الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام0%

الشيعة في الاسلام مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 206

الشيعة في الاسلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 206
المشاهدات: 84004
تحميل: 5179

توضيحات:

الشيعة في الاسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84004 / تحميل: 5179
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

معرفةُ الله:

1. النظرُ إلى الكون عن طريق المخلوقات والواقعيّات، ضرورةُ وجود الله تعالى

إنّ أوّل خطوة يخطوها الإدراك والشعور لدى الإنسان واللذان وجِدا منذ وجوده، تُبيّن له حقيقة وجود الخالق والمخلوق؛ لأنّ أولئك الذين يشكّون في وجودهم وفي كلّ شيء، ويَعتبرون العالَم ظنّاً وخيالاً، فإنّنا نعلم أنّ الإنسان منذ وجوده يلازمه الإدراك والشعور، يرى نفسه والعالَم أجمع، أي أنّه لا يشكّ (بوجوده ولا يشكّ بأشياء أُخر غيره) وما زال الإنسان إنساناً، فإنّ هذا الإدراك والشعور يكمن فيه، وليس هناك مجال للشك والتردّد.

هذه الواقعيّة والوجود الذي يُثبته الإنسان أمامَ السوفسطائيين والمشكّكين، أمرٌ ثابت لا يعتريه البطلان، وفي الحقيقة أنّ كلام السوفسطائيين والمشكّكين بنفي واقعيّة قائمة في حدّ ذاتها، كلامٌ باطل لا يُبنى على الصحّة إطلاقاً، لذا فإنّ العالَم والكون ينطوي على واقعيّة ثابتة.

١٠١

ولكنّ كلّ من هذه الظواهر التي تنطوي على واقعيّة، والتي نشاهدها عياناً، تفقدُ واقعيّتها وتصير إلى الفناء، سواء في القريب أو البعيد من أدوار حياتها.

ومن هنا يتّضح: أنّ العالَم المشهود وأجزاءه، لم تكن عين الواقعيّة (والتي لا يمكن إنكارها)، بل تعتمد وتستند إلى واقعيّة ثابتة، وبتلك الواقعيّة تتّصف بالواقعيّة، وتتّصف بالوجود، وما دامت مرتبطة ومتصلة بها، فهي موجودة باقية، وما إن انقَطَعت عنها زالَت وفَنت (1)، ونحنُ نسمّي هذه الواقعيّة الثابتة التي لا يعتريها البطلان بـ (واجب الوجود) ، أو الله سبحانه.

2. نظرةٌ أخرى عن طريق ارتباط الإنسان بالعالَم

إنّ الأسلوب الذي اتُبِع في الفصل السابق لإثبات وجود الله تعالى، أسلوبٌ بسيط ساذج، وواضح أنّ الإنسان مع فطرته التي أودَعها الله إيّاه، ينتهجها وليس هناك أيّ رادع أو مانع، ولكنّ معظم الناس مع ارتباطهم المستمرّ بالماديّات، وتفانيهم في اللذائذ المحسوسة، يصعُب عليهم الرجوع إلى الفطرة، وهي الفطرة الإلهيّة البيّنة.

فعلى هذا، فإنّ الإسلام بشرائعه المنزّهة، يعلن أنّ شريعته عامّة، والكلّ سواسية أمام الدين ومقاصده، فهو يُثبت وجود الله تعالى مع هؤلاء الناس عن

____________________

(1) وفي كتابه العزيز إشارة إلى هذا البرهان بقوله تعالى: ( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) سورة إبراهيم: الآية 10.

١٠٢

طريق وأسلوب آخر، وهو الفطرة الواضحة، والتي غَفل عنها البشر، فيُخاطب البشر بها، ويُعرّف الله جلّ شأنه عن طريقها.

فالقرآنُ الكريم، يتّخذ طُرقاً شتّى لأجل معرفة الله تعالى للبشر كافّة، فهو يُلفت الأنظار، ويوجّه الأفكار غالباً إلى خِلقة العالَم، والنظام والتنسيق القائم فيه، ويدعو إلى ملاحظة ودراسة الآفاق والأنفس؛ ذلك بأنّ الإنسان في حياته المحدودة، لا يتخلّف ولا يخرج عن الطبيعة والنظام الحاكم فيها مهما سَلك من سُبلٍ واستغرقَ من حالات، ولن يغضّ النظر عن المَشاهد الخلاّبة، سواء في الأرض أو في السماء، بما أوتيَ من شعورٍ وإدراك.

إنّ عالَم الوجود (1) بما يتّصف من سعة، فإنّ كلّ جزء منه، بل وجميع أجزائه، معرّضة للتغيير والتبديل المستمرّين، وتظهر في كلّ لحظة بشكلٍ جديد غير سابقتها.

ووفقاً للقوانين التي لا تَقبل الاستثناء، يتحقّق ما يجب تحقّقه، والكونُ بما فيه من أبعد مجرّة إلى أصغر ذرّة، والتي تؤلِّف العالَم أجمع، ينطوي على نظامٍ واضح بيّن، تجري وفقاً لقوانين مدهشة ومُحيّرة للعقول، وتُسيّر عملها من أدنى حالة إلى أكملها، كي توصلها إلى الهدف الأسمَى وهو الكمال.

وفوق الأنظمة الخاصّة، توجد أنظمة أعم، وهي النظام العام للكون، الذي يربط أجزاءه العديدة التي لا تُحصى بعضها ببعض، ويوفِّق بين الأنظمة الجزئيّة، ويَربطها بعضها بالبعض الآخر، فهي في سيرها المستمرّ لن تتّصف بالاستثناء أو الاختلال.

____________________

(1) يقول جلّ ثناؤهُ: ( إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ) سورة الجاثية: الآية (3 - 6).

١٠٣

فنظامُ الخِلقة مثلاً إذا أسكنَتْ الإنسان على الأرض، جَعَلت خلقتهُ تتناسب مع المحيط الذي يعيش فيه، وجَعلت المحيط بشكلٍ يتناسب وذلك المخلوق، كالمربّية العطوف التي تُربّي النُشّأ بكلّ عطفٍ وحنان، فالعالَم بما فيه من: شمسٍ، وقمر، ونجوم، وماء، وتراب، وليل، ونهار، والفصول السنويّة، والسحاب، والرياح، والأمطار، والكنوز التي تحت الأرض وفوقها، وبالتالي كلّ ما تَملك من قوّة، سُخِّرت لراحة الإنسان وسعادته، وإنّنا نلاحظ هذا الارتباط والتعاون في كلّ مظهرٍ من مظاهر الطبيعة، ومن كلّ ما يجاورنا من قريبٍ أو بعيد، وحتّى في البيت الذي نعيش فيه.

ومثل هذا الاتصال والارتباط، قائمٌ في جميع أجزاء الأجهزة الداخليّة لكلّ مظهرٍ من مظاهر هذا العالَم، فالطبيعة لمّا مَنَحت الإنسان الخير مثلاً، مَنحتهُ الأرجل للحصول عليه، واليد لتناوله، والفم لأكله، والأسنان لمضغه، ورَبطتهُ بسلسلة من الوسائل المرتبطة بعضها بالبعض الآخر كالسلاسل، والتي ترتبط بالهدف الغائي وهو البقاء والكمال لهذا المخلوق.

ولم يشكّ أحد من علماء العالَم أنّ الارتباطات اللامتناهيّة، والتي حَصَل عليها إثر الدراسات العلميّة لآلاف السنين، ما هي إلاّ طليعة وبداية مختصرة لأسرار الخِلقة، والتي تتبعها دراسات لا نهاية لها، وكلّ كشفٍ جديد بمثابة إنذار للبشريّة عن مجهولات لا حصر لها، وهل يمكن القول بأنّ هذا الكون الرَحب - مع استقلال أجزائه - يمتاز بوحدة واتصال ومع ما فيه من إتقان مدهش، يدلّ على علم وقدرة غير متناهية، وهل يمكن القول بأنّه وجِد دون خالق، ولم يكن هناك سبب أو هدف من إيجاده؟‍‍!

وهل يمكن التصديق بأنّ كلّ هذه الأنظمة سواء الجزئيّة منها أو الكليّة، وكذا النظام العام القائم في الكون - مع ما يتّصف به من ارتباط مُحكم - غير متناهٍ، والذي يسير وِفقَ نظام دقيقٍ خاص، ولا يقبل التغيير والاستثناء، كلّ هذا قد جاء دون حساب، وإنّما مجرّد المصادفة هي التي لعبت دورها في خَلقه وإيجاده؟ أم

١٠٤

أنّ كُلاًّ من هذه الظواهر والأجواء سواءً الصغيرة منها أو الكبيرة في العالَم، قد اتّخذت لها نهجاً قبل حدوثها وخلقتها، وبعد أن وجِدت سَلَكت ذلك السبيل والنهج؟

أم أنّ هذا الكون مع وحدتهِ الكاملة الشاملة، والاتّصال والارتباط القائم بينها، فهو ككلّ لا يعدو مجموعة متكاملة واحدة، قد أُنشئِت وخُلقت نتيجة لعوامل متعدّدة مختلفة، ويسير وفقاً لقوانين متباينة؟

من الطبيعي أنّ الشخص الذي يُرجع كلّ ظاهرة لمسبّب وكلّ معلول لعلّة - ويتّفق أحياناً أن يبحث عن مسبّب مجهول أيّاماً عديدة، ليصل في النهاية إلى العلّة، ويُتابع التقدّم العلمي - عند مشاهدة عدّة أحجار بصورة منتظمة منسّقة، ينسبها إلى علم وقدرة قامت بصنعها، وبذلك ينفي المصادفة مطلقاً، ويحكم بوجود تخطيط هادف، لم يكن ليحكم على وجود العالَم دون مسبّب، ولا يدّعي أنّ المصادفة هي التي أوجَدت هذا النظام والتنسيق.

لذا فإنّ الكون، بما فيه من أنظمة مهيمنة، مخلوقة خالق عظيم، هو الذي أوجَدها بعلمه وقدرته غير المتناهية، ويسيّرها إلى غاية، وما العوامل البسيطة التي تُنشئ الحوادث البسيطة في العالَم، إلاّ منتهية إليه، فهي تحت قدرته وهيمنته وتسخيره، وكلّ ما في الكون محتاج إليه، وهو غير محتاج لأحدٍ أو لشيء، ولم يكن معلولاً لعلّة، ولا مسبِّباً لسبب.

١٠٥

وحدانيّةُ الله تعالى

كلّ واقعيّة من واقعيّات العالَم، تُعتبر واقعيّة محدودة، أي أنّها تتمتّع بالوجود على وجود فرض (فرضُ وجود السبب والشرط) ، وتُعتبر أيضاً وفقاً لفرض وتقدير (فرضُ عدم السبب والشرط) عدماً، ولحقيقة وجودها حدٌّ محدود، إذ لا توجد خارج ذلك الحدّ، فالله جلّ شأنه هو المنزّه عن الحدّ والمحدوديّة؛ لأنّ واقعيّته مطلقة، فهو موجود بأيّ تقدير، ولم يكن محتاجاً لأيّ سببٍ وشرط ولا مرتبطاً بأيّة علّة.

ولا يسعنا أن نفترض عدداً لأمر غير محدود وغير متناهٍ، فإذا ما افتُرض ثانٍ، فإنّه غير الأوّل، وفي النتيجة: الاثنان محدودان متناهيان، وسيضع كلّ منهما حدّاً فاصلاً للآخر، فلو افترضنا على سبيل المثال حجماً غير محدود وغير متناه، لا يسعنا افتراض حجم آخر إزاءه، ولو قُدِّر أن افترَضنا هذا، فإنّ الثاني هو الأوّل، فعلى هذا، فإنّ الله تعالى أحد لا شريك له (1).

____________________

(1) يُروى أنّ إعرابيّاً قامَ يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: يا أمير المؤمنين، أتقول إنّ الله واحد، فَحملَ الناس عليه وقالوا: أمَا ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (دعوهُ، فإنّ الذي يريده الإعرابي هو الذي نريده من القوم، ثُمّ قال:

يا إعرابي، إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجل، ووجهان يثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه: فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز؛ لأنّ ما لا ثانيَ له يدخل في باب الأعداد، أمَا ترى أنّه كفرَ مَن قال إنّه ثالث ثلاثة، وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع والجنس فهذا ما لا يجوز؛ لأنّه تشبيه، وجَلّ ربّنا تعالى عن ذلك، وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه: فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شَبه، كذلك ربّنا، وقول القائل إنّه عزّ وجل أحديّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجودٍ، ولا عقل، ولا وَهمٍ، كذلك ربّنا عزّ وجل) بحارُ الأنوار ج2: 65.

ويقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (معرفتهُ (الله) عينُ ذاته)، أي أنّ إثبات وجود الله تعالى، وهو وجود غير متناهٍ وغير محدود، كافٍ في إثبات وحدانيّته؛ لأنّ الثاني لا يُتصوّر لغير المتناهي.

١٠٦

3. الذاتُ والصفات

لو نظرنا إلى الإنسان مثلاً من زاوية العقل، سنرى له ذاتاً، وهذه الذات هي عين إنسانيّته الخاصّة به، ويمتاز بصفات أيضاً، وهذه الصفات التي تُعرّف كُنه ذاته، فمثلاً أنّه ابن لفلان، عالِمٌ قادر، طويل، جميل، أو صفات أخرى مغايرة.

فبعضُ هذه الصفات كالأولى، لا تنفصل عن الذات، وبعضها الآخر كالعلم مثلاً، يمكن أن تنفصل عن الذات أو تتغيّر، وعلى أيّة حال، فإنّ كُلاً من هذه الصفات، ليست بالذات، كما أنّ كلّ واحدة منها غير الأخرى.

وهذا الموضوع (الذات مغايرة للصفات، والصفات تختلف فيما بينها)، خيرُ دليلٍ على أنّ الذات التي تتّصف بصفة، والصفة التي تُعيّن وتُعرّف الذات، كلاهما محدودتان ومتناهيتان؛ لأنّ الذات إذا كانت غير محدودة وغير متناهية، لكانت تشمل الصفات، وكذا الصفات كانت كلّ واحدة منها تشتمل على الأخرى، فتصبح في النتيجة كلّها شيئاً واحداً، فمثلاً لو كانت الذات الإنسانيّة هذه تنحصر في القدرة، وكانت القدرة والعلم وكذا طول القامة والجمال كلّ واحدة منها عين الأخرى،

١٠٧

لكانت كلّ هذه المفاهيم لا تَعدو المفهوم الواحد.

يتّضح ممّا سبق: لا يمكن إثبات صفة (بالمعنى السابق) لذات الله عزّ وجل؛ لأنّ الصفة لا تتحقّق من غير تحديدٍ لها، وذاته المقدّسة منزّهة من أي تحديد (حتّى من هذا التنزيه الذي يُعتبر في الحقيقة إثبات صفة له).

4. معاني صفات الله تعالى

نعلمُ أنّ في العالَم كثيراً من الكمالات التي تظهر بشكل صفات، فهذه الصفات المثبتة متى ما ظهرت في شيء، تسعى في تكامل المتَّصف، وتمنحهُ قيمة أكثر، كما يتّضح ذلك من مقارنة جسم حيّ كالإنسان مع جسمٍ غير حيّ كالحجر.

ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الكمالات قد مَنحها الله تعالى، وإذا ما كان هو مفتقداً لها لمَا مَنحها (فاقدُ الشيء لا يُعطيه) وجَعلها تتدرج في طريق الكمال، فعلى هذه يجب أن يقال - وفقاً لحكم العقل السليم -: إنّ الخالق يتّصف بالعلم والقدرة وكلّ كمال واقعي.

وفضلاً عن هذا، فإنّ آثار العلم والقدرة وبالتالي آثار الحياة، واضحة في نظام الخِلقة.

وبما أنّ ذات الله غير محدودة وغير متناهية، فالكمالات هذه إن اعتُبرت صفات له، فإنّها في الحقيقة عين ذاته،

١٠٨

وكذا كلّ واحدة منها هي عين الأخرى (1)، وأمّا الاختلاف الذي يُشاهَد بين الذات والصفات، وبين الصفات نفسها، فتنحصر في المفهوم، وفي الحقيقة ليس هناك سوى مبدأ واحد غير قابل للانقسام.

فالإسلام يُلزم مُتّبعيه كي لا يقعوا في مثل هذا الاشتباه (المحدوديّة بالتوصيف، أو نفي أصل الكمال)، يَضعهم بين النفي والإثبات (2) ، ويأمرهُ بهذا الاعتقاد: أنّ الله عالم لا كعلم غيره، وله القدرة، وليس كقدرة الآخرين، فهو يَسمع لا بأُذن، ويرى لا بعين، وهكذا…

5. مزيدٌ من التوضيح في معاني الصفات

الصفاتُ نوعان: صفاتُ كمال، وصفات نقص.

فالصفاتُ الكماليّة - كما أشرنا إليها - معانٍ إثباتيّة، تَمنح المتّصف بها قيمة وجوديّة أكثر، وآثاراً وجوديّة أوسع، ويتّضح ذلك من مقارنة موجود حيّ عالِم قادر، مع موجودٍ آخر غير حيّ، غير عالِم وغير قادر.

وأمّا صفاتُ النقص: فهي صفات تغايرها.

عندما نُمعن النظر في صفات النقص، نجدها بحسب المعنى منفيّة، تفتقر إلى الكمال،

____________________

(1) عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (لم يزل اللهُ جلّ وعزّ ربّنا والعلم ذاتهُ ولا معلوم، والسَمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مُبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور) البحار ج2: 152.

(2) عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): (إنّ الله نورٌ لا ظلمة فيه، وعلمٌ لا جهلَ فيه، وحياة لا موت فيه)البحار ج2: 129.

وقد سُئل الإمام الرضا (عليه السلام) عن التوحيد؟ فقال: (... إنّ للناس في التوحيد ثلاثة مراتب: إثبات بتشبيه، ومذهب النفي، ومذهب إثبات بلا تشبيه، فمذهبُ الإثبات بتشبيه لا يجوز، ومذهب النفي لا يجوز، والطريق في المذهب الثالث إثبات بلا تشبيه) البحار ج2: 94.

١٠٩

وإلى نوع من قيَم الوجود، مثل: الجهل، والعجز، والقُبح، والسُقم وأمثالها.

وحَسب ما تقدّم: أنّ نفي صفات النقص تعني صفات الكمال، كما أنّ نفي الجهل يعني العلم، ونفي العجز يعني القدرة، ومن هنا نجد القرآن الكريم يُثبت كلّ صفة كماليّة لله تعالى بشكلٍ مباشر، وينفي كلّ صفة نقص عنه، كما في قوله تعالى: ( وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) ، ( هُوَ الْحَيُّ ) ، ( لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ) ، ( وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ ) .

وممّا تجدرُ ملاحظتهُ: أنّ الله تعالى واقعيّة مطلقة، ليس له حدّ ونهاية، فعلى هذا (1) فإنّ أيّة صفة كماليّة تُطلق عليه، لا تعني المحدوديّة، فإنّه ليس بمادّة وجسم، ولا يُحدّد بزمانٍ أو مكان، ومُنزّه من كلّ صفة حاليّة حادثة، وكلّ صفةٍ تَثبت له حقيقة، فهي بعيدة عن المحدوديّة وهو القائل: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (2).

6. صفاتُ الفعل

فالصفاتُ (فضلاً عمّا سَبق) تنقسم انقساماً آخر وهي: صفاتُ الذات، وصفات الفعل.

فالصفةُ أحياناً تكون قائمة بالموصوف مثل: الحياة، والعلم، والقدرة، فتتحقّق هذه في الإنسان الحيّ القادر، ونستطيع أن نفترض إنساناً متّصفاً بهذه الصفات، فلو لم نفترض غيره،

____________________

(1) يقول الإمام السادس: (لا يوصَف الله تعالى بزمان، أو مكان، ولا حركة، ولا انتقال، ولا سكون، بل هو خالق الزمان، والمكان، والحركة، والسكون، والانتقال) البحار ج2: 96.

(2) سورة الشورى: الآية 11.

١١٠

نرى تارةً أنّه لا يتحقّق بالموصوف فحسب، فإذا أراد الموصوف أن يتّصف بصفةٍ لابدّ من تحقّق شيء آخر مثل: الكتابة، الخطابة، الطلب، ونظائرها؛ لأنّ الإنسان إنّما يستطيع الكتابة عندما يتوفّر لديه القلم والدواة والورق مثلاً، ويستطيع أن يكون خطيباً عند تحقّق مُستمع، ويستطيع أن يكون طالباً عندما يتوفّر المطلوب، ولا يكفي أن نفترض للإنسان تَحقُّق هذه الصفات.

من هنا يتّضح: أنّ الصفات الحقيقيّة لله تعالى (كما سبقت الإشارة إليه عين الذات)، هي من النوع الأوّل، وأمّا النوع الثاني، والذي يستلزم تحقّقه لشيء آخر، فإنّ كلّ شيء غير مخلوق له، ويأتي بعده في مرحلة الوجود، وكلّ صفةٍ يوجدها مع وجوده، لا يمكن أن تُعتبر صفة لذاته أو عين ذاته تعالى.

فالصفاتُ التي يتّصف بها تعالى عن تحقّق الخِلقة هي: الخالقيّة، الربّانيّة، والمُحيي، والمُميت، والرزّاق، وأمثالها، لم تكن عين ذاته، بل زائدة على الذات وصفات للفعل.

والمقصود من صفات الفعل : هو أن تُتخذ معنى الصفة من الفعل لا من الذات، مثل: الخالقيّة، أي يتّصف بهذه الصفة بعد تحقّق الخلقة للمخلوقات، فهو قائم منذ قيامها (أي موجود منذ وجودها)، ولا علاقة لها بذاته تعالى، كي تتغيّر من حالٍ إلى حال عند تحقّق الصفة.

تَعتبر الشيعة صِفَتي الإرادة والكلام، والذي يُفهم من معنى اللفظ (الإرادة بمعنى الطلب، والكلام بمعنى الكشف اللفظي عن المعنى) من صفات الفعل (1) ، والغالبيّة من أهل السُنّة يعتبرونها بمعنى العلم، وصفات لذاته تعالى.

____________________

(1) قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لم يزل الله جلّ اسمه عالِماً بذاته ولا معلول، ولم يزل قادراً بذاته ولا مقدور، قلتُ: جُعلتُ فداك، فلم يزل متكلّماً؟ قال: الكلام مُحدَث كان الله عزّ وجل وليس بمتكلّم، ثُمّ أحدثَ الكلام) البحار ج2: 147.

قال الرضا (عليه السلام): (الإرادة من المخلوق، الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل، وأمّا من الله عزّ وجل فإرادته إحداثه لا غير ذلك؛ لأنّه لا يَروي، ولا يهمّ، ولا يتفكّر) البحار ج2: 144.

١١١

7. القضاءُ والقدر

إنّ قانون العليّة في الكون سارٍ ومهيمن، بحيث لا يقبل الاستثناء، ووفقاً لهذا القانون كلّ مظهر من مظاهر هذا العالَم، يرتبط بعِلل عند وجودها (الأسباب والشروط اللازمة للتحقّق)، ومع توفّر كلّ تلك الشروط (والتي تُدعى العلّة التامّة) يتحتّم وجود تلك الظاهرة (المعلول المفروض)، ولو فرضنا عدم تحقّق تلك الأسباب كلّها أو بعضها، فإنّه يستحيل تحقّق وجود تلك الظاهرة.

مع الإمعان في هذه النظريّة، يتّضح لنا موضوعان:

الأوّل: لو قُدِّر أن نقارن بين ظاهرة (المعلول) مع العلّة التامّة بأجمعها، وكذلك مع الأجزاء لتلك العلّة التامّة، تكون النسبة بينها وبين العلّة التامة نسبة الضرورة (الجبر)، ولكانت النسبة بينها وبين كلّ من أجزاء العلّة التامّة (والتي تُعتبر علّة ناقصة) نسبة الإمكان؛ لأنّ جزء العلّة بالنسبة إلى المعلول يُعطي إمكان التحقّق والوجود، ولا يُعطي ضرورة الوجود.

على هذا، فالكون وجزء من أجزائه يستلزم علّة تامّة في تحقّق وجوده، والضرورة مهيمنة عليها بأسرها، وقد نُظّم هيكلها من مجموعة حوادث ضروريّة وقطعيّة، فمع الوصف هذا، فإنّ صفة الإمكان في أجزائها (الظواهر التي ترتبط مع غير العلّة التامّة لها) محفوظة.

١١٢

فالقرآن الكريم في بيانه يُسمّي هذا الحُكم الضروري بالقضاء الإلهي؛ لأنّ الضرورة هذه تنبع من وجود الخالق، ولهذا يكون حكماً وقضاءً عادلاً حتميّاً غير قابل للتخلّف، إذ لا يقبل الاستثناء أو التبعيض.

ويقول جلّ شأنه: ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ) (1) .

ويقول: ( وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (2) .

ويقول: ( وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) (3) .

الثاني: إنّ كُلاً من أجزاء العلّة، لها مقدارها الخاص بها تمنحها إلى المعلول، وتَحقّق المعلول وظهوره يُطابق مجموع المقادير التي تُعيّنها العلّة التامّة، فمثلاً: العِلل التي تُحقّق التنفّس للإنسان لا تُحقّق التنفّس المطلق، بل يتنفّس الإنسان مقداراً معيّناً من الهواء المجاور لفمه وأنفه وفي زمانٍ ومكان معيّنين، ووفقَ طريقة معيّنة، ويتمّ ذلك عن طريق مجرى التنفّس، حيث يصل الهواء إلى الرئتين، وهكذا الرؤية والإبصار، فإنّ العِلل الموجودة لها في الإنسان (والذي هو جزء منها)، لم تُحقّق إبصاراً من دون قيد أو شرط، بل يُحقّق إبصاراً مُعيّناً من كلّ جهة، بواسطة الوسائل اللازمة له، وهذه الحقيقة سارية في كلّ ظواهر الطبيعة، والحوادث التي تتّفق فيها لا تتخلّف.

والقرآن الكريم يُسمّي هذه الحقيقة بـ (القدر) ويَنسبها إلى خالق الكون ومصدر الوجود، بقوله تعالى: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (4) .

ويقول: ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (5) .

وكما أنّ كلّ ظاهرة وحادثة في نَظم الخلقة تُعتبر ضروريّة الوجود وفقاً للقضاء الإلهي، ويتحتّم وجوده، فكذلك وفقاً للقدر فإنّ كلّ ظاهرة أو حادثة عند تحقّقها لا تتخلّف عن المقدار المُعيّن لها من قِبَل الله تعالى.

____________________

(1) سورة الأعراف: الآية 54.

(2) سورة البقرة: الآية 117.

(3) سورة الرعد: الآية 41.

(4) سورة القمر: الآية 49.

(5) قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إنّ الله إذا أرادَ شيئاً قدّره، وإذا قضاهُ أمضاه) البحار ج3: 35.

١١٣

8. الإنسانُ والاختيار

كلّ ما يقوم به الإنسان من فعل، يُعتبر ظاهرة من ظواهر عالَم الخِلقة، ويرتبط تحقّقه كسائر الظواهر بالعلّة ارتباطاً كاملاً، وبما أنّ الإنسان هو جزء من عالَم الخلقة، ويرتبط مع سائر الأجزاء الأخرى من العالَم، فإنّها بدورها تؤثر في أفعال الإنسان.

وعلى سبيل المثال: فإنّ قطعة الخبز التي يريد الإنسان تناولها، يستلزم الوسائل: كاليد، والفم، والعلم، والقدرة، والإرادة، ويستلزم أيضاً وجود الخبز في الخارج، وفي متناوَل يده، وعدم المانع والحاجز، وشروط أخرى، من زمانٍ أو مكانٍ، ومع فقدان إحداها يتعذّر تحقّق الفعل، ومع تحقّق كلّ تلك العوامل (تحقّق العلّة التامّة)، فإنّ تحقّق الفعل ضروري.

وكما أشرنا آنفاً: فإنّ ضرورة الفعل بالنسبة إلى مجموع أجزاء العلّة التامّة تُعتبر نسبة إمكان، ولا يتنافى مع نسبة الفعل إلى الإنسان الذي هو أحد أجزاء العلّة التامّة.

إنّ الإنسان له اختيار الفعل، وضرورة نسبة الفعل إلى مجموع أجزاء العلّة، لا يستلزم الضرورة بالنسبة إلى فعل بعض من أجزائها وهو الإنسان.

والإدراك البسيط للإنسان يؤيِّد هذا القول، فإنّنا نراهُ يُميّز - بحُكم الفطرة الإلهيّة المودَعة لديه - بين الأكل والشرب، والذهاب والإياب، وبين الصحّة والسُقم، والكبير والصغير، والقسم الأوّل الذي يرتبط بإرادة الإنسان ارتباطاً مباشراً، يُعتبر من إرادة الشخص، فيُحاسب في مواضع الأمر،

١١٤

والنهي، والمدح، والذم، خلافاً للقسم الثاني، الذي يترتّب فيه تكليفٌ على الإنسان.

كان في صدر الإسلام بين أهل السُنّة، مذهبان معروفان بالنسبة إلى أفعال الإنسان، ففريقٌ كان يرى أنّ أفعال الإنسان متعلّقة بإرادة الله تعالى لا تخلّفَ فيها، فكان يدّعي أنّ الإنسان مجبور في أفعاله، ولا أثرَ لمَا يمتاز به من اختيار وإرادة، والفريق الآخر، كان يدّعي أنّ الإنسان مستقلّ في أفعاله، وليس له ارتباط بإرادة الله سبحانه، ويعتبرونه خارجاً عن حُكم القَدر.

وممّا يُروى عن أهل البيت (عليهم السلام)، وهو مطابق مع ظاهر تعاليم القرآن: أنّ الإنسان مختار في أفعاله، ليس بمستقلّ، إذ إنّ الله تعالى قد أراد الفعل عن طريق الاختيار، وهذا ما عبّرنا عنه سابقاً، أنّ الله سبحانه أرادَ الفعل عن طريق مجموع أجزاء العلّة التامّة، والتي إحداها إرادة الإنسان وأصبحت ضرورة، وفي النتيجة: إنّ مثل هذا الفعل الذي يرتبط بإرادة الله تعالى ضروري، والإنسان أيضاً مختار فيه، أي أنّ الفعل يُعتبر ضروريّاً بالنسبة إلى مجموع أجزاء علّته، ولكنّه اختيار وممكن بالنسبة إلى أحد أجزائه وهو الإنسان.

والإمام السادس (عليه السلام) يقول: (لا جبرَ ولا تفويض، بل أمرٌ بين أمرين) (1) .

____________________

(1) عن أبي جعفر أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إنّ الله عزّ وجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثُمّ يُعذِّبهم عليها، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون) بحار الأنوار ج3: 15.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (اللهُ أكرم من أن يُكلِّف الناس ما لا يُطيقون، واللهُ أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد) البحار ج3: 15.

١١٥

معرفةُ النبي

1. نحو الهدف، الهداية العامّة.

2. الهداية الخاصّة.

3. العقلُ والقانون.

4. الشعور المرموز، أو ما يسمّى بـ(الوحي).

5. الأنبياء وعصمة النبوّة.

6. الأنبياء والشرائع السماويّة.

7. الأنبياء ودليل (الوحي) والنبوّة.

8. عدد الأنبياء.

9. الأنبياء أولو العزم، حَمَلة الشرائع السماويّة.

10. نبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

11. النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والقرآن.

1. نحو الهدف، الهداية العامّة

تبدأ حبّة الحنطة بالنموّ عند توفّر العوامل المساعدة لها، بعد أن توضَع في التربة، وبمرور الزمن تتحوّل من حالةٍ إلى أخرى، وفي كلّ لحظة تتّخذ حالة وشكلاً غير ما كانت عليها قَبل لحَظات، وتسلك طريقاً وفقاً لنظامٍ خاص،

١١٦

حتّى تزداد نموّاً، فتَصبح سنبلة، وإذا ما سَقطت حبّة قَمح على الأرض، سَلكت الطريق ذاته، حتّى تصل النهاية وهكذا، وإذا ما سَقطت بذرة فاكهة على الأرض، تبتدئ بالحركة والنموّ فيخترق الغشاء نتوءٌ أخضر، ويسلك طريقاً خاصّاً منتظماً، حتّى يزداد في نموّه ويَصبح شجرة مثمرة.

وإذا ما استقرّت نطفة حيوان في بيضة، أو في رَحم أُم، تشرع بالنموّ والتكامل، وتسلك سلوكاً تختصّ به تلك النطفة لذلك الحيوان، حتّى تصل إلى فردٍ كامل من ذلك النوع.

إنّ هذا السلوك الخاصّ والمنتظم يُشاهد في كلّ من أنواع الكائنات الحيّة في العالَم، ويُعتبر من مميّزاتها وفطرتها الخاصّة، ولن تجد في الحياة نقيضاً لهذه السُنّة، أي يستحيل أن تتبدّل حبّة قمح إلى حيوان، ولا نطفة حيوان إلى شجرة، وإذا ما حَدث تغيير في تكوين حيوان أو نبات، بأن ينقصها عضو أو جزءٌ، فإنّ السبب في ذلك يعود إلى مرضٍ أو ما شابه.

إنّ النظام القائم والمستمرّ في الكون، وخِلقة الأجسام المتنوّعة، واختصاص كلّ نوع منها في سلوك خاصّ، نحو التطوّر والتكامل، يحتاج إلى نظام خاصّ به، لا ينكرهُ أيّ محقِّق متتبّع، ومن هذه النظريّة البيّنة نستنتج موضوعين:

1) إنّ في جميع المراحل التي يطويها نوع من أنواع الكائنات الحيّة في العالَم، اتصالاً وارتباطاً قائماً بينها، وكأنّ هناك قوّة تُسيّرها هذا المسير الخاصّ في كلّ مراحلها التطوّريّة.

2) إنّ هذا الاتصال والارتباط المُتتالي يهدف في مرحلته الأخيرة إلى تكوين بَني نوعه، فكما أنّ البذرة عندما توضَع في التربة تهدف في طريقها منذ مراحلها الأولى إلى أن تنشأ شجرة، وكذلك النطفة في رحم الأُم تهدف في مراحلها الأوّليّة إلى أن تكون حيواناً متكاملاً، وللوصول إلى التكامل، نراها تسلك نهجاً خاصّاً في حياتها.

١١٧

والقرآن العظيم في تعليماته يؤيِّد هذه الحركة وهذا الاندفاع، كما أنّ أنواع الكائنات الحيّة في العالَم تهتدي بهدى الله تعالى في طريق تكاملها وكمالها، ويَستدلّ بآيات من الذِكر الحكيم في هذا الشأن، كما في قوله تعالى:

( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (1) .

وفي سورة الأعلى، الآية 32 يقول جلّ ذِكره:

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) .

وكذا يُشير إلى النتائج التي ذُكرت آنفاً في سورة البقرة، الآية 148، يقول جلّ شأنه: ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ) .

ويقول جلّ مَن قائل في سورة الدخان، الآية 39: ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) .

2. الهدايةُ الخاصّة

بديهيٌ أنّ النوع الإنساني لا يُستثنى عن هذه الهداية التكوينيّة التي تُهيمن على جميع الكائنات في العالَم، إنّها تسيطر على الإنسان أيضاً، وبما أنّ كلّ كائن يستمرّ في طريقه نحو التكامل بما لديه من قدرة وقابليّة، فكذلك الإنسان يُساق نحو الكمال الواقعي بواسطة الهداية التكوينيّة.

قد يشترك الإنسان في كثيرٍ من صفاته ومميّزاته مع سائر أنواع الكائنات الحيّة من حيوان أو نبات، لكنّه يتميّز بخصائص خاصّة به تَجعلهُ يمتاز عن غيره، ألا وهو العقل.

____________________

(1) سورة طه: الآية 50.

١١٨

فالعقلُ يدعو الإنسان إلى التفكّر والتدبّر، وأن ينتفع من كلّ وسيلةٍ ممكنة، لتُحقّق أهدافه وأغراضه، فهو يَعرج إلى السماء حيناً، فيسير في الفضاء اللامتناهي، ويغوص في أعماق البحار أحياناً، فهو يدأب في استثمار أنواع الحيوان والنبات والجماد على ظهر البسيطة، وقد يتجاوز هذا الحدّ بأن يتّجه إلى استثمار بَني نوعه.

والإنسانُ حَسب طبعه الأوّلي، يرى حرّيته المطلقة في سعادته وكماله، وبما أنّ وجوده وجود اجتماعي، ومتطّلباته في الحياة متعدّدة، والتي لا ينالها لوحده وبنفسه فَحسب، بل بالتعاون مع أبناء نوعه وهم يتّصفون بالغرائز ذاتها، بما فيها حُبّ الذات والحرّية، إذ تفرض عليه طبيعة المجتمع أن يُضحّي بقسط من حرّيته في هذا السبيل قبال المنافع التي يحصل عليها من الآخرين، فهو يُقدِّم خدمة وينتفع بما يُقدِّمه الآخرون من خَدمات، أي أنّه يتقبّل الحياة الاجتماعيّة التي تتّصف بالتعاون، بإكراهٍ وفرض.

وهذه الحقيقة تظهر جَلية لدى الأطفال والفتيان، إذ إنّهم في البداية يُحقّقون ما تصبو إليه نفوسهم بالفرض تارةً والبكاء تارةً أخرى، فهم يرفضون كلّ قانون أو عادة أو ما شاكل ذلك، ولكن على مرّ الزمان، وحَسَب تطوّرهم الفكري يُدركون أنّ الحياة لا تتلائم مع الفرض والطغيان، فيمارسون ما يمارسهُ الفرد في المجتمع بشكلٍ تدريجي، حتّى يصلوا إلى ما يصل إليه الفرد في مجتمعه، من إتّباع العادات والسُنن والقانون، بالتالي يُصبحون وهو يألفون المجتمع.

والإنسانُ بعد تقبّلهِ الحياة الاجتماعيّة التي قوامها التعاون، يرى ضرورة القانون الحاكم على الحياة، وهو الذي يُعيّن واجبات كلّ فردٍ من أفراد المجتمع، ويضع الجزاء لكلّ مَن يُخالف القانون، فإذا عمّ القانون وسادَ المجتمع، عندئذٍ ينال كلّ من أفراد المجتمع السعادة المطلوبة، التي طالما تمنّاها.

١١٩

هذا القانون: هو القانون العَمَلي الذي ما برحَ البشر منذ نشأته وإلى يومنا هذا يرجوهُ ويرغب في الوصول إليه، وطالما كان يستهلّ به أهدافه وأغراضه، ويسعى في تحقّقه، ومن الطبيعي إذا كان الأمر يستحيل تحقّقه على البشريّة، ولم يكن مفروضاً عليها، لمَا كانت تهدف إليه دوماً (1) .

والله جلّ شأنه يُشير إلى حقيقة المجتمع البشري بقوله: ( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ) (2) .

وقد أشار الذكر الحكيم إلى حُبّ النفس والأنانيّة بقوله تعالى: ( إِنَّ الإِنْسَان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ) (3) .

3. العقلُ والقانون

لو تأمّلنا جيّداً، لرأينا أنّ القانون الذي ما برحَ البشر ينتظره، والناس مع ما لديهم من إدراك فطري إلهي، ويُدركون لزوم إجرائه كي يضمن لهم سعادتهم، هو القانون الذي يستطيع أن يُسيّر البشريّة إلى السعادة دون انحيازٍ أو تبعيض،

____________________

(1) ترغب البشريّة عادةً وحتّى الشعوب البدائيّة حَسَب طبعها، في أن يعيش الجميع في جوّ مِلؤهُ الصُلح والراحة والاطمئنان.

ومن الوِجهة الفلسفيّة، فإنّ الطلب والميل والرغبة ما هي إلاّ أوصاف وارتباطات قائمة على طرفين: كالطالب والمطلوب، والمُحبّ والمحبوب، و… وواضحٌ إن لم يكن هناك محبوب، فالكلام عن المُحبّ عَبث.

وصَفوة القول: إنّ الأمور هذه ترجع إلى إدراك نقصٍ في الوجود الإنساني، فإذا تعذّر الكمال، لم يكن هناك معنىً للنقص.

(2) سورة الزخرف: الآية 32.

(3) سورة المعارج: الآية 21.

١٢٠