الغانيات فيها فلا أدري

لذا أنث اسمها الناس أم لا

فإن قلت كيف يقول إنه لا يجد في الموت راحة و أين هذا من قول رسول الله ص الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر و من قوله ع و الله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت و ما ذا يعمل بالصالحين الذين آثروا فراق هذه العاجلة و اختاروا الآخرة و هو ع سيدهم و أميرهم قلت لا منافاة فإن الصالحين إنما طلبوا أيضا الحياة المستمرة بعد الموت و رسول الله ص إنما قال إن الدنيا سجن المؤمن لأن الموت غير مطلوب للمؤمن لذاته إنما يطلبه للحياة المتعقبة له و كذلك قوله ع و الله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت تصريح بأن الراحة في الحياة التي تتعقب الموت و هي حياة الأبد فلا منافاة إذا بين هذه الوجوه و بين ما قاله ع لأنه ما نفى إلا الراحة في الموت نفسه لا في الحياة الحاصلة بعده.

٢٩٠

فإن قلت فقد تطرأ على الإنسان حالة يستصعبها قيود الموت لنفسه و لا يفكر فيما يتعقبه من الحياة التي تشير إليها و لا يخطر بباله قلت ذاك شاذ نادر فلا يلتفت إليه و إنما الحكم للأعم الأغلب و أيضا فإن ذاك لا يلتذ بالموت و إنما يتخلص به من الألم و أمير المؤمنين قال ما من شي‏ء من الملذات إلا و هو مملول إلا الحياة و بين الملذ و المخلص من الألم فرق واضح فلا يكون نقضا على كلامه.فإن قلت قد ذكرت ما قيل في حب الحياة و كراهية الموت فهل قيل في عكس ذلك و نقيضه شي‏ء قلت نعم فمن ذلك قول أبي الطيب:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

و حسب المنايا إن يكن أمانيا

تمنيتها لما تمنيت أن ترى

صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا

و قال آخر:

قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا

في الموت ألف فضيلة لا تعرف

منها أمان لقائه بلقائه

و فراق كل معاشر لا ينصف

و قيل لأعرابي و قد احتضر إنك ميت قال إلى أين يذهب بي قيل إلى الله قال ما أكره أن أذهب إلى من لم أر الخير إلا منه.إبراهيم بن مهدي:

و إني و إن قدمت قبلي لعالم

بأني و إن أبطأت عنك قريب

و إن صباحا نلتقي في مسائه

صباح إلى قلبي الغداة حبيب

و قال بعض السلف ما من مؤمن إلا و الموت خير له من الحياة لأنه إن كان محسنا

٢٩١

فالله تعالى يقول( وَ ما عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ لِلَّذِينَ اتَّقَوِّا ) إن كان مسيئا فالله تعالى يقول وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً.و قال ميمون بن مهران بت ليلة عند عمر بن عبد العزيز فرأيته يبكي و يكثر من تمني الموت فقلت له إنك أحييت سننا و أمت بدعا و في بقائك خير للمسلمين فما بالك تتمني الموت فقال أ لا أكون كالعبد الصالح حين أقر الله له عينه و جمع له أمره قال( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ فاطِرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) و قالت الفلاسفة لا يستكمل الإنسان حد الإنسانية إلا بالموت لأن الإنسان هو الحي الناطق الميت.و قال بعضهم الصالح إذا مات استراح و الطالح إذا مات استريح منه.و قال الشاعر:

جزى الله عنا الموت خيرا فإنه

أبر بنا من كل بر و أرأف

يعجل تخليص النفوس من الأذى

و يدني من الدار التي هي أشرف

و قال آخر:

من كان يرجو أن يعيش فإنني

أصبحت أرجو أن أموت لأعتقا

في الموت ألف فضيلة لو أنها

عرفت لكان سبيله أن يعشقا

و قال أبو العلاء:

جسمي و نفسي لما استجمعا صنعا

شرا إلي فجل الواحد الصمد

٢٩٢

فالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا

و تلك تزعم أن الظالم الجسد

إذا هما بعد طول الصحبة افترقا

فإن ذاك لأحداث الزمان يد

و قال أبو العتاهية:

المرء يأمل أن يعيش

و طول عمر قد يضره

تفنى بشاشته و يبقى

بعد حلو العيش مره

و تخونه الأيام حتى

لا يرى شيئا يسره

كم شامت بي أن هلكت

و قائل لله دره

و قال ابن المعتز:

أ لست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا

فذما له لكن للخالق الشكرا

لقد حبب الموت البقاء الذي أرى

فيا حسدا مني لمن يسكن القبرا

فأما قوله ع و إنما ذلك بمنزلة الحكمة إلى قوله و فيها الغنى كله و السلامة ففصل آخر غير ملتئم بما قبله و هو إشارة إلى كلام من كلام رسول الله ص رواه لهم ثم حضهم على التمسك به و الانتفاع بمواعظه و قال إنه بمنزلة الحكمة التي هي حياة القلوب و نور الأبصار و سمع الآذان الصم و ري الأكباد الحري و فيها الغنى كله و السلامة و الحكمة المشبه كلام الرسول ص بها هي المذكورة في قوله تعالى( وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) و في قوله( وَ لَقَدْ آتَيْنا

٢٩٣

لُقْمانَ اَلْحِكْمَةَ ) و في قوله( وَ آتَيْناهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا ) و هي عبارة عن المعرفة بالله تعالى و بما في مبدعاته من الأحكام الدالة على علمه كتركيب الأفلاك و وضع العناصر مواضعها و لطائف صنعة الإنسان و غيره من الحيوان و كيفية إنشاء النبات و المعادن و ما في العالم من القوى المختلفة و التأثيرات المتنوعة الراجع ذلك كله إلى حكمة الصانع و قدرته و علمه تبارك اسمه.فأما قوله و كتاب الله إلى قوله و لا يخالف بصاحبه عن الله ففصل آخر مقطوع عما قبله و متصل بما لم يذكره جامع نهج البلاغة فإن قلت ما معنى قوله و لا يختلف في الله و لا يخالف بصاحبه عن الله و هل بين هاتين الجملتين فرق قلت نعم أما قوله و لا يختلف في الله فهو أنه لا يختلف في الدلالة على الله و صفاته أي لا يتناقض أي ليس في القرآن آيات مختلفة يدل بعضها على أنه يعلم كل المعلومات مثلا و تدل الأخرى على أنه لا يعلم كل المعلومات أو يدل بعضها على أنه لا يرى و بعضها على أنه يرى و ليس وجودنا للآيات المشتبهة بقادح في هذا القول لأن آيات الجبر و التشبيه لا تدل و إنما توهم و نحن إنما نفينا أن يكون فيه ما يدل على الشي‏ء و نقيضه.و أما قوله و لا يخالف بصاحبه عن الله فهو أنه لا يأخذ بالإنسان المعتمد عليه إلى غير الله أي لا يهديه إلا إلى جناب الحق سبحانه و لا يعرج به إلى جناب الشيطان يقال خالفت بفلان عن فلان إذا أخذت به غير نحوه و سلكت به غير جهته.

٢٩٤

فأما قوله قد اصطلحتم على الغل إلى آخر الفصل فكلام مقطوع أيضا عما قبله و الغل الحقد.و الدمن جمع دمنة و هي الحقد أيضا و قد دمنت قلوبهم بالكسر أي ضغنت و نبت المرعى عليها أي دامت و طال الزمان عليها حتى صارت بمنزلة الأرض الجامدة الثابتة التي تنبت النبات و يجوز أن يريد بالدمن هاهنا جمع دمن و هو البعر المجتمع كالمزبلة أو جمع دمنة و هي آثار الناس و ما سودوا من الأرض يقال قد دمن الشاء الماء و قد دمن القوم الأرض فشبه ما في قلوبهم من الغل و الحقد و الضغائن بالمزبلة المجتمعة من البعر و غيره من سقاطة الديار التي قد طال مكثها حتى نبت عليها المرعى قال الشاعر:

و قد ينبت المرعى على دمن الثرى

و تبقى حزازات النفوس كما هيا

قوله ع لقد استهام بكم الخبيث يعني الشيطان و استهام بكم جعلكم هائمين أي استهامكم فعداه بحرف الجر كما تقول في استنفرت القوم إلى الحرب استنفرت بهم أي جعلتهم نافرين و يمكن أن يكون بمعنى الطلب و الاستدعاء كقولك استعلمت منه حال كذا أي استدعيت أن يعلمني و استمنحت فلانا أي طلبت و استدعيت أن يعطيني فيكون قوله و استهام بكم الخبيث أي استدعى منكم أن تهيموا و تقعوا في التيه و الضلال و الحيرة.قوله و تاه بكم الغرور هو الشيطان أيضا قال سبحانه( وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ ) و تاه بكم جعلكم تائهين حائرين ثم سأل الله أن يعينه على نفسه و عليهم و من كلام بعض الصالحين اللهم انصرني على أقرب الأعداء إلي دارا و أدناهم مني جوارا و هي نفسي

٢٩٥

134 و من كلام له ع و قد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم

وَ قَدْ تَوَكَّلَ اَللَّهُ لِأَهْلِ هَذَا اَلدِّينِ بِإِعْزَازِ اَلْحَوْزَةِ وَ سَتْرِ اَلْعَوْرَةِ وَ اَلَّذِي نَصَرَهُمْ وَ هُمْ قَلِيلٌ لاَ يَنْتَصِرُونَ وَ مَنَعَهُمْ وَ هُمْ قَلِيلٌ لاَ يَمْتَنِعُونَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هَذَا اَلْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ لاَ يَكُنْ تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَهْفٌ كَانِفَةٌ دُونَ أَقْصَى بِلاَدِهِمْ لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلاً مِحْرَباً وَ اِحْفِزْ مَعَهُ أَهْلَ اَلْبَلاَءِ وَ اَلنَّصِيحَةِ فَإِنْ أَظْهَرَ اَللَّهُ فَذَاكَ مَا تُحِبُّ وَ إِنْ تَكُنِ اَلْأُخْرَى كُنْتَ رِدْءاً لِلنَّاسِ وَ مَثَابَةً لِلْمُسْلِمِينَ توكل لهم صار وكيلا و يروى و قد تكفل أي صار كفيلا.و الحوزة الناحية و حوزة الملك بيضته و يقول إنما الذي نصرهم في الابتداء على ضعفهم هو الله تعالى و هو حي لا يموت فأجدر به أن ينصرهم ثانيا كما نصرهم أولا و قوله فتنكب مجزوم لأنه عطف على تسر.و كهف أي و كهف يلجأ إليه و يروى كانفة أي جهة عاصمة من قولك كنفت الإبل جعلت لها كنيفا من الشجر تستتر به و تعتصم.

٢٩٦

و رجل محرب أي صاحب حروب.و حفزت الرجل أحفزه دفعته من خلفه و سقته سوقا شديدا.و كنت ردءا أي عونا قال سبحانه( فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ) .و مثابة أي مرجعا و منه قوله تعالى( مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً ) أشار ع ألا يشخص بنفسه حذرا أن يصاب فيذهب المسلمون كلهم لذهاب الرأس بل يبعث أميرا من جانبه على الناس و يقيم هو بالمدينة فإن هزموا كان مرجعهم إليه.فإن قلت فما بال رسول الله ص كان يشاهد الحروب بنفسه و يباشرها بشخصه قلت إن رسول الله ص كان موعودا بالنصر و آمنا على نفسه بالوعد الإلهي في قوله سبحانه( وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ ) و ليس عمر كذلك.فإن قلت فما بال أمير المؤمنين ع شهد حرب الجمل و صفين و النهروان بنفسه فهلا بعث أميرا محربا و أقام بالمدينة ردءا و مثابة.قلت عن هذا جوابان أحدهما أنه كان عالما من جهة النبي ص أنه لا يقتل في هذه الحروب و يشهد لذلك الخبر المتفق عليه بين الناس كافة يقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين و ثانيهما يجوز أن يكون غلب على ظنه أن غيره لا يقوم مقامه في حرب هذه الفرق الخارجة عليه و لم يجد أميرا محربا من أهل البلاء و النصيحة لأنه ع هكذا قال لعمر و اعتبر هذه القيود و الشروط فمن كان من

٢٩٧

أصحابه ع محربا لم يكن من أهل النصيحة له و من كان من أهل النصيحة له لم يكن محربا فدعته الضرورة إلى مباشرة الحرب بنفسه

غزوة فلسطين و فتح بيت المقدس

و اعلم أن هذه الغزاة هي غزاة فلسطين التي فتح فيها بيت المقدس و قد ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ و قال إن عليا ع هو كان المستخلف على المدينة لما شخص عمر إلى الشام و إن عليا ع قال له لا تخرج بنفسك إنك تريد عدوا كلبا فقال عمر إني أبادر بجهاد العدو موت العباس بن عبد المطلب إنكم لو فقدتم العباس لانتقض بكم الشر كما ينتقض الحبل فمات العباس لست سنين خلت من إمارة عثمان و انتقض بالناس الشر.قال أبو جعفر و قد كان الروم عرفوا من كتبهم أن صاحب فتح مدينة إيلياء و هي بيت المقدس رجل اسمه على ثلاثة أحرف فكان من حضر من أمراء المسلمين يسألون عن اسمه فيعلمون أنه ليس بصاحبهم فلما طال عليهم الأمر في حرب الروم استمدوا عمر و قالوا إن لم تحضر بنفسك لم يفتح علينا فكتب إليهم أن يلقوه برأس الجابية ليوم سماه لهم فلقوه و هو راكب حمارا و كان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان ثم أبو عبيدة بن الجراح ثم خالد بن الوليد على الخيول و عليهم الديباج و الحرير فنزل عمر عن حماره و أخذ الحجارة و رماهم بها و قال سرعان ما لفتم عن رأيكم إياي

٢٩٨

تستقبلون في هذا الزي و إنما شبعتم منذ سنتين سرع ما ترت بكم البطنة و تالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم فقالوا يا أمير المؤمنين إنما هي يلامقه و تحتها السلاح فقال فنعم إذا قال أبو جعفر فلما علم الروم مقدم عمر نفسه سألوه الصلح فصالحهم و كتب لهم كتابا على أن يؤدوا الجزية ثم سار إلى بيت المقدس فقصر فرسه عن المشي فأتي ببرذون فركبه فهزه و هملج تحته فنزل عنه و ضرب وجهه بردائه و قال قبح الله من علمك هذا ردوا على فرسي فركبه و سار حتى انتهى إلى بيت المقدس.قال و لم يركب برذونا قبله و لا بعده و قال أعوذ بالله من الخيلاء.قال أبو جعفر و لقيه معاوية و عليه ثياب ديباج و حوله جماعة من الغلمان و الخول فدنا منه فقبل يده فقال ما هذا يا ابن هند و إنك لعلى هذه الحال مترف صاحب لبوس و تنعم و قد بلغني أن ذوي الحاجات يقفون ببابك فقال يا أمير المؤمنين أما اللباس فأنا ببلاد عدو و نحب أن يرى أثر نعمة الله علينا و أما الحجاب فأنا نخاف من البذلة جرأة الرعية فقال ما سألتك عن شي‏ء إلا تركتني منه في أضيق من الرواجب إن كنت صادقا فإنه رأي لبيب و إن كنت كاذبا فإنها خدعة أريب.و قد روى الناس كلام معاوية لعمر على وجه آخر قيل لما قدم عمر الشام قدمها و هو راكب حمارا قريبا من الأرض و معه عبد الرحمن بن عوف راكب حمار قريب أيضا فتلقاهما معاوية في كوكبة خشناء فثنى وركه و نزل و سلم بالخلافة فلم يرد عليه.

٢٩٩

فقال له عبد الرحمن أحصرت الفتى يا أمير المؤمنين فلو كلمته قال إنك لصاحب الجيش الذي أرى قال نعم قال مع شدة احتجابك و وقوف ذوي الحاجات ببابك قال أجل قال لم ويحك قال لأنا ببلاد عدو كثير فيها جواسيسهم فإن لم نتخذ العدة و العدد استخف بنا و هجم على عوراتنا و أنا بعد عاملك فإن استنقصتني نقصت و إن استزدتني زدت و إن استوقفتني وقفت فقال إن كنت كاذبا إنه لرأي أريب و إن كنت صادقا إنه لتدبير لبيب ما سألتك عن شي‏ء قط إلا تركتني منه في أضيق من رواجب الضرس لا آمرك و لا أنهاك فلما انصرف قال عبد الرحمن لقد أحسن الفتى في إصدار ما أردت عليه فقال لحسن إيراده و إصداره جشمناه ما جشمناه.قال أبو جعفر شخص عمر من المدينة إلى الشام أربع مرات و دخلها مرة راكب فرس و مرة راكب بعير و مرة راكب بغل و مرة راكب حمار و كان لا يعرف و ربما استخبره الواحد أين أمير المؤمنين فيسكت أو يقول سل الناس و كان يدخل الشام و عليه سحق فرو مقلوب و إذا حضر الناس طعامه رأوا أخشن الطعام.قال أبو جعفر و قدم الشام في إحدى هذه المرات الأربع فصادف الطاعون بها فاشيا فاستشار الناس فكل أشار عليه بالرجوع و ألا يدخلها إلا أبا عبيدة بن الجراح فإنه قال أ تفر من قدر الله قال نعم أفر من قدر الله بقدر الله إلى قدر الله لو غيرك قالها يا أبا عبيدة فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف فروى لهم عن النبي ص أنه قال إذا كنتم ببلاد الطاعون فلا تخرجوا منها و إذا قدمتم إلى بلاد الطاعون فلا تدخلوها فحمد الله على موافقة الخبر لما كان في نفسه و ما أشار به الناس و انصرف راجعا إلى المدينة و مات أبو عبيدة في ذلك الطاعون و هو الطاعون المعروف بطاعون عمواس و كان في سنة سبع عشرة من الهجرة

٣٠٠